وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الورّاق ،. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الورّاق ،. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، 30 ديسمبر 2015

شجرالكلام: عبدالسلام العجيلي

مفتاح العمّاري



كلام في شجر الكلام

" الأطفال
سحبوا ..
طائراتهم الورقية
تركوا ..
السماء شاحبة
لهدير  ..
بلا معنى ." (1)

        في هذا القول يتجلّى الإيمان بجدوى الشعر الذي هو حسب تعبير الشاعر الليبي : عبد السلام العجيلي :  سفرٌ رمادي يترصّد الحروف ويخفي شجر الغيم . وفي هذا القول أيضاً ، الذي اقتطفناه من شجر الكلام ، الديوان الشعري الأول للشاعر ، إضافة حقيقية لها نكهتها الخاصة بها ، تُكسب تجربة قصيدة النثر في ليبيا طموحاً متزايداً لارتياد مناطق جديدة، أكثر معرفة وتماسكاً ، ولا سيما أن القصيدة هنا لا تُخفي انحيازها الجميل إلى مكابدة الكلام ، كأنها تستمرئ تلخيص الألم الإنساني في احتفال جنائزي يعيد إنتاج أساه الشفيف بعبارات مكثّفة .
    احتفال بروح الشعر وكيان الشاعر مندغماً بذلك الكائن الخفي والمدهش : (الخيال ) كوهم ممكن التحّقق ، يلتبس دائماً بسموّه ، حيث لابدّ لنا كقراء أن نؤخذ بهذا العلّو الساحر ، مستسلمين لِلَذاذة سلطته ، ومؤمنين في الوقت ذاته بضرورته في لحظتنا الراهنة .. ولحظتنا المحلوم بها .. لنسافر عبر تجلياته الصوفية التي هي فعل صلاة .. من أجل تطهير ذواتنا من تشوّهات عالمها ، بكل ما فيه من فجائع وهزائم وخيبات .. كذلك من أجل الانتصار على مشيئة الأذى ، مقتفين إشارات القصيدة وما تفضي إليه من تهيؤات محتملة تحلّق دائماً صوب فضاءات أخرى أكثر طمأنينة وجمالاً :  دائماً الحلم دليلنا ، هذا ما تشي به قصيدة الشاعر عبد السلام العجيلي ، أو هذا ما تبدّى  في " شجر الكلام " هذه المجموعة الشعرية ، التي تصعّد سحر الكلمة برافد نقدي له حسّه اللمّاح في معرفة عالمه .. مهتدياً بحدس القصيدة وحدها ، ليمتعنا .. ويوقظ فينا روح الشعر ، لأنه فعلاً قد امتلك مفاتيح خزانة الروح واكتشف السّر  .. محققا باقتدار مكين إضافة جديدة لنثر القصيدة ، ومن ثم إضافة للحياة .
____ 
كتبت هذه الكلمة احتفاء بإصدار المجموعة الشعرية ( شجر الكلام ) 2001 .

(1)مقطع من شجر الكلام .

الأحد، 27 ديسمبر 2015

فرانكشتاين في بغداد

مفتاح العمّاري

  


" عنف العالم " *
    
   
    حين تمّ الإعلان عن الرواية الفائزة بجازة بوكر العربية 2014 ، كنت على مشارف متن ( عنف العالم ) ، كتاب صغير الحجم تضمّن نصين ، لجان بودريار ، وادغار موران . وهما عبارة عن محاضرتين ، كانتا قبل ذلك قد اندرجتا من بين مقترحات النشاط الثقافي لبرنامج الخميس بمعهد العالم العربي / باريس .   
    في سياق تقديمه لهذا الكتيب ، وداخل  إطار توصيف عولمة العنف ، أشار الكاتب : إبراهيم محمود : كيف أن العالم يتوحّد لأول مرة عبر العنف . وأنه تجاوز مخيلة سينما هوليود ، إلى الحدّ الذي أمسى فيه ( فرانكشتاين ) كفيلم خيالي ، محض خردة .  من هنا جاءت هذه المفارقة ، أو ( الصدفة الموضوعية ) حسب تسمية السورياليين ، التي جعلت من رواية : أحمد سعداوي ( فرانكشتاين في بغداد )  الفائزة ببوكر العربية ، تلعب على توظيف هذه الشخصية الخرافية في تجسيد رعب عالمها .
     لهذه المحرضات وغيرها استجبت وبكثير من الشغف لقراءة رواية سعداوي ، والتي كما لاحظت كانت تلعب على أعادت إنتاج صياغة العنف بطبعة عربية ، عراقية ، ومن موقع أدب السرد باقتدار وتميّز .  وهي بذلك قد عبّرت عن صعود رصين ومدهش ، ليس للرواية العراقية وحسب ، بل لعلها من جوانب فنية كثيرة تضاهي أهم مقترحات السرد العالمية  في اللحظة الراهنة .   فهذه الرواية ، سواء من حيث خصائصها الأسلوبية ، ومقدرتها المتمكنة في التحايل على تعددية التأويل ، فضلا عن الحمولة الشعرية التي تخللت نسيجها من دون المساس بقوانين السرد وآلياته ، هذا إضافة إلى حبكتها الدرامية المتقنة ، وبذا تعد وبامتياز : رواية ممتعة ، لامست الكثير من الأسئلة التي تتعلق تحديدا بمشاعية العنف التي يشهدها العالم الآن ، وبصورة خاصة في عالمنا العربي ، ولا سيما بعد تفشي وتسويق أو تصدير  ظواهر التطرف الديني ، أو ما يندرج تحت مسميات الإرهاب العالمي . فالرواية ، ومن موقعها السردي  بقدر ما تكتنز به من مجازات اشارية قصد تفكيك واقعها وتأويله ، ظلت في الوقت نفسه وفيّة ، وبذكاء لحقلها الروائي ،  وهبها درجة عالية من التمكن في تجسيد عالمها ، مما جعلها وباستحقاق جديرة بهذا التكريم الذي حازته وهذا الاحتفاء .
____

*كتبت قد اردجت هذا الانطباع ضمن صفحتي الشخصية بموقع ( رفّي ) للقراءة تحت وسم :عبدالسلام alammary19

الجمعة، 25 ديسمبر 2015

كارلوس ليسكانو، وعربة المجانين

مفتاح العمّاري

  

عربة المجانين


     في رواية : عربة المجانبن ، لكارلوس ليسكانو يتعلق السرد بدراما سيرة السجن كما يؤكد الوسم التوضيحي على الغلاف الأول كعنوان فرعي ، وأفق منتظر . يقترح المؤلف في هذه السيرة – تقريبا – نفس الخصائص الأسلوبية التي اعتمدها في صياغة مؤلفه ( الكاتب والآخر ) ، من حيث بناء الجملة ، فضلا عن الطابع الاعترافي ، من دون أن يتخلى عن روح الدعابة الساخرة ، كأولية دفاعية ، تمثل أعلى درجات الوعي في مجابهة ضراوة الواقع ومقاومة تلك القساوة اليومية المتمثلة في مظاهر العنف ، كتعذيب جسدي ونفسي . غير أن ليسكانو هنا يلجأ بين الحين والآخر إلى تلك المقاطع ذات الطابع التنظيري ، مستعينا بها لشرح وتحليل السبل الكفيلة بمقاومة مؤسسة السجن ، مشيرا في الوقت ذاته إلى عديد الوسائل المعنوية والبدنية التي تجعل السجين أكثر صمودا ، حفاظا على نفسه من الانهيار النفسي والجسدي . وإزاء  لحظة القراءة تدخلت هذه التحليلات بطريقة اعتراضية أخلّت بفن السرد ، ولكم وددت حينها لو اكتفى المؤلف بترك المعايشة اليومية للوقائع كانخراط درامي لتعبر وحدها عن قساوة التجربة ومكابدة العزلة والتعذيب ، دونما حاجة لأية نظريات من خارج موقع الرواية ، تحتكم  غالبا الى خطابات أخرى تنتمي لحقول معرفية مغايرة كالفلسفة وعلمي النفس والاجتماع .  وفي الأثناء قد استحضرت العديد من التجارب السردية المماثلة ، من بينها مساهمات سردية متفوقة لكتاب عرب  ولا سيما المغاربة ، وهنا أخص بالذكر على سبيل المثال لا الحصر ، رواية  ( العتمة الباهرة ) للطاهر بن جلون ، وأيضا، رواية ( طائر أزرق نادر يحلق معي ) ، ليوسف فاضل . حيث كانت المعايشة الدرامية لأكثر المشاهد ضراوة ووحشية هي من تترجم  عالمها وتشي بفداحة المعاناة لحظة أن يبلغ التغول أقصى مداه في تجسيد ذلك  الحيوان الكامن فينا . بحيث كان السرد ، أبعد أثراً ، وفي الآن نفسه أكثر وفاء لنوعه . هذا فضلا عن جماليات الكتابة وحمولاتها الشعرية .

    لكن ، وعلى الرغم من ذلك يظل لكارلوس ليسكانو ، كروائي اعترافي ، موقعه الخاص ، لما يتميز به من عفوية عالية في صياغته الأسلوبية  ، إضافة إلى تلك الخصيصة التي تجاور بين الرواية والسيرة والسيناريو السينمائي وكتابة اليوميات . وبذا سيحتفظ ليسكانو لنصه بذلك السحر الخفي ، الكفيل  بجذب القراءة واستدراجها إلى أكثر المناطق فتنة وإغواء ،وهذا ما يكسب قراءة أعماله الأدبية متعة خاصة .  

الاثنين، 7 ديسمبر 2015

باولو كويلو وحيل الخيميائي

مفتاح العمّاري

الكون بأسره يتضافر لتحقيق رغباتك
       تندرج رواية الخيميائي باعتبارها الرواية الثانية في تسلسل قائمة روايات باولو كويلو . وتعد بامتياز الأكثر شهرة ومبيعا من بين مؤلفاته . وبغض النظر عن ما حققته الخيميائي من أرقام قياسية في سوق المبيعات ، وما حصدته من جوائز ، كذلك بغض النظر عن المديح الذي حظيت به في أوساط القراء ونقاد الأدب  - عالميا - ، وبغض النظر عن أرقام ترجمتها ، والتي تصل إلى قرابة  65 لغة  عالمية .  لأن الرواية ذاتها التي تتمحور حول أسطورة منتزعة بذكاء من حكايات  شهرزاد في ألف ليلة وليلة ، قد تفوقت على خاماتها وذاكرتها ومرجعياتها وتاريخها ، بل تفوقت على نفسها داخل نوعها الروائي بامتياز تحسد عليه .  لتتحول هي الأخرى إلى أسطورة .  بفضل خصائص وحيل فنية عديدة من بينها تلك اللعبة التي تتناص في الوقت نفسه مع أدبيات ما يعرف بعلم تنمية الذات ، كحيلة متقنة تكفلت عباراتها الحكمية ، وبحنكة في أن تأخذ لها من الحكاية الشعبية  في تراثنا العربي جسدا .. وقد كانت رمية أكثر من صائبة . فهنا تتضافر الأسطورة والحكمة ،  فضلا عن براعة السرد في صناعة هذه المعجزة الصغيرة ، من دون أن تتخلى الكلمات عن أشدّ المجازات ضراوة في تنضيد عالمها .  وما حكاية الراعي وأحلام كنزه التي تجوب بنا عبر الصحراء  ، سوى حيلة بارعة ، تتضامن من أجل أن يستعيد العالم هنا – عبر اللغة – بهاءه المتخيل : التحقق عبر اقتفاء الحلم .

    لا شك أن كويلو قد احتال في تأثيث ، وإعادة إنتاج تلك الشذرات المكتنزة بحمولة فلسفة الصوفي والحكمي ، والتي تستثمرها معظم المؤسسات والمدونات  والكتابات المعنية ، أو المنشغلة بموضوعة تنمية الذات ، على غرار تلك العبارات الشائعة ،مثل : عندما تريد شيئا ما فأن الكون بأسره يتضافر ليوفر لك تحقق رغباتك . هذا فضلا عن كونها قد اقترحت اسلوبا سرديا يتجاور ، وبشاعرية عالية مع انساق القصص الشعبي ، مما أضفى عليها بعدا جماليا من حيث التكثيف والسلاسة . ولأنها تتمتع بهذه الفضائل الماكرة  ، وغيرها من الشبهات الحميدة ، والمريبة ، أجدني أعود لتصفحها بين فترة وأخرى ، ليس لشهرتها العالمية بعد نوبل – لأنني أعد من بين المحظوظين الذين أتيح لهم الاطلاع على طبعتها العربية الأولى في مناطق الظل قبل بضع سنوات من اكتشافها وشهرتها في عواصم الثقافة العربية – ثقافة الإعلانات و (البروبقاندا ) ، ولذلك حكاية أخرى  - بل لشيء يتعلق تحديدا بالخيميائي ، ينبغي تكريمه عبر تأكيد اعترافنا بتلك المتع المصانة ، والاستدلال عليها عبر الكلمات التي من سلالة هذا الراعي البرازيلي ، الذي يذكرنا بأنفسنا في يوم ما . وفي يوم ما أيضا لعلني سأستأنس بفصل من ترجمة ابن المقفع في ( كليلة ودمنة – حين يأتي الحديث حول رواية أخرى ، تطمح لمضاهاة الخيميائي ، ألا وهي رواية ( اسمي أحمر ) للتركي أورهان باموق ، والتي تقع هي الأخرى من حيث آلية سردها ، ومادتها الخام  في فخّ التناص إلى حدّ الاستنساخ . 

الأحد، 6 ديسمبر 2015

دروز بلغراد لربيع جابر

مفتاح العمّاري

حكاية حنا يعقوب
      رواية ( دروز بلغراد .. حكاية حنا يعقوب )  لربيع جابر ، تترجم عبر تراجيديا أحداثها ووقائعها وحكاياتها التي تتلخص في محنة المواطن : حنا يعقوب ، بائع البيض المسلوق ، حين قاده حظه العاثر ليكون كبش فداء ، لحظة أن يقبض عليه ذات صباح عندما تصادف وجوده وهو يحمل سلة البيض المسلوق ، عند أطراف ميناء بيروت ، ليزجّ به مع مساجين دروز في سفينة تجارية ، أثناء التأهب لترحيلهم من بيروت إلى بلغراد ، كبديل لسجين درزي ، تمّ إطلاقه تهريبا برشوة في الليلة المنصرمة بتواطؤ الباشا أو حاكم المدينة . ولكي يتم تغطية هذه الشبهة قبض على حنا يعقوب كبديل للسجين الدرزي ، ليحمل من ثم اسم ( سليمان ) ، عوضا عن (حنا ) . حيث تتواطأ كل الظروف المحيطة فيما بعد – سواء في قعر السفينة أو في أقبية السجون – بأن يلبّي صاغرا ، كلما نودي باسم سليمان : أسباب تتعلق أولا بالعيّ حين فقد القدرة على النطق ، اثر ضربهم له في أول الأمر بكعب بندقية على فمه فتهشمت أسنانه . وثانيا باللغة ، وثالثا لأسباب العداء الكامن حينها بين الدروز والمسيحيين .. ورابعا بفوضى إدارة السجون وقتذاك . لأنه بعد أن غادر بيروت قد ظل محض رقم ، ولا يعلم سره سوى السجناء القريبين منه ، وبصورة خاصة أخوة السجين الذي تم تهريبه . وتلك حكاية لها تداعياتها وتفاصيلها في فضاء هذا المتن السردي . ولكن الكاتب ، وعبر السياق السردي للنص قد مرر الكثير من الدلالات ، لاسيما عبر الشخصية المحورية : حنا يعقوب ، كرجل مسالم ومتسامح وطيب ، ينحصر عالمه في حبه لزوجته هيلانة ، وطفلته الرضيعة بربرا ، والانشغال بتدبير قوت أسرته كبائع جوال للبيض المسلوق .
   تبدأ الوقائع في العشرية السادسة من القرن التاسع عشر ، أي في تلك الفترة التي شهدت انحطاط الدولة العثمانية ، وبدايات مؤشرات اندحارها وسقوطها . تلك الدولة التي بدأت باحتلال إقليم صغير في البلقان في الربع الأول من القرن الرابع عشر ، لتتوسع تدريجيا عبر أوربا وآسيا وشمال إفريقيا كإمبراطورية عظيمة دمجت في نسيجها قوميات عديدة وعقائد وديانات ولغات شتى ، لتفرض وجودها وقوتها عسكريا وسياسيا ، في المناطق الخاضعة لها بكل ما ابتكرته من أنظمة وخطط وسياسات عسكرية واقتصادية دعمت استمرارها لستة قرون متواصلة .
    هنا وعبر هذه السيرة الملحمة في حكاية حنا يعقوب ومكابداته طيلة 12 سنة ، مجسدة في غربته المتعددة عن الوطن والدين واللغة والعائلة والاسم .  هذا ما يشير إليه الاقتلاع المأساوي في سيرة حنا يعقوب . لأن الرواية بقدر تناصها التاريخي ، تقع أيضا في تناص روائي مع جنسها . فلأمر ما ذكرتني برائعة : أمين معلوف ( ليون الأفريقي) . فعلى الرغم من اختلاف الوقائع والحقبة التاريخية التي تفصل حسن الوزان عن حنا يعقوب ، إلا أن الأول كمسلم ، وعلى الرغم من أن مأساته تنطلق من حملات التفتيش الصليبية في الأندلس ، والتي تلقي ببصماتها على رحلته المريرة  ، حتى لحظة لجوئه إلى الكنيسة في روما كملاذ ، فيما تنقلب الأدوار هنا ، أعني  في دروز بلغراد ،لأن حنا يعقوب ، يعود من منفاه أخيرا ضمن قوافل الحجاج المسلمين باسم ( الحاج سليمان ) ، من البلقان إلى بيروت ، حتى يتخلى عن القافلة أخيرا ، في أثناء توقفها بمحطتها في دمشق .
   ثمة عديد الملاحظات ،خرجت بها من خلال قراءتي لهذه الرواية ، من بينها : أن جزءا من مكابدات حنا يعقوب في معاقله ، كان يمكن تكثيفه واختزاله عوضا عن الوقوع في تكرار الصور والمشاهد .

     فقط ، هذه محض انطباعات عابرة اقتضتها قراءة أولى . لكن تظل هذه الرواية في المجمل تنطوي على قدر من الجماليات ، سواء في حبكتها الدرامية أو خصائصها السردية  ، وبحق هي رواية ممتعة . 

الأحد، 29 نوفمبر 2015

مقعد لعاشقين : سالم العوكلي

مفتاح العمّاري


مقعد لعاشقين*

     دعونا لا نتّفق ، هذه العبارة عتبة ممكنة للإطلالة على آخر إشارات التفوق الإبداعي في الشعر الليبي الأجدّ .  فها هو الشاعر سالم العوكلي يكرّسُ بهدوءٍ طموح ، الاختلاف والتّجاوز .. وبنشاط متزايد .. كما تشي به كائنات مجموعته الشعرية : مُقعد لعاشقين  ، والتي تجاور بين سؤال الهوية وقلق الشعر كطريق للمعرفة ، من دون أن تغفل شحن الكلمات بما يليق بها من خصائص جمالية وتفانين أسلوبية .. لكتابة شعرية تهجس بالاختلاف والتلقائية الفادحة . وهي على الرغم من بساطتها ، لا تضاهى .. قياساً بألمع التجارب الشعرية العربية المعاصرة ، وأكثرها شهرة . لذا تُعدُّ  هذه التجربةُ لما تنطوي عليه من حساسية جديدة وذائقة متطوَّرة، بمثابة بيان شعري للخروج عن الهجانة والانبتات .. وفضح المستنسخات الباردة التي لا حياة فيها ، وأيضاً دعوة للاختلاف ووضع البصمات الحقيقية لما نعتقد بوجوده من قيم شعرية أصيلة وأسس جمالية تعبّر عن هويتها داخل النصّ الأدبي ، ضمن شروط التجديد والمغامرة .. وتجعل من ذاتنا متحقّقة في جوهر الكتابة ، كممارسة إبداعية مؤمنة بجدواها .. تحتفي بقداسة الشعر كسبيل للتحقّق والمعرفة .. ومن ثم هي حالة واثقة تأنس لعنف المخيّلة وصلابة الوعي الرصين ، وضرورة التجاوز كردَّ شافٍ على المشكّكين  في قدرات الكتابة الشعرية الجديدة ، لتقول لهم ما الضرر إن كان الحلم دليلنا . إذاً هذه علامة أخرى تشي بالحبّ والحياة . فقط دعوا القصيدة تتنفّس :



" دعوا القلب يكتب سيرته
دعوا الحمامة تنام في حجر المئذنة .
دعوا البنت  ..
تقصف بشعرها المرسل ..
جدار الحكمة  .
دعونا ..
دعونا لا نتّفق .
**
دعونا في زاوية المقهى  
نقيم منفانا الصغير
نخرج المرأة من عروضها
ونهمس الشعر الجديد
دون أن نلتفت
...  ...  ...
ربما يوماً سنغنيّ
فقط
لتعرفوا الطريق إلينا . "
___ 

كتبت احتفاء بإصدار المجموعة الشعرية مقعد لعاشقين 2001

الخميس، 12 نوفمبر 2015

ايمان مرسال في المشي اكثر وقت ممكن

مفتاح العمّاري


     كنت قد قرأت لإيمان مرسال  مجموعتها الشعرية   (حتى أتخلّى عن فكرة البيوت ) والتي تكتنز بطزاجة تجعلها أكثر نضارة وأبلغ أثرا  بفضل تلك الحمولة الحارة من اللقطات البصرية الحيّة   ، حيث كل شيء يمثل مترعا بسخونة اللحظة عبر تلك العفوية في السرد الشعري  كنسق عام في نظام الجملة الشعرية في هذا المتن ، فضلا عن التقاط الهامشي والمهمل ، ولملمة الأشياء داخل سلة من البداهات . ففي وقت أمسى فيه الشعر يفقد تفاعله ويخسر قراءه وعلاقاته  النسيجية مع محيطه  ، تنجح إيمان مرسال في إيقاظ روح لقصيدة ، وإعادتها للحياة ، بتلقائية بسيطة خالية من أي تكلّف أو ادّعاء .
  لكن في تجربة المشي سيختلف الأمر . لعل ما يحفز إيمان مرسال ، على " المشي أكثر وقت ممكن  " بأن كل شيء يمكنه أن يكون شعرا . لا بأس ، فللجاحظ قبل زمن بعيد ، ما يشير إلى هكذا مفهوم ، على اعتبار أن : المعاني مطروحة على الطريق ، أو في الطريق . وعلى الرغم من أن الشعر لا يكتفي بكونه محض ضرب من معنى يمكن ترجمته عبر كلمات وصور  ، كما هو الحال في هذا النسق السردي الاعترافي  الذي استمرأته الشاعرة هنا ، بل هو أحيانا يتعذر فهمه ليفسح إمكانية التقاطه بواسطة الحواس ، ليس للخروج بمعنى أو نحوه  ، بل يؤمل منه   - أي السرد في قصيدة النثر  –  أن يشي بمعرفة أخرى ، خلافا لوظيفته في القصة أو الرواية . كذلك خلافا لتلك الخيبة التي طفحت بها المقترحات  في هذا الدفتر  ، والتي جاءت في مجملها على شاكلة قصيدة  " أيميل من أسامة الدناصوري "  ، لكأن هذا الصنف من اللعب يتبرأ من أية مسؤولية إزاء الكتابة ، وأن العبث واللهو والتهكم  ، وازدراء الرصانة ، وهشاشة اللغة ، وتحقير الإيقاع ، هو جزء من مفاهيم قصيدة النثر ، والتي باتت يوما بعد يوم تشيد فراغها  ، وتبتكر المزيد من أصناف العزلة .
   قد يعزى ذلك إلى شبهة في مسار عولمة قصيدة النثر ، كنوع جديد من الكتابة الشعرية ، وصنف عابر للقارات ، وناسف للهويات  . لكن  وعلى الرغم من انحيازنا لهذا الشكل من أشكال الكتابة ، علينا في الوقت نفسه أن نستدرك ما يمكن استدراكه من قيم لصالح القصيدة ، والتي يقتضي الوعي بجدواها أن نتشبث بها  كبرهان على وجود  ما هو آدمي وحقيقي وأصيل وسط هذا النمو المخيف للتفسّخ . 
__ 
    أدرجت هذه الملاحظات ضمن تعليقاتي في موقع رفّي باسم ( عبد السلام  alammary19) . وهو وسم صفحتي في الموقع .


الأحد، 23 أغسطس 2015

عودة المماليك

مفتاح العمّاري

رأس المملوك جابر



     تقول الحكاية : بأنه في قديم الزمان كان في بغداد ثمة وزير سيئ الطالع عاش ردحا من الزمن محاصرا داخل أسوار قصره بعد أن نشب النزاع والشقاق بينه وبين الخليفة ، وقد تعذّر عليه وقتذاك خرق رقابة الحراس والجواسيس ، بغية تمرير رسالة يطلب فيها النجدة من أحد ملوك العجم  .  تضيف الحكاية  بأن أحد مماليك الوزير  ويدعى ( جابر )  كان شديد الولع والهيام بفتاة جميلة ، اسمها ( زمرّدة )  هي خادمة زوج الوزير .  ولأن المملوك جابر قد  حدس على نحو ما قلق سيده الوزير الذي كان يخطّط بصمت لتسليم مفاتيح بغداد لملك العجم  والإطاحة بسيده وولي نعمته خليفة بغداد  ، لكي يجلس هو  على كرسي الخلافة  .  يومها وجد المملوك الفرصة سانحة  لكي يقوم بمهمة حمل الرسالة الخائنة ، وذلك بعد أن توصّل إلى فكرة شيطانية لا يخامرها شكّ ، حيث اقترح أن يكون رأسه هو  بمثابة  ورقة خفية لكتابة عبارات  الخيانة تلك .. وذلك مقابل  موافقة الوزير على زواجه من الخادمة ( زمردة )  .. وفي الآن  نفسه  ، كانت لدى المملوك أحلامه الصغيرة وأطماعه الجديرة بخيال الخدم الأذكياء  . وهكذا، عجل الوزير باستدعاء الحلاق  الذي تفنّن في جعل رأس المملوك جابر صفحة ناصعة وسلسة تطاوع ريشة الخطّاط  ./  لكن وفي اللحظة ذاتها التي كاد خلالها الخطاط أن ينتهي من تحبير آخر حرف  من حروف الرسالة ، تغيّرت نظرة الوزير إزاء مملوكة  ، وخمّن بينه وبين نفسه بأن هذا الكائن  الحالم الذي يتفوّق ذكاؤه على ذكاء الخدم ، قد يضمر طموحا لا تقف حدوده  عند الخادمة زمردة ..  لذا بيت الوزير أمرا ما ،  وفي اللحظة ذاتها مرّر بخفة ماكرة  ورقة مطوية إلى الخطاط الذي ارتبك للوهلة الأولى  لهول ما تنطوي عليه العبارة  من شرّ لا فكاك  منه .. ثم ما لبث أن سيطرالخطاط على ارتعاش أصابعه الخائفة  ، وخطّ رغما عنه  الجملة القصيرة التي تنطوي على فداحة المجهول  .  بعدها عُزِل المملوك ( جابر ) في غرفة منفردة داخل دهاليز القصر المحاصر  ، يقوم على حراستها  سجّان غليظ القلب ، ريثما ينمو شعر رأسه  ، لينطلق بعدها إلي بلاد العجم  .  وفي ذات صباح حانت ساعة الشؤم  لكي ينطلق المملوك لتأدية رحلته الغريبة  التي ما من أحد يعلم وجهتها غير سيده الوزير .  لكن حين انكشفت لملك العجم ملامح الكلمات الخفيّة ، أدرك بأنه قد أضحى قيد أنملة  من حلمه في الاستيلاء على بغداد ،  وامتلاك كنوزها الوافرة  .. لذا حرص دون إبطاء  على تنفيذ وصية وزير بغداد  التي أكدت على قطع الرأس الذي حمل عبارات الرسالة النادرة  .  وهكذا كانت خاتمة أحلام المملوك ،التي بدأت بغزو بغداد  ونهب كنوزها وثرواتها الهائلة . لكن ثمة  هنا العديد من الإشارات  التي تركتها هذه الحكاية مفتوحة لشهية التأويل ، وقد أخفاها الكاتب بدهاء شديد الحنكة ، وكأن سعدالله ونّوس  حين سطّر :مسرحية ( مغامرة رأس المملوك جابر )  قد حدس  على نحو ما بالمصير الفاجع الذي جعل من أحلام المماليك والخدم  طرفا رئيسا في نسج مؤامرة كبيرة ، لا أحد بعدُ يمكنه سبر نهاية ما ، لفصلها الأخير .

أرض الميعاد

مفتاح العمّاري


رواية أرض الميعاد




     في وقائع " أرض الميعاد " رواية الكاتب الروسي " يوري كوليسنكوف " ، نتعرف على قصة شاب يدعى  " حاييم فولدتير " من يهود رومانيا ، يجد نفسه فجأة متورطا في مصيدة الدعاية الصهيونية المبشرة بخرافة أرض الميعاد  (فلسطين) : الطيب والعسل وجنة الله فوق الأرض .. وخاضعا في الوقت ذاته لسياط ترهيب مخطط سري تشرف عليه لجان غامضة تدبر عمليات العنف الذاتي ضد الشتات اليهودي  . وفي أتون سياسة الترهيب والترغيب أضطر الفتى للتطوع في فرق التدريب العسكري " الأكشارا " كخطوة أولى باتجاه الرحيل إلى الأرض الموعودة . حدث ذلك والتاريخ يقف مرتبكا وقلقا على عتبات حرب عالمية ثانية  ، فقد بدأ هتلر يضع العالم في عنق الزجاجة  ، وفي الوقت نفسه يمهد الطريق للصهيونية ، ويضع حصانه السحري أمام عربة " وعد بلفور " لتنقل مئات الآلاف من الشتات  إلى فلسطين بذريعة العداء للسامية ، التي كانت مجرد دعاية تكتيكية تشرف على تنفيذها سرا لجان مختصة من الحركة الصهيونية ، استطاعت أن تخترق الرايخ بواسطة رؤوس الأموال الكبيرة . هذا ما تؤكده الرواية على لسان أحدى شخصياتها التي تقول " لو لم يكن هذا الأدولف هتلر، موجودا لكان علينا نحن الصهاينة أن نوجده " وهكذا كانت النازية منسجمة تماما مع مقولة – هرتزل - " بأنه كلما ازدادت المذابح ضد الشتات اليهودي  اقتربت اللحظة المناسبة لإنشاء الوطن ."  لتجد العنصرية الصهيونية في النازية - شقيقتها الروحية – محرضا معنويا وماديا لإيقاظ نعرة العرقية والعنصرية لدى يهود العالم ، وفي الوقت ذاته كان الصهاينة يدأبون على الشكاة  والبكاء والتنديد بجرائم هتلر في الصحافة والمحافل الدولية لكسب المزيد من التعاطف وتهيئة الرأي العام ، لإعلان قيام دولتهم في فلسطين ، وهذا ما انتزعوه في ما بعد من عصبة الأمم . 

   وفي سياق تطور أحداث هذه الرواية ، نجد أن الشاب  " حاييم " مايلبث أن يكشف أكذوبة أرض الميعاد حين يصطدم وهمه بشراسة الواقع وتتبخر أمامه أنهار الحليب والعسل ، ويرى عن كثب ما تقترفه العصابات الصهيونية في فلسطين من جرائم النهب للبيوت والمزارع ، واقتلاع السكان من ثراهم  . ولأنه قد خضع هو الآخر لأعمال الترهيب قصد التفريق بينه وبين زوجته اليونانية بحكم أنهم يريدونه يهوديا خالصا ، يقرر أخيرا الهرب من فلسطين ، والعودة إلى أرض الوطن " رومانيا "  . ولكن ما تضمره الرواية بامتياز  يشير في كل حركة من حركاتها السردية إلى آلية العنف ، التي تمثل محورا أساسيا  في البرنامج الصهيوني  .. هذا العنف الذي بدأ في مرحلته الأولى  كطابع تكتيكي ، عندما كان يمارس ضد الشتات  ، قد تحول في مرحلته الثانية  إلى طابع استراتيجي  ، يهدف إلى ابادة وتشريد السكان الأصليين  من عرب  فلسطين ، الذين وجدوا أنفسهم  ضحية مؤامرة دولية كبرى متعددة الأطراف  ، لتجعل منهم : شتات العالم الجديد . 

الجمعة، 14 أغسطس 2015

ساعي بريد نيرودا


مفتاح العمّاري


               
  ساعي بريد نيرودا





    




       هنا فضاء بأسره ينفتح على الشعر ، لكأن الشعر هو الطاقة الخفية لهكذا عالم متخيل ، الى الحد الذي يذهب فيه السؤال  - على لسان : ساعي البريد ، في احدى تجااذباته ، مع بابلو نيرودا – ما اذا كانت كل موجودات هذا الكون محض مجازات . أو هي بالأحرى ، استعارات لشيء ما ، السؤال الذي حيّر الشاعر ,
 إن ( انطونيو سكارميتا) ،  في باكورته الروائية ( ساعي بريد نيرودا ) ، لن يدعك تلتقط أنفاسك . رواية جامحة ومتقدة وقلقة ، تنهمر أحيانا بسذاجة ، وأخرى بشهوانية عارمة ، فقط لأن الشعر أراد لهذا الجزء الآدمي من الحيوان أن يكون حالما بعنف .
    في بساطة فادحة زجّ ( سكارميتا ) بكل شيء في هذا الحيز الحي ، والذي يدين بنبضه للقصيدة وحدها : الحب ، والسياسة ، والعنف ، والخراب ، والحياة ، والموت : خلطات عجيبة تُطبخ بشعرية بارعة ، ومسرودات لها ما لها من سحر اللغة وتحليق مخيلتها ، إلى حدّ يتعذر معه الفصل بين الشعر والواقع  .

    لن أمجّد مشيئة الصدف التي ربطت قدر ساعي البريد ، الفتى البائس والكسول والحالم ، بشاعر تشيلي العظيم ( بابلو نيرودا )  ، وبالمثل سلطان الحب الذي جمعه بالجميلة  بياثريت   .. كما لن أسهب في إعادة أيما سرد لوقائع وأحداث تتعلق بتاريخ تشيلي السياسي  في مطلع عشرية السبعينات من القرن الماضي ، وتلك المؤامرة التي أطاحت بسلفادور ألنيدي، لأن كل هذه الثيمات  - بما فيها لغات النوم والجسد والطبيعة – ما هي إلا ظلال رحيمة للكلمة الشاعرة التي بثها الشاعر في روح العالم . فقط أردت هنا  - كما هي عادتي دائما مع الكتب الأثيرة – توثيق لحظة قراءتي لهذه الرواية الآسرة . 







السبت، 1 أغسطس 2015

سيلفيا بلاث


مفتاح العمّاري



سيلفيا بلاث





     كلما جاء ذكر ( سيلفيا بلاث ) ، تتواتر تلك الثنائية التي تقرن شعرَها بالموت . كذلك ثنائية العلاقة بينها و ( هيوز ) . شاعران ، وضفتان تتنازعان برزخا ، كما لو أن المجهول وحده مسافة للغرق . وبالمثل تنزاح الثنائية الى نزاع آخر :( مجاني غالبا ) ، مفتون بفرضية وجودمعركة أزلية ، بين ( ذكورة وأنوثة ) ، بين السلطة المركز : (هيوز ) ، والتابع كرعية ( بلاث ) .  تبعا لهكذا تشطيرات ، تعاطفتُ في يوم ما ، كثيرا مع بلاث ، وصرت أبغض هيوز ، شاعرا وبهيمة .  حتى الفيلم الذي يتناول سيرة حياة بلاث ، لم يسلم من هذه المثلبة .  
  لا ريب في شعر سيلفيا بلاث كشاعرة رومانسية ، ما يشي بجموح لاعادة تربية القصيدة ، والتفنن في معمارية بنائها بأشكال غاية في العفوية والشخصنة .. باعتبارها تنتمي لذلك الصنف من الشعر الأعترافي .وبالمقابل  ثمة أيضا فن للموت . لكن ليس هذا كل شيء ، فثمة أيضا احتفاء بالذات والحياة والآخر ، لا يعد هامشا ، بل أفقا مضمرا في قصيدة سيلفيا بلاث .   


" أنا 
أعرف أنك 
تمشي مزهوا بجانبي 
انكاري لك يخرجك من رأسي 

اعترافي بك يشعرك بما يكفي من لهيب الحب
حتى تصير حقيقيا " 



الجمعة، 31 يوليو 2015

أنفاس مفتاح ميلود *



مفتاح العمّاري
أنفاس





( في جوف الغيمة القاتمة
بذرة قمر
تُزهر بعيداً
عن شرفات الشتاء )

      أنفاس :  عنوان لإشارة أخرى في خارطة الشعر الليبي الأكثر جدّة وتنوّعا ..يرتفع توقها البهيّ من ذرى الجبل الأخضر ، ليعبّر عن أصالة شعرية يتقدّمها طموح المغامرة والتفرّد . فها هو ذا الشاعر الفتيّ  :  مفتاح ميلود  ،  الذي يُعدّ من بين الأصوات الشعرية الأبرز في جيله ،  ينجز بهدوء أولى بواكير شعره ؛  مقترحاً لنصّه تشكّلات لغوية من خامات نثرية خالصة تلامس  بخفة ونعومة جوهر العلاقة بين شعرية النثر والعالم على نحو يتعذّر فيه العثور على أيّة إيقاعات من سلالة القافية . غير أننّا نقف بإجلال إزاء ذلك النغم المندّس " الذي يستمدّ رنيمه السحريّ من روح الكائنات الكامنة داخل نسيج من الكلمات الحارة والمعاني المطروحة في الطريق ..فيما تستسلم عناصر الطبيعة ومخلوقاتها لآلة المخيّلة الجامحة التي تضرم النار في حقول التوق .. وفي الآن عينه تضيف حواس مبتكرة إلى مناطق القصيدة .. حواس مستنفرة لإيقاظ الجوامد واكتشاف أسماء وأشياء غاية في البداهة . كأنّ هذا الشاعر الشاب وهو يكتب قصيدته يرسم رُقى من رموز وعلامات وألوان ، لكي يختزل متاهة الكنز الضائع بخطى الحدس الشعري .. التي كما يبدو تحاول أن تكون واثقة وهي تتقدم برسوخ متمهّل ، لا تعوزه حيلة اقتفاء أشدّ المفردات ضراوة لترويض وحشية النثر داخل عائلة الشعر .
     من هنا  كان لابد أن يرضخ ثقل العالم  محمولا .. بخفة أنفاس الشعر على أجنحة من سلالة النثر .  ولعلّ هذه العرفانية المضمرة بإعجاز الدلالات، وبلاغة الصورة النسيجية المتشابكة ،  كانت تتحصّن بصوفية الشعر للحلول في الموجودات وتأنيث صلابة الخارج ، وأنسنة البَرِّيّ بغية الوصول إلى تلك القرابة الروحية في أعلى درجاتها تجلياً ومعرفة ، حين تتّسع بضع كلمات لإيواء الجمال المقدس ، وأيضا لتؤكد بثقة عالية استمرارية التجديد والتمرد الذي تشي به  مغامرة قصيدة النثر في التجربة الشعرية الليبية المعاصرة .
     ___  

*كتبت هذه الكلمة  في صيف 2005 احتفاء بإصدار المجموعة الشعرية الأولى للشاعر مفتاح ميلود .