وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الأربعاء، 29 نوفمبر 2017

نساء الصدف



مفتاح العماري

من أعمال الفنان التشكيلي : علي العباني


نساءُ الصدف


          كما لو أن الأيام قبض ريح ، وأنا الجندي ضرب من خزانة غبن ، هالك بين فردتي رحى الطاعة والعصيان؛ وبين ثواب وعقاب ، هكذا تشردت لغتي . فما  من عناوين هنا  أو علامات أتبعها؛ لكي أصف كيف كنت أنام وأصحو لأمشي عبر مسارب متاهتي ضاربا بقدمي أعمى معاجم صلدة من سرير المعدن إلى ساحة الأسمنت ، امتثل ردحا للجمع الصباحي مدمجا في طوابير وصفوف بلهاء. لكن ما أن يستيقظ شيطاني حتى أعود لتمردي وعصياني فأعاقب ، ثم أعيد الكرة تلو الكرة ، حتى أمست  سجون الثكنات أكثر راحة وألفة من عنبر سريتي حيث سريري المعدني، وأغطيتي وثيابي التي دائما تُسرق مع كل نوبة سجن. لم يعد لدي ما أتدثره  غير مخيلتي السادرة في ملكوت نعيمها الافتراضي،  وبطانية وحيدة رثة أتصالح مع نتانة أنفاسها وأتأبطها في غدو  ورواح  بين حبس وعنبر ، وبذلة شغل تهرأت أكمامها وفقدت لونها وتقطعت  أزرارها .
      الأيام تجري والعالم من حولي يتغير وأنا لا أملك من متاع هذه الفانية غير ضجيج أوهامي. تركتْ الكآبة حفرا وتضاريس غائرة  على خارطة وجهي وملامح صوتي، ندوبا وبثورا وتجاعيد  حطّت مبكرة. فكبرت قبل أواني ، وأمسيت كهلا في العشرين من عمري، كهلا خائبا وخاسرا، أينما وطأت تتربصني معامع وخطوب . بعد أن  تركني من تركني هكذا أتدبّر أمري دون أمر . ولا احد  يصغي إلي ؛ لأفضي قليلا بحيرتي وتلبكي . أهملني ذويّ والقوا بي في هذا المكبّ  تتقاذفني الصدف العشواء . فتشظّت مطارحي وتقطعت أوصال سبلي، لكأن تاريخي  محض صور ممزقة، يتعين علي وحدي أن ألملم تفاصيلها لربما ألمح شارة عطوفة تدلّني عليّ .

      لكنني لا أجد شيئا غير أطياف باهتة لنساء الصدف . اسنفرها بعصارة حنيني لتحتفظ بقداسة دفئها  . أرسم  "سلطانة"،  قافلة الرحمة التي انتشلت سيدنا يوسف من قعر الجب ، حاضنة ما تبقّى من طفولتي المهدورة على صفيح الفاقة ، الحنونة والعابثة واللاهية والمرحة .  سلطانة زوجة الشرطي الطيب ، وأم المشرّد  ، الوحيدة التي عناوين العاب وأسماء عائلة كريمة  وحقيبة متع  وفراش نظيف .  وسادتي التي مازال عطرها خالدا يجوب شوارع اللغات كلما استبدت براثن الفقد بخرائب روحي .  سلطانة أختي في كتاب الهبات الرحيمة ، البدوية الصغيرة بفمها المحلول لعبور العسل ، وصدرها الراضخ دون منّة للجوء النازح من تغوّل الأقربين ، وضراوة الرحم .


  ثم أفرد البياض شهوة كثيفة ،لأرسم  بألوان حارة وجه السنيورا " مانويلا " ثغرا باسما كرحلة إنعاش . هي محطة فردوس تستضيف  وافدا من سكان جهنّم .

السنيورا مانويلا :  طمأنينة أصابع تتخلل بنشوة ناعمة عاما من الصبا . ملاذ عابر لقارات الحلم  . استراحة محارب أثخنته ضراوة الغدر . فندق  من أوقاف الجنة تخدمه الملائكة . هيئة محلفين كرست رسالتها لإنقاذ البراءة من سطوة دساتير الغاب .

امرأتان كلتاهما ضفة نعيم ، الأولى  واحة ظل، والأخرى جزيرة نبيذ.
نساء الصدف ، هذا ما تبقى  من نسيج الأيام تلك، فقط لصناعة حكاية.