مفتاح العمّاري
أحلامٌ شابّةٌ تَجْمعنا
حين غادره حُلُمُه ، فكّر الكهل : بأن ثمة امرأة حقيقية في هذا الجزء الخامل من العالم تشبه المرأة التي أيقظته من نومه ، وتحت
غمرة إحساس غامض بغبطة خفية لا يدرك مصدرها لم ينتظر في سريره ريثما يتكاثف الضوء
في الخارج قليلا بالقدر الذي يتيح له رؤية
الطريق . هبّت ريح باردة ، أحس على أثرها بقشعريرة مبهجة تسري في
جسده وهو ينحدر عبر الهضبة ، حيث لا أحد سواه يتأمل تخوم " الرملة
" وظلال منازلها وأشجارها المتوحدة
في هيئة ظلام يتبدد على مهل ، بمشيئة شمس
فتية تمزّق أقمشة الظلمة بألوان قرمزية
مخلوطة بفضة لامعة ..تَهِبُ أفق الشرق
شعاعا آمنا ومرحا . وفيما هو يضرب الدرب الترابي متجاوزا شجرة سرو هرمة بمحاذاة سور قديم تهدّمت بعض أطرافه يحيط جبّانة قديمة ،
غافلته كآبة مهيبة تسللت بخفاء إلى شغاف روحه التائهة .. حين بانت له شواهد القبور
ِبين فروع شجر الخروب .. عندها تذكّر أباه
الميت .. وحبيبته الغائبة ، فاحتال على
خوفه مترنّما بمقطع يتيم لأغنية شعبية
تحكي عن الحمام الذي يطوي البلدان النائية تحت جناحيه ويحمل الرسائل
والوعود والقبلات الحارة . عند
المنعطف الذي يفضي لطريق الإسفلت توقف
مستأنسا بشجرة زيتون . كانت الساعة تناوش السابعة
، بينما الحافلة لم تأت .. ومن دون جدوى انبرى يلوّح للسيارات المارة .. لكنه وتحت وطأة إحساسه بالخيبة طفق يطلق العنان لخياله الجامح مستدرجا المرأة
التي رآها في حلمه .. وسرح بعيدا دونما إحساس بالوقت الذي يمرّ سريعا . لم يتح له خياله التوقف لهنيهة لكي يشعر بقامته التي تقمّصت هيئة كهل وحيد في عزلته
الغامضة من دون أيما انتباه لعواء الفصول وهي تمضي ، وتبدّل الجهات . لم يدرك الكهل أن الأشياء
والأسماء لم تعد كما هي .. وأنه من حيث لا
يدري ظل دهرا ، رهين برزخه ، يصغي فقط لنواميس حلمه ، وينتظر على الدوام دونما رأفة بالزمن ، و قد
استحال إلى حطام شبح يابس تغلغلت أقدامه عميقا في جوف الأرض ، وتشابكت بعروق شجرة
الزيتون ..وبدا مثل قبر مهجور في الريح . هناك على قارعة الطريق الريفية ، لم يكن في وسع
المارة الذين كبروا فيما بعد أن يخمنوا بأن كتلة التراب تلك .. والتي تحجّرت بفعل
قساوة الزمن والترقّب هي مجرد أطلال
مهدّمة لرجل حالم ، كان في يوم ما ينتظر الحافلة ، ويتربّص بامرأة ويصغي مستسلما لخياله ، ويفكر بهدوء في المرأة
نفسها التي عبرت منذ هنيهة ، هامسا لنفسه
: قد نهرم ، وتشيخ أجسادنا ، لكن ثمة دائما أحلام شابة تجمعنا .
_______
الرملة: صيف 1997