وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري
‏إظهار الرسائل ذات التسميات حلقة مفاتيح ،. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات حلقة مفاتيح ،. إظهار كافة الرسائل

الأحد، 31 مايو 2020

نظام القبح (2)

مفتاح العماري




________  تغييب المتخيّل

    لا شك أنها مسألة معقدة تلك التي تجعلنا مهددين بفقدان هبة الخيال. أن مجرد التفكير في كوننا نخوض الحياة دون مخيلة لهو أمر في غاية الغموض. قد يحرم الإنسان من الحرية، ومن الضوء وحتى الطعام، ويخوض صراعا لاسترداد حقه في العيش بكرامة؛ لكن أن يكابد من أجل استعادة حقه في التخيل لهو شيء يتعذر شرحه بالقدر الذي'يجعل من هذه المسألة قضية مشروعة، وعلى درجة من السمو لا تقل من حيث سلم الأولويات عن حاجتنا للهواء النقي. 

    كيف يمكن في ليبيا مثلا ولاسيما في ظروف الحرب الأهلية التي تحتل خلالها متطلبات الأمن والغذاء والدواء والمأوى والتعليم استحقاقات أساسية تغطي على ما عداها، كيف لنا إزاء هذا الوضع المأساوي إيجاد أي مسوغ لطرح قضية استعادة الإنسان لحقه في التخيل. لا شك أن المساحة المرجوة إن لم تكن معدومة فهي ضيقة جدا، وهامشية إلى حد التفاهة لحظة إنتاج مثل هذا الصنف من الأسئلة التي في ابسط الأحوال ستعد عقيمة وبلهاء. 

المعنى هنا لا ينحصر في قدرتنا على التخيل بل في قدرتنا على استغلال هذه الطاقة كمضخة إنتاجية. باختصار شديد أشير تحديدا إلى الخلق الإبداعي كمستوى فائق من مستويات التفكير والمعرفة. 

لأن تغييب تجليات الخيال وتكريس منظومة تفعيلها داخل نسيجنا المجتمعي هو من يُكسب هذه الهبة جدواها المرجوة في تحريك مستويات تفكيرنا، فضلا عن تهذيب سلوكنا والرفع من ذائقتنا، وتنمية حواسنا وكافة قدراتنا الإدراكية لتكون أكثر استبصارا في ترجمة القيمة؛ قيمة المعرفة بوصفها فعلا إنسانيا سيذلل حتما من وطأة الأزمات الاجتماعية ويجد لها الحلول والمخرجات التي تنسجم مع وعيه من خلال معالجته لمشاكله عوض'إعادة إنتاجها وتأزيم كل ما هو متأزم، عبر تصعيد مشاكله ومراكمتها إلى ما هو أسوأ. 
ونحن لا نثير هكذا أسئلة سعيا لإيقاظ أو تحريك آليات تفكير إجرائية، سواء أكانت رسمية تتبع الدولة أو أهلية كمؤسسات المجتمع المدني؛ فهذه قضية أخرى لها مالها، وعليها ما عليها وبصورة خاصة إذا ما كان المشهد الثقافي يتعلق بالمجتمعات الأكثر تخلفا. 
بل نطرح السؤال بصيغته الفلسفية كمحاولة لتشخيص وتحليل هذا الصنف من الأزمات المسكوت عنها؛ بوصفها خارج جدولة القضايا الإستراتيجية طالما ثمة أولويات أخرى عليها أن تحتل الصدارة في انشغالات المجتمع.. بحيث يجعل من المتعذر بالنسبة لنا الظفر بحيز يتسع لإيواء سؤالنا حول معضلة هذه الجريمة المتعلقة تحديدا بحرمان جزء من المجتمع البشري من التمتع بتفعيل مخيلته، بوصفها فعلا حقيقيا ذا قيمة جوهرية للتعبير'عن آدميته، فضلا عن كونها ضرورة اجتماعية أساسية تمكنه في الوقت ذاته من إنماء عقله وتطوير أدائه في زحزحة مشاكله وحلحلتها، لا التورط في شراكها وإعادة إنتاجها وتسويقها. 
حين نفكر بأن معظم مشاكل مجتمعنا الليبي ناتجة تحديدا عن ضعف دور المخيلة وتحييد طاقتها؛ سيبدو الأمر للوهلة لدى البعض مدعاة للسخرية؛ لأسباب كثيرة لا حصر لها، يندرج أغلبها في مخلفات تراثنا الثقافي بكل خرافاته المؤسسة لنمط من العقل المجتر لرفاته؛ باعتباره نمطا تبعيا توقف عن النمو منذ قرابة ألف عام وانحصر في التسليم بمنجزات الموتى. مما يستحيل معه الاعتراف بدور الخبرات التراكمية؛ كأننا لم نكن جزءا من تطور تجارب البشرية وتكدس معارفها خلال عشرة قرون ليظل الإيمان بعقل السلف ( الصالح) وحده كافيا لإلغاء عقولنا وشل قدراتنا على الخلق والابتكار والإبداع والعطاء. وهكذا ساهم إحياء البائد في إعدام الحاضر. ومن ثم سيغدو المستقبل مجرد خبط عشواء، دائما ضبابيا وغامضا وغير منجز. 

الأربعاء ١٨ سبتمبر ٢٠١٩


الخميس، 31 أكتوبر 2019

نظام القبح (1) وحقبة الكتابة الفاسدة



مفتاح العمّاري




قصيدةُ النثر

حقبةُ الكتابةِ الفاسدة


    القصيدة التي كانت حتى وقت قريب تجود علينا بكل ما تملك من نعم المخيلة؛ ها هي بدورها تسلبنا كل ما نملك، وتحوله إلى عفن. لأنها نفسها قد استحالت إلى صنف متعجرف من النفاية؛ يصعب تدويره. لنجد أنفسنا إزاء حقبة شعر نفاج، متطفل، مخنث، أحمق، هجين، مومس، مخادع، مزيف، بلطجي؛ لا ينفك عن إدعاء التمرد والعربدة المائعة. لغة سائبة، متقشفة، تفتقد الحد الأدنى من معايير الجمال، وأخلاقيات شرف الكتابة واحترام قداسة الكلمة.

    أن تُكتب قصيدة بأدوات كتابة شعرية أخرى؛ لهو ضرب من اهانة الشعر. المسألة برمتها لا تتعلق بالتناص أو حتى التأثر الغبي عبر الاجترار المجاني للشكل واللغة، واستنساخ صور وخبرات وأفكار وتجارب، واغتصاب سير؛ كما لا تتوقف عند حدود الابتذال والسلوكيات الطائشة؛ بل تنذر دونما ريب بنهاية القصيدة نفسها؛ أي القضاء عليها كفاعلية جمالية؛ القضاء على فرادتها عبر تعمد تشوييها ومسخها، حتى تتحول إلى كائن سخيف ومزدرى، لا يُعول عليه. ومن ثم القضاء على أهم رافد من سلالة الجمال؛ لحظة أن تكون المحصلة مع إنماء وتراكم هذا الضرب المخزي من الكتابة الفاسدة: إعدام الشعر. المفارقة الصادمة التي أنتجتها حقبتنا الفاسدة؛ أن يشارك الشعراءُ أنفسهم في ارتكاب جريمة تصفية الشعر والتنيكل بجثته؛ لتعد هذه النكبة من أخطر النكبات التي مسّت ثروتنا الوجدانية في العمق. لأن غياب الشعر عن منظومتنا الإبداعية سينتج عنه خلل مفصلي في مسيرة الخيال الإنساني عندما تتخلى البشرية عن أهم مضخة روحية تكاد بسموها أن ترتقي لمرتبة المعتقدات. فقدان الشعر الذي رافق مسيرة الشعوب منذ أن اكتشافها المبكر للكلمات؛ لتكتسب الأشياء روحها وفعاليتها؛ سقطة كبيرة سوف يدفع الإنسان ثمنها غاليا لحظة التخلي عن أهم إشارة في تاريخ روحه وتوصيف آدميته.

    كان للوفرة العشواء التي ساهمت فيها منصات النشر الالكتروني عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي أتاحتها تقنيات الاتصال (السوشيال ميديا) أن تلعب دورا عكسيا؛ سبب في فقدان القصيدة لأهم خصائصها الفنية. لأن من بين مظاهر هذه الوفرة: الابتذال والتدوير والاستنساخ ...الخ. وعوض أن تخدم عملية الإشباع الروحي؛ والتطلب المعرفي، خلقت جوا من النفور والتقزز.

    إن ما ينتج عن مثل هذه الظواهر الثقافية هو فقدان الثقة في الشعر وتغييب دوره ووظيفته؛ على المستويين الجمالي والاجتماعي. ينسحب الشأن على الشاعر نفسه، من خلال فقدان الرهان على التجارب الأصيلة. وهكذا مع مرور الزمن سوف يظل موقع الشاعر خاليا؛ ليأتي الدور فيما بعد على الرسام والموسيقي وربما الروائي، فيما لو ظلت تجتاحنا وسائل السوشيال ميديا؛ وقد استمرت آلتها في تخريب وجداننا الجمعي، دونما ضوابط عقلانية تحد من جموحها. ولعلنا نحتاج في يوم ما إلى عقد ثقافي اجتماعي، ينظم هذه العلاقة فيما بينها وبين الناس. لأن المسألة لا تتعلق بحدود أوساط ثقافية بعينها؛ بل تشير تحديدا إلى صنف معقد وغامض وفي غاية الفلتان تعبر عنه بامتياز مشاعية الإعلام الالكتروني. 
    تكريس الوفرة إعلاميا لمنتجات الفنون والآداب كان في آن موازيا للوفرة الاستهلاكية نفسها التي فرضتها آليات اقتصاد السوق.  إن ما تشهده لحظتنا الراهنة من انتهاك للشعر بصفة عامة وقصيدة النثر بصورة خاصة، لهو هدر للقيمة، وتدنيس لقداسة الجمال، وتشويه لجوهر المعنى. لأن الشعر ليس ضربا من فنون الإمتاع وحسب؛ بل طريقة مثلى لحوارنا مع أنفسنا وعالمنا، وفضيلة لا يشك في نزاهة قصدها؛ لتقفي المعرفة. وأيضا يعد من بين السبل الأصيلة للتطهر والخلاص. الشعر لغة الروح البشرية التي تهبنا مكرمة أن يكون الإنسان إنسانا؛ لا محض بهيمة تتغوط.


مع فرسان الأحلام القتيلة لأبراهيم الكوني



      مفتاح العمّاري





إلى أين أيّها البدويّ ؟!



     كنت أظن أن إبراهيم الكوني معلم كبير في صناعة السرد الروائي، أي من سلالة الكلاسيكيات المؤسسة، مثل دستويفسكي، وكازنتزاكيس، وتوماس مان. منذ احتفائي المبكر بقصته "إلى أين أيها البدوي"، ظل شغفي بقراءته، خارج شبهة المحرضات التي كرسته، منشغلا بمتنه، لا سيرته. وحتى بعد أن تورمت لغته إلى حد العجرفة؛ كنت أسوّغ هذه المثلبة، كاستجابة لغموض ميثولوجيا فضائه الصحراوي، كما لو أنه صائد حكمة، وصانع أسطورة، لا مجرد حكواتي؛ لكن القراءة المثابرة وحدها ستكشف عورة العجرفة، كمحض غلاف للغة هشة، حالما تفقد انسجامها لحظة اقترابها من بنيان المدينة، لا خيام الخرافة. وهذا ما حدث في " أحلام الفرسان القتيلة"، بوصفها أول مقاربة سردية، تغامر بتنضيد أكثر اللحظات توترا في ربيع ليبيا الدامي. لهذا سأغضّ الطرف عن كل ألاعيب السرد هنا، لأن الحيز لا يسع سوى الإشارة والتلميح، لا التنظير والتفصيل. وبالمثل سأغفل التطرق لخلفية الرواية، كفضاء، استعار وقائع وأخبارا ومعلومات يُشك أحيانا في مدى صدقها وحقيقتها؛ لكن باعتبار الكوني ميالا بطبعه لتذويب جملة من الأفكار كرافد رئيس يدعم مشروعه السرديّ، عبر المجاورة بين الرواية والمنظور الفلسفي للعالم المتخيل. من ثم؛ ليس في وسعنا إهمال أحكامه التي تخللت " أحلام الفرسان القتيلة". نشير هنا تحديدا إلى الحيز المؤذي، الذي تضمنته الرواية حول جزء من سكان ليبيا، باعتبارهم - حسب وصفه - آفة بشرية " من تلك الملة التي جاءت يوما من أعماق الأدغال برفقة تجار القوافل العابرة للصحراء. إنهم آخر دفعة من صفقة الرقّ ..." وهي لكبوة فادحة؛ تسيء لمسيرة روائي كبير، كنّا نكن قدرا وافرا من الاحترام لتجربته، إلى حد أننا اعتبرناها فتحا جديدا في سرديات الصحراء.

     كان من الأجدى للسارد العليم: عوض ازدراء عشيرة المدعو: " بركة " والتنكيل بتاريخ قومه ومعتقداتهم؛ الاكتفاء فقط بتلك المعالجة التي دفعته لإطلاق رصاصته الأخيرة؛ لتخترق نحر بركة، بوصفه مجرمًا، تقتضي الحكمة القصاص من شخصه هو، لا محاكمة عشيرته وجيناته الوراثية. لو اكتفى الكوني بهذا القصاص؛ لكان أكثر إنصافا، للحدث، وللرواية، ولتاريخه الشخصي.

الأربعاء، 15 مايو 2019

الحرب مرة أخرى


مفتاح العمّاري




_________   الحرب مرة أخرى

     هاهم الليبيون يخوضون حربا ضد أنفسهم؛ وها هي طرابلس مرة أخرى تحت القصف. كأن الحرب وحدها هي كل ما نملك؟ حتى لا نجد ما نفعله سوى أن نتقاتل. وفي نهاية المطاف تدمر ليبيا بسواعد أبنائها. قد تطول الحرب ( من يدري) وتتحول إلى آلة استنزاف لما تبقى من شبابنا؛ (ثروتنا البشرية التي لا تعوض)، فضلا عن المال والعمران والأحلام، ولن يبقى شيء سوى قبورنا وحطامنا. لا شيء سوى الحزن؛  الحزن والرماد.

    أعرف أن هذا الكلام قد لا يرضي من يزكّون الحرب ويحرضون على خوض معمعها؛ وسيعد نشازا لكل الأطراف المتحاربة، بمختلف اتجاهاتها ومذاهبها ومشاربها وانتماءاتها، سواء أكانت إيديولوجية أو عسكرية أو مدنية أو قبلية أو جهوية ... الخ. وقد يكون في آن مستفزا ومخيبا لمن يرون في الحرب ضرورة لإنهاء الصراع، بوصفها المسار الوحيد لتحقيق استقرار البلاد وأمنها، بل وديمقراطيتها وحريتها؛ إن لم تكن ( الخلاص النهائي) المرتجى.

   ومع ذلك لا يمكنني أن أبخس نفسي ممارسة استحقاقها، وأن أقول كلمتي (أي وجهة نظري ورؤيتي) في الحرب التي يتفق الجميع في كراهيتهم لها؛ ومع ذلك يأتونها مرغمين، وكأن لا شيء غير الدم المقدس من يتكفل بطرد اللعنة، أي لا بد من تقديم قرابين بشرية. هذا الطقس الدموي لا يتأتى إلا بعد أن تتواطأ الجماعة وتتآمر على تغييب العقل، حيث لا مجال للحكمة القائلة بحقن الدماء، واللجوء للمسارات السلمية عوضا عن الاقتتال. وهكذا يقتل الأخ أخاه؛ توهمًا لتحقيق العدالة، وأيضا لكي يكون الربيع ربيعا، عندما يُروى ثراه بدماء الضحايا.
       ماذا سنجني من وراء الحرب غير هذا الحطام الذي طال نفوسنا قبل بنياننا.   ألا تعد الكلمة سلاحا يمكن اللجوء إليه عوض لغة النار. أمم كثيرة عالجت أزماتها، وتوحدت أوطانها حين رأت في التصالح والتسامح عبر الحوار وتقديم التنازلات من أجل الحفاظ على كيان الأمة وصون مكتسباتها ولاسيما ثرواتها البشرية، لأن الفروسية لا تتحقق فقط بفعل حملة السلاح، بقدر ما تكون أمضى وأكثر شرفا وفخرا ومجدا حين تلجأ إلى الكلمة؛ لأن الله وهبنا العقل والحكمة والبصيرة والحلم لكي نحترم أفضال هذه الهبات، ونوظفها في صالح الحياة لا الموت.
¨     

   



الثلاثاء، 16 أبريل 2019

أطفال الحرب

                                                                                               

     أجل أعني أطفال الحرب لا الحب. الحرب التي مهما كانت نزيهة وعادلة وذات أهداف سامية، لكنها حين تتخذ من المدن جبهات قتال، وتخوض اشتباكاتها داخل الأحياء السكنية؛ حتما ستكون وحشا أعمى، أهدافها عشواء ونيرانها طائشة؛ لأن المدنيين الأبرياء ولاسيما الأطفال منهم، هم وحدهم من سيغلبون على أمرهم عندما يتعذر تأمين ممرات آمنة للعوائل.
     خلال هكذا صنف وحشي من القتال سيكابد الأطفال معاناة الترويع والخوف، باعتبارهم الفئة الأكثر تضررا وأذى؛ ولعل أطفال ليبيا طيلة ثماني سنوات توغلت خلالها النزاعات المسلحة بين المتحاربين في أكثر المناطق السكنية كثافة واكتظاظا، من مصراته إلى طرابلس وبنغازي وسرت، مرورا بدرنة والزاوية وسبها، عايشوا درجات عالية من العنف المسلح، هي أكثر تعقيدا من أن تستوعبها أذهانهم وتتفهمها عقولهم الصغيرة.
    إذا لا ريب أن أطفال هكذا مدن منكوبة هم الضحايا الأكثر تضررا وأذى، بوصفهم الحلقة الأضعف في أتون الحرب وجحيمها. ونحن طيلة هذه المدة، لم نفكر جديا في إيجاد السبل الكفيلة لتجنيب أطفالنا مشاهد العنف المسلح، ومضاعفاتها المعنوية وأمراضها النفسية. فأطفالنا الذين كانوا بعمر العاشرة خلال سنة 2011 هاهم قد أضحوا في مقتبل الشباب، ولعل آفات الحرب وأوبئتها تتجلى بوضوح في سلوكهم وثقافتهم، طالما قد تربوا على مظاهر القتل والكراهة وتداعيات الفوضى التي لا تكف عن تقويض ما تبقى من أحلامهم الصغيرة.
    كثيرة هي الشواهد التي يتحول فيها الضحايا إلى مجرمين. طالما ليس في وسع الحرب سوى إضافة المزيد من الموت والخراب والتشوهات البشرية. في رواية (الدفتر الكبير) للكاتبة: أغوتا كريستوف، يتحول الأطفال تحت ضغوط الحرب إلى قتلة؛ حيث لن يتورع طفلان توأمان، لم يبلغا سن المراهقة بعد، عن ارتكاب أبشع الجرائم، ليمسيا محض وحشين صغيرين؛ لأن أول شيء يمكن للحرب أن تفعله، هو إعادة  تدوير نفسها لحظة أن يتماهى الصغار بثقافة عنفها التي شوهت سلوكهم، لتنقلب الكائنات البريئة إلى وحش كاسر، من ضحية إلى مجرم.
     هذا ما يحدث؛ طالما الحرب، لا تزال تفرض جنونا يتعاظم، وتقترح المدن ساحات قتال. ولهذا: مهما بلغت عظمة انتصاراتنا لصالح مبادئ مقدسة وقيم سامية؛ فأن خسارتنا ستكون جد فادحة، عندما ندخل المستقبل بأجيال معاقة.
¨     





الأحد، 24 مارس 2019

لا يعوّل عليه

مفتاح العمّاري


      إذا ما توعّك فرّان الحيّ، حتما  سيغضب أهل الحيّ، لأن غياب الفران يعني  بداهة حرمانهم من الخبز، وبالتالي سوف يتساءلون في غضب وحنق، وربما  يتظاهرون ويعتصمون ويقيمون الدنيا ولا يقعدوها. يتكرر الحال نفسه بصدد اختفاء عمّال النظافة، لحظة أن تتراكم الأوساخ وتتكدس أكياس القمامة وأكوام النفايات في الشوارع دونما أحد يجمعها ويحملها إلى حيث المكبات العامة. كذلك سيغضب الحيّ بقضه وقضيضه فيما لو أُفتُقِد الصرّاف والطبيب  والبقال والخضّار والقصاب؛ لأن كل هؤلاء مع إضافة الحلاق والتارزي وحتى القهواجي والسنفاز، يقدمون خدمات يومية (بين ضرورات وكماليات) تلبّي بالطبيعة متطلبات الجسد وما يقع في حكمها، ولاسيما المعدة. لكن لو غاب المثقف لأمرٍ ما، سواء توعك أو أضطر للسفر أو لديه ما يشغله عن العطاء، أو دهسته سيارة مسرعة، فغادر الحيّ دونما رجعة؛ فأن السكان لن يستشعروا غيابه. لأنهم (أي سكّان الحيّ) قد تعودوا لأسباب معلنة وخفية هذا التجاهل لشخص المثقف؛ فهم بطبعهم، وطبيعتهم التي جبلوا عليها، غير مبالين بشؤؤن الثقافة وأهلها، ولا تعنيهم البتة مشاكلها وقضاياها. فلو توقفت لأي سبب من الأسباب الجريدة اليومية عن الصدور، فلن تخرج مظاهرة شعبية غاضبة تستنكر اختفاء جريدتهم؛ كما لن يتساءل احد عن إقفال المسرح ودار العرض والمكتبة العامة وغيرها من منشآت الثقافة ودورها ومؤسساتها. هذه الكوميديا السوداء ستتحول مشاهدها إلى صور أكثر تراجيدية وفداحة، حين يتعلق الشأن بغياب الشاعر؛ فهذا الكائن الذي كان في زمن عربي ما، طوته الذاكرة، ومحاه النسيان، كان محل احتفاء وترحيب وتبجيل من أهله وذويه، أمسى مجرد مخلوق نكرة لا يُعوّل عليه.

     إزاء هذا النفي العرفيّ والتقليدي والشعبي والرسمي لكيان الشاعر، تبدو آلة الواقع أكثر تعقيدا لحظة أن تتآمر على وجدانها، وتلهث دونما هوادة خلف حاجات الجسد، غافلة متطلبات الروح،  وبالتالي قد تنتج هذه الآلة الوحشية سلوكا في غاية الضراوة والخطورة لحظة أن تتواطأ المنابر الإعلامية نفسها التي يناط بها إعادة صياغة وإنماء الوجدان عبر حضور الشاعر، لتقف من حيث تدري أو لا تدري مع منظومة إقصائه وتهميشه؛ فلا غرابة إذا لم يحظ الشاعر في عهد الديكتاتورية والطغيان بأي اعتراف من مؤسسات أقيمت تحت عناوين ثقافية وإعلامية تعمل على تدمير القيم، وتجفيف الوجدان الجمعي، خلال أربعة عقود من نظام العسكرة ومجتمع الثكنات الذي يضع من بين أولويات سياساته الثقافية تعطيل مخيلة الإبداع، وشلّ روح التضامن، ومسخ الوجدان الوطني، لكي يسرّع بقيام جماهيرية القطيع. وبالتالي قد اندرج الترويج والتسويق لتتفيه وتمييع شخصية الشاعر بصورة ساخرة وتهكمية في المنابر والمحافل، ضمن مفردات تلك المخططات المقيتة، إلى الحد الذي دفع بأحد ما يسمّى بأمناء (وزراء) الثقافة والإعلام أن يطلق على الشعراء صفة (كلاب سوق). وهو سلوك غير مستغرب في حينه من نظام قمعي كرس آلته الإرهابية لتصفية وتكميم أفواه المثقفين والمبدعين. لكن أن نكتشف، وبعد مرور ثمانية أعوام ميلادية من زمن ثورة فبراير، وفي ظل تحولات ليبيا الجديدة، أن منابرنا الإعلامية المحسوبة على القطاع الإعلامي الرسمي مازالت ترتكب مثل هذه المثالب في حق الشاعر وقصيدته. لا ريب أنها معضلة تنطوي على مفارقة صعبة. هذه المفارقة لن يكون فهمها محيّرا لحظة أن ندرك بأن مثالب التجفيف نفسها التي كابدنا طغيانها طيلة أربعة عقود من الغبن والإقصاء والتحقير والتهميش لدور الشاعر وقصيدته، مازالت عالقة بذهنية مؤسساتنا الثقافية والإعلامية، ليست بوصفها مقارا ومنشآت بل الشبهة تشير تحديدا الى رؤسائها وقيادييها وكبار موظفيها، ممن يدّعون بأنهم من حملة أفكار 17 فبراير. لأنهم لم يتوصلوا بعد لأية مفاهيم تتعلق بخطط وبرامج لسياسات ثقافية تنسجم مع خدمة الإبداع كجزء من مشروع كبير يستهدف التنمية الثقافية. لأن فعل تهميش الشاعر وإقصاء قصيدته خارج المشهد، لا تقتصر أضراره على الشاعر وقصيدته فحسب، بقدر ما يعدّ جرما فادحا في حق وجدان وطن بأسره. وفي انتظار أن يأتي الزمن الممكن، زمن الرؤى الطيبة والبهاء المبارك، الزمن الذي تستعيد فيه القصيدة مجدها ومكانتها كغذاء ضروري للروح، يمكن حينها أن يغضب سكان الحي أو تثار حفيظتهم، لحظة غياب الشاعر وقصيدته عن نسيج وجدانهم بالقدر الذي يستدعيه نقص السيولة واختفاء المحروقات ورغيف الخبز.