وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري
‏إظهار الرسائل ذات التسميات حياة الظل ،. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات حياة الظل ،. إظهار كافة الرسائل

السبت، 18 مايو 2024

مفتالح العمّاري: في خيانة الشعر. مقاربة شخصية لتوصيف الخزي

 

مفتاح العماري

 

في خيانة الشعر

مقاربة شخصية لتوصيف الخزي

"المرأة هي المكان الوحيد الذي يجعل من الجهات الأربع جهة واحدة لا يمكن تحديدها"

-محمد الماغوط-  





 

(1)           

      أشير هنا الى اللحظة الأكثر ايمانا وقلقا في مسيرتي الشعرية، عندما كنت (ولأمر ما) أعتقد جازما بوجود العالم على هيئة امرأة. وأن كل شيء في الكون الشاسع للغة قد سُخِّر من حيث القيمة والمعنى والتوق والسفر لسكّ الجوهر نفسه، كضرب من الاستعارة لأنسنة الفضاء وتأنيثه. هذا السمو الشعري المعلن قدّته مخيلة العاشق، قصيدة متوحّدة يكتبها جندي معذّب، تضافر في تأثيثها الفقدُ والألمُ والجمالُ والحلمُ والترحال وقراءةُ الأثر، والسعي المتواصل بين اليقظة والنوم. كان الأمر (غالبًا) يتبدّى لي محمولا بتلك المتع المصانة، التي تعطيها المرأة للرجل؛ لهذا كلما فاضت أحلامي بنعم الأنثى امتلأت قصائدي بحشد من بهاء هكذا مآثر، تشي على الدوام بأسمى مدارجها عفة ونبلًا. كان الزهو يأخذني من كلمة الى شقيقتها؛ حتى حقّ لقصيدتي أن تتباهى فخورة؛ الى حدّ أن تغترّ أحيانا بما قدّته في توصيف النساء من آيات قدسية تنصهر في معجمها لغة الروح والجسد والعزلة والطبيعة ومآثر المجهول. هكذا كبرت؛ وقد تربّى معي هذا الهوس، الى حدّ أصبح فيه ما من شيء في الكون، يمكنه أن يسلبني كتابا سوى امرأة.

 

(2)

     أجل، كنت مسلوبا بإرادتي، اتخلّى عن مفاتيحي دونما اكراه، واستسلم لطغيان البهاء الذي يحدثه مرور الأنثى داخل كلماتي. اشير هنا الى نون النسوة كمحاولة لهروب جندي من حرب غير نظيفة، من صحراء مخادعة وعشائر تكيل المديح لسلالة الرماد؛ الى امرأة تنتظر. لكن بعد حين (ولأمر ما) أملته قراءتي المرتابة لما يحدث في كواليس الخفاء، كان لزاما عليّ كشف الخديعة، وإعادة تسمية الأشياء، وافتراض مسافة بين المرأة والقصيدة. لعلّ الدافع لارتكاب هذا الفصل التعسفي والمباغت بين شيئين ظلا ردحا من الزمن متلازمين بتناغم في نسيج واحد؛ أي منذ الوهلة الأولى التي تصاعدت شهقتها إزاء اكتشاف النار واللغة، مرورا بحصار طروادة، ومتاهة أوليس وانتظار بينلوب، والجنون المستعصي لابن الملوح، الى ثورات الربيع الغامضة: أن ألمي لا يطاق؛ وقد سبب لي ذلك بلبالا فيما بعد، حيث لا مكث لغير وطأة الفقد المسمّى مجازا: صعقة الحنين. أجل انها صعقة الحنين؛ لأنني فيما كنتُ احثّ رفرفة التائه بحثًا عن كياني، لم تعد الأجنحة التي لطالما حملتني من قصيدة الى أخرى تحتفظ بالطاقة نفسها، وقوة الصوت لرفع الآذان كاستجابة لفروض العشق. كما لم تعد نفائس اللغة بتلك المرونة الرحيمة التي تهب كنوزها لأيّة استعارة حاذقة من شأنها إعادة الجمال الى نصابه. اذّاك استبدّ بي وسواس التخلّي، ووقعتُ في الشرك.

 

(3)

     أذكر أنني في عبارة سابقة، قلتُ ما من شيء كان في مكنته أن يحول بيني وبين كتاب في اليد سوى المرأة وحدها. لكنني الآن؛ وأنا أطلق النظر الى الخلف مقتفيًا أثر ولايتي التي دامت قرابة نصف قرن على قيادة رجل بأسره يمشي وحيدًا. سأبدو مفعمًا بكثير من الرضا لأنني طوال المدة التي قضيتها كرحالة في أقاليم المخيلة، ولا سيما خلال فترة مكثي تحت كل سقف عابر، أو شجرة زيتون، أو قصيدة وارفة، كنتُ اتعلم الكثير من المآثر الحميدة؛ ليس بفنون الألفة وحسب؛ بل أدركتُ عن كثب ضرورة الايمان القاضي بحكمة العمى؛ فمن شأن الظلام وحده محو الفوارق بين نقيضين. كأن يتعذر على الناظر التمييز بين الخيطين، الأبيض والأسود؛ ففي ردهات ذلك الزمن الخائن، اختلط الحابل بالنابل، فلا القصائد تخرج من لدن خيال مبارك؛ ولا النساء نساء. حيث تجمع المحظية بين الطاغية والشاعر؛ ليتناوبا على جسد القصيدة نفسها. وبين هنا وهناك، حدث في الأثناء الكثير ممّا يُقال في مثالب رحلة الجمال، والتطرف الثوري للانتلجنسيا. وسوف تتعذر الاحاطة بخفايا المراهقة العجيبة لتلك الطفرة الثورية المغتصبة بهوس ضابط مخنث، والفصل بين الطيب والخبيث، والغث والسمين؛ ما لم نكن حاضرين عن كثب، وبريبة صبورة، كثيرة الحذر من نوايا سدنة المعرفة وحملة النار، وقد ارتفعت بذلك مؤشرات الخوف من مغبة الرفقة الخائنة، لحظة اذابة السمّ في العسل. وهذا ما حدث.

      وهنا في وسعك أيها القارئ الذي أجهل مقاصده، أن تعزو هذا الضرب من الخيانات التي اعتورت البيت الآمن للجمال، ولوثت قيمته ومقامه؛ لأسباب تتعلق بوجود عطب ما لحق بالنسغ نفسه؛ أي بالشعر، لحظة أن غدا نهبًا لمن هبّ ودبّ. بعد أن حقّره السواد الجاهل الذي يعادي دونما حرج المعرفةَ ووسائطها؛ ليضع الخيال بازدراء شديد خارج دأبه ومثابرته. وجراء هذا البغض الوحشيّ، لم يعد للشعر شأوه القديم في ايقاظ الأرواح وهدي الرؤى. ومن ثم ليس من المستغرب في هكذا أحوال متخلفة وغير آمنة، أن تسفر أولى انتهاكات المخيلة عن وجود طاغية وشاعر في جسد واحد. باعتبار أن النقيضين أصيلان في سيرة الشعر لارتباطهما التاريخي بأسوأ وأبغض مظاهر الخديعة مكرًا وزيفًا. لهذا كان لزامًا عليّ كشاعر التزام ناصية الشك. فضلا عن الكثير من التريث قبل أن أصدر احكامي جزافا. فليس كل ما يكتب من ترهات، يمكن عزوه لطبيعة الوجدان ونسله الطيب. طالما في وسع أي لغوي محتال إعادة تدوير المتنبي. كما لا يعد شرطا لازما أن تكون شاعرًا أصيلًا لكي تكتب قصيدة. ففي هكذا حقبة فاسدة ستحتاج فقط الى قدر يسير من المكر، وقدر يسير آخر من عدم الحياء، وما يعادل القدرين من الثقة الوقحة التي لا نظير لها في ميزان القيمة الزائفة. مع استعداد فطري؛ لأن تتحول في أي وقت تشاء، من شاعر الى جلاد، أو من ضحية الى قواد من فصيلة نادرة، بحيث لا تتردد في أن تكون في الوقت ذاته مناضلا من فصيلة الكومبارس، ثم مناضلا من ذوي الاستحقاق السياسي بامتياز لا يقارن داخل البلاد وخارج البلاد، وفي السر والعلن. رجل المهام الصعبة، وخادم الوجهين الكريمين للعملة الشقراء. فما عليك سوى أن تقتحم الركح (كفارس بلا معركة)، وشاعر لا يشق له غبار، ثم تختم سلسلة بطولاتك بحلقة مثيرة تليق بسيرة مناضل صنعته الصدفة، سيرة حافلة دون مواربة، بشتى أصناف المفارقات العجيبة.

 

(4)

     الم اقل لك بأن المسألة برمتها ليست بتلك الصعوبة التي كنّا نظنّ. اذ يكفي في البدء أن تعمل بمفردك، فهكذا تقلبات فجائية تتطلب ضرورة التخلي عن وهم الشراكة. مع التفطن لفضح الاعيب ومكائد سيدة العشيقات في حبك هكذا دراما لخيانات شعرية ووطنية بالغة الخزي. لأن العار لا يكمن في الساعة التي انت فيها وحسب، والتي مهما حاولت تجميل قبحها، فمآلها في خاتمة المطاف ان تنتسب الى مشتقات العار، ولا شيء آخر؛ طالما لا تأثير لهذه الواقعة التافهة، على أسعار الدقيق والمحروقات والدواء؛ اذ يمكن لآلية تداعياتها أن تتوقف عند هذا الحد، بعد أن نقلت لنا تصريحا وتلميحا بأن تاريخ الخزي في الوجدان الجمعي؛ قد بدأ منذ تلك الغزوة المشؤومة لحقول المعرفة، التي خالط فيها الغشُّ لغة الشعر وخياله. هذا ما تؤكده الآن استحالة وجود سيرة مناضل خالية من مثالب اللغو، أو الظفر بامرأة نظيفة، في قصيدة بريئة من شبهات الغنيمة. بحيث سيتعذر وجود شاعر لم يلعب بذيله داخل الخيمة وخارجها. وعلى الرغم من هذه الآفة وتلك؛ ثمة هنا من يثابر على كتابة شيء.

 

(5)

     قبل عقد ونيف كتبت قطعة سردية، أو ربما هي قصة قصيرة بعنوان "كتاب". اندرجت ضمن مقترحات كتابي الموسوم: "تقطير العزلة، محاولة لتدوير خانة الصفر". ص(83)   تشي تفاصيلها الغريبة؛ كما لو أن كتابا أصيب بمسّ، وقد تقمصت روحَه امرأةٌ قريبةُ سرّ. كتاب يصعب فهمه أو صونه من الضياع، أو تحاشي خديعته. ومن ثم سيتعذر تأويله ليظل دائمًا متأهبًا ومفتوحًا، في حالة استنفار وترقّب دائمين. لعلّ العقدة برمّتها تتعلق (على نحو ما) بشبهة امرأة لا خواتم أو سماء تحدّها. يقول، محمد الماغوط: "المرأة هي المكان الوحيد الذي يجعل من الجهات الأربع جهة واحدة لا يمكن تحديدها". هنا يكمن سر المتاه الذي من دونه يفقد الشعر جزءًا كبيرًا من سحره وبراءته. ألم اقل لكم في حيز آخر: ثمة هنا من يثابر على كتابة شيء. لأنه مهما تعذرت سبل الطمأنينة والحياة الآمنة، فلن يحول شيء بينك وبين إضافة قصيدة، بوصفها عملا فرديا لا يقتضي سوى القدرة على التنفس وتشغيل المخيلة؛ مع السعي الحثيث لجعل الكلمات أكثر سخاء وألفة.

__________

باب بن غشير

18 مارس 2022

الأحد، 18 نوفمبر 2018

تقطير العزلة كمحاولة لتدوير خانة الصفر

    مفتاح العمّاري  


تقطير العزلة على طريقتي
كمحاولة أخيرة لتدوير خانة الصفر
   من المجدي بين حين وآخر إعادة النظر في الكتابة نفسها، ليس بوصفها نصًا لغويا احتل حيزًا على الصفحة؛ إنما كتوق متوخّى، محلوم به، نسعى إلى استدراجه عبر إغوائه وجذبه، باستخدام حيل فنية مشروعة، طالما الهدف هو إنقاذ حشد من كلمات تختنق؛ إعادة النظر فيما سيكتب باعتباره نصا يتمخّض. وفيما لو اعتبرنا المخيلة رحما، والنص جنينا في طور التشكل والنمو، ستقتضي غريزة الأمومة الإصغاء لحركته ولغته وتململه، والحرص على تلبية رغباته، والاهتمام بضرورة تغذيته، ومراجعة الطبيب للاطمئنان على صحته، لأن أي إخلال بالمتابعة قد يسفر عنه موت الجنين داخل الرحم، مما يسبب في حدوث تعفن وتسمم وأعراض أخرى خطيرة يمكنها أن تؤدي إلى وفاة الأم أيضا.
     اختناق الكلمة وموتها، سيؤدي قطعا إلى موت المؤلف. وسواء أكان الموت حقيقة أم مجازا؛ فأن الفاجعة المحزنة أنه لا مناص من هيمنة سلطان الموت على الحياة كقيمة جمالية، وان خارطة القبح لا محالة ستتسع لتغزو مناطق كثيرة، ربما ستكون بمساحة وطن بأسره. أسوق هذه الصورة كناية عن تعطل الكتابة،لا توقفها، واختلال آلة ضخها، ونشرها ،وتداولها؛ كاختلال لمنظومة الخيال، في أكثر تجلياتها نبضا وحساسية. هذا الخوف المضمر هو ما دفعني إلى اقتراح كتابة نفسي، والاستئناس بالذاكرة تلهفًا لإشباع نوستالجيا بدت متطلبة تحت وطأة النبذ والصمت والعزلة؛ أن لا أحد يصغي إليك،أو يقرؤك، سيظل من الحكمة حينها أن تسارع إلى تمثيل دور المصغي والقارئ، لتكون الاثنين معًا،الباث والمتلقي في آن واحد. أن تصغي أخيرا إلى نفسك. وهذا ما حدث. 
    صحيح أنت محض  شخص واحد، أي مجرد فرد يلعب فيما تبقى من  الفراغ؛ كحيز تنعدم فيه خيارات الشراكة التي تكفل للنص تحقيق التفاعل مع الآخر(القارئ)؛ لكن إعادة النظر المتأنية ستصبح آخر التفاتة رحيمة إذا أفلحت في أن تجعل الشخص الواحد متعدّدا، يختزل حشدًا مستنفرًا لتدوير المخيلة والكلمات والصور، وأنت أيضا ستكون محورا افتراضيا، لتدوير نفسك، وذاكرتك، لأن مصيرك لا محالة سيغدو رهنا باللحظة ذاتها التي تكون خلالها قادرا على مقارعة النسيان واستدعاء كل ما هو تائه.

    انطلاقا من هنا سأبدأ مرة أخرى في كتابة نفسي؛ أي من عتبة هذه الحكمة المصونة، وبتضامن شجاع عبّرتْ عنه كل الحواس دون تجمّل أو منّة، سوف أقيم حفلا سريّا للإشادة بنوع متفوق من الحوار الذاتي. لما لا؛ طالما أن اللعبة برمتها تهدف إلى استعارة ذكية؛ ليس لألف ليلة وليلة طرابلسية، أو لدون كيشوت ليبي، أو لأي صنف يحاكي هكذا مصنوعات كلاسيكية عظيمة؛ بل لابتكار رحلة أبلغ أثرًا وأكثر شأنًا، لأن شهرزاد هذه المرة توشك على الغرق، كذلك دون كيشوت، صار هو الآخر قاب قوسين أو أدنى من حافة الضياع، فيما لم تعد أية أحرف صالحة لصياغة شبه جملة مفيدة، مما يحذو بالسرد ضرورة التخلي عن عبارة " بلغني أيها الملك"، كذلك عن مغامرات سيرفانتس. وهكذا بعد الإقلاع الإجباري عن آفة التدخين، والتخطيط لأكثر من رحلة خارج النوم؛  فكرتُ جديًا في تقطير العزلة على طريقتي، والعودة مجدّدًا إلى خانة الصفر، كمحاولة أخيرة لتدوير الفراغ؛على نحو أكثر جدوى. فقط : لعلّي أتعلّم  هذه المرة أنه في وسع جندي ما، في ثكنة ما، في شيخوخة ينهشها المرض، في صحراء بعيدة وجاحدة: أن يكونَ لوحده حشدًا ضخمًا يكتسحُ أرضَ التجارب غير هيّاب؛ ودونما تردد سيفتتح أرضًا جديدة، حيث أكثر من غيمة وكتاب، وشجرة تشير، وامرأة تنتظر . 
_________  
اسطنبول، شتاء 2017    

الاثنين، 4 ديسمبر 2017

حياةُ الظلّ



مفتاح العمّاري 







__________  حياةُ الظلّ *




- 1 -
إذا وُصِّف الضوءُ روحا..  قال الظلُّ :  أنا الجسد،

أنا النصفُ الفاتن ، لا وجود من دوني ....

ولا بياض خارج الأسود الذي أنا ،

يتحقّق بي وأعرف به ،

كلانا يبعث الآخر من برزخه  ويخرج من لدنّه .

لا أين له في بعدي  ، ولا في قربه أيني ،

هو بصيرتي وعماي ،  وأنا   له الوطن والمنفى ،

إذا خفّ ،كلانا  يفقد الآخر ،

وإذا ثقل أسبقه على خطف البراهين .

هو سقف من نار وريح ، وأنا  لغتي ماء وطين .

يغيب فيّ إذا حضر ت  ،وفي برقه يشعّ غيابي ،

كلما حلمت بجزيرة أو مدينة أخرى ، يلتفّ عليها .

وكلما أُشعلت  حربا  يستأثر بالغنائم

فأتورط وحدي في  دفن العواصف  وجثث الغيوم

تكمن مسافتي في خيالي؛ بينما لا يرى الأبيض إلا  فراغا يحميه من نفسه.

يولد  من شغف بي،

وأولد منّي حيث لا بياض يحجب صوتي.

بدايتي تعلو،

فيما السقوط جريرته.

تصعد الأشجار من نطفة في الظلام.

أنا حياة الظل  .. رحمه و غلافه.

لا يهبط النور من دون سعتي .

الداخل صوتي والخارج صداي .

أنا سرّة الألوان  ومحيطها ،

 لا مكان خارج  ظلامي،

 ولا مسافة غير سفري ،

 أينما أذهب ، الكائنات تذهب ،

 أنا الأصل ، العناصر أنفاسي وعشبي

 تذوب في نسغي

 وتختلط بي .

- 2 -
    في ما مضى كنت مجرد تابع للشبح الذي يتركني قفي لهاث، أعني المخلوق الضئيل  بمشيته الخائفة من شيء   لن يتحقق إلا  بإعلان  ولائي له ووفائي المنقطع النظير لنسبه . قد تظنونني كلبا كما تعلن زوبعة الذباب التي حطّت  على قفير عسلي ، تلك الريح الموسوسة التي ما تفتأ في كل صراخ عابر إلا  وتمعن في نعتي بهذه الصفة المقيتة . حتى كدت أظنني كلبا ، لكنني - وهذه حقيقة لا تقبل الجدل – أقسم بأنني لست كلبا ولا أشبه الكلاب في شيء . نشأ هذا الخاطر القلق بعد ثلاثين صيفا من عبوري الخارق  لتلك  الصحراء اللاهبة التي كنت فيما مضى حزينا ،أقف عندها بهياج وحيرة . أما قبل قليل -وهنا أشير بإنصاف إلى أيام خنوعي وذلّي - كنت مستسلما لمشيئة عبوديتي،  دونما إضمار أو ترميز  معبرا في الوقت نفسه عن ولائي لولادات باهرة ما فتئت تكمّلني  ، مدينا للصدف الصلبة ، لحكاية مشرّدة ، لامرأة ما في  مدينتكم ، والتي في ما بعد هي مدينتي أيضا ، ملمحا  إلى  رفقة غامضة   ما برحت تأسرني بمعجزتها ، تعيد تكويني وتخرّط صبابتي  بعد لأي ومتاه ،كأني أشهد إعادة خلقي  وأبعث من عدم ،  طالعا من جديد .. من بضعة حروف شاردة  لملمتها بلهفة من رماد الفاقة . أنا فقط أشبه  سحنة قدري المظلم الذي كابدت عشق بداوته وجماله   ، أقولها بثقة صلبة بعد أن  تنصّلت من تبعية صاحبي متمردا على سلطة جسده ،  طليقا أجوب الجهات وحدي ، ولم أحمل معي من ذكريات غريمي  سوى  أحدى أسمائه المهملة ، أعني اسمه المنسي الذي  لم يعد ينادى به ، وهو ذات الاسم  الموثّق في سجلات النفوس ،لأغدو أول ظلّ ضليل يحمل اسما آدميا صريحا . حدث ذلك في صيف يبعد  بحجم أسطورة أو متاه ، سلخ عمري وقتها عشرين سنة شمسية. لأن صاحبي قد تواطأ مع جموح الجندي وانغمس كلية في ترهات الثكنات التي كنت أمقتها ، لذا عزمت على الهرب مكتفيا بشغف الرائي .. فأنا كما يقال في عبارات الغزل قد أحببت الشعر من أول نظرة ، أغرمت  به ، كما لو أنه معشوقتي ،  فأصبح  شاغلي الوحيد الذي أكرّس له رئتي وكل ما ادخرت  من خيال  . لهذا  أظهرت تمردي بعناد على من كان سيدي وجلادي ومولاي ، أي على نصفي الآخر الذي بهيئة ألوان مهملة تعربد في فراغ العالم ،   غير نادم  حين غدوت طليقا أعبر عن حواسي دونما حاجة لأن أكون خاضعا لنزوات جسده  ،أو جسدي  ، فيما ظل هو شديد التبرم من مواهبي ، ساخطا ومبغضا يعلن دون مواربة  أو حياء عن  حسده ومقته لي ، مستاء إلى حدّ التقزّز كما يقول من عاداتي الغريبة ومزاجي المتقلّب واصفا أياي  بالشاعر التافه ، وأن ما أهذي به أو أسمّيه خلقا شعريا بارعا ، هو محض ترهات قصائد ركيكة، لا تعدو عن كونها مجرد عناوين متذاكية تتوهم  أن لغوها السمج سيهبها موقعا بين معلّقات القصائد .. وهكذا انبرى غريمي  ذات مساء وهو يلمّع بمهارة حذاءه الأسود الثقيل، يكلمني في تهكّم دونما هوادة  ناعتا إياي بالدعيّ الأرعن ، وأنني تبعا لوصفه الحقود لست سوى كلب مخبول ، بل محض ذيل هزيل يتبختر بزهو مغرور ، صارخا بتهكم فج : كأنك تحسب نفسك بأنك أنت  لا أحد سواك من خلق الكون في ستة أيام؟ . لا شكّ ، قد جرحني هذا السيل من الشتائم ،  والنعوت المخلةّ بما تمليه العشرة من عبارات التهذيب ، وتألمت ليلتها  كثيرا ، ولم أنم .. شربت ما لا يحصى من فناجين القهوة وأحرقت علبتين من السجائر الرديئة . وبكيت وحدي ، بكيت كما لم يبك أي ظل من قبل . وهكذا قررت ليلتها  المصير الذي ينقذ ما تبقّى من حياتي القصيرة ، لأعيش حرا طليقا بعيدا عن شرور شريكي وأطماعه وبغضه . أظن أيها القارئ الذي آزرته الصدفة لتصفّح هذه الترهات ،  بأنني عبر هذه التوطئة أكون  قد كشفت نقابا  عن خلل رافق ميلادي  ونشأتي ، و حاولت توظيف ما استطعت من عناصر مهملة قد تسهم في إزاحة النقاب عن ما غمض من سيرة لوني ، مستهدفا  إبراز هويتي للذي يودّ  معرفة طبائع الظلال وأصولها وأنسابها ، ولكي أكون صادقا معك ، ومع نفسي ،قد  تعمّدت هنا استدراج المفردات الأكثر  سلاسة وليونة ووضوحا لخدمة العبارات التي تمليها اللحظة علي ، حيث يلزمني هنا ضرورة الإشارة مرة أخرى  إلى فضل العناصر التي تتضافر في تشكيل خاماتي كمخلوق عبقري ، والتي  هي دونما ريب  من لدن  الظلمة المباركة التي أحمل نسغها أينما ذهبت بعد أن تكوّنت في رحمها وتشكّلت من عذوبة قتامتها حتى صرت أنا كما أنا ، ظلا مباركا لا أتبع أحدا سوى نفسي  . ولدت ونشأت ظلا ، وسأبقى حيث ما وطأت أطياف مشيئتي ، ظلا وكائن ظل ، لا تقف ضآلتي الظاهرة حائلا بيني وبين رسم ملامح الأشياء ، فلا يخدعنكم مظهري الحقير ،ولا قامتي الخجول ، ولا انزوائي وعزلتي وكموني خلف الأجسام . لأنكم بذلك ستغفلون عن أعز شيء  يحقّق وجودكم ، وتخسرون أنفسكم أيها التبّع حين تغفلون  جوهر حقيقتكم بجريرة جهلكم لنسبي . وسوف تندمون يوما لأنكم لم ترونني كما ينبغي . وتكتشفون بعد فوات الأوان بأنكم كنتم مصابين بعمى البصيرة . هكذا تركت صاحبي بلا ظل . تركته عربيدا وشرسا ، وربما يائسا من حياته الفارغة .. يتخبّط  غالبا بين براثن نبذه ، ضحية أوهام  غريبة كالهجرة  أو الانتحار  ، لا هم له سوى السكر والعربدة ومطاردة الأهواء الخسيسة . جارا على نفسه المهالك التي تقوده في معظم الأوقات إلى الامتثال لعقوبة الحبس في سجون الثكنات العسكرية . ليغدو محض رقم تافه في قائمة المحقرين الذين لا شغف لهم سوى الصخب الغبي ، لتمضي أوقاتهم مملة ورتيبة وبائسة لا دفء يغذي برودة نخاعها . هربت فارا بما تبقّى لي  من توق جميل كظلّ لا يتعثر أبدا ، وكشاعر  يهزّ الوجدان ، منضّدا الكلمات التي تتسع لإيواء البهاء  المقدس . ورغم ذلك ظل اسمي  الذي قدّر لي رغما عني التلبية  كلما نوديت به ، يحمل  مفارقة طريفة ،لأنه لا يدلّ علي .. كيف أكون ظلاما صريحا واسمي عبد النور ، وهذا يزعجني في البيت ، وفي المقهى ،  وفي همس حبيبتي ورسائلها القصيرة ..  أنا عبد النور ، في الليل والنهار ،في السلم والحرب .. وفي نومي ويقظتي   يجثم  هذا الاسم النكرة على أنفاسي ، هذا الاسم الذي ليس لي ،ولا يشبه سوادي في شيء ، بل هو نقيض لوني ، فكيف أخضع لصلابته  وأكون أسير ندائه حين يسقط من عل فأقف مذعورا مثل لص متلبس . كأني أحمل ورما يقتلع صورتي من ذاكرة  الجدران والغرف  والقصائد التي أرسمها على فم ملهمتي  ، وهي تهمس : يا جبل ما يهزك  ريح . ثلاثون سفرا والصيف صيفا لا غير وأنا يطاردني  قريني من قصيدة إلى أخرى ، فأهرب خارج أسواره ، مدركا  الحقيقة المرة التي كان علي منذ البدء التوقف عندها .. لأن هروبي بقدر ما كان محرّضا على إيقاظ الحواس النائمة  وخلخلة العواطف وتفخيخ  الغوايات  ، قد جعلني في الوقت عينه نصف كائن مخبول يتمزّق دونما هوادة بين ذاكرتين  ومدينتين وخيالين وامرأتين وقصيدتين ..  حتى أنني لم أعد موقنا : هل أنا قامة الرائي ،  أم  ظلّ الجندي .

- 3 -
أجملً ما في هذه القصيدة ، أسوأُ ما فيها .
أسوأُ ما في هذه القصيدة  أن أموت
وأنا أحبّك  ......
أجمل ما في هذه القصيدة  ،
قدرتها على السفر والضحك والنوم والصمت والرقص والبكاء
أجمل ما في هذه القصيدة أيضا ،
 القصيدة التي لم أكتبها بعد ،
أسوأ ما فيها
يشير إلى خراب جسدي
وطفولتي الغافلة
 أجمل ما في هذه القصيدة
تهافت الغاويات ،
 وإصغاء سدنتها المخلصين
وهذا الزعل الحميم الذي يلمع في عينيك ،
 وهوسي بك ،
 و............ أجمل ما فيها أيضا
ما يتخفّى من خيال صاخب خلف الكلمات ...
كذلك السرير وما يختزنه من روائح وأحلام
 وعناوين وبقع حارة
لكن الأسوأ ....
أن كل هذه الأوطان التي رفعنا أعلامها وبنادقها
 ورسمنا خرائطها في أحلامنا ودفاترنا
بكل ما فيها من هتاف وأناشيد وصحف ومستشفيات وعناوين وبحار
وأفران وأمنيات  وحدائق ...................
 لا تتسع لإيواء قصيدة واحدة  أحبك فيها .

- 4 -
الذي الآن طرقة ريح
صدى الباب الذي قبل قليل كان  بابي
الأصابع الباردة أمست بعد فطنتها في الليل تسهو
 لتختفي فجأة مفاتيح بابي .
لذا لن يحيطك يا مولاتي بعد هذه القصيدة ظلّ 
ولن يملؤك غياب ......
 سوى غيابي.

-            5 –
-             
لا بأس ... قال الظل :
إكراما للعيد ،أترك الآن هذه القصيدة التي ريثما أغادر سريري

سأكتب قصيدة أجمل منها .
___ 
من نصوص كتاب:" حياة الظل " منشورات وزارة الثقافة والمجتمع المدني
يناير 2013 . كما سبق أن نشرت محتويات الكتاب في صحيفة الشمس الثقافي ما بين سنتي 2009 : 2010.

السبت، 27 أغسطس 2016

أشير اليك وأحلم. الى روح: لطيفة صالج


مفتاح العماري






 __________ 


  كما يليق بي ..

          أشير إليك وأصف هذا النفير ،
          أشير إليك وأحلم .
                       إلى : روح  لطيفة صالح .
                     



                 

§  في هذا الخلاء المتوحّد  حيث لا أحد يصغي إليّ .. لا تحية للصباح  .لا فنجان قهوة ينتظرني كالعادة ... فقط تترعرع الأتربة والنفايات فوق أرض الغرفة .. وتذبل نبتة الصبار الصغيرة  التي كانت تروم العطش والرحيل . لا شيء غير أكداس من الصمت والكتب والأوهام في أرجاء الروح التي أضحت باردة وكئيبة / وحيدا أحاور ظلّي المهدم .. وصورتي الشاحبة في مرآة الحمام .. و أغضب لمجرد أنني  أمسيت رجلا متروكا للنسيان في هذا الصيف .. وأنت يا زوجتي الطيبة تعرفين كم أكره الصيف والفقر والبعوض والنفايات .. وتعرفين كم أشتاقك الآن .. وكم هي الحياة هشة وقاسية من دونك ، فلا أحد يصغي إليّ .. فأين أنت أيّتها النائمة بعيدا في المجاهل الغامضة .. أريد فقط أن نتحدّث في المساءات الخشنة كما كنا نفعل  .. أن أمنحك كتفي وأنت تصعدين سلّم العمارة .. أن أجلب إليك قدحا من النعناع المحلّى أو ملعقة من عسل .. أن أناولك حبة كربونات الكالسيوم أو كبسولة الون آلبا .. أن أخاف كلّما ارتفعت حرارة نومك وأنت تتململين بوجع لا يطاق .  لكن لا أحد الآن معي .. رئتي تغصّ بحشد من الحكايات .. فيما أعود خائبا وضعيفا إلى المنزل .. أعرف بأنّي لن أجدك في انتظاري .. قلقة أحيانا لأنني لم أهاتفك .... ثمة أرق يكبو .. فما جدوى أن أستسلم  لصوت الريح طالما لا أحد البتة يصغي إليّ .. أن أفكّر في إصلاح النافذة وطلاء الجدران  . أجلس مستوحشا  وكئيبا , أنظر ببلاهة إلى أوراقي الممزقة في أرجاء الحياة الباردة .. إلى النفايات والصمت والوحشة  . لست أدري كيف شاخت الأيام فجأة فيما قصائدي لم تزل يافعة وصغيرة ترفرف بمرح فوق الحكايات الطازجة . ولا أحد يصغي إليّ ../ في الليل حين يتلاشى العالم ، تستيقظ الكلمات .. فأختنق بالوقائع الصامتة . لأنه مامن أحد يصغي ..  صرت أحتاجك بقوة .. فتعالي أيّتها الرحيمة .. وليعد الغثيان الذي كنّا نمقته .. وهبوط السكّر ونقص الهمغلوبين .. ومشاوير المشافي،  وجداول الديلزة ، وحقن الهيبارين، والصداع ، وارتفاع ضغط الدم ، والوجع  ولغو الممرضات ، وأخطاء الأطباء .. وصراخ المرضى .. وضوضاء الزوّار ، وقرحة الفراش ، والأنيميا الحادة ..  فقط أن نتحدث من جديد . أعرف رجالا اختنقوا بالكلمات / لكنّهم ليسوا مثلي .. فأنا دائما أصف النفير ، ثم أشير إليك وأحلم ..  أبتكر سبعين طريقة لاستعادة النسيانات التي تحلّق بعيدا بأجنحة قوية في ظلام مهيمن ..  وسبعين طريقة لكي أرحل بحواس وضيئة إلى مجهولك .. مشيرا إلى براثن الضياع في صحراء أخرى ....... يوم تغدو الشمس غطاء النظر .. كنّا رتلا من الجياع ، لا عاصم لنا سوى ما قدّه البؤس من سراب يدور .. وعين الفاقة ترعى مستقبل قبورنا . بأجنحة من رماد . هكذا أشير إليك يا ابنة الريحين ، لكي أستعيد بعض صوتي وأستردّ  ما ضاع من حراك : .....   من ألف الأسى إلى ياء الحنين .. يوم ذوّبت الكلام وعصرت الصدى . لمّا لم  يبق غير ما يقترحه الصديد من حديد لكي ندين البكتيريا ، بكل ما اقترفته تعاليمها من جرائم في حق المنصتين ، أبناء الخفة وسدنة النار .. الذين لا ناقة لهم أو بعير .. فلماذا استهلوا النفير  بالنفير وضاعو ا في مفازات  الفراغ وحقول الزمهرير . ثم أشير إلى فخاخ كانت تطبق أسنان فولاذها على أجنحة لغتنا التائقة .. متهما الثكنات الشبيهة بعقوبة مؤبّدة لما جرته عليّ من فقد وغياب .. وأنا أشير إلى زنازين التأديب في معسكرات السعير ، وحرمانات العطل ، وحراسة البوابات والمخازن والكوابيس. من سيردّ إلي ما ضاع منّي.. أو ما نهبته جحافل المتاه من خيال نافر ../ أشير إلى قطط البهو  وجرذان المجارير .. وكيف كنت أعلّق ما ترتق من كلام على حبال الغبن القديمة  .  أشير إلى  فتى رقّشه ربيع المزابل .. فتى من قشطة  الكلام المرّ  يذوب بعيدا في لجة الصيف .. وأنت تعرفين يا عزيزتي كم أكره الصيف واللصوص والكلاب، غير أنك كنت تطلعين من  قصائدي المتوحشة .. كلّما أومئ إلى  الشوق المقمّط  بكآبة سخية .. إلى أسرّة مضمّخة بعطن العنابر .. إلى أسئلة ثقيلة تنتعل أحذية ضيقة  .. ثم إلى الألم .. أعني الأبواب المقفلة .. والمدارس التي لم أنعم  بلمس طبشورها و مقاعدها وعصي معلميها .. / كما أعني  نظرات المتسولين وهي تشرئب خلف صلابة التاريخ الأرعن ..  رجال البوليس الأكثر أناقة من كرسي الحلاق / رجال المآتم وشيوخ العشائر وقد التحفوا بعباءات الرياء ../ فتية النوم العاطلين عن لغة الأمعاء الفارغة .. رجال النحاس بثياب مسروقة عندما يطرقون أظلاف السماوات ويطلقون البخور في أرجاء الفاقة .  رجال الطين حفّاري  الوقت المجترّ بأدوات خبب مصقولة بوهج الأكاذيب الجميلة ../  سماسرة السوق حين يهتفون فيتطاير القمل  من ثنايا أيامهم  الرثة ../  أشير  إلى رواد السكر العربيدين والشكّائين البكّائين وقد خمشوا حياء الشوارع ../ رجال اللعب بضحكاتهم الصدئة وتبغهم الثرثار  ../ رجال الحكمة العرجاء الملتحفين ببياض الشهوة الماكرة .. / إلى سيرة العطب  وقوافل النثر التي تصف حروب العشائر وخراب الرؤى ...... إلى خنادق الفزع وعقارب البهجة وهي تلدغ الرغبات الغافية .. إلى الموت  الطفل : الصحراء/ أوجنقا / أبشا / آتيا / الدكتور زيفاكو / العصفور الأحدب / طريق التاو / والذي يعول عليه. فكم مضى من علامات البؤس والعويل  وأنا أشير إلى جثث بأوصاف تائهة .. إلى تاريخ بغاء مستبدّ .. إلى عقاب مقدّس يمزّ ق النور في زنازين العواء .. والى كلام كثير مقتلع من حجارة المعنى / يا ......  يا زوجتي الطيبة وأم ّصغاري الحالمين .  مرة أخرى أشير إلى ما يقف خلف هذه المفازة المسنّة من :  ربيع مختل../ ضحك رمادي / أسواق جراد مقدّد / بنادق صيد /  ونداء القتلى عندما يتسلّقون مآذن السرد  / حليب الغواية الأسمر / ذهب الصبا  .. أنصاف مواسم لهبوب الجنون  وصعود الخطيئة / إلى ما أنزفه في عزلتي من صمت وأنا أشير إلى دهر ثقيل يتبوأ  عرش العتمة .  فما الضرر يا ترى في أن نحلم قليلا .. لكنهم - وأنا   أعني من درسوا في عواصم العجم على حساب قوتنا.. وملكوا القصور والحور ،  والحقول والبقول ،  وجمعوا بين الحكمة والفجور  -  قد طفقوا يشطبون أوصافي ويقصون صوتي عن منابر الشعر .. لمجرد أنني  أشير إليك وأحلم .. ألست كائنا سعيدا في هذه البرهة وأنا أقف جنوب الفقر ،  مشيرا بهدوء إلى مالا  يتاح  : إلى سلّة صغيرة من فاكهة الخيال .. إلى غرفة منتزعة من ألف ليلة وليلة .. إلى تلك الشجرة المطلّة على نهر اللهفة، والتي لم نقطف غناء عصافيرها . إلى حجر النور في شرفة تحلّق  . إلى أمسية أخرى غير هذه الكلمات الواجفة والمدينة التي تخسر في كل لحظة دهرا من الطمأنينة . إلى : كيف أركض بك محمولة فوق نشيدي  صوب جنة عتيقة لم يكتشفها الأنبياء بعد .؟  إلى خوفي من هبوط نيزك ثمل . إلى جزيرة تقع دائما غرب الماء وشرق الذاكرة ، عندما كانت بنغازي تتسكّع خجولة وحارة في شوارع الألفة .. عندما لم يأت أحد غيرنا إلى قيلولة الشعر الملعون .. إلى ضفاف بعيدة لم تزل بعد أكثر جدارة من منجل متصدع علّقته الأيديولوجيا على جدار الوهم  . إلى انتظار ثقيل له رائحة محطّات مخادعة /.. إلى أمي بعد كل هذا الهلاك . / وأيضا أشير ببكاء أشدّ صلابة إلى عكّاز جدّي الأعمى  ، الطويل ، الأحدب ، الأبيض الملتحي .. جدي أبريق نحاس بعنق معقوفة/ أبريق صلاة يلمع تحت الحائط .. إبريق عسل يتبدّد على ساق نخلة مقطوعة .. غيمة ظل تسبح فوق خرائط القيظ . ثم المّح بخفّة تعرفينها إلى عاصفة تزوجت نصفها ../ هكذا يا ابنة النارين..  حين تتعرّى الأيام وتصهل قوية بهشاشتها الفادحة .. لتنشر الفوضى بين سكان الخيال .. وكأني هنا أستعير  ملح بنغازي  .. و حمامات المسك غنيمة اللذة  ..  بنغازي بأسمائها الخارجة من عرق المهاجرين .. لكي أهدي إليك يا زوجتي الحنونة هذا العالم الزاخر بالخطى الدامية  ..  مشيرا بالضرورة إلى براءة يدي من سقوط بغداد . فلا مطر اليوم .. لا رسائل.. لا تذاكر سفر .. لا كتب .. لا موسيقى  ,, لا مدن جديدة .. لا حقائب .. لا محطّات  .. لا جمعة ولا أحد ../   فقط أشير  أخيرا إلى :  ضرورة الهذيان .. وأن كل حبل أو جبل أو خبل  محض نقطة اضافة .. وعلامة هدم للمعنى .. وارتجاج بالغ  الأبّهة والقساوة في خيال المعدن  . كما يليق بي أن أجرّب تقنية الرحيل عبر النوم .. لعلّني أكفل تنظيف حنجرتي من أشواك العزلة .. وحسك الخواء .. غير أن الغبار المتصالب ينمو بضراوة في أركان روحي ..  ولا أحد يصغي إلي /.. هنا حيث لامكان لحرف يؤنث .  طارت الأرض إلى سقف الجنون .. ونشرت العواصف عناوين هبوبها .. وأنا كما يليق بي /
مرة أخرى  : أشير إليك و أصف هذا النفير ../  أشير إليك وأحلم .
          _____ 

*   من نصوص كتاب " نثر الغائب"                                               
                                                               



الأربعاء، 9 مارس 2016

كلّ امرأة اعطيها اسماً..

مفتاح العماري 




حتى لم يعد لديّ ما يكفي من الكلمات



حتى الآن قد شطرت العديد من المعاجم بحثا عن شيء أتوهم بأنني ضيعته أثناء سقوطي من سلّم الطفولة ، كحادث عابر في أول الأمر .
**
 في يوم ما قلت :  
لا وجود للشعر بعيدا عن منازل النساء .
في يوم ما أيضا كنت عربيدا ، حين كتبت قصيدة " رجل بأسره يمشي وحيدا "

**
لكن عندما غرقتُ في النثر ، استأثرتُ بموتي ولم أصرخ كما يتردد  في مقاهي النميمة .
**
حتى هذه الساعة قد تجاوزت بصمت العديد من الثكنات تاركا أطلال الوجع وخرائبها الدامية تستغيث بظلي، وأبيّ الذي مات قبل أربعة وأربعين شتاءً . متجاهلا كل معاركي الصاخبة مع الجراحين والممرضات وسائقي الإسعاف .
**
غير نادم بالطبع حين سلّموني ( كلاشنكوف)  وحملوني إلى جبهات الجنوب . ولا أخشى  من تفسّخ تاريخي في صحراء صبورة ، ربيت مكرها على مهل  .
**
 صحيح : قد تعبت ،
صحيح : فقدتُ جزاء كبيرا من مشيتي ، وتعذّر عليّ استعادة خطواتي الرشيقة
وضحكتي الأولى عندما كنت اقفز بخفة من مدينة إلى أخرى :
 صحيح : كل امرأة أعطيها أسماً ، حتى لم يعد لدي ما يكفي من الكلمات .
 لهذا ظلت قصائدي الأخيرة دونما عناوين .
اتركها تتخبط داخل صناديق مهجورة
 حتى تتساقط حراشفها وتفقد ذاكرتها النشيطة .
**
لهذه الأسباب وغيرها سأتشبث بحبكِ

 تاركا خلفي فوضى المستشفيات وأشلاء الألم .

الأربعاء، 23 ديسمبر 2015

بلغني أيُّها الملك ..

مفتاح العمّاري



قالت شهرزاد
     كانت  شهرزاد وهي تسرد حكاياتها الجامحة تتشبث إلى أقصى رمق  برئة الحياة ، وتوصل الليل بليل آخر . شهرزاد حاضنة الحكايات الفاتنة وهي تتناسل ملتبسة بشقيقاتها النائمات تفتح مع مستهل ظلمة الليل كنوز الخيال دونما ارتباك أو تلعثم بهذه التيمة الشهيرة " بلغني أيها الملك " . كأن الليل وطن الحكايات السادرة في لهفة إلى الخلق والتشكّل المستمرين ، مستأنسة بظلمة الكائن مضاءً  ببهاء القمر ، بدرا يمارس لعبة النمو ، ليضفي على الفضاء سحره الخاص . القمر هذا الكوكب الليلي الذي استأثر الشعراء بمديح فخامته  واستدرجه العشاق الهائمين وجدا  إلى مجالسهم وشرفاتهم ، وضمّنوه عبارات الغزل ورسائل لغرام مضيفين إليه صفات شتّى ومجازات لا عديد لها .
    هكذا ظل الليل يتحقّق مستمدا تأنيثه من صيغة المفرد ( الليلة ) .. فهو سكن  ولباس أيضا.  ضمن هذه الثنائية تقابلت الأضداد  : شهرزاد الحكاية / وشهريار السيف .  الحياة مقابل الموت ، حيث كان على ليونة الأنثى أن تمتص صلابة الذكر وتستوعب بدهاء خشونته الظاهرة بحثا عن ليونة الكامن  لتصك روايتها بلغة شفيفة وأصوات حالمة لا تعوزها طراوة النغم وسحر الموسيقى لكي تستحوذ على شغف الأذن  وترفع من وتيرة الإصغاء .  وإزاء مهارة الأنثى نسّاجة المعنى بخيوط الكلمات  صعدت الحكاية التي لا تكفّ عن النمو والدوران .. الأمر الذي عطّل عمل الموت  فظلّ السيّاف  فريسة للسأم ينتظر دونما جدوى ، متأهباً بتوتر عند عتبات النهار مترقّبا خاتمة الحياة التي تبدأ مع نهاية الحكاية .. أي في اللحظة تلك التي تتوقّف فيها آلة السرد ، حينما تكفّ شهرزاد عن خلق كائناتها الغريبة .
 لكن الحكاية وهي تؤثث عالمها كانت قد وظّفت ضراوة الزمن لصالحها .. فلم تعبأ كثيرا بشهية السيف الذي صنع من مادة زائلة ، حيث لم يبق له سوى أن يرضخ لمشيئة الصدأ .. لتستمر الحكاية .
**
   في اللحظة تلك التي مثلت فيها شهرزاد إزاء الملك الطاغية الذي تلوثت يداه بدماء نساء مملكته .. بعد أن قرر قتل جميع النساء بجريرة امرأة واحدة  هي زوجه الخائنة ، التي قيل بأنها مارست الحب مع زنجيّ من عبيد قصره في السوانح التي يتيحها انشغال الملك المخدوع برحلات الصيد .  لحظتها أدركت شهرزاد بحدس الأنثى أن السانحة النادرة لتأجيل موتها تقتضي إحاطة الملك السفاح بالحكاية المستحيلة التي يصعب سردها في ليلة واحدة .. فاستعطفت الملك متوسلة بأن يستجيب لتلبية أمنيتها الأخيرة  قبل أن يأمر سيافه بقطع رأسها ، طالبة منه السماح لها بأن تروي لأختها الصغيرة دنيا زاد الحكاية التي تعودتها قبل النوم . وإزاء هذه الأمنية الساذجة لامرأة ستقتل بعد قليل لم يجد الملك أية غضاضة في إبداء موافقته ، فتحينتها شهرزاد على الفور وافتتحت حكايتها بحشد من المردة والجن والشياطين والأنهار الغامضة  والطيور المنقرضة  وحيوانات الغابات القصية  وذئاب الصحراء  وسباع الجبل  والمدن العجيبة التي لم يطأها الخيال بعد  . كما استدعت الشعراء الصعاليك والشطار  والعيارين  والعشاق المجانين الذين استوطنوا مرابض التيه الغامضة ، والفرسان الأشاوس  بغبار لا يشق .. وروّضت الخيول الوحشية والعواصف والأحلام المعتوهة .. ثم شدّت الرحال إلى بلاد العجائب والأساطير .. وروت في الليلة الأولى  الحكاية المستعصية التي لن تنتهي إلى أبد الآبدين .
**
    في أول الأمر لم يحفل الملك بقرقعة حروف الحكاية ولا بالمرأة الجميلة في أسى ،  والتي بدت كأنها تصلّي لا تسرد قصصا .. لكنه ما لبث بعد هنيهة أن استسلم  لمهابة الإصغاء  بطواعية عمياء ، مأخوذا بفتنة السرد ، ليلفي نفسه رغما عنه فريسة حائرة تتخبّط بين أسنان فخاخ الفولاذ  والشغف والترقّب ، منتظرا في لهفة تتابع الوقائع الغريبة التي لا خواتم لها .. والتي طفقت دونما هوادة ، في إثارة الغوايات بلا توقّف عن التوق والترحال .. لكأن آفاقها ستظلّ مشرعة على الجهات الأربع .. وأن الليل على غير عادته منهوب دونما رأفة  بمصائد لغة حارة تقترف الصور الدامية ببراثن البلاغة التي تصنع معجزة السند باد ، والعنقاء ، ومصباح علاء الدين  ، وهي تُقَدّ بمفردات نادرة سكّتْ من حجارة الأساطير  ونسجت من نيران السحرة وأبخرتهم الدائخة لتطلق في سماء الخيال : بساط الريح والقصور الطائرة والخيول المجنّحة بعلو فصيح ، وتفتح مغاليق الغرف السبع المحكمة بإقفال الحكمة وطلاسم السحر الأسود .
**
       ظل الملك دون ريب مفتونا بجمال السرد ، فلم يعد يعبأ بآلة الزمن  وهي            تنظم في عقد لياليها : الليلة الأولى بعد الألف وكأن الزمان خطفة برق ، ولمحة نظر ، لأن الحكاية وهي تمخر عباب مناطق مجهولة وتنسج كائناتها المعذّبة وتحفر عميقا في تربة المخيلة  ، لم تترك مجالا لشيء ، سوى نشوة السكر التي غمرت شهرزاد بلذتها الكاسرة وجعلتها مخطوفة بمباهج حياة جديدة تتخلّق من روح الكلمات تحت صفحة قمر ضال يكاد من شدّة الوله أن ينسى دورته ، ويخطئ في حساب المواقيت . هكذا استطاعت شهرزاد أن تحتمي بدرع الحكاية وتتحصن خلف قلاعها المنيعة ، لتنقذ أعناق بنات حواء من سطوة السياف ، وأن تهزم بمفردها مشيئة القتل ، ليظلّ السياف - ولا سيما بعد صعود الحكاية كرسي العرش- زمنا طويلا عاطلا عن سفك الدماء ، وحيدا يهشّ الذباب عن رغباته الفاسدة ، لا عمل له سوى كنس الأروقة وتنظيف المراحيض والإشراف على اصطبلات الخيل وزرائب الماشية .
**
      بصدد ما حدث بعد ذلك ، أكّدت الحفريات المورفولوجية أن الليلة الثانية بعد الألف شهدت نهاية غريبة، ختمت سيرة الملك السامق ، الذي أذهلته الحكاية فأصابته بالعيّ  إلى الحّد الذي لم يجد معه بدّا من اللجوء إلى مجاز الصمت بعد أن عجز عن إيجاد الكلمات المناسبة لتوديع سكّان القصر ، فاكتفى بلحظات صامتة ، مثقلة بالرهبة والبهاء .. وهو يرنو بهدوء إلى شهرزاد : المرأة الوحيدة التي سمّت له المجاهل المستحيلة ، ووصفت هيئة الجمال المقدّس ، قبل أن يسلّمها مفاتيح مملكته الواسعة ويغادر وحيدا بلا زاد أو رفيق ، تائها عبر جهات قصية ، يبحث من دون جدوى عن مسارب الخيال وأسماء الخرائط الخفية التي تفضي إلى نار المعرفة الأولى ، حيث لا أحد يفكّر بعدُ في ارتكاب الخطيئة الفاحشة وفعل الدنس .

**
      قيل والعهدة على الراوي .. أن البلاد التي حكمتها الملكة شهرزاد قد ظلت لدهر من سؤدد ، تنعم بسخاء لا نظير له ، مأهولة بالشعراء والمغنين والحكماء .. وأن الأفكار أصبحت ترعى بحرية آمنة وسط بساتين مترعة بالدفء والطمأنينة .. وظل الرعايا إلى عهد قريب يتمتّعون بألفة صقلتها قريحة الشعراء ومخيلة الرسامين وشفافية العازفين .. حيث يجتمع الشنفرى والنّفري والحلاج والمتنبّي والجاحظ وزرياب وديك الجن، تحت قمر واحد . 

¨