مفتاح العماري
"نوره أسطع من نور الشمس /
التكليف تابعه / الذم والحمد قريناه ..
والثواب والعقاب ميراثه . "
-أبوحيان التوحيدي-
________________________ شمس صغيرة في ثكنة
________________________ شمس صغيرة في ثكنة
تقول الحكاية :
عندما كانت قراءة الكتب في مكان ما تعدّ ضربا من الضلالة والتطرف، لم يكن في وسع ذلك الجندي الصغير مقاومة هوس الإطلاع والمعرفة. ربما لأنه لا محالة قد جُبل على القساوة وحدها ، حيث الحياة حجرٌ أعمى ، قذف بصلابة عمياء في مفازة شحيحة. لعلّها الصلابة ذاتها التي رغم انتسابها نحويا إلى قاعدة التأنيث تظلّ في معجم الغابة رهنا " بالمكان الذي لا يعوّل عليه " إلاّ إذا افترضنا مجازا ، بأن صنعة النحاتين قد تضخ في شرايينه نسغ الأنوثة .. وهي معجزة تحكمها نزوةٌ متخيلة ، لن يُكتب لها أن تُضاف إلى شقيقاتها السبع ، في بيئة تنظر إلى النحت كتركة وثنية مقيتة . لذا وبغض النظر عمّا يكوره النحاتون من مفاتن في تضاريس الحجر الغشيم ، لن تعدو بالنسبة لجندي مهدّم سوى شطحة نافلة لا جدوى من ورائها غير مراكمة المزيد من الغبن والوحشة، لأن مجاز النحات - حتما - لن يصل إلى بث روح النعومة التي عليها أن تكون بمثابة أنثى تشي كذبتها بحقيقة صادمة .. حتى يمكنها على نحو ما أن تقفز أبعد من دهشتنا الغبية وفطنتنا الساذجة ، لاسيما بالنسبة لكائن معزول في ثكنة عسكرية تسيجّها القوانين الأشدّ جلافة وعنفا ، حيث لن يكون في مكنة الخيال البائس العثور على كنز بهيئة امرأة جميلة في سرير ، وهي لاشك معضلة قد ألقتها الصدفة ، فثمة هنا وهناك وجاهة تتخلّق بمشيئات الصدف وبداهتها المتعالية ، حين يولد الملوك ملوكا في أرحام أمهاتهم ، ويولد الأثرياء ، كما يقال : وفي أفواههم ملاعق من ذهب ، بينما يولد الفقراء وقد وُسِمُوا بأقدار فقرهم : نفاية مدن / روث جهل / وقود حرب / طلاّب غيب يسعون إلى الجنة بمؤخرات عارية .
بيد أن صاحبنا الذي بات يدرك جيدا سوء طالعه قد استعاض عن خشونة الفقد بتلك الأنوثة التي تلقيها الصدفة سهوا في طريق التائه ، لحظة أن عثر على ذلك الكتاب المجهول الذي لا اسم له .. مجرد مزق من ورق مهمل لم تسلم حوافه من جريرة العثّ ، فاستسلم لهنيهة متواطئا مع فضول مريب يفكّك الكلمات ويخمش المظان المطمورة خلف السطور.. مقتفيا سيرة العطب تلك .. التي ظلّت بلا خواتم .. لأن الصفحات الأخيرة للكتاب ، قد تمزقت منذ زمن بعيد . لحظتها فقط شعر الجندي بتلك الضراوة الغريبة للألم الذي تقاسيه الكلمات المعذّبة .. وقرر أن يبحث بين معاقل الورق عن تتمة كتابه المجهول.
تضيف الحكاية :
منذ اللحظة تلك ، استمرأ الجندي الصغير لعبة استدراج الكتب إلى سريره ، وهي مسألة يمكن حدسها ، وتصديقها أيضا كواقعة لا تحتمل الشك في ضرورة مقصدها ونزاهة ألوانها التي بدأت فيما بعد تتشكّل كإشارات لمّاحة جعلت من ذلك الكائن الوضيع يدرك دون عناء : أن الحياة الحقّة أكبر من أن تخضع لأحزمة معدنية من أسلاك شائكة يتربّصها الصدأ ، فانحاز بكل جوارحه لسلالة الورق ، حتى أضحى يعتقد دون ريب : أن القراءة صنو الرئة ، فظلّ يلتهم في شهية جامحة كلّ ما تقع عليه عيناه من عناوين في الشعر و التاريخ والحكمة وفقه اللغة ، وأصبح يتصفّح متون أبي حيّان التوحيدي ومآثر إخوان الصفا ،وفتوحات الشيخ محي الدين بن عربي ، ويتلو طواسين الحلاج مثلما يتلو العاشق رسائل حبيبته ، ولم تعزه الحيلة لاكتشاف الخلوات الآمنة التي تجعله مطمئنا وقانعا بلذاذة صيده ، بعيدا عن أعين الرقباء والبصّا صين . ولأن أنوار عنابر النوم عادة ما كانت تطفأ في تمام الساعة العاشرة ليلا.. كان لا بد له من التحايل على سلطان الظلمة وتمزيق سواد قماشتها القاتمة ، متيحا لتلك الحياة المخبوءة ما تيسر من السوانح المجيدة .. لكي تتخلق بسمو خفي يتعذر لجمه.. وهي مسألة محيّرة أرّقته ليال طوال قبل أن تنجده قريحته باختراع ذلك الكوكب الذي افترض له مدارا سريا حول الكلمات .. ضاربا عرض الظلمة ببؤرة متكتمة من نهار استثنائي يخصه وحده ، بواسطة ( بِيْلَه ) ، أي مصباح يدوي ، قدّر له أن ينبعث بمرح تحت الغطاء الخشن ليوقظ الكلمات النائمة ويهيّج بصمت واجف كوامن الخيال الكسول .
غير أن بقعة شمسه الصغيرة، المتفردة بحذر شديد لم تكن في تلك الليلة الشتوية المشئومة سوى أداة اتّهام بالغة الطرافة ، حين تسرّب شعاعها النشيط من بين طيّات البطّانية العسكرية ، حيث فوجئ الجندي بغطائه وهو يسحب بقوة .. وبعريف الخفر واقفا حدّ رأسه , ينتشله عنوة من صحبة الدكتور زيفاكو.
تقول الحكاية :
في تلك الليلة صودر الدكتور زيفاكو الذي لم يفهمه عريف الخفر ، وقضى الجندي الصغير ما تبقى من ميراث الظلام البغيض خاضعا بقوة للعقاب الميدانيّ .. مهرولا وزاحفا عبر ساحة الثكنة حتى انسلخ جلد ركبتيه وكوعيه. تاركا مسارب من الدم فوق أرضية الأسمنت الباردة .. وبالكاد استطاع في صبيحة اليوم التالي الوقوف إزاء آمر الكتيبة الموسوس ، ليواجه رغما عنه تهمة اختراق الضبط والربط ، بعد أن صودرت شمسه الصغيرة ( المصباح اليدوي )، واعتقلت عائلته الأثيرة التي تتألف من: شهر زاد ، و الأخوة كرامازوف ،والصخب والعنف ، والكلمات التي تقاتل .. واعتبرت بمثابة دليل قاطع على انحراف صاحبنا - الجندي الصغير - الذي امتثل دونما رأفة لتقبّل العقاب الرادع وقد آثر بطواعية أملتها اللحظة أن يلتزم الصمت الساذج ، وانبرى يتظاهر بالإصغاء إلى كلمات الآمر المتصالبة والتي تتقاذف صارمة كأنها قدّت بعناية بليدة على هيئة توبيخات عنيفة الوقع ، مؤكدة أن قراءة الكتب بالنسبة لجندي صغير تعدّ ضربا من الضلالة ، والعبث الذي لا ينسجم مع صلابة وانضباط آلة الحياة العسكرية .
لكن الجندي الذي تعهد للآمر شفاهة بعدم تكرار هذه المثلبة ، كان قد أضمر في نفسه ارتكاب معصيته الجميلة .
تضمر الحكاية أيضا :
أن الجندي الصغير قد اهتدى فيما بعد إلى إشارة المعصية التي بدورها قادته إلى صناعة شمس أخرى لا تقال ، لأنها رغم صغرها كانت أشد بلاغة من أن ترضخ لمجاز الكلمات أو تنصاع لحواس البشر . شمس عظيمة لا تُمس ، ولا تعترف بنواميس الوقت أو تخشى ما تخبئه الظلمة البغيضة بين أعطافها من دسائس للإطاحة بوريث عرش المعرفة الذي ما فتئ يتقدم بجسارة ، وحيدا بأسره يقرأ في الظلام بلاغةَ الضوء ، وما خطته يدُ السدنة الأوفياء ، عشاقُ الحكمةِ ورسلُ الروح وأربابُ الخيال المقدس ، فقرأ، وقرأ، وقرأ ، مدفوعا بشهوة لا تُضاهى عديد المدوّنات والمصنّفات النادرة ، من دون حاجة لاستخدام الشموع والمصابيح اليدوية .. إلى أن أصبح في مكنته بعد حين من الدهر أن ينسج الحكايات العجيبة والأشعار المتوحدة ، لأنه كلّما تقّدم ، فتح بلادا جديدة وصار أكثر ألفة وقرابة من شموسِ الحكمة التي لن يراها أحدٌ إلاّ هُو.
<>
_____
*مفتاح العماري ، من حكايات ( مفاتيح الكنز ) . منشورات وزارة الثقافة 2005 . سبق للكاتب أن اقترح هذه الحكايات لبرنامج اذاعي يومي باذاعة طرابلس المحلية ، سنة 2001 بالوسم نفسه :مفاتيخ الكنز . وقدمه بصوته .
اعادة نشر .
اعادة نشر .