وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري
‏إظهار الرسائل ذات التسميات سرد. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات سرد. إظهار كافة الرسائل

الاثنين، 24 ديسمبر 2018

معركة ضارية لغزو قصيدة

مفتاح العماري




     في تلك الليلة قبل أن يشرع في كتابة جملة واحدة تفتتح قصيدة، كان ممتعضا من مسألة النظر إلى الاستعارات بوصفها محض سكن للمعنى، فتبلبل وهو يحرك أكثر من مجاز حار، لصور شتى تتنفس كنجمة وحيدة في سقف الظلمة؛ مما اضطره لتمزيق كل عبارة لا تنتسب لذلك النقاء النظيف من شبهة كوكب متغطرس، حتى لا تغدو استعارته مجرد ظل وحسب. ربما لأن الألم المجهول ما انفك يتغلغل منتعشا داخل مخيلته التي ما تزال بعد دهر كغرفة مضاءة بأحزان الأسرى، وأنه مهما سعى لإضافة المزيد من الموسيقى وباقات الورد وإشاعة العطر والشموع الملونة، سيظل الأسى متربصا بكل عبارة اجتهد في إغوائها. وحتى لا يعيد كرة الفشل قرر هذه المرة أن لا ينتظر الهام الكتابة بل سيغزوها.  كان أمله الوحيد وربما الأخير أن تختزل القصيدة كل حياته التي عاشها، وان يحتكم إلى ما احتفظت به ذاكرته من وقائع قليلة افلح في إنقاذها من التآكل، مبديا كل اعتراف رصين بوظيفة النسيان.
   لهذا استأنس فكرة أن يكون محاربا، وقال لنفسه "ما الضير في أن أؤسس جيشا وأخوض معركة ضارية لغزو الكلمات التي لم تستسلم". كان فقط يتوق لاستعادة أوقات ضائعة؛ هي مفتاح السر الذي يمكنه من فتح كل ما تغلّق عليه حتى ذلك الحين في رحلة المكابدة من أجل الإمساك بشيء تائه. وضع حرفا جوار حرف، حتى أمكنه أن يخفي ما بين السطور أكثر من امرأة تسعى لأن تكون شيئا خارج الثياب؛ حينذاك تريث؛ ريثما تأخذ العبارات وجهتها التي كان يخشى أن تخذلها قواها على تحمل مشقة السفر، ومجالدة المجهول القادم؛ لأن الحياة حسب ما خبرها طيلة ستين عاما لها أوجه تتقلّب، كما لها دورات ماكرة يصعب التكهن بمزاجها لمّا تغضب. "أنا جربت ما هو أنكى من أن يكون الجندي هدفا لنيران صديقة". لهذا كان عليه التخلي عن عشرين كتابا، هي حصيلة مسيرته الأدبية في بلاد لا تقرأ، والتنصل مما حملته من ترهات. وكان يكفيه أن يسخر من نفسه، ليكون أبعد من مجرد حلم. وفي آن؛ ارتأى أيضا ضرورة التخلص من هواجسه السوداء؛ بوصفه أحد القتلى في حرب تشاد، وأنه لم يكن في يوم ما يتيما أو مشردا منبوذا من ذويه؛ فليس بالضرورة أن تكون أمه حاضرة كجزء من أرشيف العائلة. لأن الكلمة لا تحتاج كتابا، أو بيتا يطل على ثلاث لغات أو أكثر؛ فقط إذا ما تاقتْ أن تكونَ نهرًا؛ عليها أن تطير.
_____

باب بن غشير 12 ديسمبر 2018 

الخميس، 6 ديسمبر 2018

النظر إلى جثة

مفتاح العمّاري






_______________    النظر إلى جثة



     أشعر بأنني في مأزق. وان كنت في الحقيقة التي تخصني سأحتاج إلى أكثر من اسم حار، ونعت جسور، لكي أدرك بأنني صرت ميتا؛ وهذا ما تؤكده جثتي كبرهان حيّ على نهايتي غير المحزون عليها من ذويي وبعض صحبي؛ لاسيما أن عيونا كثيرة تخطتني من دون أن يرفّ لها قلب، مما لا يترك مجالا لأي صدى يشي بوجودي ماثلا ككائن بشري يرزق. وهذا أمر بديهي طالما لا أحد في انتظاري. حدث ذلك قبل عشر سنوات، عندما كنت فرد مشاة باللواء التاسع المدرع، وخضت حربا لا ناقة لي فيها أو جمل. وأنني في نهاية المطاف، لم أكن من بين أسراها المعتقلين، أو من جرّوا أذيال هزيمتهم عائدين بلا أوصاف غير وصمة الجبن. مذاك صرت ميتا، وأينما حللت كان غيابي يسبقني، وأن لا أحد مازال يذكر ما إذا كنت في يوم ما ابنا أو أخا أو صديقا؛ حتى أمي نظفت الأدراج والجدران من صوري وثيابي وبدت أشد شغفا بالجلوس إزاء شاشة التلفزيون، لمتابعة المسلسلات التركية، بحيث لا تترك أيما أثر يدلّ على أنني أمثّل جزءا من حكايات المنزل. في أول أمري أمسيت فريسة خوف طاغ من الموت، وهو شعور غريب استبد بي يومذاك، وظل ينخر كياني طيلة عقد ونيف، من مكابدة عزلتي.
      صحيح كانت محنتي قاسية، لكن حتى لا تتحول حقيقة موتي إلى تجربة سيئة؛ تدبرت عملا يصونني من عفونة التفسّخ، وآفة التآكل؛ فكتبت جملة تشير إليّ عندما كنت طفلا ألعب بالطين، وأخرى تشير إلي مقطّعا بفعل قذيفة هاون في خندق صحراوي، ثم جاورت العبارات السخية، مضيفا بعض العلامات المتعلقة بمصيري المنكود، كضرب من التمهيد لاستضافة  كريمة  تليق بذاكرة متعنتة؛ لا تستسلم دونما أن تحظى بإزجاء مديح أصيل. أعلم أن الترقّب سيكون وحشا ضاريًا إذا لم يكن لديك عملا تنجزه؛ لذا عليك أن تفعل شيئا وأنت تنتظر.  سلخت ثلاثة شهور، منكبّا على لوحة مفاتيح الكمبيوتر، من دون تسطير أيما شيء يشير إلى الفكرة التي كانت تقلقني؛ تلك التي لا أعلمها. ولأنني أدركت جيدًا أن كلينا حيوان ماكر، أنا واللغة؛ ولن نصنع شيئا مجديًا طالما أحدنا يحاول إذلال الآخر؛ لم أيأس؛ فبعد قليل، تركتُ نفسي تنساق مستسلمة بطواعية لتداعيات كتابةٍ عشواء، لا ضابط لها. مسرنمًا أقتفي أثر أسراري - وبلا مبالاة غالبًا برصانة اللغة ووضوح المعنى -  إلى أن رمت ممارسة طقوس موتي دونما أي إحساس بالخشية؛ بل أصبح الأمر مبعث غبطة بالنسبة لي، كوني محض جثة تتنفس، وأن الموت وحده سيكون بذرة بعثي، لحظة أن يتحول كلّ ألمٍ إلى كلماتٍ ترفرفُ بهيئةِ طائرٍ منقذ، ينتشلُ جثة، وهذا ما حدث.
______ 

طرابلس. خريف 2018

الأربعاء، 29 نوفمبر 2017

نساء الصدف



مفتاح العماري

من أعمال الفنان التشكيلي : علي العباني


نساءُ الصدف


          كما لو أن الأيام قبض ريح ، وأنا الجندي ضرب من خزانة غبن ، هالك بين فردتي رحى الطاعة والعصيان؛ وبين ثواب وعقاب ، هكذا تشردت لغتي . فما  من عناوين هنا  أو علامات أتبعها؛ لكي أصف كيف كنت أنام وأصحو لأمشي عبر مسارب متاهتي ضاربا بقدمي أعمى معاجم صلدة من سرير المعدن إلى ساحة الأسمنت ، امتثل ردحا للجمع الصباحي مدمجا في طوابير وصفوف بلهاء. لكن ما أن يستيقظ شيطاني حتى أعود لتمردي وعصياني فأعاقب ، ثم أعيد الكرة تلو الكرة ، حتى أمست  سجون الثكنات أكثر راحة وألفة من عنبر سريتي حيث سريري المعدني، وأغطيتي وثيابي التي دائما تُسرق مع كل نوبة سجن. لم يعد لدي ما أتدثره  غير مخيلتي السادرة في ملكوت نعيمها الافتراضي،  وبطانية وحيدة رثة أتصالح مع نتانة أنفاسها وأتأبطها في غدو  ورواح  بين حبس وعنبر ، وبذلة شغل تهرأت أكمامها وفقدت لونها وتقطعت  أزرارها .
      الأيام تجري والعالم من حولي يتغير وأنا لا أملك من متاع هذه الفانية غير ضجيج أوهامي. تركتْ الكآبة حفرا وتضاريس غائرة  على خارطة وجهي وملامح صوتي، ندوبا وبثورا وتجاعيد  حطّت مبكرة. فكبرت قبل أواني ، وأمسيت كهلا في العشرين من عمري، كهلا خائبا وخاسرا، أينما وطأت تتربصني معامع وخطوب . بعد أن  تركني من تركني هكذا أتدبّر أمري دون أمر . ولا احد  يصغي إلي ؛ لأفضي قليلا بحيرتي وتلبكي . أهملني ذويّ والقوا بي في هذا المكبّ  تتقاذفني الصدف العشواء . فتشظّت مطارحي وتقطعت أوصال سبلي، لكأن تاريخي  محض صور ممزقة، يتعين علي وحدي أن ألملم تفاصيلها لربما ألمح شارة عطوفة تدلّني عليّ .

      لكنني لا أجد شيئا غير أطياف باهتة لنساء الصدف . اسنفرها بعصارة حنيني لتحتفظ بقداسة دفئها  . أرسم  "سلطانة"،  قافلة الرحمة التي انتشلت سيدنا يوسف من قعر الجب ، حاضنة ما تبقّى من طفولتي المهدورة على صفيح الفاقة ، الحنونة والعابثة واللاهية والمرحة .  سلطانة زوجة الشرطي الطيب ، وأم المشرّد  ، الوحيدة التي عناوين العاب وأسماء عائلة كريمة  وحقيبة متع  وفراش نظيف .  وسادتي التي مازال عطرها خالدا يجوب شوارع اللغات كلما استبدت براثن الفقد بخرائب روحي .  سلطانة أختي في كتاب الهبات الرحيمة ، البدوية الصغيرة بفمها المحلول لعبور العسل ، وصدرها الراضخ دون منّة للجوء النازح من تغوّل الأقربين ، وضراوة الرحم .


  ثم أفرد البياض شهوة كثيفة ،لأرسم  بألوان حارة وجه السنيورا " مانويلا " ثغرا باسما كرحلة إنعاش . هي محطة فردوس تستضيف  وافدا من سكان جهنّم .

السنيورا مانويلا :  طمأنينة أصابع تتخلل بنشوة ناعمة عاما من الصبا . ملاذ عابر لقارات الحلم  . استراحة محارب أثخنته ضراوة الغدر . فندق  من أوقاف الجنة تخدمه الملائكة . هيئة محلفين كرست رسالتها لإنقاذ البراءة من سطوة دساتير الغاب .

امرأتان كلتاهما ضفة نعيم ، الأولى  واحة ظل، والأخرى جزيرة نبيذ.
نساء الصدف ، هذا ما تبقى  من نسيج الأيام تلك، فقط لصناعة حكاية.

الاثنين، 31 يوليو 2017

مثل حيوان طائش (5 )

مفتاح العماري






في الثكنة 



    ولأنك تعيش وحيدًا كما ينبغي لجندي بائس في ثكنة مهجورة أيام العطل الوطنية وإجازات الأعياد، ستدرك وبمحض الصدفة ذاتها التي شردتك، ستدرك أخيرا أن الحياة ليست محض غائط . لأن الله خلق  الكلمات والكتب لمعرفة الجهل، وأيضا للفقراء أمثالك . فعبر الكتابة وحدها، بقدر ما تتحقق العزلة، يمكن لسوءة كسوءتك أن تجد لها متنفسا، علّها تتخلص من الريح الفاسدة التي اختزنها جوفها طيلة دهر من تكدس الفجائع والخسائر والأوهام . وأنه في مقدورك أخيرًا، ومن خلال بضعة كتب أن تنسى الجندي وتتخلص من كل اعطابه وترهاته. وتستأصل الجزء الوسخ من نفسك، إذا أردت حقا أن تؤسس عائلة رحيمة .

    ليس ذلك وحسب، بل سيُتاح لك أن تُسافر إلى أقصى حدّ،  وأن تحلّق إذا شئت، تمامًا كحلم مبهج؛ يجمع بين عاشقين في رواية ستكتبها أنتَ، بدءا من تلك اللحظة التي ستهجر خلالها حيوانا طائشًا وُلد في البريّة.
 ___  



الخميس، 29 سبتمبر 2016

شمس صغيرة في ثكنة


مفتاح العماري








                "نوره أسطع من نور الشمس  /
                        التكليف تابعه / الذم والحمد قريناه ..
                        والثواب والعقاب ميراثه . "
                     -أبوحيان التوحيدي-


________________________ شمس صغيرة في ثكنة



تقول الحكاية :

          عندما كانت قراءة الكتب في مكان ما تعدّ ضربا من الضلالة والتطرف، لم يكن في وسع ذلك الجندي الصغير مقاومة هوس الإطلاع والمعرفة. ربما لأنه لا محالة قد جُبل على القساوة وحدها ،   حيث الحياة  حجرٌ أعمى ، قذف  بصلابة عمياء في مفازة شحيحة. لعلّها الصلابة ذاتها التي رغم انتسابها نحويا إلى قاعدة التأنيث  تظلّ في معجم الغابة  رهنا " بالمكان الذي لا يعوّل عليه " إلاّ إذا افترضنا مجازا ،  بأن صنعة النحاتين قد تضخ في شرايينه نسغ الأنوثة ..  وهي معجزة تحكمها نزوةٌ متخيلة ، لن يُكتب لها أن تُضاف إلى شقيقاتها السبع ، في بيئة تنظر إلى النحت كتركة وثنية  مقيتة  . لذا وبغض النظر عمّا يكوره النحاتون من مفاتن في تضاريس الحجر الغشيم ،   لن تعدو  بالنسبة لجندي  مهدّم سوى شطحة نافلة لا جدوى من ورائها غير مراكمة المزيد من الغبن والوحشة، لأن مجاز النحات  - حتما  - لن يصل إلى بث روح النعومة التي عليها أن تكون  بمثابة أنثى تشي كذبتها بحقيقة صادمة .. حتى يمكنها على نحو ما أن تقفز أبعد من دهشتنا الغبية وفطنتنا الساذجة ، لاسيما بالنسبة  لكائن معزول في ثكنة عسكرية تسيجّها القوانين الأشدّ جلافة وعنفا  ، حيث لن يكون في مكنة الخيال  البائس العثور على كنز بهيئة امرأة جميلة في سرير ، وهي لاشك معضلة قد ألقتها الصدفة ، فثمة هنا وهناك  وجاهة تتخلّق بمشيئات الصدف وبداهتها المتعالية ، حين يولد الملوك ملوكا في أرحام أمهاتهم ، ويولد الأثرياء ، كما يقال  : وفي أفواههم ملاعق من ذهب ، بينما يولد الفقراء وقد وُسِمُوا بأقدار فقرهم : نفاية مدن / روث جهل / وقود حرب / طلاّب غيب يسعون إلى الجنة بمؤخرات عارية .  
     بيد أن صاحبنا الذي بات يدرك جيدا  سوء طالعه قد  استعاض عن خشونة الفقد بتلك الأنوثة التي  تلقيها الصدفة سهوا  في طريق التائه ، لحظة أن عثر على ذلك الكتاب المجهول الذي لا اسم له .. مجرد مزق من ورق مهمل لم تسلم حوافه من جريرة العثّ ، فاستسلم لهنيهة متواطئا مع فضول مريب يفكّك الكلمات ويخمش المظان المطمورة خلف السطور.. مقتفيا سيرة العطب تلك .. التي ظلّت بلا خواتم .. لأن الصفحات الأخيرة  للكتاب ، قد تمزقت منذ زمن بعيد . لحظتها فقط شعر الجندي بتلك الضراوة الغريبة للألم الذي تقاسيه الكلمات المعذّبة .. وقرر أن يبحث بين معاقل الورق عن تتمة كتابه المجهول.


تضيف الحكاية :
      منذ اللحظة تلك ، استمرأ الجندي الصغير  لعبة استدراج الكتب إلى سريره  ، وهي مسألة  يمكن حدسها ، وتصديقها أيضا  كواقعة لا تحتمل الشك في ضرورة مقصدها ونزاهة ألوانها التي بدأت فيما بعد  تتشكّل كإشارات لمّاحة جعلت من ذلك الكائن الوضيع يدرك دون عناء : أن الحياة الحقّة أكبر من أن تخضع لأحزمة معدنية من أسلاك شائكة  يتربّصها الصدأ ، فانحاز بكل جوارحه لسلالة الورق ، حتى أضحى  يعتقد دون ريب : أن القراءة صنو الرئة ، فظلّ يلتهم في شهية جامحة  كلّ ما تقع عليه عيناه من عناوين  في الشعر و التاريخ والحكمة  وفقه اللغة  ، وأصبح يتصفّح متون أبي حيّان التوحيدي ومآثر إخوان الصفا  ،وفتوحات الشيخ محي الدين بن عربي ، ويتلو طواسين الحلاج مثلما يتلو العاشق رسائل حبيبته ، ولم تعزه الحيلة لاكتشاف الخلوات الآمنة التي تجعله مطمئنا وقانعا  بلذاذة صيده ، بعيدا عن أعين الرقباء والبصّا صين . ولأن أنوار عنابر النوم عادة ما كانت تطفأ في تمام الساعة العاشرة ليلا..  كان لا بد له من التحايل على سلطان الظلمة وتمزيق سواد قماشتها القاتمة ، متيحا لتلك الحياة المخبوءة ما تيسر من السوانح المجيدة .. لكي تتخلق بسمو خفي  يتعذر لجمه.. وهي مسألة محيّرة  أرّقته ليال طوال قبل أن تنجده قريحته  باختراع ذلك الكوكب الذي افترض له مدارا  سريا حول الكلمات .. ضاربا عرض الظلمة ببؤرة متكتمة من نهار استثنائي  يخصه وحده ،  بواسطة ( بِيْلَه ) ، أي مصباح يدوي ، قدّر له أن ينبعث بمرح تحت الغطاء الخشن ليوقظ الكلمات النائمة ويهيّج بصمت واجف كوامن الخيال الكسول . 

      غير أن بقعة شمسه الصغيرة، المتفردة بحذر شديد لم تكن في تلك الليلة الشتوية المشئومة سوى أداة اتّهام بالغة الطرافة ، حين تسرّب شعاعها النشيط من بين طيّات البطّانية العسكرية  ،  حيث فوجئ الجندي بغطائه وهو يسحب بقوة .. وبعريف الخفر واقفا حدّ رأسه , ينتشله عنوة من صحبة الدكتور زيفاكو.


 تقول الحكاية :
     في تلك الليلة صودر الدكتور زيفاكو الذي لم يفهمه عريف الخفر ، وقضى الجندي الصغير ما تبقى من ميراث الظلام البغيض  خاضعا بقوة للعقاب الميدانيّ ..  مهرولا وزاحفا عبر ساحة الثكنة  حتى انسلخ جلد ركبتيه وكوعيه. تاركا مسارب من الدم فوق أرضية الأسمنت الباردة ..  وبالكاد استطاع في صبيحة اليوم التالي  الوقوف إزاء آمر الكتيبة الموسوس ، ليواجه رغما عنه تهمة اختراق الضبط والربط ، بعد أن صودرت  شمسه الصغيرة  ( المصباح اليدوي )، واعتقلت عائلته الأثيرة التي تتألف من: شهر زاد ، و الأخوة كرامازوف ،والصخب والعنف ، والكلمات التي تقاتل .. واعتبرت بمثابة دليل قاطع  على انحراف صاحبنا - الجندي الصغير -  الذي امتثل دونما رأفة  لتقبّل العقاب الرادع وقد آثر بطواعية أملتها اللحظة أن يلتزم الصمت الساذج ، وانبرى يتظاهر بالإصغاء  إلى كلمات الآمر المتصالبة والتي تتقاذف صارمة كأنها قدّت بعناية بليدة على هيئة توبيخات عنيفة الوقع ، مؤكدة أن قراءة الكتب بالنسبة لجندي صغير تعدّ ضربا من الضلالة ،  والعبث الذي لا ينسجم مع صلابة وانضباط آلة الحياة العسكرية .
   لكن الجندي الذي تعهد للآمر  شفاهة بعدم تكرار هذه المثلبة  ، كان قد       أضمر في نفسه ارتكاب معصيته الجميلة .

تضمر الحكاية أيضا :
     أن الجندي الصغير قد اهتدى فيما بعد إلى إشارة المعصية التي بدورها قادته  إلى صناعة شمس أخرى لا تقال ، لأنها رغم صغرها كانت أشد بلاغة من أن ترضخ لمجاز الكلمات أو تنصاع لحواس البشر . شمس عظيمة لا تُمس ، ولا تعترف بنواميس الوقت أو  تخشى  ما تخبئه الظلمة البغيضة بين أعطافها من دسائس للإطاحة بوريث عرش المعرفة الذي ما فتئ  يتقدم بجسارة ،  وحيدا بأسره  يقرأ في الظلام بلاغةَ الضوء ، وما خطته يدُ السدنة الأوفياء ، عشاقُ الحكمةِ ورسلُ الروح وأربابُ  الخيال المقدس ،  فقرأ، وقرأ، وقرأ ، مدفوعا بشهوة لا تُضاهى عديد المدوّنات والمصنّفات النادرة ، من دون حاجة لاستخدام الشموع والمصابيح اليدوية .. إلى أن  أصبح في مكنته بعد حين من الدهر  أن ينسج الحكايات العجيبة والأشعار المتوحدة ، لأنه كلّما تقّدم ، فتح بلادا جديدة  وصار أكثر ألفة وقرابة من شموسِ الحكمة التي لن يراها أحدٌ إلاّ هُو.
<> 
_____
 *مفتاح العماري ، من حكايات ( مفاتيح الكنز ) . منشورات وزارة الثقافة 2005 . سبق للكاتب أن اقترح هذه الحكايات لبرنامج اذاعي يومي باذاعة طرابلس المحلية ، سنة 2001 بالوسم نفسه :مفاتيخ الكنز .  وقدمه بصوته . 
اعادة نشر . 



السبت، 4 يونيو 2016

أنا في البيت

                                                                                                                                           مفتاح العمّاري



___________  أنا في البيت

 هنا يمكننا صناعة حديقة من بضع كلمات.
 هل تفهم الآن لماذا لا أمتلك  قطعة أرض مغطاة بالأعشاب والأرانب والألعاب.؟
ليس بالضرورة مغادرة الغرف، وفتح النوافذ، لكي نرى الله .
لهذا اقترحت على نفسي المزيد من الصمت.
لأن الكتابة تستدعي طقسها، تظل الكلمات محض إصغاء لما لا يُرى أو يُشدّ بغير الفراغ نفسه؛ الذي نحسّ به كلما ظفرنا بتحقيق المتع، تلك التي يتعذر ترجمتها عندما يتحول الصراخ إلى طغاة بارعين في تلغيم المستقبل .. 
إلى موسيقى مارقة تستمد نصف حكمتها من تعاليم الغاب.
لأن الكتابة أحيانا مرادف للتنقيب عن كوكب ضائع؛ كان على الكلمات أن تتوغل أكثر في تأكيد المتاهة .
 أجل من بضع كلمات فقط، يمكن بناء منزل من طابقين، واستضافة امرأة، والسفر إذا شئت .
 لعلّي بذلك أحظى بنصف حلم طالما كنت فاشلا في العزف على الكمان، كما أخفقت في الرسم والنحت، وتخليت بأسى في إحدى ثكنات درنة، عن رأس من حجر بحري لأميرة ذات وجه لم يكتمل .
**
 ما من حقيقة إذاً يمكن تأكيدها ،
 ما من منطق أو تماسك ، أو نسيج ،
طالما ثمة لغات في هذا العالم تنتظر الخلاص .
**
     في أفضل الأحوال سنختفي بأنصاف ثياب وأسماء ومفاهيم . هذا ما كان على القصيدة سواء كانت نظما أو نثرا .........  " وهنا انقطع التيار الكهربائي لأغرق في الظلام . كانت الساعة الثامنة من مساء يوم الجمعة 20 مايو .

    شرعت  في البحث عن بقايا شمعة ، مهتديا بولاعة السجائر ، أسحب أدراج دولاب المطبخ ، أدراج الكومدينو ، أدراج الأنتريه ، أدراج الفاقة ، وحين فتحت  أدراج الذاكرة . استأنست أخيرا بابتكار فتيلة زيت لم تصمد طويلا على مقارعة ليلة حالكة.
    بعد أن طردتني كآبة الشقة وتلك الظلمة التي لا تُفسّر، لجأت إلى حيث كان البشر مثل الصراصير في ليل عفن .
 مشيت وحدي لا الوي على شيء .
مرة أخرى : 
في الشارع؛  أنا هذا الألم الذي يتسكّع . 


أنا في الشارع

مفتاح العمّاري



    _____ أنت في البيت .. أنا في الشارع

      بعد خيبتي في طابور الفرن ، قلت لنفسي  يمكن إعداد فطيرة في البيت كخاتمة لهذا الإذلال , وبعدها سأنتقم بدوري من الكتب والكلمات ، أعيد قراءة  تلك المتون المهملة ، وأكتب كل ما يتبادر لذهني : هلاوس ، هذيانات ، بهيئة شذرات ، وقصائد نثر ، وقصص وحكايات ستظل دائما مفتوحة بلا خواتم  . لأنه  يتعذر علي دائما ابتكار نهاية ما ،  فما من شيء أكتبه إلا ويقتحمه الخوف ، الخوف كلازمة متكررة ومهيمنة ، طالما ثمت من يزرع ألغاما في لغتي ، ويسلبني هذه المدينة التي أُحبّ ، يسلبني الخبز والثقة والنوم والضوء والماء والمخيلة ، وتلك الدهشة التي كانت ترافق نظرتي للعالم وتجعلها أكثر بهاء حين أرى الأطفال والحدائق  والنساء  والبحر والشعر والكتب . أسماء أضحت في طور الانقراض ، لهذا انسحب الشأنُ على القراءة ، فأضحت هي الأخرى ترتبك إزاء هكذا فوضى  ، وبالمثل كانت تفشل أية محاولة لإغواء الكتابة ، واللجوء إلى الورقة والقلم عوض اللاب توب الذي تعطلت نضيدته ، ولم يعد أي تحايل يجدي لشحنها بالكهرباء في أثناء زياراتها العشواء . ولأن المكوث في الشقة  وقد تحولت إلى مرجل يغلي صار ضربا من الكآبة ، قلت لنفسي : سأهيم على وجهي ، تاركا لمشية العليل تقودني أنّ شاءت .

      في ميدان الشهداء : أي الساحة الخضراء ، قبل خمس سنوات ، وسوق الخبزة أيام البشاوات والآغات والكيخيات .. هو نفسه ميدان ايطاليا أيام الغزاة الفاشست عندما كان الجنرال بالبو ينصب المشانق بجانب نافورة السباع ، ويضاجع الحسناوات في فندق فيكتوريا . هنا  حيثما تلتفت سيسبقك الماضي ، لأن البناية الغربية للميدان ، أعني مصرف الجمهورية ، أي مصرف الأمة قبل عام واحد ، وبنك  روما قبل مائة عام ، ستظل هي نفسها الأبهة الأبرز في طرابلس لطابع العمارة الكلاسيكية التي خلفها الطليان .
   جلست مكدودا بوهن خائب على مقربة من حواف النافورة ، محدقا في بلاهة إلى حشود الحمام والمسلحين والنفايات . أخيرا أنا وحدي بعد أن أدركت أختي مريم أن لها أما ، تحتاج للماء والضوء ، فمريم الوحيدة في العائلة التي تملك مولد كهرباء يعمل بالبنزين ، أخيرا راودها الحياء وقدمت هي وزوجها المدجج بالثرثرة ، وحملوا العجوز في سيارة مكيّفة . ولأنني وحدي تذكرت سيبتموس سيفروس قبل نفيه إلى لبدة . ففي يوم ما كان الرجل يقف بأبهة موليا ظهره لسوق الترك وهو يتطلع بكبرياء ناحية الميدان ، منتصبا بفخامة قامة حجرية لإمبراطور روماني  نصف ليبي . التقطنا صورا أنا ورفيقي في الكتيبة الرابعة والذي سيقتل في معركة وادي الدوم . من هنا أيضا مرّ موسليني ، وقبله بأربعة قرون تبول جندي سكير من فرق ايزابيلا . هنا هتفت الجماهير للطغاة ، ودفنت أكوام  من جثث ضحايا الطاعون ، وشيعت جنازات ، وأقيمت صلوات استسقاء ، ووزعت أوسمة ، ووضعت أجساد على منصات الإعدام . كما حصد الرصاص أرواح مئات المتظاهرين في ليلة العشرين من فبراير 2011 . هنا التقيت الشاعر علي صدقي عبد القادر ذات مساء خريفي ، كان يرشق وردة في جيب سترته ويتغزل في الشمس والخواء ، كما لو أن طرابلس لا تضم سجونا ومعتقلات وشعراء تتعفن أحلامهم وقصائدهم  داخل الأقبية والزنازين .
      رنّ  هاتفي المحمول . سمعت وبصعوبة  من يسأل :
-       _  أنت في البيت ؟
-        _ لا . أنا في الشارع .


الأربعاء، 25 مايو 2016

خبز وكلاشنكوف

                                                                                                                                             مفتاح العمّاري








     قبل قليل كنت في شقتي الخانقة  أنتظر أصوات القذائف ، أنتظر عودة الماء والكهرباء وتغطية الهواتف وألعن المليشات واللصوص والجهل والمرض والفاقة  ، حيث لا شيء سوى الخوف والاستسلام لعبور الوقت . 
    حين غادرت الشقة كانت السماء ملبدة بغيوم طافحة بحمرة تكاد تختفي اثر غزوة الكتل الدخانية السوداء التي غطت الجو وحجبت النصف الغربي من سماء طرابلس جراء الاشتباكات المسلحة بين المليشيات . كانت خزانات النفط العملاقة تحترق منذ الليلة البارحة ، فتشبع الفراغ بروائح نفط وعفن وصباح مكفهر وجدران تتصدع وأجساد تتدافع من اجل الخبز . من بعيد رأيت طابور الفرن  يتفاقم  . المحال جميعها مقفلة والمدارس والأفواه التي لا تنبس ببنت شفة كما يقال . فقط ، تتدحرج في الفراغ بضع عبارات حذرة يتخللها الله ، باعتبارها الوحيدة المحايدة والمبهمة والقادرة على التنفس وهي تجرح الصمت بحذر ، " ربي يهدي العباد ويحفظ البلاد ". فيما لم يبق شيء من البلاد وعبادها إلا وتحطم . " الله غالب ، إن شاء الله خير " . عيون ترتعش في محاجرها خائفة وحذرة وموسوسة ،" ربي يحسن الخاتمة " بينما الخبز يتأخر ، والطابور يزداد طولا والتواء ، ويلتصق بجدران المحال المقفلة ، " إن صبرتم أجرتم " فيما أصداء القذائف لا تتوقف ، ولا شيء في العاصمة يدفع الناس للخروج من بيوتهم غير البحث عن الخبز والماء والشموع  والمحروقات. كل من يتحصل على نصيبه بعد طول انتظار من أرغفة الخبز يغادر بملامح ظافرة ، ويبدو أكثر نشاطا وثقة . أربعة أرغفة ضامرة ومشوهة وحارة تنفث وهجا وبخارا لتندس بخفة في كيس النايلون . أربعة أرغفة نقص حجمها وخفّ وزنها وتضاعف ثمنها ، بعد أزمة الدقيق والضمير والسيولة والحكمة والبنزين والشرف والأخلاق والكهرباء والقيم  . الحياة في طرابلس لم تعد صديقة وفية أو حتى عدوة واضحة ، بل صارت غامضة ووقحة يتعذر فهمها  .. محض جثة  تتعفن . تضاعف الاكتظاظ والاختناق داخل القطيع وبدأ التدافع يخل بالطابور ويتكدس أمام باب الفرن للوصول إلى نافذة صغيرة حفرت اضطراريا  في الباب الحديدي تشبه كوة زنزانة . لكن ما لبث أن استعاد الطابور بعض آدميته لحظة أن توقفت عربة دفع رباعي برز من صندوقها العاري مدفع ( ميم طاء ) . هبط منها مسلح شاب بشعر مسترسل وعينين ناريتين ، يحمل كلاشنكوف ، أطلق صلية رصاص في الهواء . وشتم الجميع ، فانتظم طابور طويل للرجال علي يسار باب الفرن ممتدا لصق الجدار  ، فيما طابور آخر للنساء أقل طولا من الجهة المعاكسة  . هكذا كان عليّ الوقوف دونما جدوى في طابور ليس له آخر ، يتحرك ببطء ، ويشعرك أن دورك أبدا لن يصل . أجل لن يصل دوري ، وأنت يا عزيزتي تعلمين جيدا كم أحبُّ أن أكون وحدي ، اقرأ ، أكتب ، أجتر أكداسا من صور الماضي ، أفكك أصواتها وأعيد ترتيبها كمادة تصلح للتكفير عن جريمة بقائي حتى الآن بلا معنى .
     قلت لنفسي : لا بأس ، سأروض أوقاتي على المزيد من التحمل والصبر ، فأربعة أرغفة ستصمد ليومين وربما ثلاثة . طالما العجوز تكتفي بالشوربة وحدها وعلب الزبادي والقليل من التمر . لكنني لم أجن من الخبز سوى رائحته المشبعة بالخوف والانتظار والترقب .

الضيّ هَرَبْ . قال عاملُ الفرن . 

الثلاثاء، 24 مايو 2016

تلك البهيمة

مفتاح العمّاري





     ثمت ذاكرة ينبغي إتلافها ، ولغة معتقلة علينا إحسان تربيتها على اقتراف المزيد من التمرد والمروق والعصيان حتى  تخرج كداعرة مهذبة . مسلحون يتبخترون على طريقة هوليود ، يرتكبون دونما غضاضة أبشع الفظائع ، أمسى مصيرنا رهن مزاج بنادقهم وطيشهم ، فما من أحد يجرؤ على الجهر علانية  مطالبا بطردهم خارج المدينة الكبيرة بعد تلك المجزرة التي ذهب ضحيتها عشرات القتلى .  ذاكرة متعفنة ، هي من فصيلة ذبح ونهب ونميمة وأبطال مزيفين ، وجلسات شاي ، من بلور مغشوش وشرس ، الكرامة الوحيدة الجديرة بتبجحها ، تكمن في المثابرة على تحطيمها دونما هوادة  . 
     منذ ثلاثة آلاف عام  وأنا أحاول الفرار من الماضي المعذّب ، والركض إلى أقصى حد ، بعيدا عن تمزقات الأسلاف ، عن البغض والكراهة .
    كان يؤلمني ، كلما رأيت تاريخي يتبع كلبا مدربا وأنا أتبع الاثنين ، ممتنا للكلب لا التاريخ بهذه النزهة. كانت المرة الأولى التي أرى خلالها  كلبا أسود بهذا الحجم الضخم والمخيف . بدا نظيفا ومزهوا وهو يقضم قطعة لحم بقري والدماء تصبغ حواف فمه ، وتنسكب في خيوط مخاطية حمراء ..  بينما نحن كعائلة مجتمعة  بالكاد نظفر كل يوم جمعة بربع نصيب الكلب . ربما لأنه كلب كافر يحظى بكل هذا التدليل المبالغ فيه ، بينما كلاب المسلمين تتجول ذليلة وهي تقلب القمامات علها تعثر على فضلات من عظام وبقايا طعام بائت .
   لهذا سيظل النباح الذي يطلقه الماضي يثير الكثير من الفزع  ، فلطالما كانت تغزوني ظلال تلك البهيمة .


الأربعاء، 4 نوفمبر 2015

كتاب

مفتاح العمّاري


كتاب

       لم يكن ذلك الكتاب سوى حزمة أوراق تعاني سحنته من غزو النمش والبثور والتجاعيد  ، لا غلاف له يستر عريه ويدفئ برودة جوفه ، أو عناوين أو أسماء أو تواريخ تشير لمؤلفه و تدلّ على منشئه  وأصله وفرعه ،حتى أرقام صفحاته قد تلاشت  ، وذهبت مع الحواف التي قضمتها قوارض العزلة حيث قدر لي في يوم طائش من الشهر الثاني في الحساب الشمسي حين دخلت بمحض الصدفة العابرة إلى  ذلك النفق المهجور ، والذي يعود إلى عهد الاستعمار الفاشستي ، لأجده محشورا بين أكداس المهملات ، منبوذا وحزينا وضامرا  ، ليس فيه ما يغري البصر ، أو يغوي الخيال لكي يستحق حتى مجرد أطالة النظر إلى هيئته البائسة ، لذا لم تراودني لحظتها أية رغبة في لمسه ،ولكن بعد أن أوليته ظهري استبدّ بي خاطر غريب  يحرضني بصيغة أمر صارمة تعذّر علي لحظتها لجم شفقتها ، تحثني بصلابة غامضة على إنقاذ ذلك التعيس من مصيره المنكود ، فانتشلته من منازل القتام  ، حيث كان علي بعدها أن أسلخ جزءا من حلمي في معالجة إعطابه، وترتيق عبارته التي تمزقت ،لأضفي عليه نضارة وبهجة تفوّقا على توقه ، إلى أن صار مخلوقا ورقيا جميلا يليق به أن ينتسب إلى عائلة مكتبتي الأثيرة ، كمصنف نادر لا يُضاهى. لكن  ها هو  أخيرا يعبّر عن جحوده بطريقة ماكرة حين  يتعمد  تنغيص هناءتي ، وتشتيت أفكاري بتغوّله وتوحّشه  ، وافتتانه الخادع بسلالته التي لا أثر لها . فأينما أضعه يزوغ عن بصري  :  روح شريرة  ، تطلق أشباحها في أرجائي لتثير فزعا وهلعا في نفسي ، حتى انقلبت هناءة المقام إلى رعب يومي لا يطاق ، يعلن عن مكائده بهيئة كوابيس تتكرر في يقظتي ونومي  ، وكأن كتابي صار يخطط بمكر لنفيي خارج مملكتي ليستأثر وحده بمتع الخيال والسفر ، ربما لأنه قد سأم من ولعي به ، وغيرتي عليه ، والتي أجبرتني على ضرورة إخفائه عن أعين الآخرين مخافة أن يلحّ أحدهم في استعارته ، باعتباره الكتاب الأثير الذي أخشى عليه من مغبّة النظر،  لهذا كنت أحتفظ به في أمكنة آمنة من أرفف القلب، حتى يكون في منأى عن فضول الآخرين ، ورغم ذلك ما انفكّ هذا الكائن  يكرر تمرده على مشيئتي، والتحرر من ولهي به ليحلّق بعيدا  في سماء غير سمائي ، بعد أن صنعت له أجنحة من ريش محبّتي . لكأن بعض الكتب أبلغ تعقيدا وشراسة من  سلالة بني آدم  حين تتفنن في قسوة الانتقام . لهذا بعد أن أضنتني رفقة كتابي سيء الذكر، الذي  صغت مستقبله من تعبي، ورويت أحلامه من نسغ  محبتي وعصير مخيلتي، بدأت الآن أفكر جادا في تركه لتقلبات مزاجه النكد ،بعيدا عن جموح شغفي به ، حيث يقتضي مني فقط ، بين الحين والآخر  تذكير فخامته بوطنه الأم ، أعني ذلك النفق  العطن الذي قادتني إليه صدفة غاشمة، مازلت حتى الساعة أحمل وزر لعنتها .
     لعلكم تستغربون غرابة حكايتي المحزنة ، لكن – صدقوني – هذا ما يحدث  حين تتواطأ خطفة شغف باهتياج محموم ، جراء توهمها التماعة بصيص علّه يغمرها بطمأنينة الوجد ، وبهاء المعرفة  . انها جريرة برزخ بين حلم ونقيضه ،لا سيما في غياب المؤلف كمجاز للعقل، أعني أنه في البدء  ما من شيء  ، كان يدلّ على كتاب عار ، بعد أن فقد جلده وذاكرته، بحيث تتعذر معرفته إلا تخمينا بأنه محض رواية بائسة لمؤلف مجهول تعوزه الدربة .لكن كما اعترفتُ لكم قبلُ ،  أثار هذا الكتاب الملعون غوايتي  ، كما لو أن امرأة وحيدة كانت تتخفّى في جثة متنه ، امرأة كما يبدو ترتدي شكل شجرة عطشى أو عشّ مهجور   ، أو هي  تخطّط طيلة دهر لتغيير عالمها ، لكأنها مقبلة على ارتكاب جريمة ما ، لا مجرد امرأة تحلم . وهذا أيضا ما هيّج شغفي في بداية عهدي  به ، ولا سيما أن الوقت ليل معزول، ومكتبتي  وحيدة  ، وأنا  أيضا  . كان النوم يفارقني ، لحظة أن اقترحت بمرح أن تكون المرأة أنيستي ، أعني الكتاب ،فلعلنا معا نترع الخواء ونجعل الليل أقل برودة ووحشة وسأما ..  ولأن الصفحات الأولى كانت منزوعة ، قنعت قراءتي أن تنطلق بدءا من الصفحة الثالثة والأربعين  . لم يراودني في أول الوله أيما قلق حيال الذاكرة المتخفّية بمسافة اثنين وأربعين صفحة ضائعة ،و قلت لا بأس ، فلا حيلة لي سوى أن أغضّ الطرف عن ماضي هذه الحكاية مكتفيا بالهنيهة  الحالمة التي أنا فيها ، ولا حاجة بي لنكش مطامير خلت ، وسأفترض مستأنسا بما غمرني من فيض التحنان أن ما تلاشى من ذاكرة الكتاب لا يعني الكثير طالما في مكنة أنيستي أن تنسج نفسها على طريقة شهرزاد ، لاسيما وأنها في أول الأمر قد بدت تتلطف تحببا لتشملني بابتسامة لافحة بالودّ ونظرة مغوية  أحسست على أثرها أن جدراني  انفتحت عن حشد من أجنحة حارة تخفق في صدري ، مدركا بأنه قد آن الأوان  لنفير الربيع العاشق. ولأنه ما من أحد غيري في تلك الصحراء القاحلة، يليق بتأدية هذا الدور الذي لا يقتضي سوى فنّ الإصغاء ، ألفيتني مستسلما لسحر السرد ، ملبيا كل ما يمليه خيال كتابي في ملء كهوف الوحشة التي تركتها الصفحات الضائعة . وحين رسمت أنيستي في أول الأمر طائرا خرافيا يخترق سماء مترعة بالغيوم  أومأت لها بأنني قد فهمت . وهكذا سافرنا معا إلى بلاد عتيقة تشبه سمرقند ، وتجولنا عبر بساتين مضمخة برياحين  حدائق الله .  ونمت في تلك الليلة نوما هانئا بين أحضانها وقد  تخللتني رؤى  فاتنة . لكن في الصباح التالي استيقظت فزعا على صوت ما  يتكسر ، لم يكن ذلك سوى مقام الروح.. إذ ألفيتني محض رفات ظلّ ،وأن بحار النور والعواصم والأحلام والقصائد وكل أسماء الألفة قد نأت بعيدا . وبدوت كأنني أتخبط في شراك غابة متوحشة  ، وأنه ما من اثر لذلك المتن ، سوى عقارب خديعته تلدغ مخيلة الوهم، نافثة سمومها في خلايا لغتي . وهذا بعض ما رأيت .
¨     

برلين 12/12/2009

الأربعاء، 21 أكتوبر 2015

مثل حيوان طائش (3)*


مفتاح العمّاري
ثلاث نملات تعبر كتابا 
-3- 

  ما تزال ملامح الحرب ، ومشيئة الفوضى تعبّر عن نفسها بضراوة ، وقد تركت آثارها بالفعل على لغة ووجوه القاطنين ، نظرات خائفة ومرتابة وقلقة دائما ، كذلك على الشوارع ، ثمة خرائب  يجسدها حطام  ظل غباره عالقا على بقايا شجيرات عطشى  تتخلل الأرصفة التي غدت مكبا للنفايات ،و مخابز  اقفل ثلاثة أرباعها ، وضجيج محركات توليد الطاقة التي تعوض انقطاع الكهرباء ، وزحمة السيارات ، وهي تصطف في طوابير طويلة انتظارا لدورها في تعبئة الوقود ، هذا فضلا عن سماع فرقعات الرصاص ودوي انفجار القذائف الذي يشق الجو بين حين وآخر ويهز الجدران ويخلخل النوافذ والأبواب ، وعواء سيارات الإسعاف والمطافئ الذي لا ينقطع.

     منذ أربع سنوات لم تترك  الحرب موقعا إلا وأخضعته لقانونها وقد تجاسرت بأن حولت الشوارع إلى جبهات للقتال .
    هنا في حي الطاحونة للحركة وتيرة يومية تشي أحيانا كأن شيئا لم يتغير . وإنني لأتساءل كلما غادرت شقتي هابطا إلى الشارع محتاطا  وحذرا بالطبع من سرعة السيارات كلما قطعت الطرقات، هل بلغ تعلق الناس بالحياة إلى حد يجعلهم  غير مبالين ، كما لو أنهم لا يكترثون للحرب  . كان علينا منذ خمسة شهور أن نتوخّى وبدقة حذرة سياسة التقشف ، ولاسيما بعد تأخر معاش العجوز ، لذا لا نشتري إلا الضروري ،وهذا ما حدث ، فقد اشترينا دقيقا تضاعف ثمنه ، وبقوليات وزيتا وتمرا ورزا وعلب تونة . حين ذكرت الضروريات ، أعني تلك التي عليها أن تصمد ، وقد حالفنا فصل الشتاء لكي تسلم مونتنا ، لاسيما الطحين والبقول من الحشرات والبكتريا والتسوس . لهذا وبأعجوبة تستمر الحياة . ومن جهتي ، تحايلت بطرق عديدة حتى لا أخسر الحدّ الأدنى من عزيمتي ، ليس من ضراوة الفوضى أو اتساع رقعة التهدّم التي تتفاقم يوما بعد يوم ، بل من غضب العجوز ، أمي التي لا ترحم إذا ما قصرت في تلبية حاجاتها .
   أسابيع ثقيلة ومقلقة لم أكتب بعد شيئا مجديا ، فيما الحرب لا تهدأ ، فما أن تتوقف في هذا الحي حتى تنفجر في ذاك . لقد تعبنا ، وعلى الرغم من ذلك كله يظل  اللجوء إلى الكتابة هو حيلتي الوحيدة لمخاتلة الخوف والعوز والظلام . 
    كان معظم أصدقائي قد نزحوا . اختاروا الغربة طمعا في الأمن ، وحرية الرأي بالنسبة للناشطين منهم . بعد أن تفشت ظاهرة الاغتيال والخطف والاعتقال . كانت سياسة القمع وتكميم الأفواه قد  طالت العديد ممن برزوا خلال الأيام الأولى من الثورة .
   لكن حتى وان  بدت طرابلس الآن في نظر التاريخ محض مدينة مخذولة خلف حطام أسوارها العتيقة ، دخانها يتفنّن في تظليل السماء ، ونوافذها مطفأة وأطفالها يلعبون بالكلاشنكوف ، ساحة اقتتال وخطف وذبح وترويع .تستوطنها النفايات و ينتهكها المارقون واللصوص ودهاقنة السياسة  وسماسرة الحرب ، لكنها ليست فزعة أو هيابة إذ يروقها كلّ صباح أن تعرض الخبز ساخنا . صحيح قد فقد الربع دينار هيبته ،والذي كان لبضعة أسابيع خلت يمكنه جلب عشر بانينات ، ستكفينا أنا والعجوز لثلاثة أيام  ، وأضحى الآن بالكاد يساوي رغيفا هزيلا تم التحايل على وزنه وحجمه ونكهته . لهذا أحمد الله بأنني لست  أكولا ، والعجوز أيضاء لم تعد تحفل بالطعام إلا لتسكين ثورة الجوع . لهذا لا تطلب سوى بعض الحساء من الخضار المخفوق في الخلاط الكهربائي ، عندما يكون التيار سخيا ، وإلا سأضطر مرغما  لهرسه يدويا .. في شيء من العجالة حتى ألتحق بخيالي الذي تركته يتخبط فوق لوحة مفاتيح جهاز الكمبيوتر .

_____   
* المقطع (3) من سردية ثلاث نملات تعبر كتابا .

الأحد، 18 أكتوبر 2015

كهل يصغي لخياله ويفكّر

مفتاح العمّاري

أحلامٌ شابّةٌ تَجْمعنا

           حين غادره حُلُمُه ، فكّر  الكهل : بأن ثمة امرأة حقيقية  في هذا الجزء الخامل من العالم  تشبه المرأة التي أيقظته من نومه  ،  وتحت غمرة إحساس غامض بغبطة خفية لا يدرك مصدرها لم ينتظر في سريره ريثما يتكاثف الضوء في الخارج قليلا  بالقدر الذي يتيح له رؤية الطريق .  هبّت ريح  باردة ، أحس على أثرها بقشعريرة مبهجة تسري في جسده  وهو ينحدر عبر الهضبة  ، حيث لا أحد سواه يتأمل تخوم " الرملة "    وظلال منازلها وأشجارها المتوحدة في هيئة ظلام يتبدد على مهل ،  بمشيئة شمس فتية تمزّق أقمشة الظلمة  بألوان قرمزية مخلوطة بفضة لامعة  ..تَهِبُ أفق الشرق شعاعا آمنا ومرحا . وفيما هو يضرب الدرب الترابي متجاوزا شجرة سرو هرمة  بمحاذاة سور قديم  تهدّمت بعض أطرافه يحيط جبّانة قديمة   ، غافلته كآبة مهيبة تسللت بخفاء إلى شغاف روحه التائهة .. حين بانت له شواهد القبور ِبين فروع شجر الخروب  .. عندها تذكّر أباه الميت  .. وحبيبته الغائبة ، فاحتال على خوفه مترنّما بمقطع يتيم لأغنية شعبية  تحكي عن الحمام الذي يطوي البلدان النائية تحت جناحيه ويحمل الرسائل والوعود والقبلات الحارة .   عند المنعطف  الذي يفضي لطريق الإسفلت توقف مستأنسا بشجرة زيتون . كانت الساعة تناوش السابعة  ، بينما الحافلة لم تأت .. ومن دون جدوى انبرى يلوّح للسيارات المارة  .. لكنه وتحت وطأة إحساسه بالخيبة  طفق يطلق العنان لخياله الجامح مستدرجا المرأة التي رآها في حلمه .. وسرح بعيدا دونما إحساس بالوقت الذي يمرّ سريعا .  لم يتح له خياله التوقف لهنيهة لكي  يشعر بقامته التي تقمّصت هيئة كهل وحيد في عزلته الغامضة  من دون أيما انتباه  لعواء الفصول وهي تمضي  ، وتبدّل الجهات . لم يدرك الكهل أن الأشياء والأسماء لم تعد كما هي  .. وأنه من حيث لا يدري ظل دهرا ، رهين برزخه ، يصغي فقط لنواميس حلمه ،  وينتظر على الدوام دونما رأفة بالزمن ، و قد استحال إلى حطام شبح يابس تغلغلت أقدامه  عميقا في جوف الأرض ، وتشابكت بعروق شجرة الزيتون  ..وبدا مثل قبر مهجور في الريح .  هناك على قارعة الطريق الريفية ، لم يكن في وسع المارة الذين كبروا فيما بعد أن يخمنوا بأن كتلة التراب تلك .. والتي تحجّرت بفعل قساوة الزمن والترقّب  هي مجرد أطلال مهدّمة لرجل حالم ، كان في يوم ما ينتظر الحافلة ، ويتربّص   بامرأة  ويصغي مستسلما لخياله ، ويفكر بهدوء في المرأة نفسها التي عبرت منذ هنيهة  ، هامسا لنفسه : قد نهرم ، وتشيخ أجسادنا ، لكن ثمة دائما أحلام شابة تجمعنا .
_______
الرملة: صيف 1997




الجمعة، 21 أغسطس 2015

الحذاء الأحدب


مفتاح العمّاري
         
الحذاء الأحدب *



    ثمة  ما جعل الأفق قرمزيا أو لازورديا  بلون عصافير مضروبة ببنادق صيد أو بحجارة مقاليع ، إنها الشمس تفر عن متناول اليد فيما لاح الدرب الترابي المؤدي إلى المدينة ملتوية كثعبان آصلة خرافيّ ، يزحف رويدا ، رويدا شاقا سهول قمح صفراء ، لاح يعج بارتال سمراء تتدحرج صوب بيوت شعر متناثرة  .. لم تضأ بعد .



   إنهم الرجال يعودون من السوق ، بعضهم راجلا وبعضهم الآخر راكبا الحمير والجياد محملين بالسكر والشاي وعلب السجائر كذلك بأشياء صغيرة للأطفال والنساء .
  أمام بيت شعر صغير يشبه جملا باركا على وجه الأرض ثمة امرأة ذات وشم وعينا غابة محترقة وبشرة من حنطة تصارع كتلة عجين ، ترفسها بيدين قويتين بمساحة قصعة خشب عتيقة .. وبين هنيهة وأخرى كانت المرأة تنظر إلى الدجاجات وهي تنقر التراب  أو هي تلتقط ما تناثر من فتات خبز وحبيبات قمح وشعير ..كذلك كانت تنظر الى الغلام الواقف على بعد قامتين أو ثلاث منها فوق كثيب ترابي  وهو يطلق عينين قلقتين باتجاه الدرب . كانت المرأة تعلم أن الغلام منذ شهر أو أكثر قد بلي مداسه ، وأنه مابرح يرتقه بين الحين والآخر بمسامير صدئة وأسلاك نحاس رفيعة كان يجمعها من هنا وهناك حتى أمسى غير قابل للعب كذلك غير قابل للركض " يا للغلام السيئ الحظ "  وأنه _ أي المداس _ قد فقد لونه واكتسب شكل عجوز حدباء  تهشّ الذباب عن جثة /  شكل صديق خائن /
وخزات رؤوس مسامير صدئة  .. رؤوس أسلاك معدم ناتئة / حالة تعب يومي  ...............
" يا للغلام السيئ الحظ " ..  فكم كانت المرأة تتألم لحظة رؤيتها البثور والجروح تغطي
قدم الغلام  وتذّبه كلّما حاول المشي ، مما دفعها في الليلة البارحة أن تعطي خاتمها الفضي الأثير إلى زوجها كيما يبيعه في سوق المدينة .. وأن يشتري بثمنه حذاء جديدا للولد .. وقالت لزوجها :
" فليكن لونه أسو د
أو أحمر
أو أبيض ، أو بنيّ ....
لا يهمّ .. فقط أن يكون متينا
ومناسبا لقدمي الولد " . 
        من بين رتل الرجال العائدين  كان ثمة رجل يقترب .. رجل واحد يعرفه الغلام جيدا  - انه أبوه -   ما أن لمحه حتى ضحكت عيناه  ، وفي عجل نزع مداسه البالي عن قدميه ورمي به بعيدا باتجاه الشمس الهاربة ... وطفق يركض حافي القدمين ، غبطا يذرّ خلفه أقواسا من غبار طفيف .
     أمام ساحة البيت شرع الغلام يفرك قدميه بالماء والصابون فيما عيناه لا تفارقان الحذاء الجديد .. وبعد أن نشّ قدميه من البلل ارتدى جوربا نظيفا .. بينما بدت المرأة مطمئنة وهي تلقم التنور ذا اللهب القوي الرائحة بقطع من الحطب لحظة أن طفق  الولد
مبتهجا يعالج حشر قدميه في جوف الحذاء الجديد  مرة بالضغط وأخرى بضرب قدميه على الأرض كما الناقة الرفوس  .. حاول ذلك مرارا وتكرارا  وبكل ما أوتي من قوة ، لكن
الحذاء كان ضيقا .. ضيقا إلى حد الألم الذي لا يطاق  . أحس الغلام بشيء يخفق  / شيء ما ينكسر في داخله . لحظتئذ جهم وجهه ، وتلون بلون عصافير مضروبة ببنادق صيد  / أو بحجارة مقاليع /  جمرة في الماء .
       هكذا شعر الغلام ثم رمى بصره هناك حيث يرقد ثعبان أصلة خرافيّ متقمصا شكل ليل ذي قمر غائب .
____

البيضاء 1981 . من نصوص كتابنا: مفاتيح الكنز .