وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري
‏إظهار الرسائل ذات التسميات عتبات ،. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات عتبات ،. إظهار كافة الرسائل

الاثنين، 30 أكتوبر 2017

أسماء



                       


                           أسماء         
مفتاح العمّاري



"  عندما ينقسم الواحد ، فأن الأجزاء تكون محتاجة إلى أسماء
وفي الدنيا ما يكفي من أسماء ..
وعلى المرء أن يعرف متى يتوقّف 
بهذا يتجنّب الإنسان المتاعب "
                          ( لوتسو / من كتاب التاو )


    إن إضافة اسم للأشياء، هو بداهة ، ممارسة نشطة وفاعلة للغة التي تمثل في جوهرها سيمياء حقيقية للحياة. ومن ثم فأن إلحاق اسم للكائنات والجهات والأمكنة، يعد دلالة للمسمّى، يستدلّ به علي الحي والجامد .. حيث يتعذر علينا أن نتخيل معرفة كائن لا اسم له. لأن اضافة الأسماء،اقلّ تعقيدا من أن تظلّ الأصوات والصور نكرة بلا ظل أو أثر يقتفى؛ ففي الصحراء كان البدوي رغم صلابته أكثر بساطة وعفوية وهو يقترح أسماء مفازته ويسبر غور الأشياء، عبر علامتها الخفية التي تتركها فوق الثري ..حيث استطاع أن يروض التيه ويفتح مغاليق المجاهل الغامضة لصالح الحدس والفراسة التي لا تخطيء في ترجمة وجهة الريح ، وتأويل رحلة الطير واقتفاء اثر البعير ومعرفة أسراره عبر قراءة الأثر، ليكتشف بغرابة طريفة:أن البعير الذي مر (اعور وابتر وأعرج) في لحظة خاطفة تكتفي باللمح العابر.. بينما يتعذر علينا نحن سكان المدن قراءة الأثر على أرصفة مبلطة وطرقات معبدة ، يحيطها الصخب وتحفها الضوضاء. ولعل الأمر يبدو أكثر حيرة وصلابة أيضا حين ترتفع بسخاء ثلاثة آلاف عام من التاريخ الحضاري مدينة بالغة العتاقة مثل طرابلس ، الثرية بعديد من المآثر والحفريات .. حيث مر الرحالة والقراصنة والغزاة والتجار والمستكشفون والشعراء العشاق ، لتقف في نهاية المطاف علي عتبات الألفية الثالثة وهي تجسد المتاهة الأكثر غموضا من صحراء البدوي.


     في الوقت الذي تختزل فيه تقنية الاتصالات الزمن والمسافة يرتبك الزائر بطرابلس وهو يبحث عن مقصده في مدينة تداخلت شوارعها بلا أسماء أ و عناوين .. وتكدست منازلها في خرائط عشواء دون أرقام تشير إليها وكأن إلحاق اسم أو رقم أحجية معقدة ، و صناعة بالغة الضخامة والتكاليف ، تضاهي في استراتيجيتها وتعقيدها مشروع إنشاء سكة الحديد ، أو هي من سلالة فنطازيا الخيال العلمي ، لكي ننتظر ثلاثة آلاف سنة أخرى حتى نحصل علي عناوين واضحة تدل عليها .

السبت، 3 يونيو 2017

محمد الفقيه صالح ..الشاعرُ النبيل

مفتاح العمّاري





محمد الفقيه صالح

الشاعرُ النبيل *


        في حياة القصيدة الليبية ثمة تجارب فذة ، وقامات سامقة تقتضي الحقيقة إنصافها،والاعتراف بدورها المؤثر في نسيجنا الوجداني؛لأنه يتعذّر عليك أن تدّعي توصيف  حراك الشعر المعاصر في ليبيا من دون أن تتوقف كثيرا إزاء المدونة الشعرية للشاعر : محمد الفقيه صالح،الذي برز كشاعر يُربِّي مخيلًة تائقًة منذ النصف الثاني من عشرية السبعينيات، عبر الملاحق الثقافية المعروفة آنذاك؛ وبصورة خاصة صحيفة الأسبوع الثقافي التي استطاعت خلال فترة زمنية قصيرة،أن تفرض حضورها كمنبر إعلاميّ  شديد التميز ، إذ كان لها  الفضل في تقديم العديد من الشعراء الشباب؛ من أبرزهم طموحا وعمقا ورصانة وتطلعا الشاعر الفذ :محمد الفقيه صالح .
    فقصيدة الفقيه،وعبر مسيرة شعرية سلخت قرابة ثلاثين سنة ، تستدرجك دائمًا إلى مناطقَ بالغة الجمال، وتضعك من ثم إزاء تجربة لا تملك إلا أن تستسلم لأسرها،وتحترم مسيرتها الحافلة بالمكابدة والحلم والعطاء.
   ذلك لأنه شاعر كبير ومؤثّر في حركة المشهد الشعري الليبي ، وأينما يذهب، يُحظى باحترام ومهابة،فضلا عن حضوره الأكثر تميزًا في المحافل الشعرية الخارجية التي تقام عربيًا وعالميًا، لاسيما وأن مكانته الشعرية السامقة لا يختلف عليها اثنان؛ فله شغفٌ خاص بالحياة الثقافية،التي يُسهم في تأثيثها إبداعيًا ونظريًا ،وأيضًا له محدّدات ومفاهيم جمالية في التعامل مع الكلمات؛إذْ يقف دائما على أرض صلبة معبّرًا عن قيم رصينة ومواقف مشرفة؛ وينشغل بالكتابة كهمّ حقيقيّ يعبّر عن التحقّق والإضافة.
     فهو شاعر خالص- متنًا وسلوكًا- لهذا ليس من المستغرب أن يكون مُقِلّا في نتاجه، كذلك ليس من المستغرب في أن يكرس انشغالا معرفيًا بإنماء مشروعه الشعريّ، بهدوء رصين  ودربة مقتدرة،من دون أن يغفل -في الوقت نفسه- عن قراءة  ورصد و متابعة مجريات الحراك الثقافي، وتقفّي ما يُستجد من مطبوعات ومنشورات، مع اهتمام بالغ  بقراءة  صحافتنا المحلية، ولاسيما لحظة أن تستوقفه قراءة مقال أو نصّ أبداعي،اذ لا يتوانى عن الاتصال هاتفيًا بكاتبه لإبداء وجهة نظره ،معجبًا ومناقشًا باحتفاء الشاعر المنشغل دائمًا بهموم الثقافة والإبداع.
    فما أحوجنا في هذه الأيام  لمثل هذا السلوك الخليق بالمحبة والإكبار، لكي نكون دائما أكثر قربًا من أنفسنا وإخلاصًا لوجداننا .
<> 


* كتبت هذه المقالة قبل عقد ونيف ، ونشرتها ضمن زاويتي الموسومة "عتبات " التي كنت احررها اسبوعيا باحدى الصحف المحلية.أعيد نشرها اليوم بعد أن فجعت برحيل صديقي الشاعر : محمد الفقيه صالح. 

الأحد، 9 أبريل 2017

مشرق الغانم " كيف لي أن أغفو ثلاثين عاما "


                                                                                                                                        مفتاح العماري


الشاعر : مشرق الغانم 
من رسومات مشرق الغانم 











" كيف لي أن أغفو ثلاثين عاما "




     الليلة البارحة تذكرت صديقي الشاعر العراقي مشرق الغانم . انقضى قرابة ربع قرن على هجرته إلى الدنمارك ، والتي خطط لها بتكتم شديد ،  ومثابرة شرسة  .
  وصلتني منه بعد هجرته بوقت قصير بطاقات بريدية ، ضمنها وبسخرية  مرحة  شيئا من تفاصيل حياته الجديدة في غربته .
 ثم تقطعت السبل .
    التقينا مصادفة خلال أيامه الأولى بطرابلس ، عندما كان يبحث عن مأوى آمن له ولأسرته الصغيرة . وطيلة السنوات الثلاث التي جمعتنا بدا شهما ومكابدا في صمت ، كما لو أنه يخطط لحياة أخرى .
  كان في اللحظات التي يشي فيها ببعض مخاوفه قلقا على مستقبل طفله الوحيد " وجد " .
   وحتى إن باح ببعض أسراره ، لكنه لا يفضي بها إلا كإشارات لمّاحة ، وماكرة بذكاء حاذق ، عليك أن تعمل حدسك لكي تفكك شفراتها .
     في طرابلس عمل مخرجا صحفيا في أكثر من مطبوعة ليبية .
 كان رساما ، وشاعرا عنيدا يعامل نصوصه بكثير من القسوة والتقشف . متهيبا يمرر قصائده دونما اهتمام  ، كما لو أن وطأة الخيبة جعلته لا يعوّل كثيرا على القصيدة  . ليبدو كمن يتنصل من جريرة خياله .
   مرات يروق له أن يقرأ  بعض شذراته في جلسات خاصة ، بتواضع كبير دونما ادّعاء .   
   قلت الليلة البارحة تذكرته .
لست أدري كيف طافت صورته في ذهني . وضعت أسمه على محرك بحث الغوغل . ولكم كانت الفاجعة كالصعقة عندما علمت بأنه ، ومنذ عامين  قد رحل ، رحل مرة أخرى ، لائذا بهجرته الأخيرة إلى عالم الأبدية  .


___    قصائد قصيرة للشاعر : مشرق الغانم

"  كيف لي أن أغفو ثلاثين عاما *
وأصحو على وقع قامتك
وأراك مثلي
جالسا في حانة نائية وتسألني عنّي ... "

**

" أيها الجمال
اتكئ قليلاًً إلى الخلف
كي أسدّد إليك ضربتي "

**

" ماذا أصنع بهذه الخيبة
تأكلني ...
وينهشني الظلام لصق المقبرة "

__
عمّان 12 نوفمبر 2016
من قصائد للشاعر مشرق الغانم  . عن موقع " جهة الشعر "
http://www.jehat.com/ar/Antolojya/AlshearAljadeed/iraq/Pages/alganem.aspx



السبت، 18 فبراير 2017

يوميات ظلّ (2)


  
مفتاح العمّاري


تنظيم الألم


     ليس الوقت وحده ما أحتاجه لكي أكتب ، بل الخلوة المتسامحة . فها قد تخطيت  الستين من عمري وما من منجز يمكنه أن يرضي بعضا من طموح لطالما راودني خلال سنيّ الخائبة ، والتي انسلخت هدرا دونما أثر خليق بالإشادة والاحتفاء . استيقظت اليوم صبيحة الجمعة السابع عشر من فبراير وأنا أشد تقريعا وتعنيفا لنفسي ، ولو لم تكن إشارة خبل لصفعت وجهي حتى يدمى . فلشد ما أنا مخذول ومحبط إلى حد كرهت فيه النظر إلى سحنتي الجافة وقد وسمها شيب وأسى غائر وتجاعيد . وكنت واهنا ومعذبا وأنا أغادر الحمّام ومرآته ، أتذكر  نتفا من حياتي الماضية ، والتي أبداً لمْ تكن في ما مضى هنيئة أو آمنة . ولكم أستغرب الآن كيف صمدت إلى أن عايشت هذه الأيام العصيبة التي اجتاحت البلاد بقضها وقضيضها .         

    ولكن هل أسمي بقائي صمودا ؟ الصمود هو أن تنتصر أخيراً وتتحقق . أمّا البقاء كالميت الحيّ لا يشكل وزنا أو قيمة . وعلى الرغم من ذلك فأنني أحيانا أشعر كما لو أن المرض وحده من يبقيني على قيد الحياة  . فطيلة السنوات العشر التي مضت انحصرت مكابدتي في معالجة الألم ، حتى تبرمجت أيامي على نحو ما ضمن تأثير هذا الإيقاع . لأن المرض المزمن ما يلبث بعد المعايشة الطويلة  أن يتحوّل الى علاقة يومية لها عاداتها ولغتها   ، كان عليّ وحدي التفكير في إعادة تدويرها لتكون سببا أساسيا للتحقق عبره . كما لو أنها مرادف آخر للمعرفة . ولكي أستمر في الكتابة عليّ أولا : تفهّم المرض وإنصافه ، وبعدها يمكنني تدبير مسألتي الخلوة المتسامحة وتنظيم دورات الألم  على نحو أكثر تلطّفاًً وجدوى . 

الخميس، 19 يناير 2017

فرانكشتاين الربيع الليبي

مفتاح العمّاري



     لأن الحرب الدائرة هنا - أعني في ليبيا - مازالت تفرض جنونا يتعاظم ، وينتشر بقوة ، إلى الحد الذي بات فيه من المتعذّر التكهّن متى ستنتهي الحرب ، وما ستضيفه من كوارث، سوف لن تقتصر على القتل وتخريب العمران وخلق الأزمات المعيشية ، بل ستعمل على المزيد من الهدم للنفس البشرية من الداخل ، لتخلّف اضطرابات سلوكية وتشوهات أخلاقية تصعب معالجتها في زمن قصير . ولاسيما حين يتعلق الأمر بالأطفال كضحايا .

    لكن كيف سنقرأ هذا الصنف من العنف المركّب ، حين يكون الأطفال هدفا مبرمجا يدخل ضمن أجندات تحويلهم إلى مستوعب متفجرات وأحزمة ناسفة . حين ينقلب  البشر أنفسهم على آدميتهم ويخونون قيمهم ، ليمسوا مشتلا خصبا  للشذوذ والتطرف ومن ثم التغول ، الذي يستمدّ قوته من استخدام مقولات ظلامية أجثثت من ماض سحيق ، فضلا عن امتلاك السلاح والاستحواذ على السلطة ومقدرات الناس ، والتدخل في عباداتهم وتعليمهم ، وممارسة الوصاية على سلوكهم وعاداتهم الاجتماعية . وهكذا ستتفشى ظواهر العنف تبعا للغلبة ، وردات الفعل من العنف المضاد للمغلوبين . متوالية تتفاقم وتيرة جنونها في كرّ وفر ، وغالب ومغلوب .          

     في هكذا معقل للتوحش ، ستظلّ الطفولة  وحدها  كفئة هشة ، الأكثر عرضة لمثالب العنف ولاسيما على المستوى النفسي والتربوي . عندها لا مناص من الاعتراف بمقولة المفكر هوبز " الإنسان ذئب لأخيه الإنسان "  .  وهذا ما حدث ويحدث في ليبيا ، وبصفتي كمواطن ليبي ، لشد ما تؤلمني مشاهد التفسخ ، تلك التي  تجبر جزءا من أطفالنا ، أن يتخلوا عن طفولتهم ، ليتحولوا إلى كائنات مخيفة بهيئة فرانكشتاين بريء ، يتجول وسط مخلّفات ربيع خائب .

     في رواية ( الدفتر الكبير )  للكاتبة الفرنسية من - أصل مجري - : أغوتا كريستوف ، يتحول الأطفال تحت ضغوط الحرب إلى قتلة . حيث لن يتورع طفلان توأم ، لم يبلغا سن المراهقة بعد ، عن ارتكاب أبشع الجرائم ، ليمسيا محض وحشين صغيرين . لأن أول شيء يمكن للحرب أن تفعله ، هو انتهاكها للبراءة ، لحظة أن تعيد تدوير العنف كنوع من أنواع اللعب . فبعد سلسلة من الوقائع المروّعة . في النهاية سيقتل الطفلان والدهما ، ليتخذ أحدهما من جسد الأب الميت ، جسر عبور يتقي من خلاله الأسلاك الشائكة المكهربة ، حتى يفلت بجلده وهو يتسلق هاربا إلى الضفة الأخرى ، كمنطقة حدودية آمنة . داخل هذه الفنتازيا الكابوسية، التي صاغتها مخيلة الكاتبة أغوتا كريستوف ، تتجسد ويلات الحرب بصورة أكثر عنفا وقسوة ووحشية ، عندما يقترح السرد ترجمة فظاعة الحرب وفوضاها مجسدة في تحويل البراءة  نفسها ، إلى وحش كاسر ،  من ضحية إلى جاني . حيث تمتسخ الطفولة إلى أداة جريمة ، وآلة مروعة من آلات العنف . والتي لم تكن في البدء غير فسحة لممارسة اللعب  ، لعب بريء يتخلق كمحاكاة لمشاهد العنف  .

    أنه لشيء أكبر من أن يحتمله ضمير الإنسانية . ولكن هذه الوقائع المريعة والصادمة  كانت وما تزال ، تمثل مشهدا طبيعيا هنا ( أعني في ليبيا )، ضمن الظواهر التي تسفر عنها منتجات الاقتتال ، وهستيريا الفوضى . لاسيما وأن المسلحين قد شكلوا ملمحا يوميا ، غزا مراكز معظم مدننا الكبيرة ، ومفاصل أحيائها وضواحيها .  ساعتها ، وبقدر ما انتشرت الألعاب الصينية التي تحاكي مستعملات الحروب من بنادق  ومسدسات وسكاكين وسيوف بلاستيكية ، ومفرقعات نارية ، بوفرة غريبة اجتاحت الأسواق ، لكن الأطفال لم يكتفوا بذلك وحسب ، بل استجابوا لابتكارات مخيلتهم ، في صناعة ألعابهم من مخلفات الاشتباكات في الشوارع ، كالظرف الفارغ ، أو معالجة تلك الأدوات التي يمكن إعادة تصميمها بعد نزعها من عربات عسكرية مدمرة ومحترقة ، تركت لأيام في الساحات والأماكن العامة  .  
   
     الآن ، وبعد انقضاء قرابة  خمس سنوات من عمر الفوضى  ، والحرب المفتوحة . أين يقف أطفال  ليبيا الذين كبروا وتربّوا داخل هذا الأتون  . فلا ريب أن تأثير مشاهد العنف كان ضاريا عليهم ، و فادحا إلى أبعد حدّ .  ولعلّهم بقدر ما كانوا ضحايا لا ذنب لهم سوى وجودهم في بيئة تواطأ حملةُ السلاح فيها مع غواية العنف ، إلاّ أن الأمر الصادم ، والأكثر فاجعة أن بعضهم أي ( الأطفال ) قد تحولوا خلال هذا الحيز المخيف من زمن  الحرب إلى مجرمين ، من فئة اللصوص والقتلة وتجار المخدرات ، وأيضا إلى أدوات عنف من صنف شاذ ، بعد أن نجحت آلة التطرف في استدراج بعضهم  إلى صفوفها ، واستخدامهم  كعبوات ناسفة ، وأجسام مفخخة ، حيث لا يقتضي الأمر سوى العمل على تجفيف عقول الناشئة من الصبيان الذين لم يجتز معظمهم سن الخامسة عشرة ، واصطيادهم من أروقة المساجد والزوايا وخلوات تحفيظ القرآن .

      وهكذا نخلص إلى أن تداعيات العنف في المشهد الليبي ، تجاوزت في خريف 2016  ، كل ما يمكن للعقل تصديقه . لأن مظاهر الظلم ، وانتهاك حقوق  الطفل قد تعددت وتنوعت ، لتدخل في متاهات غامضة لا حصر لها . ففضلا عن تيتم العديد من الأطفال الذين فقدوا إباءهم وأمهاتهم ، عن الذين تشردوا وأمسوا بلا مأوى كنازحين داخل وطنهم ، عن حرمان أبناء النازحين وغير النازحين من حقوق التعليم بعد أن تحولت المدارس في بعض المناطق إلى مخيمات إيواء ، وثكنات للمسلحين ، عن فقدانهم للرعاية الصحية والترفيه . عن شلل الدولة وعجزها التام لإيجاد أية برامج أو مقترحات تستهدف معالجة مشاكلهم ، وتأمين الحدّ الأدنى من حقوقهم  . فوق هذا كله يتعرض الأطفال في مناطق الغرب الليبي ومنذ ثلاث سنوات  إلى عمليات الخطف ، كرهائن ، تقوم بها عصابات مجرمة تساوم أهاليهم لدفع مبالغ طائلة كفدية . وحين يعجز ذووهم عن الدفع يتم قتلهم ورميهم في الخلاء ومكبات القمامة .

    عبر هذه الوقائع وغيرها ، وصلت بشاعة الجرائم التي ترتكب في حق الطفل الليبي حدا لا يطاق ، وأنه لا الدولة ، ولا المجتمع بكل فئاته  وتنظيماته الأهلية ، كان في مقدورهم إنقاذ أطفالهم من أتون هذه الفوضى.

   وبالنظر لهذا الغبن ، لجأ أطفال ليبيا أنفسهم  في نهاية المطاف ، إلى تشكيل برلمانهم الخاص بهم ، فقط كرسالة أرادوا من خلالها الإشارة إلى تقاعس الكبار وعجزهم .   

¨    

الأربعاء، 7 ديسمبر 2016

حروب كراسة الرسم


                                                                                           مفتاح العمّاري

رسوم : آسر مفتاح ( فترة حرب التحرير)


      انسحبت الفراشاتُ ، واختفت الحديقةُ من كراسة الرسم ، ولم يبق أي أثر لعصفور فوق غصن . فقدت الحقولً بهجة شمسها ، وشجيراتها النضرة ، بعد رحيل الحيوانات الصديقة والأليفة . أجل ، خلت الأوراقُ تماماً من الأرنوب المجتهد ، والدبدوب المرح ، والحمار الطيب ، والببغاء الفنان . غادروا جميعهم حلبة الرسم ، وتخلوا عن تلك الرفقة البهية في اللعب . خسروا مشيئة الألوان الآمنة  وتضافرها ، لكي تشكل عالماً رحيما ، متسامحا وجميلا وحالما ، من قوس قزح وهو يسبح في سماء الورقة بنعومة ندية ، وشمس ربيع  حنونٌ لاشكّ ، وأزهارٌ استعارت ألوانها  من جمال نقيّ وصادق .  فجأة انسحب البهاء منكسرا وخائبا ، ليترك الفضاء للبشاعة وحدها ، للطائرات المقاتلة  والصواريخ ، للدبابات وعربات الميم طاء ، للخراب ودخان الحرائق . لحملة الكلاشنكوف وهم يجوبون الشوارع بمشية استعراضية شاهرين أسلحتهم التي تطلق النيران . حيث لاشيء يصمد ، سوى الخراب وحده .  كل شيء تغير فجأة ، هكذا هم أطفال الحروب .
       فقط هذه مجرد جزئية صغيرة . صورة منتزعة من سيرة براءة الألوان ، تحاول من جهتها تقديم ولو لقطة عابرة من مشهد الحرب الليبية الدائرة منذ خمس سنوات .. حين بدأت الحربُ تقترب أكثر فأكثر ، من البيوت والشوارع والمدارس والحدائق .. ولاسيما في أثناء القصف الجوي الذي قامت به طائرات وبوارج الناتو على المدن  والبلدات . 

     العاصمة طرابلس بصورة خاصة  كان لها نصيبها الوافر من القصف الجوي والبحري ، عندما تدفقت الصواريخ والقنابل لتدك أهدافا عسكرية وأمنية داخل الأحياء السكنية . فضلا عن اشتباكات ومعارك طاحنة دارت بالأسلحة الثقيلة في  شوارع المدينة وأحيائها المكتظة بالسكّان .
     في الآن نفسه انتقلت الحرب إلى وسائط الإعلام ، والتي لم تكن بمعزل عن حواس الطفل ومشاعره ، ولاسيما برامج التلفاز الإخبارية والتي تتناول بالخبر والصورة  ويلات ومجازر الحرب الليبية  ، بكل بشاعتها الوحشية ، من قطع رؤوس إلى بتر أطراف إلى مشاهد دامية تقشعر لها الأبدان .
     السؤال المحير : ماذا فعلت الدولة الليبية بكل هياكلها وهيئاتها ومؤسساتها ذات الشأن ، من وزارات تعليم وصحة وشؤون اجتماعية ، وثقافة وإعلام ، وأوقاف . وبأي سياسات ومخططات وبرامج تصدّت لمعالجة مشكلة ضحايا الحرب ، من هذه الفئة العمرية القاصرة عن استيعاب ما يحدث حولها من خراب مفتوح ، وفوضى جامحة خلخلت كل شيء في الحياة . للأسف ظلت الدولة  بكافة هياكلها ومؤسساتها ، بحكم تصاعد وتيرة الاقتتال ، فضلا عن الصراعات السياسية ، عاجزة تماما عن فعل أي شيء مجد وحقيقي ، وبالمثل تكاد مؤسسات المجتمع المدني هي الأخرى مرتبكة وهشة ، وقاصرة عن تفعيل دورها - ولو نسبيا -  لإنقاذ ما يمكن إنقاذه .

      قبل قليل، قال صديقي الطرابلسيّ : كان طفلنا الذي لم يجتز الخامسة من عمره ، كان سليما وفرحا وناعما ، وهو يبتكر كائنات أكثر مرحا لرسومه وألعابه ، ويملأ أركان البيت حيوية ونشاطا . لكن ما أن بدأت آلة الحرب تقترب من بيتنا حتى تغيّر كل شيء ، تغيّر إلى ما هو أمرّ  وأسوأ .  بدءاً من الأيام الأولى لانتفاضة فبراير كنّا نسمع أصداء الرصاص والقذائف . أي منذ أن احتشد جمع من الحقوقيين أمام مبني المحكمة ، بشارع السّيّدي ، والذين تمّ تفريقهم من طرف فرق الأمن بواسطة النيران وقنابل الدخان . بعض المتظاهرين لاذوا بمدخل العمارة نفسها التي نقطنها . لكن مشكلتنا تفاقمت تحديدا في اللحظة التي قصفت خلالها طائرات حلف الناتو وبوارجه الراسية في حوض المتوسط  مبنى الاستخبارات العسكرية ، والذي لا يبعد عن بيتنا سوى بضع مئات من الأمتار . انفتحت النوافذ بتأثير هزة قوية وانفجار مروع ، واقتحمت سحبٌ كثيفة من الغبار والدخان مشبعة برائحة بارود وكلس . هرعتُ مسرعا نحو طفلي والذي لم يبلغ الخامسة من عمره بعد . كان يصرخ وينتفض . وحين حملته ، ظل منكمشا على نفسه بصلابة . وقد اتخذ وضع الجنين في الرحم . مرت تلك الليلة بصخبها ورعبها . لكن لم يمر الأمر على طفلنا بسلام .
     ظل الصغير ولسنتين متتاليتين لا ينام الليل . بل يجلس في سريره متربصا ضوء الصباح .، ولا يخلد للنوم حتى يطمئن تماما لشروق الشمس . حيث تغير سلوكه على نحو مخيف ، وصار يخشى أي صوت ارتطام مباغت وعنيف ، بما في ذلك صوت طرق الباب أو إقفاله بقوة . وتدريجيا لاحظنا بأنه قد أضحى عدوانيا ، وعصبيا ، وأن ألعابه بدأت تتغير هي الأخرى ، لتتخذ أشكالا غريبة ، أكثر ميلا واستهواءً للعنف ، وبالمثل انسحب الأمر على العاب الفيديو ( البلايستيشن ) . كذلك صار يتشبث بمشاهدة أفلام الرعب  ، ويتحايل أثناء سهونا على استخدام ريموت التلفاز،  لعله يعثر على ما يلبّي حاجته لمشاهد الصور الأكثر ترويعا . بالمثل تغيرت كراسة رسمه ، لتخضع لمحاكاة صور القتال ، وقد امتلأت صفحاتها بهيئة طائرات تطلق القذائف ، وأشكال تشيرُ إلى مسلحين ودبابات ، ونيران تتصاعد ألسنتها من حطام بنايات  مدمّرة . لهذا أوليناه  المزيد من العناية والاهتمام ، مع الإصغاء لشكاته ، وحكاياته أيا كانت . ناهيك عن برامج للترويح من خلال النزهات وغيرها، مع إضافة قدر من الموسيقى في البيت ، وتوفير مطبوعات تتماشى مع سنّه : مجلات وقصص ، وتحفيزه على القراءة عبر مكافأته نظير كل قصة يقرأها ، أو يعيد كتابتها . وفي نفس الوقت كنا نتحايل على تبديل مقتنيات اللعب إلى ما هو أقلّ أذى وأكثر انسجاما وتحفيزا لخيال مسالم . إضافة إلى تغيير طلاء غرفة نومه ، وتجديد أثاثها ، وتزيين جدرانها بلوحات تحيل إلى حديقة أو حيوان أليف .
     صحيح لم تكن المسألة هينة . لكنها أخيرا مرت بسلام نسبي . إذْ خفّت قليلاً ردودُ فعله العدوانية مع مرور الوقت ، غير أن تلك النوبات من التوتر والانفعال  مازالت تنتابه  ، وان على فترات متباعدة وبشكل أقل حدة وعنفا عن ذي قبل .
    
     لكن الآن ، وبعد مضي خمس سنوات تقريبا ، شكلت ملامحها الدميمة  معاركٌ واشتباكات مسلحة ، ما تلبث حتى تعلن عن نفسها بضراوة  . يظل السؤال الأكثر حيرة وقلقا : هل ما زال  في الإمكان ، بالنسبة  لأطفال ليبيا  وغيرهم من أطفال البلدان العربية المنكوبة  بويلات الحروب  وجرائمها، أن يستعيدوا تلك البراءة التي تليق بجمال كراسة الرسم ، لكي تسترد مخلوقاتها الجميلة التي شوهتها الحرب .

¨  

الأحد، 27 نوفمبر 2016

شعراءُ الجمر والفوضى


مفتاح العمَّاري



    إزاء هذا التوغل المخيف للقبح ، هل يمكن للجمال أن يصمد ؟. 
ليست ليبيا بلدا عربيا استثناء ،  طالما عليها أن تخوض بين فترة وأخرى حربا مع عدوها أو مع نفسها ، وان كانت في كلا الحربين تحتفظ بخصوصيتها . فخلال حقبة الاحتلال الايطالي خاضت حربا استمرت عشرين سنة ، أوجزها الشعراءُ في قصائد شكلت وثيقة مهمة في تاريخ النضال الليبي . ولعل القصيدة الملحمة " ما بي مرض " للشاعر رجب أبو حويش، تُعد الأبرز في هذا المتن . والتي ولدت داخل أسوار معتقل العقيلة ، كأحد المعتقلات الجماعية التي تفننت الآلةُ العسكريةُ للاستعمار الفاشستي في تصميمها ، لعزل الأهالي عن فرق المجاهدين ، منعا لأي دعم لوجستي ، حتى ولو كان بائسا ومحدودا .

      ثمة محاولات عديدة تضمنتها  - فيما بعد - مدونةُ الشعر الليبي ، بفرعيه ( الشعبي والفصيح ) ، لمحاكاة ملحمة الشاعر : رجب أبوحويش ، غير أنها تظل في الغالب جد خجولة ، مقارنة بإعجاز الأصل . وعلى الرغم من أن الشعر الشعبي كان أكثر تداولا وحضورا في ذاكرة الناس  ، لكن قصيدة الفصحى بكل أشكالها ما تزال هي الأخرى تسعى وبطموح كبير ، لأن يكون لها بصمتها الخاصة في معركة الحياة  .

    في سنة 1981 عُقد في العاصمة طرابلس مهرجان للشعر العربي ، تحت مسمّى ( الشعر المقاتل ) . هذا العنوان الشِّعَار ، انطوى على مفارقة ، حاولت أن تتحايل - كما يبدو- لأن تكون مجازا ، حتى تنسجم مع صخب إعلام العقيد القذافي ، المهووس صوتيا بظاهرة صناعة الشعارات .  غير أن المفارقة الأشد غرابة ، أن أجهزة النظام وفرق لجانه الثورية ، كانت قبل سنتين تحديدا من إقامة هكذا تظاهرة ثقافية ، قد زجّت بمعظم الكتاب الشباب في السجن ، بينهم شعراء تائقون ، صدرت ضدهم أحكام قضائية  بين المؤبد والإعدام .

     في مهرجان الشعر المقاتل ، شارك شعراء عرب كبار ، مثل : ممدوح عدوان ،  مظفر النواب ، ونزيه أبوعفش ، وشعراء شباب من بلدان عربية ، بعضهم يغادر وطنه الأمّ للمرة الأولى . قبل موعد الافتتاح الرسمي ، كانت قد تسربت قائمة الشعراء الليبيين المسجونين داخل أروقة المهرجان ، فتحمّس رهط من  الشعراء الضيوف ، على رأسهم الشاعر الجزائري الشاب ، عمر ازراج ، لتجميع توقيعات المشاركين ، كبادرة تلتمس العفو عن زملائهم المسجونين .
   لا شك أن هذه الحماسة التضامنية في حينها كانت أكثر من جريئة ، وهي بقدر ما أربكت برنامج المهرجان ، سببت حرجا واستفزازا للنظام ، عبرت عنه حالة استنفار طائشة  لأجهزته الأمنية ، ولجانه الثورية ، وقد انقلب السحر على الساحر .

      ما حدث بعد ذلك جراء هذه الفضيحة ، أن نظام القذافي  لم يعد يقامر مرة أخرى  على إقامة هكذا تظاهرات شعرية ،  وبدا أكثر ارتيابا وتوجساً وهو  يضاعف من تضييق الخناق على حركة الشعر ، وتقليص فاعليتها إلى أقصى حدّ . حيث شهدت السنوات العشر التالية فقرا مُدقِعا في صناعة ونشر الكتاب الأدبي ولاسيما الشعري ، بعد أن خضعت المطبوعات لرقابة صارمة إلى حد الوسوسة في تأويل النصوص أمنيا . وحتى تلك الأمسيات الدعائية ، والتي كانت تقام تحت مظلة الاحتفال بذكرى أعياد الفاتح من سبتمبر ، كانت تقتصر - إلا فيما ندر - على صنف من الشعراء المَدَّاحين ، يتألف جمهورها في الغالب من سدنة النظام  والمخبرين وأعضاء اللجان الثورية . ويوما عن يوم  ، نتج عن هذا الإفراط المتزايد في ضراوة القمع ، تهميش وإقصاء ، لمعظم  ما هو أصيل وحقيقي ، ولم يبق في المشهد البائس غير بعض المهرجين الذين كانوا يرتزقون عبر تحويل الشعر إلى منابر للتزلّف  . وهكذا اتسعت الفجوة بين الشعر ومحبّيه .    

    استعدتُ هذه الوقائع  وغيرها ، في اللحظة نفسها التي كنتُ أتهيأ خلالها لكتابة مقال عن دور الشعر وفاعليته ، وكيف يقرأ الشعراء الليبيون ، من موقعهم كمبدعين ، الأزمة الحالية التي تمرّ بها البلاد  . وفي الوقت نفسه كنت أتهيب استخدام عبارات على شاكلة : الشعر في مواجهة الحرب والفوضى ، خشية أن أتواطأ مع حماسة الكتابة كفرقعة إعلامية ، وان أجافي  من ثم الحقيقة الصادمة كما تلخصها شراسة اللحظة الراهنة .

     صحيح ثمة  شعراء في ليبيا قد ثابروا ، ومازالوا يثابرون من موقعهم  كمبدعين على معالجة موضوعة الحرب وما تمخض عنها من فوضى . وكتبوا نصوصا تتمتع  بقدر كبير من الجدة والجرأة والتنوع ، بتوقيعات شابة ، استأنست بمواقع الانترنت بعد أن توقفت الصحف ، وضاق فضاءُ المحافل .  لكن قد تُعدّ المسألة أكثر تعقيدا حين تحضر القصيدةُ في غياب المتلقي .  ليغدو الشاعر كمن يحرث في الماء  طالما هو يقف بمفرده وحيداً في المشهد .



     لا شك أن هذه الصورة ستكون للوهلة مدعاة للسخرية ، لتبدو كما لو أنها لقطة  منتزعة من رواية ( دون كيخوته ) . لأننا عندما نرصد المشهد من الزاوية ذاتها التي يقف فيها الشاعر ، أي من وجهة نظر المنبر الوهمي ، حيث تتمترس القصيدة لتطلق نيران مخيلتها ، سيكون الكادر مخيبا وعبثيا في آن ، إزاء الجمود الموحش لصمت مهول يملأ القاعة ، هو فقط محض مقاعد خالية . غير أن هذا العبث الشعري - لو فكرنا قليلا – لا يلبث  حتى  يتحول إلى جمال عظيم، مقارنة بما يحدث في اللحظة نفسها خارج القاعة من خراب فادح ، يحصد الأرواح ويدمر العمران ، ويقتلع مدنا بأسرها ، ليهجر أهلها شتاتا داخل ليبيا وخارجها . حينها فقط سندرك تماما أن الشاعر هنا ، يعتبر كالقابض على الجمر ، عندما يقترحُ للجمال هذا المأوى .
___
سبق نشر المقال في موقع ( مراسلون ) 22اكتوبر 2016
  http://www.correspondents.org/ar/node/8298?utm_content=bufferf37e4&utm_medium=social&utm_source=twitter.com&utm_campaign=buffer

الثلاثاء، 15 نوفمبر 2016

أصدقاء دار الفقيه حسن

                                                                                           مفتاح العمّاري




    في الوقت الذي تتعرض فيه ليبيا لغزوات التوحش وتداعيات الفوضى ، يظل السؤال ملحا عن دور الثقافة ، والأدب تحديدا ، في مواجهة هذا الخراب . سؤال افتراضي ، يطمح لإقحام الثقافة ، والإبداع الأدبي والفني بصورة خاصة  كشريك في المعركة ، ورافد أكثر إستراتيجية  وجدوى لكي ننتصر لصالح الإنسان فينا .

     بالطبع قد تعترض السؤال عديد المثبطات ، أقلها سيضمر شيئا من الريبة ، بل والاستهجان الذي يذهب إلى حد السخرية والتهكّم  ، سيما وأن انشغال السكّان سيكون في الغالب منحصرا في البحث عن الأمن ، والركض خلف متطلبات العيش ، كأولويات أساسية ، لتغدو مطاردة رغيف الخبز أكثر ضرورة ، من الإصغاء لمقطوعة موسيقية أو قصيدة شعر . وأن ما من وقت  يمكن استقطاعه إكراما لرؤى الفن .

     إزاء هكذا جماهير فقدت ثقتها بقادتها ونخبها ومثقفيها وبنفسها أيضا ، سوف يتعذر الرهان ، ما ذا كان في وسعها الترحيب بمن سيروي لها قصصا ، أو يحدثها عن فنون العمارة ، طالما كل شيء من حولها يتهدم ليغدو خرابا ، وأن أكثر من وحش متربّص ،  قد ينقض في أي لحظة على ما تبقى من أحلام بائسة . فداخل هذا التيه المركّب من اللهاث المعيشي ليس من المستغرب أن يظلَّ قلق المواطن مستنفرا  تبعا لأعراض الأزمة بكل تقلباتها ، من انقطاع التيار الكهربائي إلى شحّ المياه ، مرورا باستشراء ظاهرة الجريمة بشتى أصنافها .

     في هكذا حياة صارت تُعذّب دونما هوادة ، وعلى الرغم كل السلبيات التي تحاول ازدراء الجمال ، لم يغفل مثقفو الحواضر ، أن الوطن في جوهره إنسان يحلم ، فكان لابد لهم من المساهمة في تفعيل ضرورة الثقافة لمقاومة بشاعة الواقع .

     مع مطلع شهر مارس 2015  كانت العاصمة طرابلس على موعد استثنائي  لانتشال وجدانها من أتُون الجحيم ، لحظة أن تضامن مجموعة من الكتاب أطلقوا على أنفسهم ( أصدقاء دار الفقيه حسن ) ، ليقترحوا على مدينتهم من ثم ، كسر فداحة الخوف ، كصنف من المقاومة الناعمة لضراوة الاختزال المخيف الذي تفرضه وحشية الفوضى ، حتى لا يظل الإبداع في طرابلس محض هامش فائض عن الحاجة ، وبهاء محقّر ، وأيضا خشية أن لا يبقى أيما أثر  للموسيقى داخل إيقاع القذائف ، وضجيج الموت . لهذا انقض أصدقاء الفقيه حسن على الحياة بقوة ، قبل أن تفلت .

    ثمة حمولة من الذكريات التاريخية الأثيرة تنطوي عليها عتاقة جدران هذه  الدار ، ووقائع لا تمحى من سجلات طرابلس القديمة . فهي تقع بحي باب البحر ، كأشهر الأحياء التاريخية في المدينة القديمة ،  وتحديدا بزنقة الفرنسيس ، التي تتميز بأقواسها ، وجماليات عمارتها العتيقة ذات الطراز العثماني ، فضلا عن شرفاتها وزخرفة أبوابها ونوافذها .  كان المبني في الأصل - شيد سنة 1630م - مقرا للقنصلية الفرنسية ، حتى سنة 1939 م .. بعد ذلك سكنه مجموعة من البحارة قبل أن يؤول إلى مشروع إدارة تنظيم المدينة خلال عشرية الثمانينيات من القرن الماضي ، ليندرج فيما بعد ضمن خطة الفضاء الثقافي .

      صحيح  في البداية استهجن بعض اليائسين من إقامة هكذا نشاط فيما العاصمة تضج بجرائم الاغتيالات والخطف والنهب ، وسكانها قلقون على أرواحهم ، وخائفون على بناتهم وأطفالهم ، وقد أنهكهم الوقوف لساعات طوال بين طوابير الخبز والمحروقات والمصارف . لكن وبمجرد انتظام تلك الجلسات الأدبية ، التي بادر بها الأصدقاء كنشاط ثقافي تضافر في تأثيثه حماس مخلوط بحلم الحياة والانتصار لها ، حتى أخذ يتضاعف عدد المرتادين من عشاق الأدب والمهتمين بقضايا الثقافة ، لتتحول لقاءات الإبداع إلى تقليد منتظم مع أول يوم ثلاثاء من كل شهر .. عبر أمسيات تحتفي بالثقافة والإبداع ، من حلقات نقاش وأمسيات شعرية ومعارض للرسم ، وندوات حول قضايا الكتابة الأدبية ، وأخرى تشمل شهادات لتجارب مبدعين من أدباء وفنانين ، فضلا عن محاضرات في الفكر والتاريخ والعمارة ، وغيرها من المحاور التي ينشغل بها المعنيون بحقول المعرفة الإنسانية .

    هذا ما طمح الأصدقاء لتفعيله وسط فوضى الاقتتال ، وقفل الشوارع ، وانتشار جرائم القتل والسرقة والخطف ، وانقطاع التيار الكهربائي ، والمياه ، وشح الخبز ، ونقص الوقود والسيولة ،والغلاء الفاحش ، وتردي الأخلاق العامة ، وأخبار قوارب الموت . لأنه في خضم هذا التغول ، يكفي في الحد الأدنى ، أنهم يضخون في وجدان مدينتهم العريقة ، تلك الطاقة التي يمكن استخلاصها من قصيدة كتبت نفسها في الظلام ، أو قطعة موسيقى حالمة تفتح نوافذ في جدران الروح ، أو لوحة تشكيلية تشير إلى أُمّ فقدت ابتسامتها لطول ما انتظرت عودة ابنها من جبهات القتال .


    تتألف  ثلة  تأسيس ( أصدقاء دار الفقيه حسن ) ، من أربعة كتاب كرسوا حياتهم لخدمة الثقافة والإنتاج الأدبي ، يعدون من بين المؤثرين في مشهد الإبداع والصحافة في ليبيا : عمر الككلي ، أسما الأسطى ، حسين المزداوي  و إبراهيم حميدان . لينضم إليهم لاحقا، كل من القصاص : مفتاح قناو ، والصحفية ، أحلام الكميشي . مثقفون مستقلون لا يحركهم سوى إخلاصهم لليبيا وشغفهم بحياة الإبداع ، وجادون ثابروا باستماتة من أجل رفد مشروعهم ، حيث يكفي  في خضم هذه الفوضى الضارية ، وكحد أدنى ، القليل من الأكسجين لرئة الجمال ، القليل من التضافر لإنقاذ وطن .
____  
سبق نشره بموقع مراسلون 
:http://www.correspondents.org/ar/node/8238?utm_content=bufferab953&utm_medium=social&utm_source=twitter.com&utm_campaign=buffer