وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الاثنين، 24 ديسمبر 2018

معركة ضارية لغزو قصيدة

مفتاح العماري




     في تلك الليلة قبل أن يشرع في كتابة جملة واحدة تفتتح قصيدة، كان ممتعضا من مسألة النظر إلى الاستعارات بوصفها محض سكن للمعنى، فتبلبل وهو يحرك أكثر من مجاز حار، لصور شتى تتنفس كنجمة وحيدة في سقف الظلمة؛ مما اضطره لتمزيق كل عبارة لا تنتسب لذلك النقاء النظيف من شبهة كوكب متغطرس، حتى لا تغدو استعارته مجرد ظل وحسب. ربما لأن الألم المجهول ما انفك يتغلغل منتعشا داخل مخيلته التي ما تزال بعد دهر كغرفة مضاءة بأحزان الأسرى، وأنه مهما سعى لإضافة المزيد من الموسيقى وباقات الورد وإشاعة العطر والشموع الملونة، سيظل الأسى متربصا بكل عبارة اجتهد في إغوائها. وحتى لا يعيد كرة الفشل قرر هذه المرة أن لا ينتظر الهام الكتابة بل سيغزوها.  كان أمله الوحيد وربما الأخير أن تختزل القصيدة كل حياته التي عاشها، وان يحتكم إلى ما احتفظت به ذاكرته من وقائع قليلة افلح في إنقاذها من التآكل، مبديا كل اعتراف رصين بوظيفة النسيان.
   لهذا استأنس فكرة أن يكون محاربا، وقال لنفسه "ما الضير في أن أؤسس جيشا وأخوض معركة ضارية لغزو الكلمات التي لم تستسلم". كان فقط يتوق لاستعادة أوقات ضائعة؛ هي مفتاح السر الذي يمكنه من فتح كل ما تغلّق عليه حتى ذلك الحين في رحلة المكابدة من أجل الإمساك بشيء تائه. وضع حرفا جوار حرف، حتى أمكنه أن يخفي ما بين السطور أكثر من امرأة تسعى لأن تكون شيئا خارج الثياب؛ حينذاك تريث؛ ريثما تأخذ العبارات وجهتها التي كان يخشى أن تخذلها قواها على تحمل مشقة السفر، ومجالدة المجهول القادم؛ لأن الحياة حسب ما خبرها طيلة ستين عاما لها أوجه تتقلّب، كما لها دورات ماكرة يصعب التكهن بمزاجها لمّا تغضب. "أنا جربت ما هو أنكى من أن يكون الجندي هدفا لنيران صديقة". لهذا كان عليه التخلي عن عشرين كتابا، هي حصيلة مسيرته الأدبية في بلاد لا تقرأ، والتنصل مما حملته من ترهات. وكان يكفيه أن يسخر من نفسه، ليكون أبعد من مجرد حلم. وفي آن؛ ارتأى أيضا ضرورة التخلص من هواجسه السوداء؛ بوصفه أحد القتلى في حرب تشاد، وأنه لم يكن في يوم ما يتيما أو مشردا منبوذا من ذويه؛ فليس بالضرورة أن تكون أمه حاضرة كجزء من أرشيف العائلة. لأن الكلمة لا تحتاج كتابا، أو بيتا يطل على ثلاث لغات أو أكثر؛ فقط إذا ما تاقتْ أن تكونَ نهرًا؛ عليها أن تطير.
_____

باب بن غشير 12 ديسمبر 2018