وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري
‏إظهار الرسائل ذات التسميات وجهة نظر ،. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات وجهة نظر ،. إظهار كافة الرسائل

الاثنين، 18 أغسطس 2025

تعليق على هامش :مأدبة لبكاء مرّ للشاعر جمعة الموفق*

 مفتاح العمّاري

 ____________________________________________

      هل يمكن أن يخرج من النثر قصيدة؟  هكذا تساءل، أنسي الحاج، في المقدمة البيان، لمجموعته الشعرية الأولى (لن). سؤال ما انفك يتكرَّر بصيغ شتى. سؤال تقليدي وبديهي في آنٍ، ومع ذلك ما زال يحثنا على إعادته، وإن بصيغ مختلفة لإيجاد توصيف أكثر دقة لهوية قصيدة النثر، ومحاولة الاقتراب من القبض على تعريف منصف يؤويها ويحيط بها، كذلك الكشف عن خصائصها؛ والتنقيب عن مرجعياتها؛ فيما إذا كانت تُولد من اللغة، من الألم، من الصورة، من الموسيقى، من الغربة، من الغضب والتمرد، من الذاكرة، أو من تأثير القراءة والتناص. وهل القصيدة نتاج البيت، أم الشارع؟؛ وعن مدى صلة قرابتها بالشعر.


   قصيدة جمعة عبد الله الموفق، (بصورةخاصة) تختزل كل هذه الأسئلة. مع ملاحظة أننا حين نقتفي المرجعيات المؤثرة في المادة الخام لهذا الصنف المتجدَّد من الكتابة؛ فإننا نسبر القصيدة ذاتها من داخلها، لا من الخارج؛ باعتبارها؛ (أي القصيدة) وحدة مستقلة بذاتها وكل ما يدخل في خامها سيشي بعملية هضم، وتدوير لها خصوصيتها.

    ضمن هذه التلميحات الممهدة اندرجت قراءتي هنا لديوان، الشاعر جمعة الموفق "مأدبة لبكاء مرّ" كتجربة جريئة في انحيازها لقصيدة النثر. ولفض الاشتباك الدائر حول هذا المصطلح وانتسابه لسلالة الشعر العربي، نجد أنفسنا أكثر ميلا إلى اعتبارها (أي قصيدة النثر) نوعا شعريًا مستقلًا، لا فرعا من شجرة. ولأنها تشكل في عمومها تحديًا يضرب في أكثر من اتجاه، تحديًا في رهانها المستميت على صنف من الكتابة أضحى نسيجه واهيًا في قماشة الثقافي والمجتمعي، وقد ضاق حيزها وتفسخت قيم زمنها وندر شغف محبيها، تحديًا للمحرم وانتهاكا للتابو بكل قوانينه ومقدساته، تحديًا للواقع عبر تعريته وفضحه ونكش مطاميره وكشف أسراره. أجل، قصيدة جمعة الموفق؛ تضرب في أكثر من اتجاه داخل مستوى تعبيري واحد، وبعبارة مقتصدة، تقشفت مفرداتها في استعمال أية مواد تجميل بلاغية، واكتفت بانزياحها الخشن، والتقاط المطروح في الطريق، تبعا لحاجة العابر.

 

      أشير بأنني لا أتكلّم هنا، بوصفي منظرًا؛ بل أتبع ذائقتي عبر سجيتي وحدها؛ محاولاً توصيف تلك الهزة العميقة التي أحدثتها قصيدة (الموفق) في وجداني. وكل ما أقوله لا يطمح أن يكون أكثر من ترجمة لما يمكن تسميته بتفعيل القراءة بوصفها حياة أخرى تجاور المقروء، وتنطلق تحديدًا من فضائه؛ لا لتأطيره؛ بل لإعادة خلقه، تبعا لما تسهم به عملية القراءة من احتمالات التلقي والتأويل.

     أشير أيضا: إلى أنني قرأتُ مقترحات هذه المجموعة الشعرية (قبل بضع سنوات)؛ وهي لما تزل مخطوطة معدّة للنشر، خصّني بها الشاعر (مشكورًا).

     في أثناء قراءتي، كنتُ بدوري اتساءل، من جهة؛ عن مرجعية اللغة، كذلك مرجعية فضاء القصيدة كخلفية ثقافية اجتماعية؛ وقد أدركتُ بأنني إزاء كتابة مضادة للسائد، كتبها شاعرٌ حقيقيّ، لتعبّر عن تجربة أصيلة، حيث الكتابة مشروع حياة، تنطلق من انهمام وجوديّ، وقلق يراكم أسئلته، ويعيد تشكيل المتخيل، بواسطة اللغة وحدها، باعتبارها سلاحه الوحيد في معركة الوجود. اللغة وقد تفطّنت للخديعة اللفظية التي ما تزال تُعلن عن نفسها لدى التجارب الممتثلة لرومانسية موهومة؛ سوّقها أنصار التافه والسخيف من الشعر الغنائي، (قديما وحديثا)، الذين حوّلوا لغة القصيدة إلى جُمل سائبة، وفضفاضة، تذهب غالبا إلى ما وراء الواقع. وهكذا سبّب التخلي عن المحسوس، وازدراء المستعمل، في إفقار لغة الشعر كمنظومة متكاملة تجمع بين الإيماء واللفظ والصورة، والشفوي والمكتوب. لأن اهمال هذه السيمياء تبعًا لخبراتها وتطورها، نتج عنه من ثم إغفال دورات تراكمها الشعبي، في مستوى لغته الشابة: لغة الشارع. هذا المأزق يُعدّ من أخطر المعوقات التي تعترض صيرورة التجاوز. وهو أيضًا مكمن الخلل في تخلف عملية الكتابة الإبداعية بشتى أجناسها، ولاسيما الشعر.  

      تستجيب اللغة هنا لمخيلة الشاعر، ولن يكون في وسع أكثر مفرداتها خشونة إلا أن تلبي مشيئة القصيدة، ولاسيما حين يتربص معجمها بمفردات الشارع، حيث تتحقق المعادلة الصعبة: ترويض القصيدة على ضرورة التسكع، كصنف من المعرفة لا يتحقق إلا بكسر صرامة اللغة نفسها، فضلا عن كسر إيقاع ارستقراطية ذاكرة الشعر، والتخلص من شبهة الغنائية، وأشياء عديدة عليها أن تتحول الى حطام؛ حتى لو كانت من سلالة المقدسات. 

    تبدأ القصيدة من خلال اكتشافها للغتها، أي المقاربة بين الكتابة والكلام؛ وهذا عمل بقدر بساطته النظرية، إلا أنه يحقق معادلة صعبة المنال، عندما يقفز على كلاسيكية اللغة وصلابتها؛ ليكتب بالطريقة نفسها التي يفكر بها.


     لعل الطيف الجديد من شعراء قصيدة النثر بمختلف أجيالهم انشغلوا بمقاربة الحي والمستعمل من اللغة، وانتخبوا لغة اليومي، على حساب البلاغي. لذا ستظهر آلية الانحياز للغة الشارع، كأول ملمح في قصائد هذه المجموعة الشعرية. فمن علي صدقي عبد القادر، إلى هناء قاباج؛ مرورا بفوزية شلابي، وسميرة البوزيدي وسراج الدين الورفلي، ومفتاح العلواني، ومحمد عبد الله – هنا ألمّح ( من زاوية نظر شخصية) إلى الإشارات الأكثر مراكمة وتشكلا ورسوخا ومثابرة وإضافة وتأثيرا- في قدرتها على إزاحة القصيدة، ليس في التنصل من العروض والأشكال العمودية للشعر التقليدي، أو موقفها المضاد من التشوهات التي طالت قصيدة النثر وحسب،  بل عبر دورها المعرفي في المقاربة بين الشعر والحياة، كواقع معاصر، وتحرَّرها من سلطة الأبوة وهيمنة السلف.

      أما فيما يتعلق بالفضاء؛ فذلك يتطلب وقفة أكثر تمعنًا وتدقيقًا وتمهلا، وبصورة خاصة إذا ما أدرجنا هذه التجربة ضمن تيار شعري ينحاز للهامش؛ فحينها سوف نفتقد لتلك العلاقة الحية اجتماعيا باعتبار الحانة ومعاقرة الخمر هامشًا له حيزه الثقافي الذي يشكل إطارًا اجتماعيا، وبالمثل ينسحب الكلام على النساء وتكريس ثيمة «الأيروتيك كلازمة» مهيمنة، من خلال توطين مفرداتها الخلاعية، بشكل يشي أحيانا بالإفراط المتعمّد.

      وهنا أومئ إلى أجواء المكان كبيئة اجتماعية، وعمارة وواقع يومي ضاج، وكيف تغامر لغة الشعر باختزالها وتحولها من ثم الى (قصيدة نثر). باعتبارها صور واقعية، ومخزون اجتماعي، يحتمل من ثم، هذا الجموح المضاد، مثلما هو شأن (سانتياغو) في قصائد: (نيكانور بارا ( ولوس انجليس، في قصائد (بوكوفسكي). مما يحفزنا هنا للبحث عن مدينة تخصنا، أي عن طرابلس أو بنغازي، وربما درنة وطبرق، أو الخمس والبيضاء ومصراته وسبها؛ لكأننا نحاول ايجاد مسوّغ لصدقية التجربة، بوصفها حياة معاشة تنطلق من واقع اجتماعي حيّ كمرجعية، لا تبرئتها من شبهة القراءة أو المشاهدة. كمحفزات للتناص مع تجارب الآخر. لكن، وبغض النظر عن خلو الحواضر الليبية من هذا الرصيف الذي يحتمل حانات ومراقص ومواخير وأماكن تضج بالعاطلين والمشردين فإننا سنتعاطف مع مخيلة الابداع الكتابي شعرا ونثرا كواقع افتراضي يهبها الحرية – ربما المطلقة – في استحضار ما يحتمل استحضاره من مفتقدات. بيد أن السؤال المخيب هو: أن (هكذا قصائد) سيكون غير مرحب بها في بيئة تقف دائما ضد المغامرة والتجريب. وفي الوقت ذاته، سيتعذر على أدواتها القرائية، الفصل بين الواقعين، المعاش والمتخيل.

     وبالرغم من ذلك فأن هذا الانحراف كفيل بأن يجعل القصيدة تتطابق قولا ومعنى، لحظة أن يتصالح الخيال مع نفسه، أي حين يكتشف لغته الضائعة، ويكتب لحظته كما هي، دونما ادعاء. 

     هذا هو الشعر: صادم، وعنيف، لا يسعه أن يمرّ بحياد طالما كل كلمة كفيلة بأن تلدغك؛ لتترك أثرًا لا يمحى، شعر اعترافي، سيروي، يومي يوثق البديهي والعابر؛ أحيانًا ينهمر كمنولوج، تتعدد في أنساقه الضمائر والصيغ والأصوات؛ فيما تظل كل قصيدة منكبّة على تدوير لحظتها بأكثر من طريقة. جمعة عبد الله الموفق، وهو يشارك في التأسيس والتأصيل لقصيدة  الشارع؛ يكسب بجدارة قدر اللعنة؛ لعنة الشعر، ويحكم على نفسه سلفا، أن يظل مطرودا خارج الجنة. ليبدو كمن يسعى لتكريس جحيمه، في زمن يتعذر التصالح مع قبحه. لكن وعلى الرغم من افتتانه بالصورة كلقطة عابرة، إلا أن الفضيلة هنا تكمن في عفوية أصالة جملته الشعرية بوصفها هبة تسكع، وغزوًا يتغلغل بعيدًا في معجم العامة، تاركًا عبارته الطازجة، تنهال بضربات حارة، وجريئة إلى أقصى حدّ. قصيدة النثر هنا تأتي كاستحقاق يستمد صدقه وطزاجته من أصالة التجربة، كوريث شرعي لثقافة الهامش. كما لو أن الشاعر قد عثر أخيرًا على ضالته عبر هذه العلاقة، التي تصل إلى اكتشاف أطرها معرفيا، كتمهيد لعودة الشعر إلى الشارع.


     من زاوية أخرى يمكننا ملاحظة كيف تتكرس الكوميديا السوداء في تجربة جمعة الموفق بصهر عديد الأرواح داخل مرجلها، أرواح ضالة لعلها أقرب الى تلك الفصيلة التي تنحدر في نسبها العربي من سلالة الماغوط، وعلى الضفاف الأخرى ستذكرنا ببكوفسكي، وفي الآن نفسه ستحيلنا الى الشعر المضاد في امريكا اللاتينية وتحديدًا تجربة شاعر الشيلي “نيكانور بارا “. ولعلها من خلال تداعياتها السيروية ستوميء في شكلها الاعترافي الى بوكوكسفكي، ودوريان لوكس، وآخرين، فتظهر كما لو أنها تدربت وبتمرس في نفس المشغل الشعري لجيل غاضب، غير أن توقها لتحقيق ملمحها الخاص بها، فضلا عن وعيها بما تفعله، يجعلها تنطلق واثقة من تأسيسها لنفسها، وتأثيث مشروعها، بوصفه مقدمة لتوطين قصيدة نثر تنحاز للهامش، ليس في بعده الاجتماعي بل بما تمثله اللغة التي صاغت قصائد الديوان كمسوغ أكثر خصوصية. هنا تتجلى تحديدا أصالة صوت الشاعر، ومدى قدرة جملته الشعرية على إيواء عالمها بانسيابية داخل مفردات غاية في البساطة. لعله الشاعر الأبرز في هذا الطيف الذي ظهر خلال العقد الثاني من الألفية الثالثة. ففي الوقت الذي يتنصل فيه العالم من الشعر، بحيث وسم التردد والارتباك والخجل معظم تجارب هذا الجيل، ليقتحم جمعه عبد الله الموفق، المشهد الخامل بقوة وليخلخل هذه الظاهرة، منصفا الشعر والشاعر.

     قد لا يفي هذا التعليق السريع للإحاطة بأشكال ومضامين نصوص المجموعة الشعرية (مأدبة لبكاء مرّ)، التي يتعذر إنصافها كما ينبغي وبالمثل يظل من العبث الانشغال البتة باستحقاق تموقعها داخل مشهد شعري شبه معدوم، يتصف بالعشوائية وغياب الحراك، طالما يفتقر محليا إلى تجمّع أطيافه، وهشاشة فعاليلة المنابر والمحافل وحركة النشر والطباعة، ومظاهر الاحتفاء… الخ. لكن يكفي أن قصائد (مأدبة لبكاء مرّ)، قد صعدت بجرأة عالية لتعزَّز المزيد من الثقة. ليس في الرهان على قصيدة النثر وحسب؛ بل على فرادة الصوت الشعري في ليبيا، ومدى ما يملكه من مقومات حقيقية لإنجاز كتابة شعرية على قدر كبير من الأصالة والتميز والاقتدار.

*نشرت هذه القراءة قبل أربع سنوات في صحيفة فبراير الليبية، منقوصة مع تقديم فقرات على أخرى، علاوة على بعض الأخطاء الطباعية، لذا رأيت إعادة نشرها مع اجراء بعض التعديلات الطفيفة. مفتاح

رابط ص فبراير    https://febp.ly/%D8%AA%D8%B9%D9%84%D9%8A%D9%82-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D9%87%D8%A7%D9%85%D8%B4-%D9%85%D8%A3%D8%AF%D8%A8%D8%A9-%D9%84%D8%A8%D9%83%D8%A7%D8%A1-%D9%85%D8%B1%D9%91-%D9%84%D9%84%D8%B4%D8%A7%D8%B9%D8%B1-%D8%AC/

الخميس، 31 يوليو 2025

د. عبد الحفيظ العابد: السرد غير المباشر في قصيدة “حكمة الأعمى” لمفتاح العماري *

 




      يتيح القص غير المباشر في هذا النمط من القصائد للسارد الشعري أنْ يتخفّى خلف أقوال الشخصيّات، لكن وبالرغم من غيابه فإنّ نقل هاته الأقوال يستدعي حضوره، يبدو ذلك بالقياس إلى الرواية، فالرواية التي لا يُمثَّل فيها أيّ راوٍ تستدعي صورة مؤلّف خفيّ في الكواليس، يتخذ صورة مخرج، أو محرّك للأحداث( )، وبما أنّ أقوال الشخصيّة تنقل في هذا الحكي الشعري على لسان السارد، فإنّ ذلك يتيح للنص الشعري أنّ يتحرّر من أحادية الصوت، ليكون القارئ أمام ثنائيّة الصوت، أو الأصوات المتعدّدة؛ ذلك أنّ السارد وهو ينقل أقوال الشخصيّة يمزجها بأقواله، أو بأقوال شخصيّات أخرى، وفي هذا السياق نقرأ النص التالي:

(حكمة الأعمى(

(1)

وحيدة

أسقط من شرفة الماء

يدثّرني صوتي

قالت: غيمة.

(2)

بغضّ النظر عن المتنبّي

قال شاعر مغرور

أنا

كوكب نفسي.

(3)

العين التي تقترح السواد

تكتشف الخارج

قال الأعمى.

(4)

تنحّيْ قليلاً

أيتها الصور

أريد يدي

أيتها الشوارع

أريد صوتي

قال المتسوّل.

      يشي فعل القول المُثبت في كلّ مقاطع النص بالقص غير المباشر، ويعمل في الوقت نفسه على إبراز التشاكل البنائي المتمثّل في انتظام التعبير البادي في تأخير الفعل (قال) على المقول نفسه المتسم بطابعه الثنائي؛ ذلك أنه يحيل على صوت السارد الشعري والشخصيّات في الآن ذاته، يحدث هذا عندما يتولّى السارد نقل أقوال الشخصيّة في سياق القص، فيتداخل الصوتان، ويغدو الصوت مزدوجًا( )، وهذا يحقّق الحياد اللغوي المنشود الذي تبتعد به القصيدة عن دائرة الغنائية والذاتية عبر مزج صوت الشخصيّات بصوت السارد الشعري الذي لا يحضر بشكل مباشر، لكن أقوال الشخصيّات لا تُقدّم إلا على لسانه.

     تُقرأ ثنائيّة الصوت هاته في ظلّ الرؤية المصاحبة المهيمنة على بنية النص المتسم بتكافؤ الرؤية بين السارد والشخصيّات، هذا التكافؤ أوجد نظامًا بنائيًا منتظماً، فالبرغم من انقسام النص إلى أربعة مقاطع مرقّمة تشبه قصائد قصيرة غير أنها تحكمها بنية واحدة، تتمثّل في السرد بضمير الغائب، وفي تقديم القول على الشخصيّات الأربع: الغيمة والشاعر والأعمى والمتسوّل التي تتسم بتشاكل جزئي؛ ذلك أنّ الغيمة تشذّ عن الشخصيّات الأخرى لكونها لا تحيل على ذات إنسانية، وهو ما يوحي بمجازية القول والغيمة في هذا السرد الشعري المتخيّل، وبالنظر في دلالة هذه المقاطع يمكن الكشف عن البؤرة الدلالية الكامنة في العنوان المتضمّن شخصيّة واحدة من هاته الشخصيّات وهو الأعمى، والعمى تعطيل لحاسة البصر، وكأنّ النص يقوم على ما يمكن تسميته بشعرية الحواس، فالشخصيّات تشترك في فعل القول الذي يفعّل الأذن، وهذا يشي بأهميّة الصوت في حياة المتسوّل، والشاعر، والأعمى الذي تغدو أذنه بديلًا عن العين المعطّلة، وفي وجود الغيمة التي تعلن سقوطها عبر صرختها المدوية، وهي بذلك تكتسب سمات سياقيّة من خلال نسبة الصوت إليها تزيل التعارض بينها والشخصيّات الأخرى، من هنا يتبدّى للقارئ دور تكرار فعل القول في انتظام التعبير والدلالة، وهو ما يؤدي إلى خلق نظام داخلي يبرز انتظام النص.

     تحرّرت قصيدة النثر من أحادية الصوت في هذا القص الشعري غير المباشر، فغدت الشخصيّات شريكًا للسارد في الرؤية والأقوال، هذا السارد يؤكّد هويته بخلق هذا العالم الفنّي متخذًا مسافة بينه والكاتب، هاته المسافة تتيح للكاتب أنْ يرى نفسه واحدًا من قارئيه، واحدًا يخلقه لا على صورته، ولا نسخة عنه، وليس مجرّد صوت علني لصوته، ولا إعلانًا لموقفه الأحادي، وعينه الضيّقة، وهذا يشي بأهمية اقتراب قصيدة النثر من مناطق السرد لتنجز خطابها في ظلّ سلطة الرؤية السردية المصاحبة وتعدّد الأصوات الشعرية.

______ 

*نقلا عن صحيفة فبراير

رابط المقاربة:

https://febp.ly/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B1%D8%AF-%D8%BA%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A8%D8%A7%D8%B4%D8%B1-%D9%81%D9%8A-%D9%82%D8%B5%D9%8A%D8%AF%D8%A9-%D8%AD%D9%83%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B9%D9%85%D9%89/

الأربعاء، 30 يوليو 2025

أ. رامز النويصري: عندما يأكل الشاعر نفسه *

 


أ. رامز النويصري


الشاعر / السارد


يبدو أن الشاعر في سيرته الأولى سارد كبير، يحب الحكاية أكثر من الغناء، يحب الانطلاق أكثر مما يحب القفز الموقع، يحب الكلمات أكثر من اللحن. وربما هذا يفسر نجاح الشعراء في تجاربهم السردية الروائية بشكل خاص.

والسرد ليس الرواية، أنه تقنية، نعم تقنية تشبه إلى حد كبير تقنية صناعة السجاد على المسودة، حيث تنساب الخيوط، والحكايات، والمشاعر والحوادث، والوجبات، وأكواب الشاي، بالتالي يكون لكل قطعة سجاد شكلها وتاريخها الخاص بها، والذي لا يتكرر، فاليدين تعملان على لضم الخيوط، ويعمل العالم في الخارج.

السرد قدرة على النظم، وتحويل الأحداث الصغيرة والبسيطة إلى نصوص قابلة للقراءة والإدهاش. هذه القدرك، هي أشبه بقوى الساحر الذي يستطيع بخفة يديه إجبارك على التصفيق.

تقطير


لا يمكنني النظر للتقطير، خارج دائرة الكيمياء، حيث تقوم الحرارة على فصل جزيئات المادة إلى مركبين، سائل يتم تكثيفه إلى صورة سائلة، وصلب مترسب يتم التخلص منه. بمثل هذه التقنية يتعامل الشاعر مع عزلته، لكنه على عكس الكيميائي لا يرمي الرواسب، إنما يعيد إنتاجها في صورة جديدة، مطعما بها نسيجه السردي.

الصفر


رياضيا الصفر لا قيمة له، وهو عنصر محايد في الجمع، يحول أكبر الأرقام إلى اللا شيء، ولا تكون له قيمة إلا بوجود خانة تسنده، بالتالي.

لكن تخيلوا، لو إن شاعرا فذا، يملك يدي سارد، وعبقرية كيميائي، َقام بتدوير خانة الصفر؟


غلاف تقطير العزلة


النتيجة

ستكون النتيجة كتاب (تقطير العزلة)* للشاعر الكبير “مفتاح العماري”، بعنوان فرعي (محاولة لتدوير خانة الصفر). والسؤال هنا؛ ماذا يقطر العماري، ولماذا يدوّر خانة اصلفر؟

في هذا الكتاب يقدم العماري تجربة جديدة في تحويل الذات إلى منتج إبداعي، حينما تتوفر الظروف المثالية للتجربة؛ وضع غير مستقر، عزلة، ووهن.

هذا الكتاب رحلة في عوالم “العماري”، ودرس مهم المقاومة، والاستمرار من خلال تقطير العزلة التي يعيشها، وتدوير القيمة المهملة (الصفر) وتحويلها إلى عمل إبداعي، يعتمد السرد، بلغة شعرية شفيفة، وتطريزه بلوحات واقعية تجعل من رحلة ممتعة لا يمكن إلا الاستمرار فيها حتى نهاية الكتاب.

“العماري” هنا استعان بكل شيء، بداية من تاريخه، ذاكرته، إلى نمط حياته اليومي، والأصدقاء القارين والعابرين. هو هنا يقاوم الاضمحلال والإهمال، بطريقة مختلفة، بطريقة تكشف ما يملكه من قدرة على كتابة نص نثري مغاير، يكون السرد فيه أداة للتلوين والتشكيل.

باختصار هذا الكتاب درس في الكتابة الإبداعية، أنصح به الكتاب الشباب.

___________ 

* نقلا عن " خربشات " ميوقع الشاعر الليبي رامز رمضان النويصري 

الرابط:  http://ramez-enwesri.com/archives/2153#more-2153


حيل الخيميائي

 

                                                                                   مفتاح العماري




_______حيل باولو كويلو  *                                       

 

 

     تندرج رواية “الخيميائي” باعتبارها الرواية الثانية في تسلسل روايات باولو كويلو. وهي بامتياز الرواية الأكثر شهرة وانتشارا من بين مؤلفاته. وبغض النظر عما حققته “الخيميائي” من أرقام قياسية في سوق المبيعات، وما حصدته من جوائز، كذلك بغض النظر عن المديح الذي حظيت به في أوساط القراء ونقاد الأدب – عالميا – وبغض النظر عن أرقام ترجمتها، التي تصل إلى قرابة 65 لغة عالمية؛ لأن الرواية ذاتها التي تتمحور حول حكاية منتزعة بذكاء من متن شهرزاد في ألف ليلة وليلة، قد تفوقت على خاماتها ومرجعياتها وتاريخها؛ بل تفوقت على نفسها داخل نوعها الروائي بامتياز تحسد عليه.

إذاً ومن عتبة شهرزاد، ها هي حكاية داخل حكاية، تطمح أن تتحول هي الأخرى إلى أسطورة، بفضل خصائص وحيل فنية عديدة، من بينها استخدام لعبة  التناص نفسها لتذويب خامات النص العربي وصهرها مع مقولات حكمية متواترة اقتطفت من أدبيات (تنمية الذات)، كحيلة متقنة تكفلت عباراتها الحاذقة، وبحنكة في أن تأخذ لها من الحكاية الشعبية في تراثنا العربي جسدا؛ وقد كانت رمية أكثر من صائبة. ففي ثنايا الخيميائي، تتضافر الأسطورة والحكمة، فضلا عن براعة السرد في صناعة هذه المعجزة الصغيرة، من دون أن تتخلى الكلمات عن أشدّ المجازات ضراوة في تنضيد عالمها. وما حكاية الراعي وأحلام كنزه التي تجوب بنا عبر الصحراء، سوى حيلة بارعة، تتضامن من أجل أن يستعيد العالم – عبر السرد – بهاءه المتخيل، والتحقق عبر اقتفاء الحلم.

لا شك أن كويلو قد احتال في تحويل النصّ العربيّ إلى رواية ماتعة، واقترح أسلوبا سرديا يتجاور، وبشاعرية عالية مع انساق القصص الشعبي، مما أضفى على نصّه بعدًا جماليًا من حيث التكثيف والسلاسة، لتحوز هذه الفضائل الماكرة، ما يشفع لها ارتكاب شبهتها الحميدة. لهذا أجدني أعود لتصفحها بين فترة وأخرى، ليس لشهرتها العالمية بعد نوبل؛ بل لشيء يتعلق تحديدا بالخيميائي، الذي ينبغي تكريمه عبر تأكيد اعترافه بتلك المتع المصانة من حكاياتنا الشعبية، والاستدلال عليها مرة أخرى عبر الكلمات التي من سلالة هذا الراعي البرازيلي، وهو يقود قطيعه بذاكرة عربية.

______________   

* نقلا عن صحيفة ليبيا الاخبارية 

أ. حسين المزداوي: القصيدة الحديثة في ليبيا​​​​​​​​​

 

أ. حسين المزداوي


ما الذي حدث؟ ​​​​​​​​​

ما الذي حدث للشعر في ليبيا بعد عام 2011 .. الحدث المفصلي في حياتنا .. حدث فتح خزائن أسراره منذ ذلك العام ولايزال. ​ينأى الشعر الحديث وخصائصه البنوية به بعيداً عن الادوار المناسباتية والمنبرية والغنائية، وتجعل منه روحاً متجسدة للشعر، ومتخلصة من كل أعبائه التي كابدها على مدار حركته التاريخية. ​

منذ ستينيات القرن العشرين وحتى العام 2011 قامت القصيدة الحديثة في ليبيا ببناء عشها الشعري المختلف، وكانت فرصة تاريخية لها في أن تتبوأ مكانتها التي حققتها رغم البيئة الطاردة، فاستمرت قدماً رغم النظرة الاستعلائية من الأكاديميين الكلاسيكيين الذين تعج بهم تلك المرحلة، أو النظرة القاصرة الحائرة المستريبة من السياسيين، يؤازرهم أتباع هذين العنصرين من محبي الشعر في لباسه القديم، ومن المستريبين السياسيين، ومع ذلك خطت قصيدة النثر خطوات واثقة مهمة كانت تستهدف ايقاظ وعي واحساس المتلقي من تكلس ونوم اللغة السائد واستعمالاتها المتكررة. ​

في هذه الأثناء كانت القصيدة الكلاسيكية في ليبيا تمر بأزمة حادة، وحالة أفول كاذب، فخف وهجها، وقل عطاؤها، وانكمشت على نفسها؛ إما لاسباب سياسية – والسياسة عندنا منابر – ومع منبريتها الكامنة فيها، إلا أنها في حالة عداء مع المتحكمين في المنابر، أو لأن ذلك الزمن كان مرحلة جزر واضح لها، ليس في ليبيا فحسب، بل على مستوى الشعر العربي عموماً. ​

ورغم فقر البيئة الثقافية عندنا، فقد احتضنت الأوعية الكتابية في حينها القصيدة الحديثة؛ سيما قصيدة النثر التي تمددت وانتعشت في سبعينيات القرن الماضي وما بعدها. ​

بعد عام 2011 تهاوت كثير من الأوعية الكتابية الحاضنة لقصيدة النثر من مجلات ودوريات مختلفة، بعضها امتحى تماماً، وبعضها يغالب نفسه، وسادت المنابر الالكترونية الهشة، وشبكات التواصل، إلا أنها منابر مضطربة لا تعبر عن اتجاهات محددة، بقدر ما تعبر عن أفراد بعينهم، وعن أصوات قد لا تجد لها صدى يذكر، في غياب شبه كامل للمؤسسة الثقافية الرسمية. ​

كانت القصيدة الحديثة أكبر الخاسرين، فلم تعد تجد لها صدى يومياً، ولا حاضنة كتابية، ولا جمهورا متطلعا، بل كانت الظروف العامة تتطلب المنبريات التي مهدت لها جماعة القصيدة الكلاسيكية وعلى رأسها الدكتور عبد المولى البغدادي بقصائدها التقليدية، الأمر الذي أعاد لهذه القصيدة دوراً ملموساً، فقد استطاع البغدادي بمرواغته أن يتجنب السياسة ومظاهرها، وأن يصنع جمهوراً ومريدين في بيئة ثقافية لا تبتعد كثيراً عن صدى قصيدته، وأن يعيد جمهورها النائم من سباته الكاذب. ​

بمجرد أن حدث انفتاح نسبي قبيل عام 2011 حتى خرجت أصوات شعرية كلاسيكية شكلت اتجاهاً شعرياً واضحاً فالتفت حول الدكتور البغدادي بشكل أو بآخر، وقد ساعدتها رياح التغيير، فالتهبت جذوتها بالمناسبات المتعددة، والمنابر التي لم يعد يقف أمامها حاجز، والجمهور الذي وجد طريقا لذائقته الشعرية التي لم تتزعزع بمساهمة أكيدة في تكوينها من قبل المناهج التعليمية بكل تقليديتها. ​

الأمر الملفت للانتباه الذي لم يتوقف أمامه أحد، هو اعتراف المؤسسة الأكاديمية بالقصيدة الحديثة جهاراً نهاراً، عندما منحت جامعة طرابلس وكلية الآداب فيها وهيئتها العلمية، الدكتوراة الفخرية لأبرز أصوات قصيدة النثر في ليبيا وهو الشاعر مفتاح العماري، صحيح أنهاعترفت في الوقت نفسه بقصيدة الشعر الحر ممثلة في الشاعرين راشد الزبير وخالد زعبية؛ اعتراف جاء من المؤسسة التي كان أساتذتها ومتخصصوها يهزؤون من قصيدة النثر، ولا يعدونها من الشعر في شيء، ثم في لحظة فاصلة نراهم يمنحون أعلى الدرجات العلمية لأبرز أصوات قصيدة النثر، فهل هذا تبعة من تبعات الزلزال الذي ضرب كل المسلمات؟   

_____________    

نقلا عن صحيفة فبراير . رابط المقال:

https://febp.ly/%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B5%D9%8A%D9%8A%D8%AF%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%AF%D9%8A%D8%AB%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D9%84%D9%8A%D8%A8%D9%8A%D8%A7/

الخميس، 10 مايو 2018

مختارات .. ناصر سالم المقرحي




ناصر سالم المقرحي



        من الشعراء القلائل الذين لا يسقط شعرهم بالتقادم ولا يعتريه الذبول لأنه إنساني بامتياز , الشاعر مفتاح العماري , ولهذا أعود إليه كل مرة لتجديد التواصل معه ولاختبار تأثيراته السابقة مرة ثانية , وربما العثور على دلالات مغايرة لدلالات القراءات الماضية , ذلك ان شعر العماري إلى جانب أنه شعر يحتك كثيراً بالواقع , له نصيب وافر من الخيال , من خلال صوره الرائقة وتعبيراته التي تضاهي تعبيرات كبار الشعراء شرقا وغربا وتتفوق عليهم , وحتى مفرداته التي ينحتها الشاعر كل مرة وينفض عنها غبار الإهمال ليوظفها في القصائد التي ما ان تحل بها حتى تصبح نابضة بالحيوية ومثقلة بالدلالات , ونستطيع هنا ان نتحدث عن مفردات خاصة به اكتشفها شعرياً وتألقت على يديه بالتآزر مع ما قبلها وما بعدها من كلمات وجُمل بحسب السياق الذي تقع فيه .
إنه مفتاح العماري الشاعر الذي امتلك له من الدواوين اكثر مما أمتلك لأي شاعر غيره , الشاعر الذي نجد في شعره ما لا نجد في شعر آخر , الشاعر الذي يتميز شعره بوجود مسحة غموض طفيف يظل مع القراءة يُحفز ويُنشط القارئ ويُمتن علاقته بالقصيدة , فالقصيدة لدى العماري لا تؤتي أُكلها من أول قراءة والأمر هنا يحتاج إلى انتباه مضاعف وحساسية خاصة من قبل المتلقي , ثم ان هناك ما يمكن أن نطلق عليه اسم الطبقات في شعر العماري , طبقة المُعلن وطبقة المستتر , فثمة خطاب مضمر إلى جانب ما هو ظاهر وصريح , فالشاعر قد يتحدث عن المرارة المترسبة في أعماقه او يحكي قصة انكساره وخيبة أمله ويكتب غربته وقد ينعى عمره الضائع ما بين الثكنات وحياة الجندية التي وجد نفسه بداخلها فقط لان طاغية صور له خياله المريض انه يستطيع أن يكتسح العالم بأفكاره وبجيشه , والشاعر إذ يرى عمره - وهو كل ما يملك – يتسرب من ثقب دقيق إلى ألخواء ويتآكل على مرأى منه لا يمتلك إلا أن يبوح بأوجاعه لعله بهذا الفعل يهدئ من ضراوتها , والشاعر إذ يقول كل هذا يحيل إلى من كان السبب في حصول كل هذا العبث بطريقة أو بأخرى , يحيل إلى الظروف التي جعلت كل هذا يحدث في غياب اية نوازع إنسانية , ولعله إذ يقوله بكل حرقة يمنع تكراره مرة اخرى ويحذر منه .
وهنا نقف بإزاء الخطاب المضمر أو ظل القصيدة وبُعدها اللا مرئي , هذا غير أن القصيدة تنطوي على عوامل جذب أخرى مثل الصورة الشعرية الإستثنائية والتشبيه البليغ الذي لم يخطر على قلب شاعر من قبل وذلك الحزن الخفي والنبيل الذي يجوسها من أدناها إلى أقصاها , وهاته المرارة التي تتسرب إلى السطور لتعطي القصيدة واقعيتها وصدقيتها وتمنحها مذاقها المميز , مزيج من حيل شتى وأساليب في الكتابة عدة هو شعر مفتاح العماري , إذ لا بد من أن يحرك فيك شيئا هذا الشعر ويجعلك منجذبا إليه وإن لم تفعل فتحسس ذائقتك والخلل يتعلق بطريقة قراتك له والأمر يحتاج إلى ما يمكن أن نسميه – وعي شعري أكبر – وإحاطة بالمتاح والمُتداول من الشعر حتى تتم المقارنة والموازنة والمفاضلة .
وثمة نقطة اخرى يجب الإشارة إليها وهي أن العماري في كل ما كتب من شعر وهو غزير , لا نكاد نلحظ ذلك التكرار أو الأجترار لصورة أو لتعبير معين مثلما يحدث في بعض التجارب الشعرية الأخري ودائما نقرأ الجديد والغير مُستعمل ونقف على الإستثنائي , وهذا يشي بتجاوز العماري لذاته في كل مرة يكتب فيها وتفوقه على نفسه , والشعر عند العماري مرتبط بحالات نفسية اكثر مما هو مرتبط بمناسبات خارج الذات وإن كان هذا الخارج لا ينفك يمارس سطوته على الجميع ومن ضمنهم الشاعر , وفيما يمر على الكل بجنازيره الثقيلة لا يسمح له الشاعر بذلك دون أن ينتزع منه قصيدته , وهذا يعد نصرا للشاعر . 
ولا يجوز شعراً أن نتحدث هكذا بالمطلق عن شعر العماري دون ان نستأنس بشيء منه , وخير من يقوم بتقديم شاعر هو شعره .
كلما يسهو بابك قليلاً
يتسلل نجم حالم إلى شرفة 
روحك النائمة .
وتحت عنوان مقاطع من مطولة شعرية من كتابه " مدونة النثر الليبي " نقرأ له هذا المقطع الشعري :-
ما الشعر ان لم يلتقط صوراً تذكارية للعائلة
عيوننا ثرية بالغيم , أقدامنا فقيرة . .
أُمي تعتق شعرها خارج النوم وتنشر القرنفل بقامة فتية 
أبي , بجبة شرطي متصالب يروض حصانه الناري على 
براري بنغازي الوعرة 
جدي الأعمى , واثقا من صلابة خياله يقود الحكايات إلى 
مراعيها .
أيضا
ثمة كلب مدلل يتبختر مزهوا بذيله في فيللا
السنيورة مانويلا .
يلعق فخد سيدته كلما تدلى سكان صدرها 
وهي تنحني على ياسمين حديقتها .
حدث ذلك قبل أن تترعرع بساتين النفط
عندما كان رغيفنا فخورا بنبله الريفي 
مزهواً بأهازيج الرحى وأصالة الملح والبكتيريا 
والنار التي تزوجت الحطب .
يحتار المرء حقيقةً في اختيار النماذج الشعرية للعماري لأن شعره ينطوي على طاقة شعرية عالية التركيز وحين تنتقي مقطع شعري معين تشعر بالذنب لعدم اختيار مقاطع شعرية أخرى لا تقل عنه إقناعاً وتتمنى لو أنك تضع كل ما تحبه من شعر ولكنك محكوم بمساحة لا تستطيع تجاوزها و هذا شيء يبعث على الأسف .
ومن ديوان حياة الظل من قصيدة " بين الوردة وتاريخها " نقرأ :-
ماذا يعني موت الشاعر يا شريكة صوتي
سوى غياب الضوء الأثير عن جهة الحلم 
وسماء المخيلة 
حدوث خللٍ ما في العلاقة بين الوردة وتاريخها 
أنقطاع الكهرباء عن منازل الطمأنينة وقد استبدت مواسم القتام
بلغة العائلة 
وأيضا أهمال الحديقة وتركها رهنا بدورات الغبار .
موت الشاعر يا حبيبتي
يشي باختفاء نضارة المعنى عن حياة لغة بأسرها
وقد أمست رهنا برفات الذاكرة 
حيث ستفقد المعرفة زوادة السفر وهبة النار 
وبعد حين ستضيع سلسلة مفاتيحنا , وتتهشم العديد من البراهين
كالأكسجين والموسيقى وبصيرة الماء
اشياء ناعمة ورحيمة وضرورية جدا لكي نستمر في كتابة رسائلنا 
وهندسة خرائط عطرنا .
******
وهذا بعض مما جاء في قصيدة " كأنك أعمى . . دعها تنتظر " :-
وأنت تثقب الظلمة بعين خائفة 
وخيال مهجور 
ثمة شهقة هسيس تتخفى . . كأنك أعمى يا أبن مخيلتي 
أقتف دخان محبتك واطرد لغو الريح عن قصيدتك التالية ودع الكلمة الوحيدة تنتظر .
الكلمة الصغيرة الناعمة , التي تتبعها آيات النور
الشبيهة بكتل سابحة في سديم يسافر 
الكلمة الهابطة من علو أزرق بشعر مبلول 
الكلمة الجريئة وهي تصهل من بعيد الكلمة التي نجمة طليقة ترفرف عيدا في مدارج الوحشة 
عصافير حرة في سماء مطمئنة
قوس قزح يزهو بكريستال محبته 
الكلمة , المديح للنار جالبة المطر , المديح للألفة التي واءمت بيننا 
وبين كل ملح , وماء قليل يتكاثر . . .
لكل واحد يتعدد , الكلمة أبجدية خطف . 
الكلمة التي انفصت عراها بين المعاني
وتفتح بريق شهوتها عاليا . . حيث الأسماء تشير إلى
برتقال المسارب الحارة / برتقال الشموس الثملة
بالغة النشوة .
الكلمة ذاتها , تشرد حين تلبي نداء حرف مجهول النسب
الكلمة السخية وهي تقدم أفضل ما لديها 
من عصائر ورضاب ونجوم
التي تُركت غفلا بين الخرائب ستدلي بأوصاف مفسديها . . 
التي أقوى من ان يقهرها نزيف أو تهزمها فاجعة 
دعها تنتظر .
********
ومن نص " نصف الجسد . . نصف الموسيقى " نطالع :-
لا بأس يا امي , أنا بخير , وما من شيء يزعجني
غرفتي دافئة , والطبيب حاذق والممرضة حنونة 
ما من شيء 
فقط سهوت الليلة عن تنظيف اسناني من نتف الحروف الكسولة
كأني سأدع العبارة التائهة رهنا بمخالب لهفتها 
وكلما وخز الجوع مخيلتي سالتهم الصور الضالة التي غفل عنا الصيادون
ثم سأفكر في إيجاد مخرج من هذا القتام الذي يجثم على صدري 
علّي أنقد ما تبقى من كلمات , بلا أثر لهروبي
سيبحثون عني تحت سجف الأشعار الغامضة واقبية المجاز
كأجمل أسير لتيه البلاغات وخيانة المعنى 
سيفتشون في قوائم الموتى والمعاجم والموسوعات وسجلات الشرطة والسجون والمستشفيات 
وفي جميع محركات البحث التي في مواقع السماء 
لكنهم لن يحصدوا إلا المزيد من السراب
ولن يعرفوا إذا ما كنت من الشهداء أو المفقودين
أو في عداد الأسرى
سأنقرض تماما كأي ديناصور او خرافة تفسخت أجساد قاطنيها 
وغدت محض غبار من رفات لا اسم له
غبار يتطاير حزنا كلما خدشت مشاعره معاول الأثريين .
******
وهذا مقطع آخر من قصيدة بعنوان " فصد معلن لتاريخ الوله "
في هذا الليل البعيد , لم أجد يا أبي شرفة صغيرة
أضع خدي على نقاوة رخامها , مرتشفا نكهة برودته المنعشة 
لعلي أستمتع قليلا برؤية الريح والأطفال والحدائق والاعياد
لم أجد بابا رحيما أطرقه
أو قصيدة بريئة من معطف بيرنار .
لم ألتق شاعر حداثة إلا ويدّعي الصداع وعبادة رامبو
وغزو الحانات وتفكيك الجسد
وطرد الجن من أودية الموسيقى .
لم اجد في صندوق بريدي رسالة عشق واحدة
أثق في نزاهة حبرها 
لكي ألجأ إليها كشاعر أو كعاشق أو كمتسول 
لم أجد وردة أطمئن إلى شوكها
حتى أضعها كتاج على رأس حبيبتي
لأني لم أجد في آخر طبعة رديئة من كتاب ( طوق الحمامة )
حبيبة واحدة لم تغدر بي نزوتها
كلما سرقني الوجع بعيدا عن مزاج مخالبها 
فما اكاد أتشبث بمتن عاشقة حتى تنهار جدران محبتي 
أثر أول هزة ليقين الخديعة .
ومع ديوان " حياة الظل " أخذت قصيدة العماري تنحو نحو اللغة الصوفية التي لم ينجو من تأثيراتها الكثير من الشعراء وتتلون بألوانها , وها هو العماري بدوره يقع أسيراً في حبائل فتنتها , ففي قصيدة " يا أبوابها التي . . . " يقول :-
أيتها المستحمة بشمس الالفة
يا أبوابها التي بلون الحنين 
أدخلك مرة أخرى بلهفة العارف الذي شفه الوجد . .
فكوني حنونة , كعهدي بك قبل سقمي
ودعيني بعد غياب هدًهُ الوهن أستنشق بارود محبتك
ممددا قرب فمك ,
*********
ولا يجد بأسا في محاكاة ابن عربي في شذراته الصوفية فينشئ قائلاً :-
الكلمة التي لا تشاطرك ثريد سّرها اتركها لسبيل أقفالها , فالصندوق الذي ينطوي على نصف الظل , خفاء ماكر أحذر مغبة فجاءته , قتام غامض لا يعول عليه .
****
الطريق التي لا تهبك إشارات عناوينها
ضياع لا يعول عليه .
******
من يكذب مرة لن تحمد عقباه
ويصير تلطفه رياء لا يعول عليه .
كذلك الحوار الذي يستنسخ ترهاته لا يصل إلى ضفة آمنة
هو متاه لا يعول عليه .
*****
الصديق الذي يأخذ ولا يعطي , لا يُعول عليه
الصديق الذي لا تنل ملح مودته لا يعول عليه . .
الصديق الذي ينثر فضته في الضوء لكي يغوي أبصار الآخرين , نزق مختال بنفسه لا يعول عليه
_____ .   
عن صفحة الكاتب " ناصر سالم المقرحي " على " الفيس بوك "  7مايو 2018