وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري
‏إظهار الرسائل ذات التسميات نصوص. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات نصوص. إظهار كافة الرسائل

الجمعة، 1 أغسطس 2025

تقطير العزلة 2 *

 مفتاح العمّاري

تراكم وحشد – من أعمال التشكيلي الليبي رمضان أبوراس.


______ 

     الريح لا تكف عن هزّ نافذتي وخلخلتها، وإطلاق عواءها الموحش. كان التيار الكهربائي مقطوعا. الشمعة الوحيدة المتوفرة وضعتها على قاعدة صحن قيشاني صغير فوق نضد الزينة بغرفة أمي. اهتديت إلى خلوتي المظلمة بضوء جهاز هاتفي المحمول. وما أن استرخيت على سريري حتى عاودني التفكير في قصيدتي التي أحاول العمل على كتابتها منذ عشرة أيام أو أكثر، وما تزال مستعصية، وعوض أن تحلق كما توهمت لم تفعل شيئا سوى التباهي بصدر نافر دون عجز.

      أنا وحدي، دائما وحدي في دار الكلب؛ أعني خلوتي الخاصة. خَفَتَ مصباح الهاتف وأخذ يذوي حتى تلاشى بصيصه تماما فثقل الظلام بكثافة. ركنت إلى نور مخيلتي أراود من جديد تحريك جسد القصيدة وهزه لعلي أدس في ثناياها بعضا من وجعي؛ حيث لا بد من وجود معنى ما، وعبور للحكمة. ثمة شجرة زيتون تسكنني وأحن إليها كما لو أنها أمي؛ وما تزال صورتها ورائحة أنفاسها عالقة بحواسي. ثمة امرأة، وأكثر من امرأة في انتظار كلمة. فنحن الذين طال بنا المرض نعد الأشجار والنساء نُسْغا يسري في أروحنا، حتى عندما يأتي الموت لن يمكنه أخذ كل شيء؛ فجزء منا سيعمر ويبقى.

     هنا بعد أن تغلغل القبح حتى النخاع في طرابلس؛ وفي قولوني المعطوب؛ الكتابة تهبني نفحة من خلاص، وقبسا من يقين أحتاجه لأصمد وقتا إضافيا؛ غير أن القصيدة أحيانا مخادعة؛ لا يعول عليها. وطرابلس كأحب مدينة بالنسبة لي أمست خلال سنوات الحرب أكثر تورطا في جهلها وكآبتها. وهي خلال هذه الليلة الشتوية غير الآمنة قد أشبعت بردًا وظلامًا، لا يكفان عن إثارة المنكدات العالقة بالجدران والكلمات والذاكرة. تحتم عليّ تجاذب الحديث مع نفسي؛ فأمّي عجوز مقعدة، وأنا الآخر لا شيء، فقط نصف رجل، يتشبث بقصيدة مارقة، مثل كلب يلوك عظما، هكذا أمسيت؛ كمن يربّي أفعى في كمّه، محض كهل معذب ينتظر عزرائيل. كلماتي التي ربيتها سنينا ترتدّ عليّ، والسرطان أتلف قولوني، وخرّب جهات حيوية من جسدي. استعضت عنها بأدوات صناعية من أنابيب وأكياس بلاستيكية غالية الثمن ولا تتوفر في سوق المعدات الطبية إلا فيما ندر؛ وهذا يقلقني؛ طالما يتعين علي استبدالها بين يوم وآخر.

     انقضت عشر سنوات كابدت خلالها الأمرين، وسواء أنفض الأحباء عني أو أنا من اختار النأي مكرها، إلا أن العزلة بدأت تثقل كاهلي؛ لأنك ما أن تبني جدارا بينك وبين العالم حتى تتكاثر الجدران وتنمو آفات المنفى؛ العالم هو الآخر سيزدريك وينبذك تماما؛ كأنك لم توجد في يوم ما. تراكمت وحدتي ولم أعد أحتمل المزيد من قتام منزل متهالك وفارغ إلا من الألم، والوحشة والرطوبة، وعجوز مصابة بالفصام لا تعرف ماذا تريد من الدنيا. قبل ذلك كان منزلنا بيتا حقيقيا وأصيلا، عامرا على الدوام بالحب والحياة والضيوف والحكايات. ماتت زوجتي منذ ثلاث سنوات، بل أكثر من ذلك، ربما سبع سنوات، وأبنائي؛ من لم تخطفه الحرب هج خارج البلاد، وانقطعت بعد حين أخبارهم عني. مذ ذاك تدفقت المحن وأمست المصائب تأتي تباعا. صرت سئما وملولا، سريع الغضب، لا أنفك عن تعنيف نفسي، وغالبا ما تستفزني ترهات عابرة لا تقوى على تحريك ساكن، وتثير حنقي لأخضع لانفعالات حادة يستمر هياجها أحيانا عدة أيام، لا عمل لي خلالها غير الشجار مع أرواح الموتى الذين تركوني وحدي.

      قلت محاولا مواساة نفسي المعذّبة: ما ضر لو أن قصيدة تمردت على خالقها. بضع كلمات مارقة لا ترغب في الخروج إلى الشارع؛ لا بأس، هذا شأنها. وحتى لا أستسلم لتقلبات مزاج قصيدتي التي لم تكتمل، واستعصت بتعمّد على أن تكون ملاذا لشجني، رأيت أن القصاص الشافي لغليلي يكمن في التخلي عنها، واللجوء إلى السرد.

      صحيح آن خبرتي في صناعة الرواية ليست بتلك الدربة، والثقة المفترضة في القبض على المقومات والخصائص الفنية المؤهلة لعمل الراوي المقتدر، لكن لما لا، سأجرب حظوظي ولتكن البداية كتابة سيرتي بطريقة صبورة ومتسامحة تأخذ الذاكرة كما هي، دونما امتعاض، سواء من فوضى الوقائع المشوشة واضطراب سياقها، أو من تعاستي في هذه الليلة وغيرها؛ كرجل مهدم، وأنه فقط يتعين عليّ استعادة ما تجود به ذاكرتي من أحداث عشتها طيلة ستين عاما.

       تضاعف في الخارج عواء الريح. تخيلتُ كما لو أن الظلمة لا النافذة هي من يرتجّ. ومن عزيف الريح إلى عزيف الروح استسلمت لهواجسي. تذكرت أبنائي عندما كانوا أطفالا، وألعابهم وحقائبهم المدرسية، وأرخيت خواطري مع أطياف شتى حتى لم يعد هنا أي صدى لعواء.

     حين استيقظت سمعت الصبح خلف نافذتي يغني بهيئة جوقة من عصافير. أعددت لأمي حليبا مخلوطا بالعسل، وفيما كنت أهمّ بحمل سًفرة الإفطار قلت لها من بعيد قليلا، قبل أن أراها وتراني: صباح الخير.

________

*سبق نشرها بموقع بلد الطيوب

الرابط:https://tieob.com/archives/34208


تقطير العزلة 1*

مفتاح العمّاري

من أعمال التشكيلية: دينا القلال


    في تلك الليلة قبل أن يشرع في كتابة جملة واحدة تفتتح قصيدة، كان ممتعضا من مسألة النظر إلى الاستعارات بوصفها محض سكن للمعنى، فتبلبل وهو يحرك أكثر من مجاز حار، لصور شتى تتنفس كنجمة وحيدة في سقف الظلمة؛ مما اضطره لتمزيق كل عبارة لا تنتسب لذلك النقاء النظيف من شبهة كوكب متغطرس، حتى لا تغدو استعارته مجرد ظل وحسب. ربما لأن الألم المجهول ما انفك يتغلغل منتعشا داخل مخيلته التي ما تزال بعد دهر مثل زنزانة مضاءة بأحزان الأسرى، وأنه مهما سعى لإضافة المزيد من الموسيقى وباقات الورد وإشاعة العطر والشموع الملونة؛ سيظل الأسى متربصا بكل عبارة اجتهد في إغوائها. وحتى لا يعيد كرة الفشل قرر هذه المرة أن لا ينتظر الهام الكتابة بل سيغزوها. كان رجاؤه الوحيد، وربما الأخير؛ أن تختزل القصيدةُ كل حياته التي عاشها، وان يحتكم إلى ما احتفظت به ذاكرته من وقائع قليلة افلح في إنقاذها من التآكل، مبديا في آن؛ كل اعتراف رصين بوظيفة النسيان

    لهذا استأنس فكرة أن يكون محاربًا، وقال لنفسه “ما الضير في أن أؤسس جيشا وأخوض معركة ضارية لغزو الكلمات التي لم تستسلم”. كان فقط يتوق لاستعادة أوقات مفتقدة، هي مفتاح السرّ الذي يمكنه من كشف كلّ ما تغلّق عليه حتى ذلك الحين، في رحلة المكابدة من أجل الإمساك بشيء تائه. وضع حرفا جوار حرف، حتى أمكنه أن يخفي ما بين السطور أكثر من امرأة تسعى لأن تكون شيئا خارج الجدار؛ حينذاك تريث؛ ريثما تأخذ العباراتُ وجهتها التي كان يخشى أن تخذلها قواها على تحمّل مشقة السفر، ومجالدة المجهول القادم؛ لأن الحياة حسب ما خبرها طيلة ستين عاما لها أوجه تتقلّب، كما لها دورات ماكرة يصعب التكهن بمزاجها لمّا تغضب. ” أنا جربت ما هو أنكى من أن يكون الجندي هدفا لنيران صديقة “. لهذا كان عليه التخلي عن عشرين كتابا، هي حصيلة مسيرته الأدبية في بلاد لا تقرأ، والتنصل مما حملته من ترّهات. كان يكفيه أن يسخر من نفسه؛ ليكون أبعد من مجرد حلم. وفي آن؛ ارتأى أيضا ضرورة التخلص من هواجسه السوداء؛ بوصفه أحد القتلى في حرب تشاد، وأنه لم يكن في يوم ما يتيما أو مشردا منبوذا من ذويه؛ فليس بالضرورة أن تكون مخيلته حاضرة كجزء من أرشيف العائلة. لأن الكلمة لا تحتاج كتابا، أو بيتا يطل على ثلاث لغات أو أكثر؛ فقط إذا ما تاقتْ أن تكونَ نهرًا؛ عليها أن تطير

_________ 
باب بن غشير 12 ديسمبر 2018 

*سبق نشرها بموقع بلد الطيوب.

الرابط  https://tieob.com/archives/34205


 

 

الخميس، 17 يوليو 2025

لديّ من المتع ما يغنيني عن انتظار الصدقات

 

                                                                                                                  مفتاح العمّاري 


              

«عارية نائمة» لموديلياني


     كان لديّ من المتع ما يغنينى عن انتظار الصدقات. وذلك بفضل مائدتكِ التي كانت دائمًا كريمة، حافلة بفلذات الأرض والقبلات المحظورة، حيث لدغات اللذة المحرّمة لها نكهة راحة الحلقوم. لكنني ماذا جنيت فيما بعد، غير رسم زبيبتا نهديك ونثرهما على مدار الليالي التي انقضت على الأسرة الصدئة في عنابر الثكنات. هكذا تعلّمت بعزيمة صبورة كيف ابني هرمًا على طريقة الفراعنة، لأحتفظ بجسدك طوال عشرين سنة ونيف، حارًا وفتيًا ومغريًا على الدوام. حتى في أثناء موتكِ، ما تزالين قادرة على ارتكاب المعاصي.

_______   

عمّان 16 اكتوبر 2016