مفتاح العمّاري
لنعترف أولاً أن القراءة هنا مدفوعة بأشدّ حاجاتها تطلّباً : المتعة
والمعرفة وكشف السرّ والانتصار على الخارج ، لتجاوز خيباته وخرابه وثرثرته .
إنها بنت اللحظة المسافرة – القراءة سفر –
مقرون بالحدس وشغف التحقّق . وهي مثل الكتابة لها حفرياتها أيضا .
في أول الأمر قرأت " الواثقة بعصافيرها "
وكأنّني أقتفي أثر حكاية ما ، أو أبحث عن نسيج خفيّ للكائن الخالق الذي يُفخَّخ
صمت الكلمات . سأعترف أيضاً بأنني أحياناً لم أقترب من النصوص كما هي لألامس
خصائصها وانبش دلالاتها المتوارية بقدر ما كنت أكمن للقبض على السلالة التي ينتمي
إليها القول الشعري في هذا المتن وأكتشف المضامير وأزيح التكوّمات لعلّني أعثر على
ضالتي ، ثمة إذا قراءة مغرضة ، محدودة البراءة وهي – بأي حال من الأحوال – مهما
تعاطفت مع المقروء : وحاولت أن ترَتّق مكرها بألوان وإشارات وأقواس وعوارض لمّاحة
حيناً ، ومتحايلة حيناً آخر .. لكنّها في
أخر المطاف تقول نفسها ، وفق لحظتها الخاصة بها.
خارج المتن يمكن وصف الشاعر محي
الدين محجوب بنتف من سيرة غير كاملة
لرجل نحيف يرتدي عادة نظارات طبية ويتكلم بنبرة واطئة تخصّه وحده ، يخرج الكلام
خلالها مهموساً وشفيفاً ، فيه شيء من اللطف والمكابدة والصبر والانتظار والخجل
والهدوء حتى أن ظلّه يكاد لا يُرى . كان والده فيما اعلم رجل دين له شغف بالزهد
والتصوف – ترك كتباً أثيرة وبضع مخطوطات يتزوّد الشاعر بحكمتها .
في منتصف عشرية الثمانينات تعرّفت على الشاعر محي
الدين محجوب ، وعلى قصائده التي كان ينشرها في الصحف المحلّية وقد كان مؤثراً
في بعضها ومميزاً .. خاصة في قصيدته الطويلة "الغميضة ". كان
يثابر على طرابلس قادماً من صرمان - مسقط رأس الشاعر علي الفزاني
-كأنه في نزهة قصيرة ، وغالباً ما يظهر برفقة أصدقاء طيبين وحميمين .
صائد المفردات ..
قبل الدخول إلى المتن يفتتح الشاعر مغاليق
الكلام باستهلال خاطف تختزله هذه العبارة :"بسنّارته يتزيّن صائد المفردة
" .. هل يحقّ لنا أن نستأنس هذا
الاستهلال كأفق انتظار محتمل لرحلة صيد يتم خلالها الإطاحة بالمفردات العالقة
بسنّارته . إذا افترضنا هذا المعطى كشرط سيميائي للقراء ة يمكننا اعتبار العصافير
مفردات مجنحة في سماء " الواثقة بعصافيرها " واعتبار السنّارة
مجاز فخ .
فالفضاء في معظمه متاح لكائنات الجو واليابسة أكثر منه لكائنات الماء .
وعلى الرغم من ذلك فإن حركة القول الشعري تبدأ من الومضة الأولى " بالماء
المسرور" مجازاً لليّونة والانسكاب والشفافية مستخدمة في دلالاتها
النحوية : ضمير الغائب بعبارات مقتصدة :
"
مسرور بلونه
لا يخلف الماء
مجراه
أو يورّث
قطراته " *
النصّ يقرُّ بالمجرى في لمحة
خاطفة ومخادعة تصمت على ما تبقى ، وتظلّ بعيدة عنّا تلك المحرّضات النفسية التي
يُجاز فيها للسيولة أن تحجب ميراثها لكن عن من ، طالما هي لا تخالف المجرى ؟ هذه
اللغة المتكتّمة كأنّها تنشغل عن فراغاتها لتنضيذ مغزاها بمفردات لاحقة ، لم
تلتقطها بعد سنّارة المعنى ، أو كأن الشاعر قد تعمّد أشراك القارئ في صياغة النصّ
أو تتمّته وفقا لتهيوءات لحظة القراءة .. ولاسيما إن المقطع الذي يلي يظلّ مفتوحا
ولا يُلبّي حاجتنا بالكامل رغم تنوّع دلالته النحوية من الغائب إلى المتكلم :
"على تلالي
تمطر
بما لا يخطر
ببال غيمة "
تظهر مشهدية التلال مجرّدة غير موصوفة فلم
تتشكَّل على النحو النسيجي الذي يمنحها بعداً درامياً في القصيدة , له مساحته
الذاتية ..فيما يبدو المطر الذي لم يخطر ببال غيمة هو الآخر لا يحمل خبراً شافياً
. حيث يظهر المطر بلا حالات – هكذا نخرج في أول الأمر بصيد اللاجدوى ،ونكتشف
الكثير من المفردات الصامتة عالقة بسنّارة القصيدة ، لكن بعد حين ما تلبث أن تأخذ
المفردة مجراها وهي تجوس عبر مسارب أخرى كأنّ الجوهر طريدها ، تبحث عن المغزى في
خفاء نثري مكثّف يوجز مشيته ، ويقتصد الخطى مكتفياً بحمولة حارة من
البديهيات التي تقبض على المعنى في بساطة فادحة ، لتنضّد جملة واحدة تكفي لإيواء
القصيدة في هدوء موصوف بالزهد والتقشّف والاختزال ، معتمدة الإشارة اللمّاحة
الوضيئة المسكونة بروح الأشياء التي تأنس للعلو ، وتغدو على الدوام حيّة
ونابضة توعد بجدواها ، ونشعر للوهلة
كأننّا إزاء شطحات النّفري أو محي الدين ابن عربي .
يقول الشاعر في قصيدة " من بين جميع
الكلام " :
(1)
"كل صرخة تحمل صمتها
(2)
شفق على الصمت
مِن الصمت .
(3)
نذرت
لثرثرتك صمتي .
(4)
مِن بين جميع الكلام
اختار صمتها .
إنها لغةُ مسَّ ، مؤثثة بأمكنة الروح وحواسها اللاهبة تنتخب علامات التجريد
، هكذا " كل صرخة تحمل صمتها
" .. وهنا يتجلّى محي الدين محجوب كشاعر خلوة
، يجذب العلو إليه بمصيدة القصيدة متزوّداً بسلاح البراءة والعذوبة . فبهذا الرنيم
ذي النبرة الصوفية التي تخالطها آلية العبارة الحكيمة ينفتح باب الصمت بإيجاز شديد
الوقع ، و كأن المتن في مجمله يختزل بهذه الصرخة . أو هي الصرخة مختزلة بصمتها
تأوي المتن بأسره .
في
مطارح أخرى من هذه المجموعة تبدو بعض المقاطع الشعرية وهي ( تتمخظر ) خارج سياقها
كأنّها تكتفي بنفسها أوهي تحاول بثّ لقطاتها السريعة مثل حفنة من دبابيس في كوادر
البياض ، وتنحو اللعب بشيء من الحذق والشيطنة مستخدمة العديد من التيمات ،
كالإغراب والإدهاش والتهكّم ..متكئة حيناً على المفارقة وحيناً على اللقطات
الطريفة ..موغلة في تجريب مهارتها إلى الحدّ الذي تخذلها فيه العبارة فتغدو
الدلالات في بعض المقاطع باردة بسذاجتها وخلوّها من أية متعة تحتمل إيواء الكامن
في أوعية الشعر :
" تلح عليّ بنات أفكاري
إن أدرج أسماءها
في كتيب عائلتي "
فتأتي الكلمات في جملة اعتراضية تقول نفسها
مباشرة بمنأى عن عنوانها ، وتنطّ بخفة ما بين وردة الارتواء في حديقة العطش ،
والحطّاب الذي يهاب فأسه لطول ما تعوّدت القطع / ثم يقفز إلى فضاء آخر يقترب من
غرفة الكتابة حيث الأفكار الملحاحة تريد إدراجها في كتيب العائلة ، لتبدو كل صورة
معزولة عن سياقها وكأنّها انتزعت عنوة من مشهدها العام .. حيث تتشظّى الحالة
الشعرية في نقط متناثرة لا يتيح لها تباعدها أي تجاور أو تلاحم لتشكَّل خطاً له
نسيجه الدرامي شعرياً.. فثمة حياد يلقى عبارته الطريفة ويمضي دون إبطاء . مثل ما
فعل في نصّ قصير بعنوان " سارق المعرفة " ، والذي يقول :
" اختلس الولاّعة
قال :
- بروميثيوس
ليس أفضل مني "
هكذا وعلى الطريقة ذاتها نجد الكثير من العبارات المحايدة ،كأن يكون
الحطّاب على حذر من فأسه القاطعة .. مما يلاحظ غياب البعد الذاتي للقائل ، فالجملة
غالباً ما تظهر متروكة لشغف العبارة وحدها ، منذورة للحظتها مزهوّة بصيدها لائذة
بالصمت ، مطمئنة لحكمته وسهوه ، وهي تمجّدُ النسيان صانع البياض . إزاء هذا النمط
من القول ، يقع العبء على القراءة وحدها ، فهي مطالبة بأن تجاور الأضداد وتقرَّب
ما بين الأشياء المتباعدة . لكن مهما كانت القراءة صافية ومتسامحة ، فهي لا تتنازل
عن مطلبها كحقّ ذاتي ، ملزمة بأدائه تجاه
نفسها ، لتعمّق معرفتها بالمقروء ، لأنّه ليس في وسعها أن تضفي الوهج عل الأشياء
المطفأة .. فالكتابة الشعرية هي وحدها
المطالبة بتجسيد روح الكائن : الروح المصابة بالمسَّ ، التي تمشي ، وفي " كل
صرخة تحملُ صمتها " _ كما يقول محجوب _ لتوقظ المخلوقات النائمة ،
وتنشر فتنتها بين الكائنات الأخرى .
_____________________________
*عن كتابنا : عتبة لنثر
العالم .
** المقتطفات الشعرية من
مجموعة( الواثقة بعصافيرها) .