مفتاح العمّاري
هل يمكن أن يخرج من النثر قصيدة؟ هكذا تساءل، أنسي الحاج، في المقدمة البيان، لمجموعته الشعرية الأولى (لن). سؤال ما انفك يتكرَّر بصيغ شتى. سؤال تقليدي وبديهي في آنٍ، ومع ذلك ما زال يحثنا على إعادته، وإن بصيغ مختلفة لإيجاد توصيف أكثر دقة لهوية قصيدة النثر، ومحاولة الاقتراب من القبض على تعريف منصف يؤويها ويحيط بها، كذلك الكشف عن خصائصها؛ والتنقيب عن مرجعياتها؛ فيما إذا كانت تُولد من اللغة، من الألم، من الصورة، من الموسيقى، من الغربة، من الغضب والتمرد، من الذاكرة، أو من تأثير القراءة والتناص. وهل القصيدة نتاج البيت، أم الشارع؟؛ وعن مدى صلة قرابتها بالشعر.
قصيدة جمعة عبد الله الموفق، (بصورةخاصة) تختزل كل هذه الأسئلة. مع ملاحظة أننا حين نقتفي المرجعيات المؤثرة في المادة الخام لهذا الصنف المتجدَّد من الكتابة؛ فإننا نسبر القصيدة ذاتها من داخلها، لا من الخارج؛ باعتبارها؛ (أي القصيدة) وحدة مستقلة بذاتها وكل ما يدخل في خامها سيشي بعملية هضم، وتدوير لها خصوصيتها.
ضمن هذه التلميحات الممهدة اندرجت قراءتي هنا لديوان، الشاعر جمعة الموفق "مأدبة لبكاء مرّ" كتجربة جريئة في انحيازها لقصيدة النثر. ولفض الاشتباك الدائر حول هذا المصطلح وانتسابه لسلالة الشعر العربي، نجد أنفسنا أكثر ميلا إلى اعتبارها (أي قصيدة النثر) نوعا شعريًا مستقلًا، لا فرعا من شجرة. ولأنها تشكل في عمومها تحديًا يضرب في أكثر من اتجاه، تحديًا في رهانها المستميت على صنف من الكتابة أضحى نسيجه واهيًا في قماشة الثقافي والمجتمعي، وقد ضاق حيزها وتفسخت قيم زمنها وندر شغف محبيها، تحديًا للمحرم وانتهاكا للتابو بكل قوانينه ومقدساته، تحديًا للواقع عبر تعريته وفضحه ونكش مطاميره وكشف أسراره. أجل، قصيدة جمعة الموفق؛ تضرب في أكثر من اتجاه داخل مستوى تعبيري واحد، وبعبارة مقتصدة، تقشفت مفرداتها في استعمال أية مواد تجميل بلاغية، واكتفت بانزياحها الخشن، والتقاط المطروح في الطريق، تبعا لحاجة العابر.
أشير بأنني لا أتكلّم هنا، بوصفي منظرًا؛ بل أتبع ذائقتي عبر سجيتي وحدها؛ محاولاً توصيف تلك الهزة العميقة التي أحدثتها قصيدة (الموفق) في وجداني. وكل ما أقوله لا يطمح أن يكون أكثر من ترجمة لما يمكن تسميته بتفعيل القراءة بوصفها حياة أخرى تجاور المقروء، وتنطلق تحديدًا من فضائه؛ لا لتأطيره؛ بل لإعادة خلقه، تبعا لما تسهم به عملية القراءة من احتمالات التلقي والتأويل.
أشير أيضا: إلى أنني قرأتُ مقترحات هذه المجموعة الشعرية (قبل بضع سنوات)؛ وهي لما تزل مخطوطة معدّة للنشر، خصّني بها الشاعر (مشكورًا).
في أثناء قراءتي، كنتُ بدوري اتساءل، من جهة؛ عن مرجعية اللغة، كذلك مرجعية فضاء القصيدة كخلفية ثقافية اجتماعية؛ وقد أدركتُ بأنني إزاء كتابة مضادة للسائد، كتبها شاعرٌ حقيقيّ، لتعبّر عن تجربة أصيلة، حيث الكتابة مشروع حياة، تنطلق من انهمام وجوديّ، وقلق يراكم أسئلته، ويعيد تشكيل المتخيل، بواسطة اللغة وحدها، باعتبارها سلاحه الوحيد في معركة الوجود. اللغة وقد تفطّنت للخديعة اللفظية التي ما تزال تُعلن عن نفسها لدى التجارب الممتثلة لرومانسية موهومة؛ سوّقها أنصار التافه والسخيف من الشعر الغنائي، (قديما وحديثا)، الذين حوّلوا لغة القصيدة إلى جُمل سائبة، وفضفاضة، تذهب غالبا إلى ما وراء الواقع. وهكذا سبّب التخلي عن المحسوس، وازدراء المستعمل، في إفقار لغة الشعر كمنظومة متكاملة تجمع بين الإيماء واللفظ والصورة، والشفوي والمكتوب. لأن اهمال هذه السيمياء تبعًا لخبراتها وتطورها، نتج عنه من ثم إغفال دورات تراكمها الشعبي، في مستوى لغته الشابة: لغة الشارع. هذا المأزق يُعدّ من أخطر المعوقات التي تعترض صيرورة التجاوز. وهو أيضًا مكمن الخلل في تخلف عملية الكتابة الإبداعية بشتى أجناسها، ولاسيما الشعر.
تبدأ
القصيدة من خلال اكتشافها للغتها، أي المقاربة بين الكتابة والكلام؛ وهذا عمل بقدر
بساطته النظرية، إلا أنه يحقق معادلة صعبة المنال، عندما يقفز على كلاسيكية اللغة
وصلابتها؛ ليكتب بالطريقة نفسها التي يفكر بها.
لعل الطيف الجديد من شعراء قصيدة النثر بمختلف أجيالهم انشغلوا بمقاربة الحي والمستعمل من اللغة، وانتخبوا لغة اليومي، على حساب البلاغي. لذا ستظهر آلية الانحياز للغة الشارع، كأول ملمح في قصائد هذه المجموعة الشعرية. فمن علي صدقي عبد القادر، إلى هناء قاباج؛ مرورا بفوزية شلابي، وسميرة البوزيدي وسراج الدين الورفلي، ومفتاح العلواني، ومحمد عبد الله – هنا ألمّح ( من زاوية نظر شخصية) إلى الإشارات الأكثر مراكمة وتشكلا ورسوخا ومثابرة وإضافة وتأثيرا- في قدرتها على إزاحة القصيدة، ليس في التنصل من العروض والأشكال العمودية للشعر التقليدي، أو موقفها المضاد من التشوهات التي طالت قصيدة النثر وحسب، بل عبر دورها المعرفي في المقاربة بين الشعر والحياة، كواقع معاصر، وتحرَّرها من سلطة الأبوة وهيمنة السلف.
أما فيما يتعلق بالفضاء؛ فذلك يتطلب وقفة أكثر تمعنًا وتدقيقًا وتمهلا، وبصورة خاصة إذا ما أدرجنا هذه التجربة ضمن تيار شعري ينحاز للهامش؛ فحينها سوف نفتقد لتلك العلاقة الحية اجتماعيا باعتبار الحانة ومعاقرة الخمر هامشًا له حيزه الثقافي الذي يشكل إطارًا اجتماعيا، وبالمثل ينسحب الكلام على النساء وتكريس ثيمة «الأيروتيك كلازمة» مهيمنة، من خلال توطين مفرداتها الخلاعية، بشكل يشي أحيانا بالإفراط المتعمّد.
وهنا أومئ إلى أجواء المكان كبيئة اجتماعية، وعمارة وواقع يومي ضاج، وكيف تغامر لغة الشعر باختزالها وتحولها من ثم الى (قصيدة نثر). باعتبارها صور واقعية، ومخزون اجتماعي، يحتمل من ثم، هذا الجموح المضاد، مثلما هو شأن (سانتياغو) في قصائد: (نيكانور بارا ( ولوس انجليس، في قصائد (بوكوفسكي). مما يحفزنا هنا للبحث عن مدينة تخصنا، أي عن طرابلس أو بنغازي، وربما درنة وطبرق، أو الخمس والبيضاء ومصراته وسبها؛ لكأننا نحاول ايجاد مسوّغ لصدقية التجربة، بوصفها حياة معاشة تنطلق من واقع اجتماعي حيّ كمرجعية، لا تبرئتها من شبهة القراءة أو المشاهدة. كمحفزات للتناص مع تجارب الآخر. لكن، وبغض النظر عن خلو الحواضر الليبية من هذا الرصيف الذي يحتمل حانات ومراقص ومواخير وأماكن تضج بالعاطلين والمشردين فإننا سنتعاطف مع مخيلة الابداع الكتابي شعرا ونثرا كواقع افتراضي يهبها الحرية – ربما المطلقة – في استحضار ما يحتمل استحضاره من مفتقدات. بيد أن السؤال المخيب هو: أن (هكذا قصائد) سيكون غير مرحب بها في بيئة تقف دائما ضد المغامرة والتجريب. وفي الوقت ذاته، سيتعذر على أدواتها القرائية، الفصل بين الواقعين، المعاش والمتخيل.
وبالرغم من ذلك فأن هذا الانحراف كفيل بأن يجعل القصيدة تتطابق قولا ومعنى، لحظة أن يتصالح الخيال مع نفسه، أي حين يكتشف لغته الضائعة، ويكتب لحظته كما هي، دونما ادعاء.
هذا هو الشعر: صادم، وعنيف، لا يسعه أن يمرّ بحياد طالما كل كلمة كفيلة بأن تلدغك؛ لتترك أثرًا لا يمحى، شعر اعترافي، سيروي، يومي يوثق البديهي والعابر؛ أحيانًا ينهمر كمنولوج، تتعدد في أنساقه الضمائر والصيغ والأصوات؛ فيما تظل كل قصيدة منكبّة على تدوير لحظتها بأكثر من طريقة. جمعة عبد الله الموفق، وهو يشارك في التأسيس والتأصيل لقصيدة الشارع؛ يكسب بجدارة قدر اللعنة؛ لعنة الشعر، ويحكم على نفسه سلفا، أن يظل مطرودا خارج الجنة. ليبدو كمن يسعى لتكريس جحيمه، في زمن يتعذر التصالح مع قبحه. لكن وعلى الرغم من افتتانه بالصورة كلقطة عابرة، إلا أن الفضيلة هنا تكمن في عفوية أصالة جملته الشعرية بوصفها هبة تسكع، وغزوًا يتغلغل بعيدًا في معجم العامة، تاركًا عبارته الطازجة، تنهال بضربات حارة، وجريئة إلى أقصى حدّ. قصيدة النثر هنا تأتي كاستحقاق يستمد صدقه وطزاجته من أصالة التجربة، كوريث شرعي لثقافة الهامش. كما لو أن الشاعر قد عثر أخيرًا على ضالته عبر هذه العلاقة، التي تصل إلى اكتشاف أطرها معرفيا، كتمهيد لعودة الشعر إلى الشارع.
من زاوية أخرى يمكننا ملاحظة كيف تتكرس الكوميديا السوداء في تجربة جمعة الموفق بصهر عديد الأرواح داخل مرجلها، أرواح ضالة لعلها أقرب الى تلك الفصيلة التي تنحدر في نسبها العربي من سلالة الماغوط، وعلى الضفاف الأخرى ستذكرنا ببكوفسكي، وفي الآن نفسه ستحيلنا الى الشعر المضاد في امريكا اللاتينية وتحديدًا تجربة شاعر الشيلي “نيكانور بارا “. ولعلها من خلال تداعياتها السيروية ستوميء في شكلها الاعترافي الى بوكوكسفكي، ودوريان لوكس، وآخرين، فتظهر كما لو أنها تدربت وبتمرس في نفس المشغل الشعري لجيل غاضب، غير أن توقها لتحقيق ملمحها الخاص بها، فضلا عن وعيها بما تفعله، يجعلها تنطلق واثقة من تأسيسها لنفسها، وتأثيث مشروعها، بوصفه مقدمة لتوطين قصيدة نثر تنحاز للهامش، ليس في بعده الاجتماعي بل بما تمثله اللغة التي صاغت قصائد الديوان كمسوغ أكثر خصوصية. هنا تتجلى تحديدا أصالة صوت الشاعر، ومدى قدرة جملته الشعرية على إيواء عالمها بانسيابية داخل مفردات غاية في البساطة. لعله الشاعر الأبرز في هذا الطيف الذي ظهر خلال العقد الثاني من الألفية الثالثة. ففي الوقت الذي يتنصل فيه العالم من الشعر، بحيث وسم التردد والارتباك والخجل معظم تجارب هذا الجيل، ليقتحم جمعه عبد الله الموفق، المشهد الخامل بقوة وليخلخل هذه الظاهرة، منصفا الشعر والشاعر.
قد لا يفي هذا التعليق السريع للإحاطة بأشكال ومضامين نصوص المجموعة الشعرية (مأدبة لبكاء مرّ)، التي يتعذر إنصافها كما ينبغي وبالمثل يظل من العبث الانشغال البتة باستحقاق تموقعها داخل مشهد شعري شبه معدوم، يتصف بالعشوائية وغياب الحراك، طالما يفتقر محليا إلى تجمّع أطيافه، وهشاشة فعاليلة المنابر والمحافل وحركة النشر والطباعة، ومظاهر الاحتفاء… الخ. لكن يكفي أن قصائد (مأدبة لبكاء مرّ)، قد صعدت بجرأة عالية لتعزَّز المزيد من الثقة. ليس في الرهان على قصيدة النثر وحسب؛ بل على فرادة الصوت الشعري في ليبيا، ومدى ما يملكه من مقومات حقيقية لإنجاز كتابة شعرية على قدر كبير من الأصالة والتميز والاقتدار.
*نشرت هذه القراءة قبل أربع سنوات في صحيفة فبراير الليبية، منقوصة مع تقديم فقرات على أخرى، علاوة على بعض الأخطاء الطباعية، لذا رأيت إعادة نشرها مع اجراء بعض التعديلات الطفيفة. مفتاح