وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري
‏إظهار الرسائل ذات التسميات حوار ،. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات حوار ،. إظهار كافة الرسائل

الاثنين، 14 أغسطس 2023

لقاء مع الجزيرة نت

"رجل بأسره يمشي وحيدا".. مفتاح العماري أب روحي للقصيدة الليبية رغم الوجع والانكسارات

الشاعر مفتاح العماري
الشاعر الليبي مفتاح العماري (مواقع التواصل)

طرابلس- مفتاح العماري (67 عاما) شاعر وأديب ليبي، عضو برابطة الأدباء والكتاب الليبيين، وصاحب مكانة متميزة في تاريخ الشعر المعاصر، يعُده عدد من النقاد أبًا روحيا للقصيدة الليبية الحديثة، ومن أبرز مجددي ما عرف اصطلاحا بقصيدة النثر، زود المكتبة الليبية والعربية بما يقرب من عشرين كتابا، يعنى معظمها بالشعر إلى جانب النصوص المسرحية والمقالات النقدية.

ولد العماري يوليو/تموز 1956 بمدينة بنغازي، التي شهدت أكبر التحولات في حياته حين غادر حجرات الدراسة مبكرا بعد وفاة والده، والتحق بعدها بالجيش الليبي، ليخوض مرغما واحدة من أقسى التجارب حين زُج به سنوات رفقة الآلاف من أبناء جيله في حرب تشاد سنة 1987، التي عاش خلالها صراعاته الداخلية القاسية لينتصر فيها للإنسان والشاعر ويركن إلى خطوته الأولى الواثقة المتمثلة في ديوان "قيامة الرمل".

شملت مسيرة العماري التي بدأت منتصف سبعينيات القرن الماضي، إضافة إلى الشعر، المقالة والقصة والرواية أيضا، وكذلك النقد والمسرح والدراما التلفزيونية، وأدب الطفل، ونشر نتاجه الإبداعي في كثير من الصحف المحلية والدولية، وشارك في عديد من الأمسيات والمهرجانات العربية والعالمية قبل أن يسجل شبه انقطاع عن الساحة الثقافية خلال العقد الأخير بسبب ظروفه الصحية الصعبة.

العماري الذي يلقب بـ"حطاب الأرض الوعرة" آثر العيش في طرابلس على الهجرة إلى الضفة الأخرى للمتوسط كما فعل معظم مثقفي ليبيا بعد 2011، وهو الذي يعاني ظروفا صحية صعبة يطوف بسببها في رحلات علاج لا تنتهي داخل ليبيا وخارجها منذ فترة طويلة، في ظل تنكُرٍ من حكومة بلاده ومسؤوليها، كما يرى المثقفون الموقعون على عريضة تطالب الحكومة الليبية بالتكفل بعلاج العماري كونه أحد أهم الرموز الثقافية في البلاد.

في صدر الشاعر مآتم، فتراه يعزي نفسه شعرا، ويشيع أوجاعه كلَ قصيدة، ومن ورائه جيش من الأسطر، متجاسرا على العيش مهما تكدر يتما وحربا وفقدا ومرضا، حتى صفت له حكمة البصير، وفي هذه المقابلة سألناه فأجابنا متأخرا أياما شغلته عنا فيها أسرة المرض، وتعاقب الأطباء، وقبل سرد الحوار نقف على عدة أبيات من أشهر نثرياته، "رجل بأسره يمشي وحيدا".

  • وإن بدا الجدال قديما، لكنه مستمر حول "قصيدة النثر" التي يعد العماري من أهم كتّابها عربيا، فما تعريفك للشعر من هذا المنطلق؟

منذ منتصف القرن العشرين، بدأت أولى المقدمات المؤسِّسة لصعود "قصيدة النثر" في الإبداع الشعري العربي ممارسة وتنظيرا. ولعل أهم الأسباب المحرضة على هذا التأسيس نشأت عن تفسخ البنى التقليدية للشعر العربي. بالطبع، سبقتها ثورة تجديد تلخصت في "الشعر الحر"، التي بحكم التسارع في تحولاتها مهدت الطريق لقصيدة النثر، قبل أن تحسم معركتها.

ودونما إسهاب سألخص هنا تاريخية النشأة وتسلسل سياقها الزمني بالإشارة إلى تصريحات جماعة مجلة شعر ممثلة في بيان أنسي الحاج، كتقدمة لمجموعته الشعرية (لن).

كذلك شكلت نصوص الشاعر محمد الماغوط المحطة الأبرز والعلامة الأكثر تأثيرا ورسوخا. صحيح قد ذهب كل من التنظير والممارسة الإبداعية مذاهب شتى؛ تعدد فيها المرجعُ وربكة المفاهيم، كهيمنة المدرسة الفرانكفونية من جهة حسبا لتأثير الفرنسية سوزان بيرنار -على سبيل المثال- في كتابها "قصيدة النثر من بودلير حتى يومنا هذا".

ومن جهة أخرى، انطلقت تنظيرات لا تخلو من الهشاشة والغلو، تسعى من جانبها لتأصيل قصيدة النثر العربية، استئناسا بما يزخر به تراثنا العربي من كتابات شذرية جسدتها بامتياز شطحات الشعر الصوفي (الحلاج، النفري، البسطامي، والشيخ ابن عربي) وغيرهم.

مكتب الشاعر مفتاح العماري
مكتب الشاعر مفتاح العماري (مواقع التواصل)

لكن، وخلافا لأوهام كهذه، ثمة من عد "قصيدة النثر العربية" بوصفها نوعا مستقلا، مع الاعتراف في الآن نفسه بكونها جنسا وافدا، شأنه شأن أجناس أدبية وفنية أخرى، كالمسرحية والقصة والرواية والسيناريو. أنا -شخصيا- أكثر ميلا للتوصيف الأخير باعتبار قصيدة النثر في تجربة الإبداع الكتابي بلغة الضاد تمثل نوعا مستقلا، لا فرعا من سلالة كلاسيكيات الشعر العربي.

في لحظتنا الراهنة، دخلت قصيدة النثر العربية منعطفا رماديا، حالة من الحياد والبرود واللامبالاة فقدت معاركها وصخبها وصولات فرسانها؛ طالما خصومها قد حولوا المعركة إلى حرب باردة من العيار الثقيل، لتواجه أسوأ وأقسى صنوف الإهمال والازدراء. معظم الورثة المنكبين على كتابتها الآن بطريقة عشواء اقتحموها دونما ذاكرة شعرية.

في لحظتنا الراهنة، دخلت قصيدة النثر العربية منعطفا رماديا، حالة من الحياد والبرود واللامبالاة فقدت معاركها وصخبها وصولات فرسانها؛ طالما خصومها قد حولوا المعركة إلى حرب باردة من العيار الثقيل، لتواجه أسوأ وأقسى صنوف الإهمال والازدراء. معظم الورثة المنكبين على كتابتها الآن بطريقة عشواء اقتحموها دونما ذاكرة شعرية.

  • ما أجمل شيء يقدمه الشعر للشاعر؟

بالنسبة لي، لا يخلو الأمر من الغرابة. فأنا والشعر تربينا ردحا، وبقساوة لا نظير لها داخل ثكنات الجيش، لقرابة عقدين من الزمن قضيتهما مرغما كجندي مشاة.

الشعر معجزتي الصغيرة ومنقذي من الهلاك. وحسبا لهذه الفضيلة، تواصل انشغالي به كضرب من حوار الذات، مما وسم قصيدتي بطابع اعترافي ينصب على توثيق لحظاتي بشكل صيروي؛ فعبر الشعر حاولت الاقتراب أكثر من نفسي والتعرف على أحلامي وتربيتها دونما إثارة أيما ضجة.

كنت إلى حد بعيد مكتفيا بعلاقة حميمة كهذه أحصنها بأسوار عزلتي. فأنا -كما قلت- قضيت حياتي الشابة بالكامل جندي مشاة صغيرا، وانقطعت مبكرا عن المدرسة بعد الابتدائية، وربما عن الواقع خارج ثكنات الجيش. وبذا، لست من صنف الشعراء الكبار أصحاب النظريات غير المسبوقة والمشاريع العملاقة التي تعتزم خلق عالم حضاري جديد بثقافة إنسانية بديلة.

لأن طموحي بسيط جدا؛ لربما ينحصر تحديدا في استعانتي بالشعر لإعادة اعتباري الشخصي، وتربية نفسي على صداقة الطبيعة، ومزاولة عديد من الهوايات الموزاية كالرسم والموسيقى.

ولعل قصيدتي كانت داخل ذلك القبح العظيم مثل مغامرة لتهذيب النفس، بالقدر الذي يجعلها جديرة بهضم فكرة إنسانيتها. وليقيني بأنني قد حققت حدا أدنى من هذا الطموح، أصبحت كثير الشغف بقصيدتي وتفاصيلها، كتجربة حياة، وذائقة لها حساسيتها وحدسها.

صحيح كانت تغمرني بهجة لا حدود لها كلما حظِيتْ كتاباتي شعرا ونثرا بأي اعتراف بقيمتها وجدواها فنيا وموضوعيا. وإن كانت هذه المسألة لا تشغلني كثيرا. فقط أنا سعيد كوني أؤثث بطريقتي هذا الصنف من معرفة الوجدان.

ويكفي أن قدرا كبيرا من التحقق المرتبط بتاريخي الشخصي استمد يقينه من فضائل الشعر، كما عرفته وربيته وعايشته على مدى نصف قرن. وخارج أي استعارات سيظل الشعر -كحدث شخصي- عائلتي الأكثر رحما وقربا ومودة، ومعلمي الذي أعانني على محو أميتي.

  • الخلفية العلمية والثقافية، والمخيّلة وعنصر الابتكار، أيهما أكثر أهمية في بناء أي نتاج فني؟

لا ريب أن الخلق الإبداعي يُعول فيه أولا وأخيرا على خصوبة المخيلة وعنصر الابتكار؛ وإن كان نسيجه يقتضي بالضرورة الإحاطة بحقيبة أدوات الكتابة التي ينبغي استخدامها بقدر من الدراية والعمق المعرفي كمرجعية ثقافية واجتماعية لها نصيبها من العلم.

وعلى سبيل المثال، سيُعد من الحمق في الإبداع الكتابي التعامل مع اللغة كضرب من المادة الخام، أو كشكل خالص؛ في حين أنها البدن والروح اللذان يتعذر فصلهما.

  • التجارب هي من تصنع الإنسان، فكيف بشاعر وأديب يخوض تجربة قاسية كتلك الحرب على الجارة تشاد التي وجدت نفسك في أتونها، كيف تجاوزت ذلك؟

لعل انحيازي للشاعر لا الجندي شكّل اليقين الآمن للظفر بقدر وافر من التوازن النفسي، والسلام الداخلي؛ فعِوض التزود بالتموين الشخصي الذي شكل هاجسا لرفاقي في الكتيبة، انطوت حقيبة الظهر الخاصة بي وكذلك الكت (حقيبة أسطوانية من قماش يستعملها أفراد الجيش لحفظ الملابس) على مجلد صغير لأعمال محمد الماغوط الكاملة حتى ذلك الحين (1980).

كما تحايلت في إيجاد حيز آخر لرائعة باسترناك "الدكتور زيفاكو"، وبضعة كاسيتات (أشرطة سمعية) لفيروز وفرقة "بنيك فلويد". كانت أشعار الماغوط تعويذتي لمقاومة ذلك الكابوس المرعب. ولعل إحساسي بتجاوز تلك المكابدة ترجمته محاولاتي المتكررة لاحقا في العمل على تدوير جحيم الحرب وحياة الثكنات عبر آلتي المخيلة واللغة.

حينها تفوقتُ كثيرا على هزائمي وأزماتي وعقدي الشخصية. سواء أكان ذلك شعرا أو سردا، أو ما تضمنته مغامرتي في الكتابة المسرحية، والدراما التلفزيونية، التي -على محدوديتها- شكلت فتحا بوصفها المغامرة الأكثر تكريسا لفضاء الجنود.

تدوير السيرة بهيئة قصائد وسرديات أسهمت بالطبيعة -كما قلت- في انتصار الشاعر، ليس على جريمة الحرب وحسب، بل على المؤسسة العسكرية بقضها وقضيضها.

كتب الشاعر الليبي مفتاح العمّاري ليبيا/مواقع التواصل
بعض كتب الشاعر الليبي مفتاح العماري (مواقع التواصل)

حينئذ تغلبت المخيلةُ على الواقع، عبر توثيقها حياة كاملة قائمة على التعنيف وتجفيف الأحلام والخوف وسلب الإرادة. أقدمتُ على هذا الفعل بوعي استثنائي، تمحور فيه الجندي باعتباره معيارا قاعديا لتوصيف الشخصية الليبية؛ الذي يستمد نقطة تمركزه من كونه يجسد حقبا من تاريخ الليبيين الذين تحولت حواضرهم إلى أربطة وثكنات عسكرية وخطوط نار.

في ليبيا الصحراء، وليبيا العطش الطويل، وليبيا ذاكرة الدم، سيتقلص دورُ الراعي والفلاح والعامل والمعلم، إزاء هيمنة شخص المقاتل، سواء كفارس من فرسان القبيلة، أو كجندي يتبع مؤسسة عسكرية نظامية، أو كمليشياوي في نظام الفوضى.

في ليبيا الصحراء، وليبيا العطش الطويل، وليبيا ذاكرة الدم، سيتقلص دورُ الراعي والفلاح والعامل والمعلم، إزاء هيمنة شخص المقاتل، سواء كفارس من فرسان القبيلة، أو كجندي يتبع مؤسسة عسكرية نظامية، أو كمليشياوي في نظام الفوضى.

التاريخ الليبي عبر حولياته، من شيشنق الأول إلى معمر القذافي، مرورا بسيبتموس سيفروس، والريس مراد، وغومه المحمودي وعمر المختار، وغيرهم من فرسان الوغى، تكمن مأثرته اليتيمة في الطابع الفروسي ورموزه من قادة حرب وحملة سلاح.

  • تجربة المرض أيضا التي تخوضها منذ سنوات، ماذا أضافت للشاعر مفتاح العماري على مستوى التجربة الشعرية والحياتية؟

في بداية الإصابة بالسرطان ارتبكت أحوالي كثيرا؛ لا سيما أنني خلال السنوات الثلاثة الأولى خضعت لفترات إيواء طويلة بالمشافي. ومع دوام العِشْرة، توصلتُ إلى ضرورة إبرام مصالحة (ربما شعرية) للتعايش مع علل جسدي بطريقة تنطوي على قدر كبير من التفهم والعقلانية. طالما لا مناص من تقليص نشاطي الأدبي ضمن سويعات محدودة داخل البيت قراءة وكتابة.

هذا السلوك ظفرنا به بعد محاولات عسيرة لتنظيم دورات الألم بكثير من هبات الصبر الرحيم. ومن واقع معايشة يومية ناهزت 16 عاما، أعترف أن المرض حكمة. وكلما طالت رفقته أصبح لزاما تقبله بقدر من الإيمان والرضا، لأنك ستُوهب بسخاء البصيرة التي تجعلك أكثر إحاطة ورفقا وتسامحا مع نفسك والآخرين.

وأيضا ستظفر بشيء من الدربة لتكتشف مع مرور الأيام بأنه ما من عروة يوثق بها، سواء ما تعلق بانقطاع الرحم، أو ما تصرم من الطيبين، وقد انفض من حولك رهط الدراويش، ليجفل الصاحب والخل الوفي.

جميعا تلاشت صورهم وأخبارهم وانطفأت أصواتهم في رفة جفن، لتمسي كما تنبأت لمصائرك قبل 30 عاما "رجل بأسره يمشي وحيدا"، حيث لا أثر لمحب إلا الندرة من "خلان الصفا"، وخلاصة بيت الرحم، وفلذة الكبد، ولا سيما رفيقة العمر، وما تأنث من النسل المبارك: الكريمات الحنونات، إحداهن أسميها "أمي الصغيرة"، وشقيقة وحيدة هدها الربو المزمن، وأخريات لم تلدهن أمي.

وهكذا سيكون التغاضي والتلطف مع الغائبين أكثر إنصافا طالما ستتكفل القصيدة بإيواء المرض وتحويله إلى كائن من سلالة الجمال. وهكذا ظفرتُ بشيء من الرضا؛ جعل حضور عزلتي غاية في الثراء الذي لا عهد لي به، وقد تحررت دونما كراهة أو بغض من قيود الآخرين وجعجعتهم، منتظرا خاتمتي بهدوء، مكتفيا بخبزي الطيب، تحت سقف لم يعد بفعل الفوضى بيتا آمنا ما دام ثمة مليشيات مارقة، وثمة الملايين من قطع السلاح خارج سلطة الدولة.

  • انفتحت مؤخرا على فضاءات التواصل الاجتماعي، وهو ما جعلك أكثر قربا من جمهورك، فإلى أي مدى أثر القارئ في تجربة مفتاح العماري الشعرية؟

بقدر تفهمي نظريا لضرورة استثمار هذا البراح الافتراضي في خلق حالة من التفاعل والقرابات الأكثر جدوى لإنماء وتطوير مستويات التلقي، وتربية تلك الحساسية الجديدة للتعامل مع المقروء وهضمه وتأويله، وتعاطفي غير المحدود مع التبسط في انتشار الشعر وتداوله بين أكبر عدد ممكن من القراء، لكني -وبكل أسف- ما زلت على الصعيد العملي مرتبكا مع شيء من الريبة والتهيب في تطويع مثل هذه الآلة لخدمة التفاعل مع تجربتي في الكتابة شعرا ونثرا.

لربما حسب وجهة نظري أن وسائط التواصل الاجتماعي -في حيزها الاجتماعي ثقافيا- قد تورطت أو تواطأت مع تكريس ظاهرة السيولة على مستويات الخلق والتلقي بدرجة قصوى سيتعذر معها التوق لإبرام عقد اجتماعي يكفل تنظيم علاقة أخلاقية تحترم حياة الكتابة وخصوصيتها، عبر إتاحة مناخ أكثر رصانة وثقة في تداول المعلومة.

كذلك، من بين المساوئ الأبرز لمواقع التواصل أنها كرست مظاهر الشعبوية والمشاع، وشخصنة التفاعل (في الغالب) حسبا لجاذبية التملق لا جودة النص، فضلا عن استنساخ الأشكال وتكرارها، وتفشي الرياء والنفاق والميوعة، خاصة أن معظم التعليقات -بوصفها تعبيرا عن التفاعل مع المقروء- تشي في حيز كبير منها بمدى محدودية مستويات القراءة.

كما لاحظت حسب التقاليد السائدة والمكرسة في هذا الفضاء الافتراضي، لكأنه يُنتظر من الشاعر أن يتمتع بمهارات أخرى غير الكتابة الإبداعية، تبرز تجلياتها في صناعة العلاقات العامة، ليتعين عليه تمتين الأواصر الشخصية كأولوية تسبق حضور منجزه الإبداعي. كأننا قمنا بعملية نقل للعديد من آفاتنا السلوكية من الواقع المعيش إلى الافتراضي.

وبذا، سأعترف من دون مراوغة بأنه قد كان لطبعي الانطوائي تأثيره السلبي في الانفتاح على منصات التواصل بطريقة أكثر أريحية، بسبب إهمالي لاستخدام الحد الأدنى من مفردات "الإتيكيت" في استدراج الآخرين لمتابعتي.

وبالنظر لهذا الفشل الذي منيت به، ظلت علاقتي مع هذا الفضاء محدودة جدا، أي محض إطلالة عشواء وشبه موسمية. في السياق نفسه، أشير أيضا إلى أنني قد اعتدت على عدم نشر نصوصي إلا بعد مرور فترة زمنية لا تقل في الغالب عن 6 أشهر، إن لم تمتد إلى ما هو أطول بكثير.

ولذلك أسباب جوهرية، من بينها أن الشعر قد فقد تماما علاقته النسيجية مع مجتمعه. وكقارئ مخلص لما أكتبه، تعين علي الاحتفاظ بملكية نصوصي لفترة وجيزة، قبل أن تتحول إلى مشاع بهيئة مستنسخات مشوهة.

ولكم تبدو مسألة النشر هنا باعثة على الاستياء لحظة أن يروم الشاعر تقديم الشكر والمديح بكثير من الغزل لمن يتطوع أو يبادر بنشر نصوصه أو الكتابة حولها وعنها.

هذا الصنف من التهافت على تفاعل هش ممثلا في تعليقات هزيلة ونقر أيقونات الإعجاب يعكس المدى المؤسف لما وصلت إليه مستويات السخرية من زهو غريب الأطوار، لتبدو الحالة "في غاية الفساد والأبهة".

  • التجربة الشعرية لجيلك تميزت بمغامرة التجريب، والانقطاعات، ووصفت بأنها تجارب شعرية منفردة ومنعزلة. هل أثرت هذه الملامح على حتمية ظهور تجارب شعرية ليبية ذات أهداف مشتركة؟

لعل صفة شتات ستختزل الجزء المؤلم من حيث تشخيص انطلاقة قصيدة النثر في ليبيا، مع مطلع ثمانينيات القرن العشرين، كنشاط فردي جسّد منجزه بضعةُ شعراء، حتى وإن بدوا في الظاهر ملمومين لكن مسيرة كل منهم ستختلف بعد قليل في ما يتعلق بأهمية الخصوصية الشخصية ودرجة المثابرة ومستويات الاختلاف وجموح المغامرة وروح النص.

صحيح ثمة تقاطع ربما في الرؤى وشراكة الشغف بقراءة الكتب نفسها التي وهبتهم لفترة محدودة ملمحا شبيها. لكن، سيبرهن العقد التالي (التسعينيات) في رحلة هؤلاء أن ثمة فرقا شاسعا من حيث الإخلاص للشعر، بين الجندي، ومعلم المدرسة، وطالب الثانوية العامة.

أشير هنا إلى تدشين قصيدة النثر في ليبيا، ممارسة وتنظيرا عبر جماعة (البيضاء) ممثلة في الثلاثي: (مفتاح العماري، فرج العشة، وفرج العربي). لكن وبالعودة لتيمة الشتات، ما من أثر يمكن التدليل من خلاله على وجود جيل يعكسُ حياة شعرية كاملة تمور بصراع التيارات والمفاهيم والأيديولوجيات والأسئلة القلقة.

إن المسألة برمتها تكونت هنا كمحض طفرة خارج دورتها التاريخية وتراكمها المعرفي. وبالرغم من ذلك، فإن الإنصاف يقتضي تاريخيا ضرورة الإشارة وبيقين: أن العلامة الأبرز كنقطة تحول في مسيرة التجربة الشعرية بليبيا بدأت من قصيدة الثمانينيات، بوصفها المغامرة الرصينة التي ظفرنا من خلالها بشيء من التشكل والبلورة والصقل لكتابة قصيدة نثر ذات خصوصية ووضوح، جاءت كمحصلة لتجربة ليبية خالصة في مكابدتها، ومخاضها، وصراعها الحقيقي مع الحياة؛ تلخص ميراثها في منجز شعري سيُعد استثناء في مسيرة التجربة الليبية.

كتب الشاعر الليبي مفتاح العمّاري ليبيا/مواقع التواصل
بعض كتب الشاعر الليبي مفتاح العماري (مواقع التواصل)

ولمزيد من التوضيح في ما يتعلق بالتشرذم الذي اعتور شعراء الثمانينيات على ندرتهم، يلزم التأكيد هنا على تلك الضراوة غير المسبوقة لآلة القمع التي كان لها تأثيرها المجحف، ولا سيما خلال العقد السابع، فكان من أبرز مظاهرها الشرسة اعتقال عديد من الأدباء الشباب من شعراء وقصاصين ومسرحيين ومثقفين ونشطاء، بينهم كتاب جريدة الأسبوع الثقافي.

بالتالي، ليس من الإنصاف إطلاق مصطلح الجيل (عقديا) لينطبق على ما تبقى، أي بضعة نفر بعدد أصابع اليد الواحدة، لا يشكلون عصبة أو كتلة أو حتى مجرد شلة أو رهط صغير يمكنه أن يتمتع بحد أدنى من الشراكة في حساسية متجانسة، وأهداف محددة، سواء أكانت موضوعية أو فنية.

بالعودة لتاريخي الشخصي بوصفي شاعرا، أسوغ جزءا من انهماكي بالكتابة بأنه رد فعل لغياب العدالة؛ فعندما ألفيت نفسي مكرها لقضاء قرابة 18 عاما في الجيش من دون حد أدنى لاحترام إنسانيتي وإرادتي لحظة أن يُزج بي أكثر من مرة في جبهات حرب غامضة، كجندي سخرة، أقل شأنا من المرتزق؛ وقد تعرضت كتيبتي لإبادة شبه كاملة، ولم يبق منها سوى نفر قليل حالفهم حظ العيش بعاهات وأمراض نفسية مزمنة؛ حينئذ كان كل شيء يحدث بمشيئة عسكرية مريبة، وفوضوية وطائشة، محكومة بنزوات وأهواء شخص الأخ القائد.

وحسبا لتقلبات سيرتي الأولى كجندي في الجيش التي أعقبت فترة يتمي اختزنتُ كثيرا من صور القهر والظلم. وهكذا وجدت في الكتابة الشعرية، فضلا عن هوس القراءة، داعما معنويا خفف من ضراوة حياة ظالمة.

المفارقة هنا: كيف يتسنى لك كشاعر أن تفرض فردانيتك في مجتمع يسحق بقوة أي محاولة للخروج عن القطيع؛ فلا الذهنية الجماعية (لنمط التفكير القبلي)، ولا التوجه العقائدي المثقل بشعارات اشتراكية مزيفة لنظام شمولي مختل، ولا عجرفة التقاليد العسكرية التي حولت المدن إلى ثكنات كبيرة، ومربعات أمنية، ستسمح لك بهذا الصنف من المروق.

دولة من دون دستور وقوانين تحمي الحريات وتكفل للفرد حقوقه المدنية، من دون صحافة وتشريعات لحماية الرأي العام، حيث يشنق المشتبه بولائهم في الميادين، وتحرق في ساحاته العامة الكتب وآلات الموسيقى، وتقفل المسارح ودور العرض، ناهيك عن سياسات التجهيل والفقر الثقافي وتلك الخصومة التاريخية ضد الكتاب والمثقفين، ولا سيما شعراء الفصحى المجددين؛ كل هذه المعوقات وغيرها تضافرت بقوة للحد من طموح الشاعر، وهذا ما حدث.

كتب الشاعر الليبي مفتاح العمّاري ليبيا/مواقع التواصل
من أعمال الشاعر الليبي مفتاح العماري (مواقع التواصل)

 

  • التجارب الشعرية الجديدة، تحديدا بعد عام 2011، كيف تراها بعين الشاعر؟ وهل توجد تجارب جديرة بالمتابعة والنقد في ليبيا؟

بالاحتكام للمنجز الشعري لبعض الأصوات التي برزت في المشهد الشعري الليبي، بدءا من عام 2011، ومن خلال ما أتيح لي الاطلاع عليه من نصوص، سواء عبر منصات التواصل الاجتماعي أو ما وصل إلي من مخطوطات ودواوين شعرية، توقفتُ بكثير من الدهشة إزاء تجارب بالغة الخصوبة والتنوع والثراء، من حيث اختزال الصورة عبر اقتناص وتتبع سياق اللقطة البصرية وإيجاز مشهدها بدرجة عالية من الكثافة واللمح والإيحاء، كما تشي به قصائد الشاعرة هناء قاباج حين ترصد بشاعة الحرب من الزاوية الأكثر إغرابا: "الرؤوس تتدحرج من كراسات الرسم مثل حبات البرتقال!".

كذلك ثمة حيز للتهكم الشعري، بصيغة الكوميديا السوداء؛ بوصفها كتابة مضادة كما هي الحال لدى الشاعر جمعة الموفق، الذي يكتب بلغة شديدة التقشف "أضم صوتي للبؤساء، وأصرخ إننا في الخندق الأخير وخلفنا أبراج من الجماجم".

وبالمثل، سوف تستدرجنا فتنة الشذرة السريالية بدهشتها العالية، وعفوية التداعي الاعترافي لدى الشاعر سراج الدين الورفلي، الذي يناوش الحرب على طريقته بإيماءة ساخرة: "أخاف أن أنسى ميتتي في هذه الحرب". وتظل قراءتنا لنصوصه التي يُحتفى بطموحها ناقصة وغير منصفة بحكم افتقارنا لمصنفاته الشعرية.

وبالمثل، سوف تستدرجنا قصائد الشاعر مفتاح العلواني بسلاسة جملتها الشعرية، وذلك الاعتناء بتنضيد لقطاتها بهيئة مشهد، حيث "يوجد الشعر في كل شيء؛ حتى في ملمس جثة لا تزال ساخنة".

ومن بين الأصوات اللافتة، نشير أيضا إلى قصيدة الشاعرة صفية العايش باعتبارها تجربة شابة أكثر تميزا من حيث القدرة على تكثيف المعنى، والصدمة الشعرية. تقول في إحدى قصائدها "الصباح يبدأ من قدمي التي تجد صعوبة في الرقص".

بينما ستأخذنا فتنة أخرى لحظة أن يتفنن شاعر بموهبة محمد عبد الله في تحويل تأملاته إلى صنف بارع من الشعر الشذري بفيض من الدهشة "لكثرة ما انطفأت بداخلي أشياء، أخشى أن أصلكِ مظلما".

أشير أيضا إلى أصوات أخرى على قدر كبير من الأهمية في تشكيل الملمح الشعري لجيل ما بعد 2011، مثل علي حورية، فيروز العوكلي، أكرم اليسير، نورهان عبد الحق، حمزة الفلاح، نجاح المبروك. وأعزو أي تقصير هنا في إحاطتي غير المنصفة بالتجارب الجديدة في الشعر الليبي لانقطاعي عن التواصل والحضور المستمر والمنتظم لحراك الإبداع الشعري في ليبيا خلال عقد ونيف لأسباب صحية، فأرجو المعذرة.

وأخيرا سأكتفي بهذا القدر، متخليا عن شأن "الجدارة" -في الشق الثاني من السؤال- للعدائين المهرة في العلاقات العامة، ريثما يحين الزمن الأكثر تسامحا وإنصافا للاعتراف بالشعر والكيان.

المصدر : الجزيرة ________   الرابط __________  
https://www.aljazeera.net/culture/2023/3/8/%D8%B1%D8%AC%D9%84%D9%8C-%D8%A8%D8%A3%D8%B3%D8%B1%D9%87-%D9%8A%D9%85%D8%B4%D9%8A-%D9%88%D8%AD%D9%8A%D8%AF%D8%A7%D9%8B-%D9%85%D9%81%D8%AA%D8%A7%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D8%A7%D8%B1%D9%8A

الثلاثاء، 4 أكتوبر 2016

الحطّا ب : حوار سالم أبوظهير


ليبيا المستقبل | 2016/09/29 على الساعة 01:08


الشاعر : مفتاح العمّاري



 مع "حطاب الأرض الوعرة" الشاعر الليبي مفتاح العمارري   
            حوار: سالم أبوظهير




المتابع للشأن الثقافي العربي والليبي يشكل خاص، لايمكنه ان يحك راسه ليتذكر أجابة سؤال: من هو مفتاح العماري؟ فالاسم وليبيته تكفي، ورغم انه كتب القصة والرواية والمقالة الصحفية، واهتم بالنقد واشتغل به، كما كتب للمسرح وللتلفزيون، لكنه معروف أكثر  كشاعر، لذا في هذه المساحة سنحاور العماري الشاعر فقط... ومباشرة اطرح السؤال التالي:
- لديك تاريخ مهم في الإبداع فمن علمك الشعر؟ ومتى اكتشفت انك شاعر حقيقي،؟ وما هي العوامل التي ساعدت وساهمت في تشكيل تجربتك الشعرية؟
"القراءة، لا الكتابة هي شغلي الشاغل"... "شغف القراءة وتجاربي في الحياة ساهما في تشكيل تجربتي الشعرية"
 فقط كنت أطمح لمحو أميتي، وأن أتعلّم على الأقل، وبشيء من البساطة: كيف يفكّر هؤلاء الذين في مكنتهم إيواء قدر كبير من الخبرات في كتاب صغير يمكن قراءته في بضع ساعات. من هنا بدأت أسفاري مع الكتب، والتي أدين لها بالكثير، كصاحبة فضل في هذه الرحلة التي بدأت منذ السنوات الأولى من عشرية سبعينيات القرن الماضي. لم أضع في حسباني بأن علاقتي مع الكتب، ستتحول إلى شغف مزمن. غالبا لا أفهم ما أقرأ. وهذه المعضلة بدأت مع مرور الوقت تخفّ تدريجيا، وان لم تنته تماما. حتى الآن أقرأ كتبا، أحيانا يصعب فهمها. لا يوجد في ارثي العائلي ما يشير إلى أي سلالة ذات صلة، حتى ولو عابرة بالقراءة. بعد أن غادر أبي البيت إلى مثواه الأخير، كان علي باعتباري الولد البكر والصبي العجوز، ترتيب الفوضى الناتجة عن فقدان أب لم يعمّر طويلا، مما يستوجب أن أكون أبا، وعائلا. فكان من المتعذر التمتع بمواصلة الدراسة. فقط تحصلت على الشهادة الابتدائية، ثم تخليت عن المدرسة، وبالمثل تخليت مبكرا عن طفولتي وأمنيات صغيرة لم يعد في وسعها أن تتربى وتنمو في كنف العوز. أحيانا يظل من الترف أن تحلم فوق طاقتك. لكن لا بأس طالما في الإمكان التحايل لاستضافة كتاب، سواء كان مُلكاً، أو معارا، أو مسروقا. المهم أن تقرأ. وعبر مكابدة الهضم التي كنت أعانيها لامتصاص أكبر قدر من المعرفة، بدأت مؤشرات المحاكاة، والحاجة لقول شيء. هكذا تخلقت ونشأت لعبة الكتابة في أول الأمر، اعترافيه وذاتية غالبا، وربما ساذجة بعض الشيء في طريقة بوحها وطرح أسئلتها القلقة، لكنها كانت بالنسبة لي  تعني الكثير. أما فيما يتعلق بالعوامل التي أسهمت في تشكيل تجربتي الشعرية، يمكن إحالتها بإيجاز إلى شغف القراءة، فضلا عن تجاربي في الحياة بكل مكابداتها الشرسة، كذلك إلى مؤثرات السيرة المشتركة التي رافقت البدايات الأولى، بيني وبين الصديقين الشاعرين: فرج العربي، وفرج العشة، في مدينة البيضاء.
- هل كان ثمة رابط خفي أو ظاهر بين  كونك جندي يقاتل بالبندقية، وشاعر يصنع الحياة بدفتر وقلم حبر؟
"تجربتي الطويلة في الجيش كانت مريرة وقاسية، لأنها سلبتني حيزا كبيرا من إرادتي"...
• كانت تجربتي في الجيش أكثر من مريرة وقاسية، لأنها في الحدّ الأدنى، سلبتني حيزا كبيرا من إرادتي، فالمؤسسة العسكرية الليبية  تبعا لتقاليد الثكنات، محض معقل لتجفيف الأحلام، وهدم للشخصية الآدمية عوضا عن بنائها. عانيت الكثير من المصاعب والتحديات من أجل الحفاظ على خصوصيتي وتميّزي، وأيضا حماية  قصيدتي من التلف. ولست أدري أي شرف يمكن ادعاءه لحظة أن تزج في حروب ظالمة كتلك التي وجدت فيها نفسي مرغما في صحراء تشاد. وأنها لمفارقة شديدة الغرابة تلك التي تضعك على تماس دائم لتزييف إنسانيتك، ومن ثم  لخيانة الشعر. لذا لن تكون حربك فادحة وحسب، حين تخوض قتالا مصيريا ضد نفسك، لكي تحسمها أخيرا، وبشق الأنفس، منحازا للشاعر، لا الجندي. أظن أن معظم ما كتبت هو بمثابة تدوير لميراث الثكنات، تماما كتدوير القمامة للخروج في المحصلة بمشتقات مفيدة وأكثر جدوى. فأن تقضي (رغما عنك) قرابة عشرين عاما  كجندي في الجيش، ثم تخرج وقد انتصرت للكائن الآدمي الذي في داخلك.. لهو حدث - بالنسبة لي - شبيه بالمعجزة.
"(رجل بأسره يمشي وحيدا) قصيدة جعلتني أكتشف قيمتي كشاعر"
هكذا كانت معركتي، وهذا ما حاولت تلخيصه عبر الكتابة شعرا ونثرا. وحتى أن خرجت مهدما وبائسا وخائبا، وأن جزءا من عمري ذهب هدرا، لكنني فقط احتفظت بالقصيدة، وهذا يكفي. صحيح - وقتذاك - لا بيت لي، لا أحلام، لا نقود، لا مؤهل علمي، لا أبّ، لا عشيرة. لكن أينما ذهبت، لا تخلو حقيبتي من كتب وقصائد. في مطلع التسعينيات اقتضت مخيلتي وتطلعاتي أن أبدأ من جديد. اقتربت أكثر من طرابلس، تعرفت على أصدقاء جدد، وسافرت كشاعر إلى عواصم وجزر وبلدان أكثر تهذيبا ونعومة. فبعد احتفاء استثنائي خصتني به تونس، بدعوة من اتحاد كتابها.أشهد بأنني قد انتشيت، ولأول مرة بقيمتي كشاعر، وأيضا  بقصيدتي "رجل بأسره يمشي وحيدا". وتلك كانت أشارة أخرى.
- الشاعر مقتاح العماري، يساعده الماضي القريب والبعيد ليكتب الشعر ويؤرخ للحاضر وربما يتنبا بالقادم فنقرأ شعره الذي يكتبه لنا... ولكن لمن يقرأ مفتاح العماري قبل ان يكتب لنا؟
"أحاول ما استطعت الإخلاص للتعامل مع قصيدتي كتجربة لتاريخ شخصي"
• بالطبع نحن في النهاية خلاصة  ذاكرة. وسواء كانت الذاكرة بعيدة أم قريبة، تظل في كل الأوقات وعاء تجارب وخبرات.  ولعلني في معرض إجابتي على سؤالك الأول أزجيت مديحا خاصا بتكريم القراءة، كإنصاف أحاول من خلاله ردّ الجميل  للكتب وحدها التي علمتني، دونما تحديد لأسماء وعناوين. كنت فقط، أريد الاعتراف بأنني في المحصلة مجرد قارئ لا يتوقّف عن التعلّم. وأن القراءة، لا الكتابة هي شغلي الشاغل. من حكايات ألف ليلة وليلة، وأشعار الشابي، والمتنبي، والشنفرى، ومولانا جلال الدين، وبورخيس الى كتابات: يوسف القويري، والنيهوم، والفاخري، ورضوان، والكوني،   فضلا عن المترجم من الأدب العالمي من روايات: ديستويفسكي، انطونيو سكارميتا، وزافون صاحب رواية (ظل الريح)، والأعمال الكاملة لرامبو، وتشارلز سيميك، الخ. أحاول دائما الإخلاص للقراءة، والبحث عن أدوات أكثر قرابة وألفة واستئناسا في التعامل مع منتخبات الكتب التي أبحث وباستمرار عن جديدها. أما فيما يتعلق بالكتابة فأنها حتى ولو كانت محض تأويل يعيد إنتاج المقروء، كعملية تفاعل للتناص ستنبني حتما على صهر لخلاصة  جملة من المرجعيات الثقافية - مدوّنة أو شفوية -. لكن ما يكفل للكتابة أصالتها، ومبرر تحققها يكمن تحديدا في إضافة  حياة جديدة. وهنا لا يتعلق الأمر فقط، أو يتوقف عند حدود المعنى وحسب، بل يرتبط بتكريم اللغة ذاتها. فعلى الكاتب لكي يكون كاتبا صالحا للتداول أن يمشي أبعد مسافة ممكنة في أقاليم اللغة، أن يسبر أسرارها، ويكسب تعاطفها وودّها من ثم، لكي تهبه مفاتيح كنوزها. هذا ما أحاول معرفته كقارئ، وكاتب في الآن نفسه.
- أي أنواع الشعر يحب أن يكتب العماري؟
"عانيت الكثير من المصاعب والتحديات من أجل الحفاظ على خصوصيتي وتميّزي"
• حتى لو افترضنا أن قصيدة النثر نوع شعري لوحده، وليس فرعا، أو نسلا ينتمي لسلالة عربية أصيلة. فأنني وبالاستئناس لآخر منجزات القصيدة الشابة، باعتبارها إطارا معرفيا، ليس لاختزال مفاهيم الشعر التي يصعب فهمها، بل في الحد الأدنى كشكل أدبي يتناغم مع إيقاع عصره، وثقافته، والأكثر انسجاما - في الوقت نفسه - وتلبية  للمخيلة الشعرية. لا أحبذ هنا الخوض في تفاصيل نظرية متشابكة، فقط وباعتباري أحد المقيمين داخل عمارة القصيدة الجديدة - هكذا أدعي - أحاول ما استطعت الإخلاص للتعامل مع قصيدتي كتجربة لتاريخ شخصي، وخبرة باللغة لا يعوزها الطموح في تحويل الكلمات إلى مناطق حارة، وغابات مكتظة بكائنات حية، وأشجار في وسعها أن تحلم باستضافة الموسيقى لا فرق القتلة والحطّابين. ربما أفعل هذا، كرد اعتبار لحلم الشاعر الذي حاولت المؤسسة تجفيفه، وتهميش دوره والحط من شأنه وتتفيه فاعليته، أعني المؤسسة بكل مسمياتها وتفرعاتها الرسمية والاجتماعية، بما فيها الميراث الديني، والفلسفي، من أفلاطون إلى وزراء الثقافة، مرورا بسقيفة الفقيه، وأروقة السلف الصالح. صحيح: في زمن لم يعد فيه للشاعر أي معنى، قد يعد التشبث بالقصيدة ضربا مستهجنا من الحمق، وربما الدروشة، لكن وعلى الرغم من ذلك لا أجد أيما غضاضة في مواصلة الكتابة الشعرية، ولاسيما ضمن هذا الشكل الذي يندرج اصطلاحا في مسمّى قصيدة النثر.
- ما حدث ويحدث في البلاد الليبية من ظروف صعبة منذ بداية 2011م الى الان، هل يحبطك كشاعر ويخنقك حروفك وكلماتك ويمنعك من الكتابة او يعيقها لتكون كما تحبها أن تكون؟ ام انك تستمر هذا الإحباط وتزينه بالشعر؟
"لنعترف بأن الثورة التي ضحينا من أجلها 
بأرواح شبابنا قد خُطفت  أو سُرقت"
• أن تتضافر الفوضى  والحرب والسرطان في صناعة هذا القدر المهول من التهدم والخراب، لا شك أنها مصيبة. ولا شك أيضا ستشعر وبمرارة بأنك الكائن الأكثر فاجعة وخسرانا وإحباطا، لاسيما عندما تتفسخ القيم التي كنا نعول عليها كمجتمع ليبي، أي حين كنّا نظن على نحو ما بأننا نتمتع بشيء من الطيبة والتكافل والتسامح والإحسان. لكأن اللعنة قد حلّت بهذا الوطن، لنمسي شتاتا لا أين لنا. علينا الآن أن نعترف بأنها قد خُطفت، أو سُرقت تلك الثورة التي ضحينا من أجلها بأرواح شبابنا، خطفت وسرقت منذ شبهة الترحيب بجولات الصهيوني: برنار هنري ليفي، وهو يتفقد صحبة القادة العسكريين والسياسيين جبهات القتال وغرف العمليات. منذ تسلل أكثر من اسم غامض وخفي إلى قائمة المجلس الانتقالي. منذ توغل أكثر من جماعة متطرفة، وحزب عميل، وتنظيم خائن. منذ تواطؤ أكثر من شيخ قبيلة، وزعيم مرتشي. منذ أن تغلغل أمراء الحرب في دهاليز السياسة وكواليس عصابات المافيا، منذ أن تفشت معاجم الكذب وأوبئة الزيف وفيروسات الدعارة السياسية.
منذ أن سقطت أقنعة بعض النخب من مثقفين ونشطاء ومناضلين مزيفين. وأيضا: منذ أن تدخلت أكثر من دولة خارجية في تصريف أمورنا، وتوجيه سياساتنا، قد تردّت أحوالنا، وفسدت ضمائرنا، وتفاقمت أزماتنا. هكذا ضاعت ليبيا يا سيدي. اقتُلعت مدن، وهُجرت أقاليم بقضها وقضيضها، وذهب شبابنا حطبا رخيصا في حروب وفتن ونزاعات تفنّن صانعوها في حبك دسائسها وتأجيج أحقادها. هكذا بين خرابين، سرطان بلادي، وسرطان جسد ي، حيث يتعذر الدواء، ويضيق المأوى، ولا تجد من يزورك أو يصغي إليك لحظة أن تحوّلت الأنباء إلى حرائق ومجازر وكوارث وجرائم وجنازات، ومدننا إلى حطام ونفايات وظلام دامس، وعيشنا صار ضربا من القهر اليومي، حيث لا شيء غير المهانة والذل. وفيما كان سماسرة الفوضى وتجار الحروب يستولون على ثرواتنا، اختزل ما تبقى من أحفاد المختار في طوابير تعيسة أمام المخابز والمصارف وموزعي الغاز ومحطات الوقود.
"أتمنى أن أرى حملة الكلاشنكوف، قد تخلوا عن بنادقهم ليتفرغوا إلى تنظيف شوارع مدنهم من نفايات الحرب ومكبّات الفوضى"
لكم تمنيت أن أرى مسؤولا واحدا، يقف في طوابير الخبز، ولو من باب جبر الخواطر على الأقل. نواب لا يجتمعون إلا بشكل موسمي فيما يتقاضون رواتب ومزايا - وفي أشد فترات الأزمة - تقدر بعشرات الآلاف؟ فماذا تنتظر من شاعر عليل مثلي - لا حول ولا قوة له - أن يفعل سوى أن يلجأ إلى قصيدته، ليس لتغيير واقع، أو تحريض جماهير للخروج في مسيرات يمكن لأي مسلح مراهق - وبدم بارد - أن يحصدها برشاش الميم، طاء، وهذا ما حدث يا سيدي في بنغازي وطرابلس. حيث لا ضير في ارتكاب المزيد من الذبح والهدم والحرق والتخريب. هكذا جماهير فقدت ثقتها بقادتها ونخبها ومثقفيها وبنفسها أيضا، لا أظن بأنه مازال  في وسعها الترحيب بقصيدة شعر طالما ثمة أكثر من وحش متربّص، قد ينقض في أي لحظة على ما تبقى من أحلام بائسة. لا شيء إذن. فقط أكتب، ربما لترميم عطبي الخاص، ربما لأنني قد تورطت في الكتابة، ولا أجيد أي عمل آخر.
- الشعر القصة الرواية المسرح التشكيل وكل اجناس الفنون والثقافة والابداع، التي تعبر عن  الحركة الثقافية في ليبيا كما البلاد الان ليست بخير، سؤالي هل يمكن لهذه الاجناس ان تنقذنا من مازق الفوضى والارباك؟ وهل يمكن للثقافة بالمجمل ان تكون حيوية ومؤثرة، وتنجح في تطبيب السياسة والاقتصاد والاجتماع وترسم لنا حاضراً رائعا وغدا اكثر روعة؟ وكيف يمكنها فعل ذلك من وجهة نظرك؟
• أي عاقل صقلته التجارب، سيقول لك: علينا أولا أن نكون مؤهلين لإدارة الأزمة. بالطبع لو توفّر لنا القليل من الحكمة، من الإيمان بالوطن، والثقة في من نوليه شؤوننا. لو نملك القليل من التسامح والتضامن، والحب، يمكننا حينها أن نفكّر على الأقل في إقحام الأدب هو الآخر، وبكرامة، في خوض معركة إنقاذ البلاد من محنتها. يقول نيتشه: من دون موسيقى تصير الحياة بلا معنى. لكن كيف يكون ذلك  في مجتمع لا يجيد الإصغاء، وبالمثل لا يعوّل كثيرا أو قليلا  على الأدب بكل مشتقاته.؟ كيف يمكن تربية الفن في بيئة دأبت على ازدراء الجمال، وتحقير المشتغلين في حقله؟ لهذا علينا الاعتراف أولا بالأدب كضرورة، أن نوليه حيزا مهما في مخططاتنا وتصوراتنا وسياساتنا وبرامج عملنا، أن نحترم الكِتاب ليكون حاضرا بيننا، ونعيد الاعتبار للفئات المنتجة للفن، أن تكون صناعات المخيلة جزءا فعالا في نسيجنا. لأن المشكل أولا وأخيرا انعكاس لخلل في ثقافتنا، وفي معاييرنا وأحكامنا ونمط سلوكنا. لهذا نحن نتفنن في صنع الطغاة، لا الشعراء. فعلى الأيادي التي رحبت ببرنار هنري ليفي، أن تكفر عن ذنبها الآن، لتبدأ على الأقل برد الاعتبار للشاعر المهاجر: عاشور الطويبي، الذي دُمّر بيته واحترقت مكتبته في أتون الحرب، من دون أن نسمع ولو نبرة احتجاج خجولة من مسؤول ليبي واحد، تشير ولو همسا، بأن ثمة جريمة ارتكبت في حق الشاعر. ناهيك عن غيره من شتات الأدباء والكتاب والمثقفين. لم يبق في ليبيا يا صديقي غير النزر القليل من الكتّاب المستضعفين الذين لا حول لهم، فقد هاجر جلّهم فارين بجلودهم، بعد أن تفشت وقائع الاغتيال والخطف والاعتقال ضد كل من تجرأ على التفوه بكلمة حقّ. المأساة أن بعض الذين هاجروا إلى الخارج قد رهنوا أنفسهم - تحت وطأة العيش المذل - لمؤسسات إعلامية وثقافية مشبوهة، وتهافتوا على منابر اللغو والثرثرة الإعلامية التي تؤجج المزيد من الفتن والفوضى. لكن وعلى الرغم من ذلك كله، فأنني أحيانا أقول لنفسي: علينا أن نتفاءل. كيف؟ لست أدري.
- حول التطور التقني وشبكة الانترنت، شاعرنا مفتاح له حضوره الواضح  بموقع الكتروني وصفحة تويتر برقم مهم من المتابعين والمتفاعلين، الى جانب صفحة محبي الشاعر مفتاح العماري... وسؤالي هل يخاف شاعرنا على قصائده وابداعه من ضجيج الشبكة العنكبوتية وعدم القدرة على ضبطها والتحكم فيها، أم انها بديلاً مناسب للقلم والورقة  في التواصل بينك وبين جمهورك؟
"مدونتي (وسادة الراعي) ضمن مقتضيات افترضتها ظروف العزلة"
• ثمة صفحات تحمل اسمي في الفايس بوك، لست أدري كيف ظهرت. ربما اقترحها محبون ومعجبون، وهذا شيء يدغدغ غروري، على الرغم من أنها لم تُحدث، وبدت لي في الآونة الأخيرة، لكأنها محض بيوت مهجورة. فقط لجأت مع بداية هذا العام 2016 لفتح حساب باسمي على التويتر، وقبلها بادرت أيضا بفتح مدونة متواضعة على البلوجر، تحت مسمّى "وسادة الراعي"، كمقتضيات افترضتها صروف العزلة. فلا منابر هنا يمكن الاستئناس بها، أو الرهان على صدقيتها. وبالمثل ينسحب الأمر على منابر إعلامية ليبية في الخارج، طالما هي الريبة نفسها، لا تنفك عن الإشارة إلى ممولين، ورعاة مشبوهين، من دول لا تسمّى، ورجال أعمال، ونكرات من سقط المتاع، ناهيك عن سماسرة حولوا الإعلام إلى دكاكين صرافة، وتكيّات، وخلوات نائمة، وربما إلى مواخير وحانات لا تنام. وعلى الرغم من أنني وحدي، وأن تسليتي الوحيدة، حين تتصدّق علينا الكهرباء ببضع سويعات شحيحة، تكمن في انشغالي  كطفل يلعب بمخيلته، حيث ينصبّ اهتمامي في الغالب على تذكير قصيدتي بأنني لا زلت أبا حنونا، ومع ذلك لم تسلم مدونتي من (التهكير) والتحجير والتشفير، بين فترة وأخرى. لا أدعي بأنني في ميزان الأدب أو النشر الالكتروني: أساوي  مثقال ذرة. فقط أريد أن أحتفظ لنفسي بشيء من الاستقلالية، كخصوصية أدافع عنها بقوة، وأن أتعفّن على الأقل بكرامة، داخل بيتي، قريبا من كتبي وعائلتي وكلماتي الأثيرة، لهو أكثر شرفا من الانضمام إلى جوقة المزيفين ومروجي الفتن. فقط، لا شيء آخر.
- تم تكريمك بجوائز والقاب اكثر من مرة وفي أكثر من محفل، فما التكريم الذي تتمناه، وستعتز به أكثر لو حدث؟
• قبل ثلاثة شهور تخطيت الستين. ولا أظن بأن ثمة محفزات تجعلني  أطمح، أو سأطمح إلى هكذا تكريم. فقط أتمنى في يوم ما، وأرجو أن يكون قريبا، أن أخرج إلى الشارع، وارى السابلة، وقد انتبهوا كمخلوقات آدمية بأنهم قادرين على الابتسام مثلهم مثل غيرهم من بني جلدتهم.. عوض هذا التجهم، والكراهة ومشاعر العداء. أن أرى حملة الكلاشنكوف، قد تخلوا عن بنادقهم ليتفرغوا إلى غسل قلوبهم وتشذيب حدائقهم وتنظيف شوارع مدنهم من نفايات الحرب ومكبّات الفوضى. وأن أطفالنا آمنون في وطنهم، لا خوف عليهم من  الخطف، والرصاص الطائش. قد تعبنا.