مفتاح
العمّاري
كتاب
لم يكن ذلك الكتاب
سوى حزمة أوراق تعاني سحنته من غزو النمش والبثور والتجاعيد ، لا غلاف له يستر عريه ويدفئ برودة جوفه ، أو عناوين
أو أسماء أو تواريخ تشير لمؤلفه و تدلّ على منشئه
وأصله وفرعه ،حتى أرقام صفحاته قد تلاشت ، وذهبت مع الحواف التي قضمتها قوارض العزلة حيث
قدر لي في يوم طائش من الشهر الثاني في الحساب الشمسي حين دخلت بمحض الصدفة
العابرة إلى ذلك النفق المهجور ، والذي
يعود إلى عهد الاستعمار الفاشستي ، لأجده محشورا بين أكداس المهملات ، منبوذا
وحزينا وضامرا ، ليس فيه ما يغري البصر ،
أو يغوي الخيال لكي يستحق حتى مجرد أطالة النظر إلى هيئته البائسة ، لذا لم تراودني
لحظتها أية رغبة في لمسه ،ولكن بعد أن أوليته ظهري استبدّ بي خاطر غريب يحرضني بصيغة أمر صارمة تعذّر علي لحظتها لجم شفقتها
، تحثني بصلابة غامضة على إنقاذ ذلك التعيس من مصيره المنكود ، فانتشلته من منازل
القتام ، حيث كان علي بعدها أن أسلخ جزءا
من حلمي في معالجة إعطابه، وترتيق عبارته التي تمزقت ،لأضفي عليه نضارة وبهجة تفوّقا
على توقه ، إلى أن صار مخلوقا ورقيا جميلا يليق به أن ينتسب إلى عائلة مكتبتي
الأثيرة ، كمصنف نادر لا يُضاهى. لكن ها
هو أخيرا يعبّر عن جحوده بطريقة ماكرة
حين يتعمد تنغيص هناءتي ، وتشتيت أفكاري بتغوّله وتوحّشه ، وافتتانه الخادع بسلالته التي لا أثر لها .
فأينما أضعه يزوغ عن بصري : روح شريرة
، تطلق أشباحها في أرجائي لتثير فزعا وهلعا في نفسي ، حتى انقلبت هناءة
المقام إلى رعب يومي لا يطاق ، يعلن عن مكائده بهيئة كوابيس تتكرر في يقظتي ونومي ، وكأن كتابي صار يخطط بمكر لنفيي خارج مملكتي
ليستأثر وحده بمتع الخيال والسفر ، ربما لأنه قد سأم من ولعي به ، وغيرتي عليه ، والتي
أجبرتني على ضرورة إخفائه عن أعين الآخرين مخافة أن يلحّ أحدهم في استعارته ،
باعتباره الكتاب الأثير الذي أخشى عليه من مغبّة النظر، لهذا كنت أحتفظ به في أمكنة آمنة من أرفف القلب،
حتى يكون في منأى عن فضول الآخرين ، ورغم ذلك ما انفكّ هذا الكائن يكرر تمرده على مشيئتي، والتحرر من ولهي به
ليحلّق بعيدا في سماء غير سمائي ، بعد أن
صنعت له أجنحة من ريش محبّتي . لكأن بعض الكتب أبلغ تعقيدا وشراسة من سلالة بني آدم حين تتفنن في قسوة الانتقام . لهذا بعد أن
أضنتني رفقة كتابي سيء الذكر، الذي صغت
مستقبله من تعبي، ورويت أحلامه من نسغ
محبتي وعصير مخيلتي، بدأت الآن أفكر جادا في تركه لتقلبات مزاجه النكد ،بعيدا
عن جموح شغفي به ، حيث يقتضي مني فقط ، بين الحين والآخر تذكير فخامته بوطنه الأم ، أعني ذلك النفق العطن الذي قادتني إليه صدفة غاشمة، مازلت حتى
الساعة أحمل وزر لعنتها .
لعلكم تستغربون غرابة حكايتي المحزنة ، لكن
– صدقوني – هذا ما يحدث حين تتواطأ خطفة
شغف باهتياج محموم ، جراء توهمها التماعة بصيص علّه يغمرها بطمأنينة الوجد ، وبهاء
المعرفة . انها جريرة برزخ بين حلم ونقيضه
،لا سيما في غياب المؤلف كمجاز للعقل، أعني أنه في البدء ما من شيء
، كان يدلّ على كتاب عار ، بعد أن فقد جلده وذاكرته، بحيث تتعذر معرفته إلا
تخمينا بأنه محض رواية بائسة لمؤلف مجهول تعوزه الدربة .لكن كما اعترفتُ لكم قبلُ
، أثار هذا الكتاب الملعون غوايتي ، كما لو أن امرأة وحيدة كانت تتخفّى في جثة
متنه ، امرأة كما يبدو ترتدي شكل شجرة عطشى أو عشّ مهجور ، أو هي
تخطّط طيلة دهر لتغيير عالمها ، لكأنها مقبلة على ارتكاب جريمة ما ، لا
مجرد امرأة تحلم . وهذا أيضا ما هيّج شغفي في بداية عهدي به ، ولا سيما أن الوقت ليل معزول،
ومكتبتي وحيدة ، وأنا
أيضا . كان النوم يفارقني ، لحظة
أن اقترحت بمرح أن تكون المرأة أنيستي ، أعني الكتاب ،فلعلنا معا نترع الخواء
ونجعل الليل أقل برودة ووحشة وسأما ..
ولأن الصفحات الأولى كانت منزوعة ، قنعت قراءتي أن تنطلق بدءا من الصفحة الثالثة
والأربعين . لم يراودني في أول الوله أيما
قلق حيال الذاكرة المتخفّية بمسافة اثنين وأربعين صفحة ضائعة ،و قلت لا بأس ، فلا
حيلة لي سوى أن أغضّ الطرف عن ماضي هذه الحكاية مكتفيا بالهنيهة الحالمة التي أنا فيها ، ولا حاجة بي لنكش
مطامير خلت ، وسأفترض مستأنسا بما غمرني من فيض التحنان أن ما تلاشى من ذاكرة
الكتاب لا يعني الكثير طالما في مكنة أنيستي أن تنسج نفسها على طريقة شهرزاد ، لاسيما
وأنها في أول الأمر قد بدت تتلطف تحببا لتشملني بابتسامة لافحة بالودّ ونظرة
مغوية أحسست على أثرها أن جدراني انفتحت عن حشد من أجنحة حارة تخفق في صدري ،
مدركا بأنه قد آن الأوان لنفير الربيع العاشق.
ولأنه ما من أحد غيري في تلك الصحراء القاحلة، يليق بتأدية هذا الدور الذي لا
يقتضي سوى فنّ الإصغاء ، ألفيتني مستسلما لسحر السرد ، ملبيا كل ما يمليه خيال
كتابي في ملء كهوف الوحشة التي تركتها الصفحات الضائعة . وحين رسمت أنيستي في أول
الأمر طائرا خرافيا يخترق سماء مترعة بالغيوم
أومأت لها بأنني قد فهمت . وهكذا سافرنا معا إلى بلاد عتيقة تشبه سمرقند ،
وتجولنا عبر بساتين مضمخة برياحين حدائق
الله . ونمت في تلك الليلة نوما هانئا بين
أحضانها وقد تخللتني رؤى فاتنة . لكن في الصباح التالي استيقظت فزعا على
صوت ما يتكسر ، لم يكن ذلك سوى مقام
الروح.. إذ ألفيتني محض رفات ظلّ ،وأن بحار النور والعواصم والأحلام والقصائد وكل
أسماء الألفة قد نأت بعيدا . وبدوت كأنني أتخبط في شراك غابة متوحشة ، وأنه ما من اثر لذلك المتن ، سوى عقارب
خديعته تلدغ مخيلة الوهم، نافثة سمومها في خلايا لغتي . وهذا بعض ما رأيت .
¨
برلين 12/12/2009