مفتاح العمّاري
__________ تسكع في قصائد مهجورة
لوحة عزلة للفنان دالر عثمانوف- طاجيكستان
في مرحلة البدايات كان لدي ما يكفي من الجموح لضغط الأسماء والعناصر بكل ما
تنطوي عليه من ألم وثكنات وبشر وفقر وعزلة ودواب ورياح وحروب، داخل جملة شعرية
مكثفة بخبرة مشاء دربة. من دون ايما اخلال بحرية الخيار التي تتيح للكلمات وحدها
اقتراح الوقت والمسافة الجديرين بإشباع الوطر. لا أدري كم قطعت من الطريق، واستهلكت
من الورق والحبر، وكم تبقى لي بمقياس الشعر، لا الأرصفة وتراب البراري. فها هنا
يمكن القول إذا شئت: أن المشي كان عملا جديرا بساعات يقظتي القلقة، والمفعمة
بالأحلام. حتى أصبح من أكثر أوصاف هوسي شيوعا؛ فمنذ صباي درج تشبثي بعادات التسكع
حدا أبعد من المدارس وخرافات الليل، ومحال البقالة، وصالات السينما، ومنازل ذوي
القربي؛ وقد استمر معي هكذا ولع حتى في أشد أوقاتي اعتلالا لتندرج حصص المشي ضمن
محتويات صيدلية المنزل، كأدوية ضرورية اتعاطاها على نحو يومي لمقاومة السرطان
والجهل وقطع الأشجار وابادة دواوين الشعر الحديث والتخلي عن المقاهي وآلات
الموسيقى، وتطفّل الحمقى. كنت في الأثناء أنساق لخطواتي الشابة بحماسة وشغف لا
يفتران، وأقيم مهرجانا لذاكرتي كصنف من التكريم للحظة الطواف نفسها؛ أي لحظة
الذوبان أو الانصهار مع المحسوسات؛ فيما الأرصفة والأجواء (كيفما كان الطقس)،
هي دائما أكثر ألفة وحميمية. قبل الشعر، وفي أثره بعد ردح من التنقّل بين القرى
وثكنات الجيش كجندي مشاة، ثم أخيرا كشاعر قصيدة نثر في العاصمة التي أنهكتها حروب
باشوات بني عثمان، سيظفر الجزء الحي من تاريخي بإضافة سلسلة من الدورات المبهجة
للتسكع عبر الأماكن الأثيرة التي تروق لحواسي ومخيلتي: ميدان الجزائر، شارع
البلدية، حديقة الغزالة، طريق الشط، الكورنيش، باب البحر، الرشيد، ثم اقفل راجعا
عبر شارع الوادي. لكن الآن سيختلف الحال كثيرًا طالما أضحى التسكع في شوارع طرابلس
لا يفتقر للمتعة وحسب؛ بل أمسى أشبه بخوض معركة شرسة. لهذا أعود الى البيت مثخنا
بالخيبة والإحباط بحيث لا ملاذ سوى الفراش، والنوم لساعات طوال، وربما لبضعة أيام
ريثما أستعيد شيئا من حيويتي لسماع الموسيقى مجددا، واستعادة متع النظر عبر
الشرفة: صحيح؛ لا شيء سوى بلادة الصخب، والنوافذ المطفأة على الدوام، وثقل الهواء
الفاسد. اذ لم تستحق أكثر تضحيات الشعر نبلا: فتح الأبواب وإيقاظ قدر يسير من
الابتسام والتلطّف والأيادي الرحيمة. وقد أمسيت عليلا، بالكاد أسحب حدا أدنى من
الهواء النظيف. عاجزا عن ارتكاب ايما مغامرة جسورة تأخذني أبعد قليلا من مخبز
الحيّ الذي لا يفصله عن مسكني سوى مئة متر ونيف، وغالبا في أوقات تسبق الفجر
بقليل، حيث ما من شيء يجوب الظلام سوى الشعر والكلاب الضالة، وعمال القمامة. كان
جلب بضعة أرغفة ساخنة بين فترة وأخرى رياضتي الصباحية الأثيرة التي أعول عليها في
استعادة صلتي بالشارع حتى وان بدا مظلما ومريبا. عدا ذلك ربما يتاح لي أحيانا
قراءة كتاب الكتروني على اللاب توب، أو مشاهدة فيلم في محطات التلفاز. وبالرغم من
شيخوختي وقد ناهزت السبعين لكن أمنياتي ما تزال مفعمة بمزيد من الحيوية التي لا
تنسجم مع هشاشة جسدي. وبغض النظر عن صولات المليشيات، واشتباكاتها المزمنة،
وما ترثه العاصمة من حطام وخوف ولصوص ومقابر ونفايات وحدائق ميتة؛ لا ينفك ظني
بملكية ما يكفي من الخيال والكلمات والوقت لكتابة روايات عظيمة. هذا الشعور
المستبد في انحيازه لشرعية الجمال، ما برح منذ سنوات يلازمني بثقة عارمة، من دون
أن يبدر عني أي انجاز يلبّي هكذا أوهام مزمنة. ربما لأن خطواتي أمست أشدّ تؤدة
ودعة وتسامحا وذلك كضرب من التعبير عن تعاطفها مع انحناءة ظهر الزمن، ومثالب
الجسد، وما تجود به الذاكرة من وجوه باهتة، وهزائم يتعذر ترميمها، ومحطات ما تلبث
أن تتلاشى أصواتها واسماؤها. كان البطء احدى حيلي المبتكرة لإطالة النظر في جدوى
المستقبل كخاتمة تفضي الى المجهول الذي لا نعرف من صفاته سوى العدم. لعل من يطلع
على مفكرتي سيفاجأ بالرياح الغاضبة وهي تعصف باللغة من دون أن تترك عبارة آمنة، أو
شجرة أو قارب صيد. حيث عشت طفولتي وصباي في حي بائس تنبعث من اكواخه روائح الفاقة
وخرافات العجائز، والمرض والجهل والموت والخيانة. ثم ها أنا ذا -مرة أخرى-يشغلني
شيء سوى المشي خارج الثكنات. وقد تعبت من الخوف والهجر والجحود والجفاء. وإن كنت
على يقين أن قصائدي ستبقى على الدوام أكثر جرأة وبسالة منّي. لأنني وهبتها كل ما ادخرت
طوال سبعين عاما من حزن وقوة لكي تظل نشيطة حتى في نوبات النوم. وهذا لا يجعلني
وحيدا. لكن سوء الطالع هو من رمى بي داخل قبائل من سلالة اليباب التي يصعب التعامل
معها بواسطة الكلمات. لهذا وذاك ظلت قصائدي وحدها من يشعرني بالزهو ويعطي لمسيرتي
ذلك الفخر الغامض الذي لا أحد يحس به سواي. وكان ذلك عزائي الوحيد وسط أكوام من
الخسائر المتلاحقة. الشعر كضرب من نزاهة المشي في ممالك المخيلة. وسيلة الركوب
الوحيدة المتاحة لي بعد أن أضحت قدرتي على التسكّع راجلا شبه متعذرة لأسباب لا
تتوقف عند حدود المرض بعد أن تحول البشر الى قطعان من الكلاب المسعورة التي يصعب
الجمع بينها وبين الموسيقى في بهو واحد. من هنا صارت طبائع الشعراء والفنانين تفقد
يوما بعد يوم الطبقة النظيفة واللامعة من أصالة الصوت البشري. وبدأ الخلط بين
العسل والغائط أمرا شائعا دونما ريب. هكذا خسر الغاوون في طرابلس الأثر الوحيد
لهويتهم، خسروا الشعر. وبالمثل لم يعد فن الرسم آمنا من شبهات الكفر. ليلقى المصير
نفسه الذي واجهته قبل ذلك آلات الموسيقى بعد نفيها خارج أسوار المدارس والجامعات
باعتبارهما ضربا من الوثنية والمجون. ومهما حاولت كشاعر مشاء ضخ المزيد من الايمان
والتسامح في اوردة القصيدة علها تفلح في عقد صداقات طيبة مع جيران غاضبين أبدا،
الا أنها ما تلبث أن تعود خائبة وحزينة، خالية الوفاض من رفقة المريدين والغواة
والعشاق الحالمين. كما لو أن وجدان الناس اختزل فقط في بطونهم وشهواتهم الجنسية.
كنت أحسب أن الشعر لمن يحتاجه، كخبز ضروري لغذاء العقول؛ بيد أن الأمر هنا سيختلف
تماما، فلا مكان يسع الشاعر الا ما تجود به المنافي من أهوال الوحشة. ومن ثم
لا مناص أمامي سوى البقاء وحيدا في عزلتي التي لم أدخر حيلة لتهذيب قساوة آلامها.
ليغدو النأي امتدادا طبيعيا لنهاية تاريخ البشرية، لا موت الشعر. ولم يتأت ذلك
بسبب خسران الشعر وحده، أو فداحة المرض الذي يتكبد الجسد والروح أوجاعه ليل نهار،
بل كان لسطوة حدسي فعلها في فضح كوامن الخزي في مجرى الشعراء الأوغاد الذين لم
يراعوا قداسة الكتابة، واتخذوا منها وسيلة للرياء والزيف من أجل التكسب والوجاهة،
دون أية مراعاة للحدود الدنيا من شرف الكلمة التي يدعون الانتساب لسلالتها
النبيلة. وأنهم لمجرد احساسهم بأنك كشفت الاعيبهم المخجلة فإنك لن تسلم من دسائسهم
الكيدية التي تصل الى حد قطع الأرزاق. وحتى بعد أن تلوذ بعالمك بعيدا عن ترهاتهم
فانهم لن يدعونك وشأنك. لهذا ستفقد المآثر الحميدة حيزا كبيرا من طقوس الاحتفاء،
بدءا من العادة الأثيرة للمشي في الشوارع دونما كلل، والجمال الذي لم يعد يمضي
قدما، وتلك الهشاشة العظيمة، الناشئة عن تفسّخ الشعر. وأنني حين أوسم هذه الخاتمة
بعناوين التيه والضياع، فإنما أشير تحديدا الى أسوأ مثالبها، مثل: غياب القيمة
كمحصّلة في غاية الجمال لسمو المعنى. هذا الصنف من إهانة الجمال وتتفيه حضوره يعكس
بالمقابل تمظهرات سسيولوجية لما وصل اليه مجتمعنا الليبي من سلوكيات عنيفة عبّر
عنها ازدراؤها (غريب الأطوار) لمعظم أجناس الفنون والآداب، وبصورة خاصة
الرسم والموسيقى، والشعر ممثلا في اشكاله الحداثية: تيار " قصيدة النثر"
بصورة خاصة.
اذاك كان لزاما عليّ شحن غرفتي بحشد من
موسيقى تضافر في صقلها نخبة من العازفين المهرة. أفعل ذلك كتقليد طامح الى استدراج
كل محفزات النجاح رغم مظاهر الفشل التي تحيق بي. وحتى أعزز ثقتي بالشعر قررت المضي
في الكتابة الى آخر رمق. وإن كنت دائم الخشية من تقلبات قلقي كآفة
ملازمة، لطالما أحالت بيني وبين المضي في وضع اللمسات الخاتمة على العمل الذي بين
يدي؛ لتظل معظم مشاريعي في انتظار مؤبد للنهايات، حتى تتلاشى خارج دائرة الشغف.
وهذا الأمر يحزنني تكراره ويشعرني بالخيبة جراء تكدّس عديد الكتابات (غير
المكتملة) ولا سيما في السرد الروائي والقراءات النقدية في الأدب والفن.
هل تعد رغبتي في استعادة نشاط
المشي كجزء من آليات المقاومة الذاتية لهذا المتاه المعرفي الذي ينذر بعودة عصور
الانحطاط، عندما تغيب المؤسسة الثقافية تماما جراء هيمنة الأنذال على مفاصل الدولة
وإدارة شؤونها بطريقة عشواء تفتقر الى الحد الأدنى من استراتيجيات المشروع
الثقافي. لكأن الشاعر المشاء في هكذا أحوال متردية يصر على البقاء في أتعس صوره
شتاتا وتشردا، والتشبث بهبات التسكع، ليجوب شوارع طرابلس البائسة وهي في أبلغ
درجات تجلياتها التاريخية عصيانا للجمال، وقد اصطفت بقضها وقضيضها في طابور
الخيانة، وتمادت في غيّها دونما رادع يقف بينها وبين استهلاك هويتها عبر مفاتن
القبح والفساد والتخلف.
أن تكون مشاءً جيدًا في مدينة معاقة مثل طرابلس؛ سيتعين عليك العيش بكثير من العوز والتقشف، حتى تروم الفاقة وشظف الواقع
اليومي، صونا لكرامتك وعفتك وحريتك كذات مستقلة، لا تملك من أمر شيخوختها سوى هذا
الطواف المضني بين حطام العاصمة التي بقدر ما ارتفع عمرانها وضجيجها، سقط وجدانها
في الحضيض.
________
باب بن غشير 6 فبراير 2025