مفتاح العمّاري
_____ أنت في البيت .. أنا في الشارع
بعد خيبتي في طابور الفرن ، قلت لنفسي يمكن إعداد فطيرة في البيت كخاتمة لهذا الإذلال
, وبعدها سأنتقم بدوري من الكتب والكلمات ، أعيد قراءة تلك المتون المهملة ، وأكتب كل ما يتبادر لذهني
: هلاوس ، هذيانات ، بهيئة شذرات ، وقصائد نثر ، وقصص وحكايات ستظل دائما مفتوحة
بلا خواتم . لأنه يتعذر علي دائما ابتكار نهاية ما ، فما من شيء أكتبه إلا ويقتحمه الخوف ، الخوف
كلازمة متكررة ومهيمنة ، طالما ثمت من يزرع ألغاما في لغتي ، ويسلبني هذه المدينة
التي أُحبّ ، يسلبني الخبز والثقة والنوم والضوء والماء والمخيلة ، وتلك الدهشة
التي كانت ترافق نظرتي للعالم وتجعلها أكثر بهاء حين أرى الأطفال والحدائق والنساء
والبحر والشعر والكتب . أسماء أضحت في طور الانقراض ، لهذا انسحب الشأنُ على القراءة ، فأضحت هي
الأخرى ترتبك إزاء هكذا فوضى ، وبالمثل كانت تفشل أية محاولة لإغواء الكتابة ، واللجوء إلى الورقة والقلم عوض اللاب توب الذي
تعطلت نضيدته ، ولم يعد أي تحايل يجدي لشحنها بالكهرباء في أثناء زياراتها العشواء
. ولأن المكوث في الشقة وقد تحولت إلى
مرجل يغلي صار ضربا من الكآبة ، قلت لنفسي : سأهيم على وجهي ، تاركا لمشية العليل
تقودني أنّ شاءت .
في ميدان الشهداء : أي الساحة الخضراء ،
قبل خمس سنوات ، وسوق الخبزة أيام البشاوات والآغات والكيخيات .. هو نفسه ميدان
ايطاليا أيام الغزاة الفاشست عندما كان الجنرال بالبو ينصب المشانق بجانب نافورة
السباع ، ويضاجع الحسناوات في فندق فيكتوريا . هنا حيثما تلتفت سيسبقك الماضي ، لأن البناية
الغربية للميدان ، أعني مصرف الجمهورية ، أي مصرف الأمة قبل عام واحد ، وبنك روما قبل مائة عام ، ستظل هي نفسها الأبهة الأبرز في طرابلس لطابع العمارة الكلاسيكية التي
خلفها الطليان .
جلست مكدودا بوهن خائب على مقربة من حواف النافورة ، محدقا في
بلاهة إلى حشود الحمام والمسلحين والنفايات . أخيرا أنا وحدي بعد أن أدركت أختي
مريم أن لها أما ، تحتاج للماء والضوء ، فمريم الوحيدة في العائلة التي تملك مولد
كهرباء يعمل بالبنزين ، أخيرا راودها الحياء وقدمت هي وزوجها المدجج بالثرثرة ، وحملوا
العجوز في سيارة مكيّفة . ولأنني وحدي تذكرت سيبتموس سيفروس قبل نفيه إلى لبدة .
ففي يوم ما كان الرجل يقف بأبهة موليا ظهره لسوق الترك وهو يتطلع بكبرياء ناحية
الميدان ، منتصبا بفخامة قامة حجرية لإمبراطور روماني نصف ليبي . التقطنا صورا أنا ورفيقي في الكتيبة
الرابعة والذي سيقتل في معركة وادي الدوم . من هنا أيضا مرّ موسليني ، وقبله بأربعة
قرون تبول جندي سكير من فرق ايزابيلا . هنا هتفت الجماهير للطغاة ، ودفنت
أكوام من جثث ضحايا الطاعون ، وشيعت
جنازات ، وأقيمت صلوات استسقاء ، ووزعت أوسمة ، ووضعت أجساد على منصات الإعدام .
كما حصد الرصاص أرواح مئات المتظاهرين في ليلة العشرين من فبراير 2011 . هنا التقيت الشاعر علي صدقي عبد القادر ذات مساء خريفي ، كان يرشق وردة في جيب سترته
ويتغزل في الشمس والخواء ، كما لو أن طرابلس لا تضم سجونا ومعتقلات وشعراء تتعفن
أحلامهم وقصائدهم داخل الأقبية والزنازين
.
رنّ هاتفي المحمول . سمعت وبصعوبة من يسأل :
- _ أنت في البيت ؟
- _ لا . أنا في الشارع .