وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري
‏إظهار الرسائل ذات التسميات صور شمسية ،. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات صور شمسية ،. إظهار كافة الرسائل

الاثنين، 28 أكتوبر 2024

الى رضوان ابوشويشة (1)

 مفتاح العمّاري

       
 "فلتكن لوحاتي هي التي تتكلّم"


      عندما اقترح "رضوان بوشويشة" على نفسه الدنو من مشيئة الرسم حوّل الصمت الى حشد من الأصوات المحتجة، الى مظاهرة غاضبة باسم الخرس؛ وغدا خبير مناجم يفجر لغات من لهب؛ لكأن البراكين حرفته، تتطاير من لوحاته شظايا توقظ حرائق قديمة وتستعيد اسئلة لا إجابات لها تتعلقُ بشموس مهملة، وكهوف وحضارات بائدة. وظل رضوان في كل لطخة مهووسا الى حدّ التطرف بافتراض أحلام وعوالم لا وجود لها الا في حكاياته التي لا تأفل؛ فهو حكاء استثنائي من سلالة بورخيس، وربما ايتالو كالفينو، وغارثيا ماركيز. لم يكن الرسم سوى هداية حدس، جاءت كاستباق لفقدانه القدرة على الكلام، حيث تكفلت عيناه بترجمة هذه النبوءة الى حوار استثنائي خاماته من ألوان وقماش وورق بعد أن وجد في أدوات الرسم ضالته كتعويض لعاهة النطق ليتوغل عميقا في الرسم بكل حواسه ومخيلته وذاكرته وألمه وعزلته. بدا وهو يسرد سيرته اللونية كما لو كان يترجم مقولة فان كوخ: "فلتكن لوحاتي هي التي تتكلّم". ذلك لأنه كان متفانيا الى اقصى حد لكي يبث في الألوان شيئا من روحه بحيث لا تتمتع بألسنة وحسب؛ بل وهبها أجنحة واذانا وعيونا وتركها تفكر بمشيئتها. ونحن حين نحبّه انما نحب ليبيا بذاكرتها وموسيقاها واحلامها. ولأن رضوان غالبا ما كان لسبب وجيه يحاول أن يوقظنا من سباتنا، الى حد أننا بتنا ننتظر الصباح بفارغ الصبر. وحين أشرق لم يكن ذلك هو الربيع نفسه الذي لطالما تقنا اليه؛ فثمة هنا خديعة بصرية كبرى جعلت ربيعنا داميا وظلاميا. لهذا انتظرنا مرة أخرى.

_______ 

الجمعة، 25 أكتوبر 2024

ربّاية الذايح

                                                                                مفتاح العمّاري


__________" ربّاية الذايح "  


    بنغازي، مدينة تطل على البحر، لها منارة وقباب ملح، وشيوخ يرفدون سقف التاريخ بأعمدة الحكمة، وفتيان حالمون يعشقون بنات مدينتهم، ويدبجون رسائل العشق، ويفرغون احزانهم في مواويل المرزكاوي. بنغازي مدينة يتعذر نسيانها؛ هذا ما يساق خلال رحلة طويلة قطعتها الحكايات المشبعة بمجاز الشعراء، عبر ثلاثة آلاف عام، تبدأ من نبع الليثي. كذلك زهرة اللوتس التي أكد حكماء الماضي بأنها كانت هنا. فضلًا عن كنوز شتى تَكفّل المؤرخون بتذويبها كعصارة لمتون مخبوءة، لم تكتمل قراءتها بعد؛ فلا زال فن الترميم يضع حرفا إزاء حرف، سعيا لاكتشاف الكلمة الضائعة، التي أكثر من مجرد شجرة في متاهة رملية. يقال: من فرط فاكهة أسرارها انتشرت أخبار نعمها وظلالها في الآفاق البعيدة؛ فقصدها التائهون من كل حدب وصوب.


      ولكن ماذا بعد.؟ هل يمكن القول أن بنغازي بالرغم من مظاهر فقرها في ذلك الزمن الغابر؛ الا انها كانت تتمتع بطمأنينة باذخة. ليس لأن الحكم عادل، والطبيعة سخية و( الزرع صابة). بل لأنها _ أي المدينة _ كانت بعد مكابدة شرسة مع الحروب الطويلة التي خاضتها من أجل صد جحافل الغزاة، فضلا عن تلك المحطات الضاجة بالقحط والفوضى، تحاول انصاف نفسها بقليل من الهدوء، ولا ترغب في اثارة أيما شغب بما في ذلك ما يبدر عن ابنائها من شطط الحالمين. لهذا يمكننا القول أيضا؛ بأنها ستربيك فيما لو كنت لا تجيد شيئا غير الثرثرة، والتسكع، ومطاردة الكلمات؛ بغية استدراج حكاية فاتنة إلى غرفتك. وبذا ستذهب بك الظنون السيئة؛ بأن هذه المدينة الوحيدة في العالم التي تربى وجدانك في حضنها الدافيء.. قد بدأت تقف عائقا ضد طموحك وشغفك. هذا الشعور المؤلم الذي يوسوس لك، بأن خيالك أمسى مهددا؛ سينمو مع الأيام في داخلك الى أن يتحول الى فزاعة، ثم الى ورم عضال لا ينفك عن تصديعك وتكسير أفكارك الهشة؛ التي لا محالة سيجبرك حطامها على الفرار الى المجهول، لتغرب بعيدا عن أشباح بنغازي وليلها الضاج بالخوف والكلاب والقطط الضالة، عن نفاياتها وسجونها ومستنقعاتها، وترهات عجائزها وحكاياتها الخائبة، ومآتمها التي لا تكف عن الدوران. ومع ذلك سوف لن تمضي في غربتك طويلا  حتى تجد نفسك وقد عدت الى بنغازي في يوم ما؛ بعد أن هدك الحنين من كثر السكر والطواف والتعب. بيد أنه لكل شيء حد ومآل، لهذا لن يلبث مكثك بضعة شهور حتى يكتنفك السأم مرة أخرى. لأنه بمجرد أن تنطفئ داخل كهفك جذوة النوستالجيا، ستجد نفسك من جديد فريسة للترهات ذاتها التي كانت تقض مضجعك. وهكذا ستتألم هذه المرة أكثر من ذي قبل؛ لتعاود الكرة، وتهرب ثانية دونما أن تترك خلفك أثرا يدل على فرارك المفاجئ، ولأن كل من تعرفهم في بنغازي، بما في ذلك غرفتك نفسها التي تعودت هجرانك، يدركون جيدا بأنك مهما تألمت، ونأيت إلى أقصى حد يتخيله شخص معذب ومزدرى ومذل؛ قرر أن يهج مغتربا دونما رجعة؛ فحتما ستعود، وللمرة الأخيرة!. وكما هو متوقع، ستعود في صندوق مبجل، يحيطه الأسى والفراغ. لأن كلماتك هي الأخرى مهما ظلت بعيدة وصامتة ومحزونة، لديها ما تقوله لنا، نحن أبناء الملح الذين ثابرنا على انتظارك حيثما كان باعة كتب وصحف، وحيثما وجدت أحلام خصبة، ومكاتب بريد ومحطات سفر . وحيثما كنت؛ كنا على يقين بأن السر يكمن دائما في تلك الجاذبية والطاقة التي تملكها كلماتك، تلك التي تحتفظ بمآثر ثمينة، ذات مخزون وافر من الإستعارات التي لن يفهمها أحد من سكان الضفة الأخرى. فقط كنا دائما في انتظارك، ومهما حاولت أن تنأى، تضاعف عزمنا على الإحتفاظ بذاكرتك كما لو أنها كنز لا يفنى. هكذا لن تكون غائبا بيننا.

لعل هذه الحكاية وما يحذو حذوها من مجازات ثرية بالمعاني، تومئ، أو هي تشير دونما تحفظ الى فارس بعينه، أو أكثر من مريد؛ وقفاء أثر. جلهم كابد المصائر نفسها، حتى تحولوا هم أنفسهم إلى أسماء جهات وعناوين رحيل ، إلى جبال يمكن الإستدلال بها، إبان السفر من كتاب الى كتاب، واقتفاء آثارها عبر المدن والبلدان العظيمة التي كانت  في يوم ما، مسرحا لهذه الحكاية أو تلك.

لهذا كانت بنغازي منذ القدم؛ صانعة أحلام وحكايات ومصائر. أزعم أنا "مفتاح العمّاري" بأنني قبل نصف قرن، وتحديدًا في شارع سيدي عبد الجليل، كنت قد بدأت في تأثيث حكاية ما، تخصني وحدي. حكاية أخرى من حكايات الملح، لم تنته بعد.

_______________

 


الأربعاء، 28 أكتوبر 2015

رقصة الحصان الكوري


مفتاح العمّاري

غانغام ستايل




    في الميكرو باص  (Iveco) كعلامة ليبية مسجلة من حيث توفّر سبل الراحة والهدوء والطمأنينة ، بفضل سائقيها الشبان الذين كما يبدو ، هم دائما في حالة من النشوة  والتوهان ، وكأنهم يقودون تحت تأثير السكر . فجأة ارتفع عبر مكبرات الصوت ، صخبُ أغنية ( غانغام ستايل ) ، فأبتهج طفلي آسر  ذو الست سنوات وهو يلفت انتباهي الى الأغنية مرددا اسمها بطريقته ( جام ستابل ) . فادهشتني حالة تعلقه بالأغنية ، وقلت في نفسي أن هذا الجيل قد تفوق علينا من حيث المعلومة ، فهو يعرف كل شيء . كنت أدرك أن التلفاز قد  أسهم في توجيه حواسنا وإعادة تكييف وصياغة ذائقتنا وميولنا وشغفنا . ثم انتبهت في اللحظة ذاتها إلى  أن معظم الشبان من ركّاب الايفكو قد بدأوا يتمايلون ويحركون رؤوسهم تبعا لأيقاع الأغنية ..وهكذا قطعنا مشوارنا ، من حيّ باب بن غشير إلى شارع عمر المختار ، على إيقاعات  أشهر أغنيات الراب بنكهة كورية جنوبية . أثناء سيرنا أنا والصغير عبر الرصيف المحاذي لواجهة معرض طرابلس الدولي ، كان ضجيج أغنية الغانغام ما يزال يتردد في كومة رأسي . وكنت أتساءل بيني وبين نفسي عن السرّ وراء تلك الزلزلة التي احدثتها شطحة مغني الراب الكوري الجنوبي ، ساي  ( بارك دجاي سانغ ) ،  عبر أغنيته الضاربة  تحت وقع رقصة الحصان الكورية أو الحصان الخفيّ ، والتي غدت بين ليلة وضحاها أشهر من نار على علم ..  غزت معظم خرائط وأقاليم العالم ، واكتسحت  كبرى الساحات والميادين في أمّهات عواصم أوربا ، واثارت ضجيجا وجدلا وصخبا  له أول وليس له آخر  ، ولا سيما بعد أن خلخلت وقوّضت عروش زعماء وملوك وقياصرة الموسيقى ، وهزّت امبراطوريات الطرب وأطاحت بألمع كواكب ومجرات ونجوم الراب والبوب والروك والتانغو والسيمفوني ، بعد أن اكتسح مغناطيس جاذبيتها السحرية  أرقاما قياسية حطّمت المعقول واللامعقول ، حيث استطاعت أن تهيّج جموح المراهقين ، وتستدرج رقص الأطفال ، وتخلخل رصانة الكهول ، وتلعب بأوتار الشيوخ والعجائز، وتمكّنت بقدرة عجيبة ،  لا عهد للفن بها ، وفي غضون أشهر قليلة  - تعد على أصابع اليد الواحدة -  من استدراج قرابة المليار زائر على اليوتيوب ،* الأمر الذي لا سابق له ، بل يعد فتحا جديدا في عالم الفن والطرب والغناء والرقص والموسيقى . ما هو السرّ الذي وهب هذه الأغنية جاذبية لا تضاهى ، وجعل من مغنيها المغمور نجما عالميا يتلقى الدعوات ويجوب العالم ويحصد الجوائز  ويحظى بشرف ضيافة علّية القوم من صنّاع القرار  وأبرز الأثرياء والنجوم وكبار رجالات الساسة .   هل  أمسى العالم  هشا وتافها ومائعا إلى الحد الذي  تُهزّ  فيه أردافه مع إيقاعات وأنغام أغنية بسيطة ذات كلمات متواضعة فنيا ، و( بلغة كورية ) غير مفهومة خارج موطنها .السؤال نفسه سيعيد صياغة جملته بدهشة أخرى إزاء تلك الميزة التي وهبت هذه الأغنية قدرة فائقة وسرعة ضوئية مكنتها من عبور القارات ،بشتى ألوانها ولغاتها وأجناسها ومللها وثقافاتها ومعتقداتها ، لتكتسح  وفي سهولة ويسر قلاع العالم بقضه وقضيضه، في غضون أسابيع قليلة .  من يجيد اللغة الكورية الجنوبية يقول أن ابنها البار، المغني ( ساي )  يتهكم في كلمات  أغنيته الصاروخية ، وبطريقة في غاية السخرية والشرشحة من سلوكيات ومظاهر وعادات سكّان حي ( غانغام ) ، أحد أحياء سيول المعروف بمحاله وأسواقه الفاخرة ومطاعمه المفضلة لدى المشاهير . هكذا أغنية ساخرة وقصيرة ، مصحوبة بحركات تسمى ( رقصة الحصان الكوري ) ، وتلهج بكلمات لغة  مغمورة، تمكّنت من أن تحظى  بكل هذا الإعجاب ، مرحبا بها من كافة سكّان قارات العالم بمختلف أديانه ومشاربه وحضاراته ،  في الشرق والغرب والشمال والجنوب  ،لتحظى  باحتفاء جامح وصلت حماسته إلى أقصى درجات الشغف والجنون . هل ثمة سرّ غامض وخفيّ  وراء صعود هذه الأغنية الفلكية ؟ كيف يُكتب لها كل هذا الانتشار اذا كان معظم الملايين الذين رقصوا وهاجوا وشطحوا  مع أنغامها لا يفهمون كلماتها ..؟  هل هي ضربة حظ عشواء كما خمّن البعض ، أم السرّ يكمن في ضربة سوط على ظهر الحصان الكوري ، هي التي  ألهمت المغني (ساي)  بهذه الرقصة السحرية التي هزّت أوساط آسيا وأوربا والولايات المتحدة وكندا وافريقيا ، بل وصلت الى عقر دار الناطقين بلغة الضاد ، فها هم - كما تردد في بعض المواقع الاخبارية - شبان من أنصار الراب السعوديين ، قد تفننوا على طريقتهم بتقليد حركاتها وهم يرقصون بقمصانهم الطويلة البيضاء ، بعد أن اخترقت غانغام ستايل أوساط اللبنانيين ، وحتى بعض الشباب السوريين - والعهدة على الراوي  -  لم تقف محنة وطنهم حائلا بينهم وبين تفويت متعة الرقص صحبة إيقاع الحصان الكوري . من السذاجة والحمق أن تعد هذه الظاهرة مجرد نزوات عابرة ، لحظة أن تظلّ  محيّرة ومربكة ، بل ومتعذّرة الفهم ، كذلك يعد من الحمق ، بل من الغباء اعتبارها محض طفرة ما تلبث أن تزول ويلفها النسيان ، كسحابة صيف (خلّب) ستنقشع مع أول هبوب للريح ، من دون أن تترك أثرا . هذا التبسيط والاستخفاف بظاهرة غنائية كونية جلبت قرابة مليار مشاهد  قد يكون مخلاً على نحو ما ، حين يغفل بأن أغنية الحصان الخفي هي في حقيقة أمرها كثيرة الشبه بحصان طروادة .. حيث لا يكفي القول بأنها تندرج ضمن تفشي ظاهرة تسليع الفن المعولم ، لحظة ترجمة هذه الطفرةُ  ووضعها ضمن إطارها وحيزها الإعلامي ومجتمعها الافتراضي .. لأن آلةَ العالمِ بدأت تعمل تبعا لجاذبية  الإعلان الفضائي  ، وسحر ( الصورة ) و (الإيقاع) ، وأن المسألة برمتها تتعلق تحديدا بتحريك الجسد ، لا الوجدان . ولعلّ توظيف الإيقاع الوحشي هنا ، بعيدا عن روح الموسيقى  ، كان له تأثيره و سلطانه  في تهييج تلك اللغة المشاع ، التي تخترق الحواس،وتهزّ الأبدان من دون أيما حاجة للفهم ، حيث يكفي هنا صناعة المتعة وحدها . هذه الأسئلة – وبنوايا حسنة -  تنبش على نحو ما ، موضع البراءة ، وفي الأثناء ، لا تهمل نوايا المكر والخداع في هكذا صرْعات عابرة للقارات ، فهي حتما ، ومن خلال تراكماتها ، ستمحو قيماً وتضيف أخرى بديلة . لكن ، وفي نهاية  مطاف هذه الرقصة الكورية الكاسحة، ألا يحق لنا أن نخشى على قيمنا من غزوات مريبة ..  وحتى لا نتوه بعيدا عن موسيقانا  ولغتنا  وأشعارنا وحكاياتنا ، يحق لنا أيضا – كحد أدنى -  أن نسأل أنفسنا ،  ما الذي يحدث في هذا العالم . فقط هذا كلّ شيء . يقول العارف ، عوضا عن استنطاق أغنية ساذجة ، ومكابدة البحث في أعطاف كلماتها وموسيقاها عن معجزات لم  ولن توجد ، تقتضي الحكمة التوقف قليلا ، والتنقيب في داخلنا ، بدل أن نذهب بعيدا لنضيع في متاهة لغات لا نفهمها ، لأنه والحالة هذه ، علينا الاعتراف بأن الخلل يكمن في ما وصلت اليه ثقافتنا السمعية والبصرية من تشوّهات قيمية مسّت الجوهريّ فيها ، فقد يحقّ لك أن تغني وترقص بكل الإيقاعات والأنغام القريبة والبعيدة ، الأليفة والوحشية ، بشتى هوّياتها ومواطنها وسلالاتها  ، من محاكاة مخلوقات البتلز الى كائنات الراب ، مرورا بالشطح على ( بنادير الحضرة ودرابيك المرزكاوي )  والدبكة والزار والراي والكاسكا  ، مثلما يحق لك أن ترتدي ما يلبّي رغبتك  من أزياء بشتى ماركاتها وصرعاتها بما فيها سروايل النصف ساق ، وحتى النصف مؤخرة .. وأن تطلق لشهيتك العنان لشتى اصناف المأكولات التي تجود بها الاعلانات ومطابخ فتافيت والشيف رمزي ، ولك مطلق الخيار  في المفاضلة بين البازين والعصبان مرورا بالهامبورغر والبيتزا واللازانيا ، الخ .. وبالمثل يمكنك  أن تزاحم خلق الله ، وتقلّد وتتماهى وتستأنس وتروم وتشغف وتحب كما يحلو لك . فقط ثمة سؤال ملحّ وضروريّ ، يعد من الحمق لو لم تتوقف عنده قليلا ، وهو : كيف تسمح لنفسك بكل هذا التطفّل لتستهلك منتجات الآخر ، من الابرة الى التلفاز / من عودالثقاب إلى المصباح الكهربائي والقطار والطائرة والدبابة والصاروخ/ من ورق التواليت إلى السفينة ،/ من القلم إلى الكمبيوتر / من السينما إلى الموسيقا ، مرورا بمكياج زوجتك ، والعاب طفلك ، طلاء غرفتك وأثاث واكسسوارات بيتك وبكل أدواتك ومستعملاتك اليومية : قداحتك ، مفاتيحك ، علبة سجائرك ، جواربك ، أحذيتك ، قمصانك ، عطرك وقهوتك وساعة يدك وهاتفك الجوال . من حضرة الايفكو  الى  بلاط الرصيف .. بينما أنت لست شريكا حقيقيا في صناعة هذا العالم ، لأنك في حقيقة أمرك خارج المسهمين في تنضيد نسيجه وتاثيث حلمه وثقافته ورؤاه ، ثم وبكل يسر ، ها أنت لا تجد أيما غضاضة  بهزّ اردافك والانجذاب بكل خفّة ، بمجرد أن ترتفع ايقاعات اغنية غانغام ستايل . ثم تتساءل  في حيرة ، ما السرّ ؟ . كما قلت لك ، وحتى لا نتوه  بعيدا ، أن السر لا يكمن  فيما تعتقده من تفاهة العالم . بل عليك اذا اردت معرفة السرّ ، أن تنظر أولا تحت قدميك قبل أن تتأهب لخطوتك التالية خارج عتبة بيتك . لأن الفتى الكوري ( ساي ) ، بعد أن رصف أهله وذووه الطرق  وبنوا  المصانع والأبراج والقلاع  والأنفاق والبوارج والقطارات ، وبرعوا في فنون مخترعات التكنولوجيا الالكترونية والدقيقة  والرقمية ..وغيرها من الابتكارات العظيمة ، فكّر هو من جهته في اضافة لمسة يسيرة  ومتواضعة الى موسيقى  العالم ، فلجأ الى تطعيم الراب بنكهة كورية ، وقبل أن يرقص في باريس ولندن وواشنطن ، اطلق أولا حصانه الكوري في ميادين  سيول . لهذا وذاك منحته بلاده وسام ( أوكوغوان ) للأستحقاق الثقافي ، والذي يعتبر من أرفع الأوسمه في كوريا الجنوبية . ألم أقل لك : علينا أن نفكّر أولا ، حتى لا نضيع مرة أخرى .
_____
*كتبت هذه المقالة في أواخر 2012

الجمعة، 14 أغسطس 2015

توطين الفوضى


                                                                                                     مفتاح العمّاري


                               توطينُ الفوضى  





        خلال الأسابيع الأولى من نشوةِ انتصار ثورة التحرير شهدت الحياةُ في ليبيا تضامنا مغمورا بمباهج لا تًضاهى ..عندما أصبح كل شيء مضمّخاً بنكهةِ الفرح ، وصارت البسمةُ البهيجةُ لغةً مَشَاعَاً ، تعبِّرُ عن أبجديةِ التضامن والتآزر والتضافر بين الليبيين ، لحظة أن تفوّقت النفوسُ على آلامِها  ومواجِعها وتهدّمِها وخسائرها ، وتجاوزت الشوارعُ خرابَها وبؤسَها وبشاعَة نفاياتِها وأوبئتِها العالقة .. وانخرط الجميعُ في تنظيم حملات تطوعيةٍ لمؤازرةِ الجرحى وأُسَر الشهداء والمفقودين ، فيما تدافع الشبيبةُ ذكوراً وإناثا لنظافةِ الأحياء وشوارع المدن ، وتنظيم حركة المرور ، وتسيير عمل الأفران ومحطّات الوقود ، بل والتطوّع لجلبِ صهاريج مياه الشرب وتوزيعها مجانا على الأحياء ، عندما انقطعت المياه عن العديد من المدن والبلدات ، ناهيك عن تكاتف حراك مؤسسات المجتمع المدني التي بادرت بالعديد من المناشط التطوعية الخيرية ، من جمع التبرعات وإقامة البازارات والمهرجانات الخطابية .. وزيارة الجرحى وأسر الشهداء  . ما أروع أن نستعيدَ تلك الأيام محمولة بأصداء التكبير ورفرفة الأعلام والزغاريد والأناشيد .
   
      لكن يبدو أن استشعار طعم الحريةِ بعد دهرٍ من الحرمانات والمكابدات المريرة  ، وما تشكّله من ضخّ مباغت وعنيفِ في شرايين المنتصر بجرعات حارةٍ من  فائضِ الثقةِ المفرطة التي يصعب مقاومة نشوتها في  جموح كيانه  وقوته ، حينها لا غرابة  في أن يستسلم المنتصرُ لتدفقِ حماستِه وعنفوانِه ، تلك الصدمةً قد فعلت فعلها  إلى الحدّ الذي التبست فيه جمالياتُ الحريةِ بتشوهات الفوضى .   فما كادت تنقضي الأسابيعُ الأولى حتى بدأنا نشهدُ تفاقمَ سلوكيات مشينة تَشِي  بحالةٍ مزريةٍ من حمّى الجشعِ والتكالب والتهتّكِ والانفلات ، إذ استغل من به طمع ذلك الفراغ في مؤسسات الدولة ولا سيما الأمنية والضبطية والقضائية ، ووجدها سانحة لا تُعوض في ممارسة انتهاك  القوانين..  وقد وقفنا جميعا على العديد من الأنباء والأخبار المروّعة من حوادث الخطف والقتل والسرقة والنهب ، يقوم بها أشخاصٌ مسلحون ،انتحلوا دونما غضاضة ، صفةَ ثوارِ مَا بَعْد التحرير .. بعد أن وجدوها فرصة سانحة لتصفية حساباتهم مع الماضي والبطالة والتشرد والتسكّع لينتقموا ، كل  بطريقته ، حيث  يكفي في الحدّ الأدنى الحصول على  قطعة كلاشنكوف ، كمؤهل يكفل لصاحبه الانضمام لأحدى الكتائب الناشئة والمشبوهة ، التي انتشرت وقتها كانتشار النار في الهشيم . هكذا بدأت الفوضى تفرض إيقاعها وأسلوبها وأبجديتها ، ففي غياب تفعيلِ القضاء  وتطبيقِ القانون لا غرابة أن تستشري مثل هذه الأمراض ضاربة عرض الحائط بكل النظم والأعراف ومعايير الأخلاق الآدمية والحياة المدنية .. لينسحب تهتكها على كل ما يمس أمن وحياة المواطن : سطو مسلح ، اغتيالات ، قفل شوارع  ومدارس ومؤسسات دولة ، بل أحياء  بكاملها يتم أحيانا غلقها وسدّ منافذِها لمجرد أن بضع بنادق صدئة ومعتوهة من فصيلة الكلاشنكوف قد ثملت ، وبذا قد أرادت لأمرٍ في نفسِها الإعلان عن حضورِها  كيفما يروق لها ، لتفرض بين الحين والآخر جزءا من إيقاعها ، وتفضي بنا إلى أكداس من الجرائم البشعة التي يتعذّر هنا سردَ تراجيديتها . لذا يقتضي الحال أن نتفطّنَ – وبالضرورة - بأن ثمة من يتربّص بهذه الثورة المباركة ، ويحيكُ ضدَّها الدسائسَ والمؤامرات قصد تشويهِها وتقويضِها وتعطيل مسيرتها ، وبصورةٍ خاصة حين نَرُوزُ تلك الجرائم الفادحة والخطيرة ، والتي لا يُمكن الاكتفاء فقط  بإدراجها ضمن وتيرةِ الفوضى والانفلات ، ومن ثم لا ينبغي أن تمرّ مرورا عابرا ، ولا سيما حين يؤدي  تفاقمها إلى تعطيل بناء المؤسسات العسكريةِ والأمنيةِ والقضائيةِ عبر تهديدِ وخطفِ وتصفيةِ قياداتها وكوادرها  واقتحام مقارها ، مما يسبب في شلّ تطبيق القوانين وبطء  تفعيل القضاء عبر العديد من المظاهر التي تستعرض عضلات السلاح  وتفرض  أبجديتها ولغة حوارها بفعل الرصاص المتغّول والرصاص الغامض .
ونحن  حين  نطالب  الكلاشنكوف أن تلتزم بشرعية الكلاشنكوف ، بأن تكون لنا  ، لا علينا ، أن تحمينا ، لا أن تُرهبنا ، وتزعزع استقرارنا ..  نعني هنا أولاً وأخيراً كلاشنكوف المقاومة وحرب التحرير ، الكلاشنكوف  التي أنحازت للثورةِ  لا ضدها ، كلاشنكوف التكبير التي حققت النصر وبشّرت بالحرية ، كلاشنكوف الثوار ، لا المندسين .
_____


الجمعة، 31 يوليو 2015

الضوء أحمر .. لا تمر *



مفتاح العمّاري


  الضوء أحمر لا تمر



الشاعر لطفي عبد اللطيف
                                            
§          هل يعدّ موت الشاعر حدثا يمكن أن تقف لأجله الأمة بأسرها لدقيقة واحدة كوقفة حداد ، لأنه قد أشعل النار في أصابعه لكي يضيء عتمة الحياة . وهل مازال ثمة أحد يؤمن بجدوى الشعر ويترك حيزا دافئا من أرفف ذاكرته لإيواء قصيدة واحدة . يبدو أن الزمن الذي كانت تستيقظ فيه الروح قد ولّى .. ولم يعد العالم يبدي اقل التفاتة لهؤلاء الحالمين الذين أخذ لمعانهم يخفت مع مرور الأيام ، بعد أن أمسى الشعر محض بضاعة كاسدة  لا سوق لها . والاّ كيف نفسّر هذا الجحود حيال تجربة شعرية ظلّت تصدح لأكثر من أربعين سنة ثم تخمد فجأة من دون أن تنال جائزة واحدة ، أو تحظى بذلك التكريم الذي يليق بمهابة الشعر وحضور الشاعر . قبل ذلك غادرنا  (الجيلاني طريبشان )  .. تاركا رؤياه الحزينة تصهل وحيدة في ممرات أيامنا الخائبة ..واعترافات قلقة تمزّقت رئة معانيها وهي تنتظر من يلتقطها من عتبات السهو  المؤكسد والنسيان المقيت , وها هو لطفي عبد الطيف ، يرحل في هدوء مريب ، وقد أودع في وصيته  المبعثرة ، حشدا من علامات الاستفهام التي لا أحد في مقدوره فك شفرة أسئلتها المستعصية . أن يموت الشاعر ، على هذا النحو المحايد من الصمت الثقيل ،  فاجعة تحيلنا إلى وجود أزمة ثقافة عربية تتفاقم يوما بعد يوم ،كأنها تشي   بنهاية هذا العالم . وما موت الشاعر  والشعر على هذا النحو سوى إشارة  للخراب  . 



§       " هنا قبر
         سيحضنني ولا عيدا لميلادي
         إذا ما أنهد إعيائي وإرهاقي ، وإجهادي
         لأني يا أخي في مهد أجدادي
         وأجدادي هنا ماتوا  ..
         وسوف يجيء أولادي
         ولا يبكون فالأجيال لا ترحم
         لأن جدودنا ماتوا ولم نرحم
         إذا علقم ؟ ..
         إذا مرّ ؟ .. تذوق يا أخي المجرم ..
         ولكن أنت لم تجرم  ..
         ولم نجرم  ..
         فقد جئنا وقد نمضي ولا نرجع
         فسوف يضمنا البلقع
         وسوف تضيفنا الأطلال
         ليس هناك من يفجع  . ( 1 )
          


§        لست ادري لماذا أشعر بتأنيب الضمير إزاء موتك أيها الشاعر ، وكأنني قد اقترفت ذنبا ما ،  أو صوّبت مسدسا إلى ظهرك وأطلقت الرصاص دون رحمة  . وعلى الرغم من أن رحيلك كان مسالما ، وقد حزمت حقائبك من دون إثارة أيما  ضجة ،  وهيأت خيالك بهدوء شفيف للسفر بعيدا , السفر النهائي ، الذي لم يكن صاخبا أو مفاجئا ، لكن أمرا ما يظل دائما يحيرني ، كلما ارتدى شاعر كسوة البياض تلك  ولاذ بمحطّته الأخيرة . أعترف هنا بأنني قد تواطأت مع كسل الكتابة عنك .. الكتابة التي طفقت تؤجّل نفسها دهرا .. ولا سيما أن "  أكواخ الصفيح  "  ( * ) تعد دائما- بالنسبة لي - تجربة أثيرة ودافئة تحتل موقعا خاصا من حميمية قرابة الروح التي بذرت مودتها في حقول الشعر قبل أن نلتقي .  كنت أتخيلك أيها السندباد ،  بسحنة ريفية تجعلك كثير الشبه بذلك الفتى الذي وسم غلاف الأكواخ . وحين التقينا مصادفة ، ولأول مرة في أواخر عشرية الثمانينيات ، شعرت كأن أحدا قد تسلل في غيابي وغير ملامح ذلك الفتى . فقد بدوت أكبر سنا مما كنت أعتقد ، ولم تكن بتلك النحافة التي صاغت مخيلتي شكل تضاريسها البائسة .. وهو الإحساس ذاته الذي راودني قبلها بقليل حين نكشت مطامير " حوار من الأبدية " الذي بدا كأنه قد مارس خيانة ما لسكان أكواخ الصفيح . حيث تسلطت الأدلوجة وحدها  لا القصيدة  ، وبدت هي المستبدّة على نظام الخيال الذي لا نظام له ، وهندسة القصيدة التي تضيق  حريتها  كلما هيمنت على فضائها  أدوات المهندسين ومساطرهم ووحدات قياسهم . ورغم ذلك ظل فضاء أكواخ الصفيح يحتفظ بنكهته الأولى وموقعه في سياق تاريخية مشهدنا المحلّي كعلامة وضيئة في  مشروع ديوان الشعر الليبي الحديث والمعاصر .


§         كنت ، في صباي  قد تعرفت على ذلك المتن ، والذي بدا متواريا ومهملا  ومنسيا ، ولم يحتل في خارطة القراءة النقدية تلك المكانة التي  تليق به . كذلك لم ينل ما يستحقه من الاحتفاء ، أو   يحظى كحد أدنى  بإعادة طباعته ، الأمر الذي يفضح مدى قصورنا وعدم أكثرا ثنا بالحياة الشعرية . وهذا السهو قد انسحب على معظم عناوين مدونة الشعر الليبي  ، بما في ذلك ميراث الشاعر الفذ ( على الرقيعي ) الذي أهملت جميع مقترحات إعادة طباعة منتوجه الشعري.
§        في سنة 1970  قرأت أكواخ الصفيح ، وقتها كنت لم أزل  أحبو ، محاولا  تعلّم التقاط المعاني المطروحة قريبا من ضفاف الحقول التي في متناول  أصابعي المرتبكة  . كان لطفي عبد اللطيف من بين الشعراء الذين يمشون كجرح نازف . لم أنتبه في أول الأمر إلى منشئه وموطنه الذي التبس بجهات أخرى  .. لأن وقع اسمه قد اقترن في خيالي الصغير بتخوم المنفلوطي ، حتى عندما كنت أستسلم للنوم على وقع زخات خياله الطفل وهو يهطل ضاربا صفيح أكواخنا القديمة ،  أو لمّا  أستيقظ ثملا بأحلام خجولة وقد تعثر حذائي  الثقيل بعتبات الفقر، قدرنا المبصر الذي تركت قساوته مسارب شديدة  الأسى في دروب القصيدة . حتى في تلك اللحظات التي تهرب دائما  إلى الحدّ الذي يصعب استعادتها هنا ،  كان الحزن في رحلته من الريف إلى المدينة ، وتجربة اليتم المبكر ، ووصف أيام الدراسة ، أكثر شبها بي ،  وأكبر من أن تسعه قمصاننا الممزقة وفضاءات علب التنك التي كنا نتكوم فيها مثل النفايات .  قرأت   المقدمة التي وسم بها الشاعر أول الديوان .. واستوقفني تشبثه بالمدرسة الحديثة في الشعر العربي المعاصر . وانحيازه لها.. كذلك كان له الفضل في تعرفّي لأول مرة  على أسم الشاعر العراقي : عبد الوهاب البياتي الذي استشهد بشطرين من أحدى قصائده للتدليل على  ضرورة شعر المدرسة الحديثة ، وهما " فقراء يا قمري نموت ... وقطارنا أبدا يفوت "   وفيما بعد حاولت تقصّي بعضا من نتف سيرته .. مقتفيا آثار خطواته من باريس إلى تونس و بعض العواصم الأفريقية ، من دون أن افقد تلك المهابة التي تقتضيها قداسة الشعر متهجيا عناوين ضياعه .. حتى أنني في بعض الأحيان كدت أغبطه  على تسكّعه الجميل . لأن التوق لمعرفة خرائط العواصم الأخرى وسبر ذاكرتها يظل دائما طموح الشعر الذي هو بداهة صنو سفر لا يكفّ . وأيضا لأنني كنت في ذلك الوقت قد ضقت ذرعا بحياة  الجندية في الثكنات الكالحة  التي  تجعل من الوقت وزرا ثقيلا  يجثم على ظهورنا النحيفة . وبدوت أتطلع دائما إلى شيء يومض خلف الأسلاك الشائكة . لهذا كانت قصائده رفيقة ليل ، ودليل حلم يطرد قتامة عنابر النوم ، وأنا أرددّ في السر مفردات ..  رحلته الثالثة  :  

§       " في الصفيح
يجلسون القرفصاء القاسية
يمضغون اليأس
يجترون في إفلاسهم  افلاسيه
والبواخر قاطعات المد حولي راسية
ربما سافرت يوما وانتهت انفاسيه
ربما حطّمت يوما كاسيه
ما انتهيت  ولم أزل أمشي كذا شاء القدر 
لم ازل أذكر إنسانا على ذاك الممر
حيث قال الضوء أحمر لا تمر  "  (2 )
_____________  
*كتبت هذه الكلمة بعد وفاة الشاعر بأيام قليلة ونشرت حينها في مجلة المؤتمر ضمن صفحتنا الشهرية الموسومة : غربال .
**  أكواخ الصفيح : مجموعة شعرية  ( لطفي عبد اللطيف ) صدرت سنة 1967 عن مكتبة الفكر . طرابلس / ليبيا.
(1)  من قصيدة جنيهات ( أكواخ الصفيح ) .
(2) من قصيدة الرحلة الثالثة  ( أكواخ الصفيح ) .


فقط .. نريد أن نفهم *



مفتاح العمّاري



فقط ..  نريدُ أن نفهم






       كأن من يحاول زعزعة أمننا ، يريد تحويل ليبيا إلى مضخة خوف ، ومنطقة  عنف وإرهاب ، وإلا كيف نفسّر سيناريو الاغتيالات في بنغازي ..  ولماذا تحديداً تمّ تركيز وتكثيف هذه العمليات على بنغازي من دون غيرها ، لكأنها منطقة صيد مفتوحة لأعمال الترويع والاغتيال والخطف والتخريب  . ألا يحق لنا بعد كل هذه العمليات الإرهابية أن نسأل عن هوية هذه الجرائم ونوايا وأهداف مرتكبيها المجهولين ، أي  من وراء تصعيد وتيرة هذا التفخيخ والتلغيم والقنابل الموقوتة ؟ و لماذا يحدث ذلك في هذا الظرف الحساس والتوقيت الاستثنائي بالذات ، وكيف نفهم أن يظل حتى الآن الفعلُ من دون فاعل ، والجرمُ بلا مجرم . لا شك ستكون المسألة محيرة ومتعذرة الفهم ؟ لأننا بطبعنا نخشى الجرائم الغامضة ،  والجرائم المباغتة ، والجرائم التائهة ، والجرائم العمياء  والخرساء ..  حيث الوضوح لم يعد وضوحا إلا بكونه غامضا ومتسترا ومتواريا ، ولا الشارع جزءا من الطمأنينة، ولا البيت منزلا آمنا  يمكن تربية هناءته وأحلامه وتطلعاته ورؤاه ..حتى اختلطت علينا أحلامنا ، وأمست تصاويرها وأصداؤها  سليلةُ عنفٍ وإرهاب ، فأضحت من ثم بهيئة كوابيس استمرأت صور العنف ودوي القنابل حتى تحولت  الانفجارات إلى إيقاعات يومية ترافقنا لحظة بلحظة ..  فلم نعد نميّز بين الواقع واللا واقع  ، وبين الثورة ونقيضها . طالما رامت خرائط الدم تشكيل ملامح الأسى  ، ورسم تضاريس الخوف ..  الخوف على الوطن والثورة ، لأن ما يحدث في ليبيا يبدو  أحيانا أكبر من خارطة إقليم بلد صغير يطمح للحرية والعدالة والتقدّم ، وأبعد من أن  يُشار إليه إلا بكونه أكثر غموضا من الغموض نفسه . طالما أن الغموض هو الصفة الواضحة والبينة والمعلومة ، وأننا أمسينا  نقبض على الغموض  كمشتبه ومتهم ومدان وحيد في كل ما يرتكب من جرائم وانتهاكات وقلاقل وخروقات ، وأن الغموض وحده لا سواه هو ما تبقى من أدلة دامغة لا تضيف سوى المزيد من العمى والتيه والقلق والشتات .. حين لا يقود الغموض إلا إلى غموض سواه  أكثر عتمة وقتامة وتشابكا وتلبكا . فعبر هذه التأتأة  ،وهذا العيّ ،  وهذا التعتيم لملامح الواقع المضبّب ، تحضر الجنايةُ ويغيب الجاني ، نعرفُ الضحيةَ ونجهلُ الجلاد ، نرى الجريمة ولا نبصر المجرم ، ثم نرفع  الفعل تلو الفعل  مبنيا على مجهوله وغموضه وتواريه . وكأن القتلة والجناة يرتدون طاقية إخفاء . ليظل الخفيُّ خفياً ، والغامضُ غامضاً ،  والسرُّ سراً ، والمجهولُ مجهولاً ،  والتيهُ تيهاً ، والشتاتُ شتاتاً ، حتى صرنا نشك في أنفسنا وأبنائنا وأشقائنا وأصدقائنا وجيراننا ،  طالما لم نعرف بعدُ هويةَ عدونا ،  وطالما نستيقظ كل صباح على تفجيرات معلومة بقنابل مجهولة .. نعرفُ أسماء وعناوين وجهات وأصول وأنساب الضحايا والقتلى  والمخطوفين ، فيما تتبخّر أوصافُ وهيئاتُ وسماتُ وأدلةُ وأسماءُ الإرهابيين والمخربين  والقتلة والخاطفين .  فقط نريد أن نعرف من هم أعداؤنا حتى يكون أصدقاؤنا أبرياء من الشبهات والتهم  . وسواء كان من يستهدف زعزعة أمن واستقرار ليبيا ، وخنقنها وتمزيقها وترويعها وتخويفها وتشتيتها من داخل الوطن أم من خارجه .. ذيلاً أم رأساً ، مأموراً أم آمراً ، تابعاً أم متبوعاً ، صغيراً أم كبيراً ، عصابة أم دولة ، فقط كل ما يخشاه المواطن الليبي هو : أن ثمة من يسعى لتخريط هذا البلد وتجريفها بنفس الجرافات والديناميت  والقنابل التي شوهت ملامح العراق .  وكل ما يشغل فكر المواطن الليبي ، أن يكون أكثر  إحاطة وقرباً من حقيقة واقعه وتفاصيل يومه ، عوضا عن هذا المتاه المخيف ،  أن يعرف ماذا يقول ، وماذا يقرر ،  وكيف يسير  وينام ويصحو ، وماذا يرتدي وماذا يأكل وماذا يشرب  وكيف يتنفس .. هل يعتق اللحية ويمرد الشارب ويرتدي جلابية  .. هل يلبس سراويل الجينز وقبعات الكاو بوي  أم  يختار العباية والعقال والشماخ ، هل يفرض على حريمه النقاب أم سيكتفي بالحجاب .. وهل أن صوت المرأة هو الآخر عورة مما يفترض ارتداء كمامة أو تركيب كاتم صوت ، أو منعها من الخروج سوى مرتين في العمر : إلى معتقل الزوجية أو القبر .  يريد أن يفهم من الذي يحاربه في دينه ووطنه وحريته وقوته وهناءته  وطمأنينته ، ويحاول سرقة ثورته ..  ومن الذي ينزعج إذا فرح المواطن الليبي  أو ظفر بشيء من الرحمة والرفاهة والنفط . من الذي يحسده ويبغضه ويكرهه إلى هذا الحد الموغل في وحشيته وشراسته وعنفه . فالليبي مواطنٌ طيبٌ ومسالمٌ ومحبّ ، سخيٌّ وجوّادٌ وكريمٌ وعفيف ، مبدعٌ وحالمٌ وصبورٌ ، معطاءٌ ولطيفٌ وشجاعٌ ومقدام .  فقط ، نريد أن نفهم ، و هذا ما يقلق الليبيون جميعا ، في الشرق والغرب والوسط والجنوب والشمال ، يريدون أن يعرفوا عدوّهم من صديقهم ... وأن يعيشوا في وطنهم كما يحبون  هم أن يكون الوطن ، لا كما يُخَطّط له المبغضون والمخربون بأن يكون بهيئة قطيع ، ومجتمع ثكنات وعصابات مافيا .  يريد الليبيون أن يبنوا بلادهم ، ويعمروا مدنهم وقراهم ..أن تكون لهم مدارس وجامعات وأكاديميات ومستشفيات و طرق ومطارات  وموانئ وقطارات  وحدائق ودور عرض ومسارح  ومكتبات ومقاه ومتنزهات ،  شأنهم شأن غيرهم من البشر الآمنين في عالمنا المتحضّر .. أن يستقروا ويستجموا  ، فقد تعب الليبيون من الألم ، ومن المستعمرين والغزاة والقراصنة والطغاة  ، ومن تاريخ طويل من الإثم  والهتك والتجويع والنهب والقتل والحرمان . أفلا يحق لهم أخيرا أن ينعموا بوطنهم ، فقد تعبوا من  دسائس العملاء ومؤامرات الخونة .. تعبوا من حيل اللصوص والمارقين .. وتعبوا من الدخلاء والمرتزقة والمرتشين  . تعبوا من الخوف والألم والحزن والقلق والنزيف .. كيف يمكنهم الآن  قفل ملفات  الشهداء والجرحى والمفقودين إذا كان كل يوم هناك المزيد من الشهداء والجرحى والمفقودين .. كيف يمكن إعادة بناء ما تهدّم من بشر وبيوت ومنشآت ..  وهناك  من  يقترف المزيد من القتل  ويراكم الدمار والخراب . كيف يتسنى لليبيا أن تستقر وهناك من يقلقه استقرارها  ، وأن تفرح  بنصرها طالما ثمة من تزعجه أفراحها وانتصاراتها .  أجل قد تعبنا  جميعا ، لأننا نخوض حربا  مع عدو ماكر لا يُرى  ،  ولا جبهة له سوى الخفاء ..  عدو لا يحمل اسماً أو صفة ، وما من دليل حتى الآن يشير إليه . هكذا ، وبعد عشرات التفجيرات وعمليات الخطف والاغتيالات  يظل شخص الجاني  متعذرا عن الكشف ، فهل سنلجأ إلى مهارات السحرة والمشعوذين طالما حتى اللحظة ما تزال أجهزتنا الأمنية والبحثية عاجزة عن اكتشاف بصمات المجرمين ، وأنها لم تعثر بعد على دليل واحد قد يعطي بصيص أملٍ ، أو يُشكّل رأس خيط . هل يُعقل أن نفقد عشرات الضحايا من قيادات وكوادر الجيش والشرطة ، إضافة إلى تفجيرات واعتداءات طالت مقار سفارات وقنصليات وشركات أجنبية ... وحتى الآن لم تسفر التحقيقات عن ما يشير إلى فاعل بعينه . لهذا نخشى أن يظل الواقع غامضا ، والدولة غامضة ، والثورة أيضا ما لم يعرف الليبيون ما الذي يحدث في ليبيا  . وبذا يمكن تأجيل التباحث والتشاور  في مسألة تشريع الصيرفة الإسلامية طالما ثمة ما هو أشنع وأكثر فداحة وشرّا  وتحريما من الربا  ، وأنه لا جدوى من تقديم مسألة العزل السياسي في الوقت الذي قد يستوجب فيه فرض العزل الأمني وقانون الطوارئ وحضر التجوال ، وبالمثل يمكن غض النظر عن زنا النظر ، وتأجيل بناء وإقامة  الجدار العازل بين الأعضاء المنتخبين ديمقراطيا في قاعة مؤتمرنا الوطني العام  ، كحد فاصل  بين إقليمي الذكور والإناث في قاعات ريكسوس ، تلبية لنداء صريح جداً ، انطلقت صرخته المؤمنة من أحد الأعضاء الخائفين من غواية النفس الأمّارة  بالسوء ، ريثما يتسنى لنا بناء ما تهدم من حصون أمننا وقلاع طمأنينتنا . يرحمكم الله ، أجّلوا كلَّ شيءٍ وفكروا كيف يمكن أن يعيش الليبيون في وطنهم دونما إرهاب مسلح وتفجيرات وقنابل موقوتة ،  دونما خطف واغتيالات ، دونما جرائم معلنة ومجرمين سريين .  في السياق ذاته ، ومن زاوية نظر أخرى ، ثمة من يقول بأن هذه المسألة قد ضُخّمت كثيرا ، وخضعت على الصعيد الإعلامي لشيء من المبالغة والتهويل ، وهي لا تستحق كل هذا الارتياب والتوجس والقلق والحذر والخوف ، معززّّا قوله بأن حياة المواطنين في مدينة بنغازي مستقرة وهادئة ، بدليل أن المواطن يذهب إلى عمله ويمارس نشاطه اليومي ، كالتسوق وارتياد المقاهي والمتنزّهات ، وأن المحال التجارية والخدمية تظل مفتوحة إلى ما بعد منتصف الليل .. وأن بنغازي أعظم من أن يتزعزع أمنها أو يتمّ تروعها ببضع جرائم عابرة ، ربّما هي من فعل فتيان متهورون من تجار المخدّرات ، تندرج ضمن تصفية حسابات عالقة بينهم وبين رجال الشرطة . ونحن إذ نأمل أن تحمل هذه النظرة  المتفائلة قدرا من الحقيقة والعقلانية ، وأنها لا  تنطلق من خديعة التصالح مع الأمر الواقع عندما تركن إلى تبسيطه وتهوينه ، أن لا يذهب بنا التبسيط إلى ما هو أكثر تعقيدا .. لأن الحياة في بغداد هي الأخرى - وعلى الرغم من سلسلة التفجيرات المستمرة وعمليات الاعتقالات والمذابح شبه اليومية - تظل مستقرة ، وتمارس نشاطها الاعتيادي،  ولم تنقطع علاقة البغداديين بالسوق ودور العرض والمقاهي والمتنزهات. وبقدر ما يعبر هذا المشهد عن عراقة وصمود متأصلين ، قد يشي في الوقت ذاته  بمظاهر التكيّف  مع صور العنف ووقائع الإرهاب شبه اليومية ، وهذا ما نخشى استنساخه هنا في مدننا الليبية . لذا  أردنا فقط أن نفهم ،حتى لا نتواطأ  من حيث لا ندري مع مظاهر مروّعة  لجرائم معلومة  ،  تقيد دائما في خانات مجهولة .  فقط  .. أن نفهم . حفظ الله ليبيا .

 ____  
* مقالة  نشرت ضمن سلسلة مقالات  اسبوعية ، بصحيفة فبراير خلال سنة 2012 والربع الأول من 2013 .

الأربعاء، 24 يونيو 2015

صبرية ساسي



مفتاح العمّاري
اسمها .. 
 صبرية ساسي 


      صبرية ساسي  .  لا تنسوا هذا الاسم ،  لا تنسوا  صبرية ، التي أضافت دمها لعلم استقلالنا ليصبح أكثر نوراً ونقاء ، حتى لا يختفي أو يخفت مرة أخرى ، أضافت روحَها وحياتها وتوقها وحلمها ، ففي كل لون من ألوانه ثمة مزيج من أنفاسها وكلماتها وحواسها وخلاياها وعطرها . من مشاعرها ومكابداتها وآلامها وتضحياتها .  صبرية ساسي : حين اختفى العلم أعادت لنا العلم وغادرتنا . كأنه لا بد للعلم من أضاحي وقرابين لكي يعلو ويرفرف ويزهو  وضيئا وحرا وشامخا في سماء ليبيا  ، لا بدّ من بشر استثنائيين ، وشجاعة نادرة لا تَهابُ الموت  ، لا بد من بطولات خارقة من سلالة عظيمة تشبه سلالة ابنة تاجوراء . صبرية ساسي : هذا هو اسمها الذي كانت  تُنادى به ، اسم يشير  تحديداً إلى امرأة خمسينية من بلدة تاجوراء  ، قبل أن تكون شهيدة وطن ، كانت ربّة منزل ومواطنة ليبية بسيطة ، تصبو لحياة كريمة ، كانت بنتاً حزينةً تترقّب بحرقة لحظة تحرير والدها من سجون الطاغية ، كانت شقيقةً حرّة وموجوعة ، تنتظر بلهفةٍ خروج أشقائها من معتقلات الأسر وعتمة الزنازين ، كانت أمّا طيبة  ترنو لتلك اللحظة  التي يصبح فيها أبنها الوحيد ، طبيبا يُعالج جراح الوطن .  وكانت أيضا سلخت قرابة ربع قرن من سيرتها الشخصية كمعلّمة  في مدرسة البلدة  بضاحية الحميدية ، تغرسُ في مشتل الناشئة شتلات المعرفة ، وتشرح لهم الفرق بين الشجرة والمشنقة ، بين حلم الراعي وضراوة الذئب . كانت مؤمنة وتقية وورعة ، تقتطع تطوّعاً جزءاً أثيراً من ساعةِ المنزل لتدريس الصغار  في جامع الحيّ ، تعاليم كتاب الله وحفظه  .  ثم كانت مناضلةً ، أسست جمعيةً خيريةً تُسهم في تقديم الدعم المعنوي واللوجستي  لثوار السابع عشر من فبراير ، تُعدّ للطاغية ما استطاعت من قوة  ، ومن ألوانِ عَلَم الاستقلالِ تُرهب عدوَّ الله وعدوَّ الوطنِ ، عدوَّ الحريةِ وعدوّها ، أن تتحول راية  الاستقلال إلى سلاح لا يُقهر ولا يفل . هذا تحديدا ما فكّرت فيه ابنةُ تاجوراء  ، وما صنعته البطلةُ الشهيدةُ : صبرية ساسي . لذا ، تذّكّروا أيها الليبيون هذا الاسم جيداً ، وليكن محفوظا بحرص في حصن حصين من ذاكرتكم  وخزائنكم وكتبكم ومناهجكم الدراسية ، ليكن حاضرا وقويا وواثقا  في أناشيدكم وأغانيكم وأشعاركم ، في رسائلكم وحكاياتكم ، في أفئدتكم وأعيادكم وحقائب تلاميذكم ، في  عيونكم وكلّ حواسكم ، في رسمكم وموسيقاكم ، وفي دمكم . ليكن أسمها المبارك راسخاً وخالداً وساطعاً في عناوين مستقبلكم  وطرقاتكم وشوارعكم . لتكن صورة شهيدةِ العَلَمِ ، إيقونةً تزيّن جدران طمأنينتكم وطوابع بريدكم .. دليلاً  وفياً يقودكم إلى براءة أدميتكم الخيّرة ، حتى لا تتوهوا مرة أخرى  بعيداً عن مرابض التوق . لتكن صبرية ساسي ، حكاية عظيمة لا تذبل، يرويها الكبارُ للصغار ، حكاية  تنمو  وتترعرع وتكبر  وتتوارث جيلاً بعد جيل .. حكاية من أساطير ثورة 17 فبراير  ، كل جيلٍ يَهَبها كلمةً من نسله ، وقطرةً من دمه ، وفيضاً من مخيّلته .. وبذرةً من مشاعره .  هكذا ستظلُّ المناضلة الشهيدة ، صبرية ساسي ، حكاية شعب ، لن تأفل أو تغيب  ، بل ستبقى مشرقة ومشعّة في سماء أدبياتنا وقيمنا وحريتنا : ربّة خيالٍ جميلٍ ، نسّاجة خلاصٍ وخزّافة حكمة ، قفاءة نورٍ وجلابة مجد .  فاحرصوا أيها الليبيون الأحرار على حكايتكم العظيمة  .. وأينما كنتم تذكّروا  شهيدةَ عَلَم الاستقلال ،  لأنكّم حين تنسون صبرية ساسي ، إنما تنسون عَلَمَكم وثورتكم ، وتتخلّون عن أنفسكم ، عن مبادئكم وقيمكم ، عن تاريخكم وأرضكم .. تتخلون حينها عن إنسانيتكم . 
      بين ظلمة ليلٍ واهن ، وغشاوةِ  نصف فجرِ يتعثّر ، من يوم  الخميس 30 يونيو 2011 ، تسلّل القتلةُ بهيئة رتلٍ مسلّحٍ ، يتألّف  من قرابة 25 عربة عسكرية مجهّزة برشاش الميم طاء ، محمّلة بالمجرمين والذخائر وقذائف الآر بي جي  ، والمسدسات وبنادق الكلاشنكوف . كل هذه التجهيزات من المجرمين والعتاد والعدّة ، حُشدت لمواجهة امرأة وحيدة من بلدة تاجوراء  . كانت التهمة الموجهة  لهذه المواطنة الحرة ، تكمن في خياطة علم الاستقلال ، فمنذ الأيام الأولى لاشتعال فتيل ثورة 17 فبراير ، التي انطلقت شرارتها في مدن وقرى الشرق الليبي ،  لتعمّ سريعا العديد من أقاليم ومناطق ومراكز مدن الغرب  وضواحيها ، منتشرة كالنار في الهشيم ، من الزنتان إلى الزاوية  مرورا بمصراته ، ، إلى اعتصامات ومظاهرات ومناوشات تقطّعت أوصالها بين كر وفر ، وسرّ وعلانية  في ضواحي وأحياء العاصمة طرابلس : فشلوم / تاجوراء / سوق الجمعة / مجمع المحاكم بشارع السيّدي  ، وصولا إلى جبهات القتال في جبل نفوسة :  نالوت ، ككلة ، القلعة  ، وغيرها من المدن والبلدات التي هبّت كالبركان ، وانطلقت حممها سعيرا حارقا . منذ  اللحظة تلك دأبت صبرية ساسي على صناعة نوع من السلاح الأكثر تأثيرا واكتساحا وترهيبا من نيران مدافع الميم طاء ، وأشدّ ترويعا وفتكا ودماراّ من صواريخ الراجمات والجراد والسكود . يتكون السلاح الذي تفطّنت له قريحة :  صبرية ساسي ، من قماش الروح الذي لا يحترق  .. حيث كانت تخيط أعْلَام الاستقلال خفيةً وسرّاً ، لتتكفل فيما بعد جسارةُ الثوارِ بتدبير كافةَ الحيلِ والسبلِ لمغافلة عسس الليل من دوريات كتائب الطاغية ، ليرتفع علمُ الاستقلال خفاقاً فوق كباري وجسور العاصمة وبناياتها العالية . كان مشهد علم الاستقلال حين يُكتشف في صبيحة اليوم التالي يثير فزعا ، ويحدث درجة عالية من الرعب  والهلع لدى الديكتاتور وأزلامه وكتائبه وجلاديه . لهذا اقتضت غرفُ عمليات باب العزيزية شنّ حملة قمع إضافية ، كُرّست خصيصا لمواجهة صناعة وانتشار أعلام الاستقلال ، فانتشرت دوريات الاستطلاع وفرق التفتيش من مخابرات الطاغية وعساكره، مقتفيةً ومنقّبة بين الأحياء الساخنة ،والشوارع والأزقة النابضة ، زارعةً الآذانَ والعيونَ الجبانةَ ، لكي تجمع وتلملم كل شاردة أو واردة ، تُلمِّح أو تشير إلى حراك (علم الاستقلال) ، الذي بقدر ما كان يعد كابوسا مخيفا  يثير الفزع في نفس الطاغية .. كان في اللحظة ذاتها يشكّل حافزا ملهما ، يرفع من معنويات سكان العاصمة التائقين للحرية والخلاص، ويضخّ فيهم  مزيداً من روح الاستبسال والصمود والمقاومة ، كان إشارة قوية لمجابهة الديكتاتور في عقر ترسانته العسكرية وأخطر قلاعه عدّة وعتادا . حينها كانت معارك التحرير قد حسمت انتصارها في مناطق الشرق الليبي ،  بينما تستعر جولاتها الأكثر عنفا وضراوة ، في أجزاء عدة من مماطق الغرب ، مثل مصراته والزنتان والقلعة ، وغيرها .كانت قنابل الناتو تدك دونما هوادة  معسكرات الطاغية  وقواعده داخل العاصمة  وخارجها .. فيما تضجّ أحياء طرابلس وضواحيها بفرقعات الرصاص ودويّ الانفجاريات  والقنابل .. وتكتظ شوارعها بطوابير طويلة للحصول على الخبز والمحروقات ،  وتغصّ سجونها ومعتقلاتها بالأسرى من الثوار والنشطاء ، ومستشفياتها بالجرحى . وقائع كثيرة ومتداخلة يتعذّر هنا الإيغال في سرد تفاصيلها . كانت الأحداث تتسارع وتتوالى ، بين أخبار الجبهات ، وثوار العاصمة الأشاوس الذين يستأنسون بغلالة الليل لتنفيذ عملياتهم النوعية .. فيما ظل علم الاستقلال يبتكر لنفسه طرقا شتى في الإعلان عن وجوده ، تعدّدتْ وتنوّعَت وتكرّرت بجرأةٍ مشاهدُ تنقّله بين شرفات المآذن  ، وأسطح البنايات ، وفوق الكباري والجسور ..  ولعلنا نستعيد الآن أخبار الفضائيات العربية والعالمية وهي تفرد حيزاً بصرياً مدهشاً لهذا الحدث المحمّل بشتى دلالات المواجهة و مجازات التحّدّي ، حين تبثّ تلك الصور التي كان خلالها علم الاستقلال يرفرف بشجاعةٍ وزُهوّ فوق جسور وكباري العاصمة ومآذنها وبناياتها العالية  .
      بعد لأي مِنَ التعقّب الماكر مِنْ أثرٍ لأثر ، توصّلت أخيراً  مخابراتُ الديكتاتور إلى اكتشاف الدليل القاطع  عبر أحد الوشاة من عصابة ما يسمّى باللجان الثورية  .
     هكذا حُوصرت المناضلةُ : صبرية ساسي ، في مقر إقامتها بتاجوراء ، بواسطة فرقةٍ كبيرةٍ من المجرمين القتلة ، تتألف من ذكور وإناث ، ففي وقت متأخر من تلك البرهة الحالكة طَوقت العرباتُ ذات الدفع الرباعي المكانَ بعنجهية متعجرفة ، لكأنها تواجه جيشا جرارا ، لا امرأة وحيدة وعزلاء إلاّ من إيمانها بالله والوطن والثورة  . اقتحم الظلمةُ عنوةً حرمةَ البيتِ الصغير الذي تلوذ به  صانعةُ الأعلامِ ومصمّمةُ شعارا ت ثورة 17 فبراير ، واقتادوها إلى مكان مجهول . لم يكتفوا بخطفها وتهديدها ، بل عذبوها بوحشية وضراوة :  قطعوا أصابع يديها التي خاطت العلم ، حرقوا أجزاء من جسدها الطاهر  بالكهرباء ولهيب الغاز  ، ثم رموها  أخيراّ في الخلاء ،  محض جسدٍ طُعن بالحراب ، وثُقبتْ أطرافُه بالرصاص ..  جراحٌ تنزفُ ، وأنفاسٌ تتقطّع بين حياة موت  .
        في صبيحة اليوم التالي ، الجمعة 1 يوليو 2011 ، عثر عليها مصادفة ،  رجلٌ  في براري منطقة سوق الخميس امسيحل ( تختلفُ الرواياتُ هنا حول المكان ، فثمة من يذكر تخوم ترهونه ، وآخر يشير إلى  قصر بن غشير )  وقد شُوهت ملامحُها  من اثر التعذيب  . كانت المسكينة تحتضر وحيدة في العراء ..  حاول الرجلُ إسعافها بأن سارع  بنقلها إلى مستشفى منطقة السبيعة . وبالكاد وصلت إلى هناك حتى لفظت أنفاسها الأخيرة . لكن لم تقف أسطورة الشهيدة عند هذه  الخاتمة  المأساوية ، إلا لتبدأ بتنضيد وضخّ مأثرة بطولية من أعظم مآثر ملحمة ثورة السابع عشر من فبراير . فقد غفل الجلادون وقتها ، أن: صبرية ساسي ، حين كانت تخيط علم الاستقلال ، أنما كانت  تنسجُ روحاً مقدّسة ، ومأثرة جليلة لا تموت ، كانت تبثّ في خلايا القماش نقاوة الدماء الزكية ، وتوق شعب بأسره يطمح للخلاص من ضراوة القهر والعبودية .. وحين كانت تواصل الليل بالنهار منكبّة على آلة الخياطة ، فيما مقاطع القماش تَعْبُر بخفةٍ وقد تضافرت ألوانُها الحارة نشيطة وجريئة وحيّة  ، إنما تصنعُ بلاغةَ الزمنِ المعجزة ، زمن الجهاد المقدس ، مقروناً بملاحم سطّرها الأجدادُ البواسلُ الذين تصدوا منذ قرن مضى لدبابات الغزاة الطليان بصدور عارية ، وأرجل عقلوها بحبالِ الإيمانِ حتى لا تَهِن عزيمتُها ، هاتفين بصلابة حادة ، ( مَرْحَبْ بالجنّة ، جَتْ تدّنّى ) .
       إذاً لا تنسوا هذا الاسم ، ( صبرية ساسي )  .. فهو أكثر من اسم لامرأة وكفى ..لأن الشهيدة  ، حين اقترحت على نفسها هذا الدور المشرّف .. كانت أولاً ،  قد تفوقت على نفسها كأمٍّ لأبنٍ وحيدٍ ، قبل أن تتفوقَ على واقعها الظالم ،  تفوقت على المكان والزمان ، حين يتآمران على براءة الحياة ، تفوقت على اللغةِ ، حين تخونُ اللغةُ بهاءَ أحرفِها وجسارةَ دلالاتِها .. تفوقت على الرصاص وقساوة الجلادين ، على آلةِ العنفِ والتعذيب ، وغطرسة الطغاة ، تفوقت على تاريخها ، لكي تبعث حياةً أخرى ،وتصنع تاريخاً آخر .. ثم تفوقت أخيراً على نفسهِا وجسدِها ، فسطّرتْ معجزتها الشخصية ، والتي تُعَدُّ لوحدِها  ملحمةً نادرةً في مدوّنة الثورات . مرة أخرى أستحلفكم بالله والوطن والثورة ، أيها البررةُ ، أن لا تنسوا الشهيدة : صبرية ساسي/ لا تنسوا هذا الاسم .