وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

السبت، 4 يونيو 2016

أنا في الشارع

مفتاح العمّاري



    _____ أنت في البيت .. أنا في الشارع

      بعد خيبتي في طابور الفرن ، قلت لنفسي  يمكن إعداد فطيرة في البيت كخاتمة لهذا الإذلال , وبعدها سأنتقم بدوري من الكتب والكلمات ، أعيد قراءة  تلك المتون المهملة ، وأكتب كل ما يتبادر لذهني : هلاوس ، هذيانات ، بهيئة شذرات ، وقصائد نثر ، وقصص وحكايات ستظل دائما مفتوحة بلا خواتم  . لأنه  يتعذر علي دائما ابتكار نهاية ما ،  فما من شيء أكتبه إلا ويقتحمه الخوف ، الخوف كلازمة متكررة ومهيمنة ، طالما ثمت من يزرع ألغاما في لغتي ، ويسلبني هذه المدينة التي أُحبّ ، يسلبني الخبز والثقة والنوم والضوء والماء والمخيلة ، وتلك الدهشة التي كانت ترافق نظرتي للعالم وتجعلها أكثر بهاء حين أرى الأطفال والحدائق  والنساء  والبحر والشعر والكتب . أسماء أضحت في طور الانقراض ، لهذا انسحب الشأنُ على القراءة ، فأضحت هي الأخرى ترتبك إزاء هكذا فوضى  ، وبالمثل كانت تفشل أية محاولة لإغواء الكتابة ، واللجوء إلى الورقة والقلم عوض اللاب توب الذي تعطلت نضيدته ، ولم يعد أي تحايل يجدي لشحنها بالكهرباء في أثناء زياراتها العشواء . ولأن المكوث في الشقة  وقد تحولت إلى مرجل يغلي صار ضربا من الكآبة ، قلت لنفسي : سأهيم على وجهي ، تاركا لمشية العليل تقودني أنّ شاءت .

      في ميدان الشهداء : أي الساحة الخضراء ، قبل خمس سنوات ، وسوق الخبزة أيام البشاوات والآغات والكيخيات .. هو نفسه ميدان ايطاليا أيام الغزاة الفاشست عندما كان الجنرال بالبو ينصب المشانق بجانب نافورة السباع ، ويضاجع الحسناوات في فندق فيكتوريا . هنا  حيثما تلتفت سيسبقك الماضي ، لأن البناية الغربية للميدان ، أعني مصرف الجمهورية ، أي مصرف الأمة قبل عام واحد ، وبنك  روما قبل مائة عام ، ستظل هي نفسها الأبهة الأبرز في طرابلس لطابع العمارة الكلاسيكية التي خلفها الطليان .
   جلست مكدودا بوهن خائب على مقربة من حواف النافورة ، محدقا في بلاهة إلى حشود الحمام والمسلحين والنفايات . أخيرا أنا وحدي بعد أن أدركت أختي مريم أن لها أما ، تحتاج للماء والضوء ، فمريم الوحيدة في العائلة التي تملك مولد كهرباء يعمل بالبنزين ، أخيرا راودها الحياء وقدمت هي وزوجها المدجج بالثرثرة ، وحملوا العجوز في سيارة مكيّفة . ولأنني وحدي تذكرت سيبتموس سيفروس قبل نفيه إلى لبدة . ففي يوم ما كان الرجل يقف بأبهة موليا ظهره لسوق الترك وهو يتطلع بكبرياء ناحية الميدان ، منتصبا بفخامة قامة حجرية لإمبراطور روماني  نصف ليبي . التقطنا صورا أنا ورفيقي في الكتيبة الرابعة والذي سيقتل في معركة وادي الدوم . من هنا أيضا مرّ موسليني ، وقبله بأربعة قرون تبول جندي سكير من فرق ايزابيلا . هنا هتفت الجماهير للطغاة ، ودفنت أكوام  من جثث ضحايا الطاعون ، وشيعت جنازات ، وأقيمت صلوات استسقاء ، ووزعت أوسمة ، ووضعت أجساد على منصات الإعدام . كما حصد الرصاص أرواح مئات المتظاهرين في ليلة العشرين من فبراير 2011 . هنا التقيت الشاعر علي صدقي عبد القادر ذات مساء خريفي ، كان يرشق وردة في جيب سترته ويتغزل في الشمس والخواء ، كما لو أن طرابلس لا تضم سجونا ومعتقلات وشعراء تتعفن أحلامهم وقصائدهم  داخل الأقبية والزنازين .
      رنّ  هاتفي المحمول . سمعت وبصعوبة  من يسأل :
-       _  أنت في البيت ؟
-        _ لا . أنا في الشارع .