وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الجمعة، 21 أغسطس 2015

الحذاء الأحدب


مفتاح العمّاري
         
الحذاء الأحدب *



    ثمة  ما جعل الأفق قرمزيا أو لازورديا  بلون عصافير مضروبة ببنادق صيد أو بحجارة مقاليع ، إنها الشمس تفر عن متناول اليد فيما لاح الدرب الترابي المؤدي إلى المدينة ملتوية كثعبان آصلة خرافيّ ، يزحف رويدا ، رويدا شاقا سهول قمح صفراء ، لاح يعج بارتال سمراء تتدحرج صوب بيوت شعر متناثرة  .. لم تضأ بعد .



   إنهم الرجال يعودون من السوق ، بعضهم راجلا وبعضهم الآخر راكبا الحمير والجياد محملين بالسكر والشاي وعلب السجائر كذلك بأشياء صغيرة للأطفال والنساء .
  أمام بيت شعر صغير يشبه جملا باركا على وجه الأرض ثمة امرأة ذات وشم وعينا غابة محترقة وبشرة من حنطة تصارع كتلة عجين ، ترفسها بيدين قويتين بمساحة قصعة خشب عتيقة .. وبين هنيهة وأخرى كانت المرأة تنظر إلى الدجاجات وهي تنقر التراب  أو هي تلتقط ما تناثر من فتات خبز وحبيبات قمح وشعير ..كذلك كانت تنظر الى الغلام الواقف على بعد قامتين أو ثلاث منها فوق كثيب ترابي  وهو يطلق عينين قلقتين باتجاه الدرب . كانت المرأة تعلم أن الغلام منذ شهر أو أكثر قد بلي مداسه ، وأنه مابرح يرتقه بين الحين والآخر بمسامير صدئة وأسلاك نحاس رفيعة كان يجمعها من هنا وهناك حتى أمسى غير قابل للعب كذلك غير قابل للركض " يا للغلام السيئ الحظ "  وأنه _ أي المداس _ قد فقد لونه واكتسب شكل عجوز حدباء  تهشّ الذباب عن جثة /  شكل صديق خائن /
وخزات رؤوس مسامير صدئة  .. رؤوس أسلاك معدم ناتئة / حالة تعب يومي  ...............
" يا للغلام السيئ الحظ " ..  فكم كانت المرأة تتألم لحظة رؤيتها البثور والجروح تغطي
قدم الغلام  وتذّبه كلّما حاول المشي ، مما دفعها في الليلة البارحة أن تعطي خاتمها الفضي الأثير إلى زوجها كيما يبيعه في سوق المدينة .. وأن يشتري بثمنه حذاء جديدا للولد .. وقالت لزوجها :
" فليكن لونه أسو د
أو أحمر
أو أبيض ، أو بنيّ ....
لا يهمّ .. فقط أن يكون متينا
ومناسبا لقدمي الولد " . 
        من بين رتل الرجال العائدين  كان ثمة رجل يقترب .. رجل واحد يعرفه الغلام جيدا  - انه أبوه -   ما أن لمحه حتى ضحكت عيناه  ، وفي عجل نزع مداسه البالي عن قدميه ورمي به بعيدا باتجاه الشمس الهاربة ... وطفق يركض حافي القدمين ، غبطا يذرّ خلفه أقواسا من غبار طفيف .
     أمام ساحة البيت شرع الغلام يفرك قدميه بالماء والصابون فيما عيناه لا تفارقان الحذاء الجديد .. وبعد أن نشّ قدميه من البلل ارتدى جوربا نظيفا .. بينما بدت المرأة مطمئنة وهي تلقم التنور ذا اللهب القوي الرائحة بقطع من الحطب لحظة أن طفق  الولد
مبتهجا يعالج حشر قدميه في جوف الحذاء الجديد  مرة بالضغط وأخرى بضرب قدميه على الأرض كما الناقة الرفوس  .. حاول ذلك مرارا وتكرارا  وبكل ما أوتي من قوة ، لكن
الحذاء كان ضيقا .. ضيقا إلى حد الألم الذي لا يطاق  . أحس الغلام بشيء يخفق  / شيء ما ينكسر في داخله . لحظتئذ جهم وجهه ، وتلون بلون عصافير مضروبة ببنادق صيد  / أو بحجارة مقاليع /  جمرة في الماء .
       هكذا شعر الغلام ثم رمى بصره هناك حيث يرقد ثعبان أصلة خرافيّ متقمصا شكل ليل ذي قمر غائب .
____

البيضاء 1981 . من نصوص كتابنا: مفاتيح الكنز .