وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الأربعاء، 21 أكتوبر 2015

مثل حيوان طائش (3)*


مفتاح العمّاري
ثلاث نملات تعبر كتابا 
-3- 

  ما تزال ملامح الحرب ، ومشيئة الفوضى تعبّر عن نفسها بضراوة ، وقد تركت آثارها بالفعل على لغة ووجوه القاطنين ، نظرات خائفة ومرتابة وقلقة دائما ، كذلك على الشوارع ، ثمة خرائب  يجسدها حطام  ظل غباره عالقا على بقايا شجيرات عطشى  تتخلل الأرصفة التي غدت مكبا للنفايات ،و مخابز  اقفل ثلاثة أرباعها ، وضجيج محركات توليد الطاقة التي تعوض انقطاع الكهرباء ، وزحمة السيارات ، وهي تصطف في طوابير طويلة انتظارا لدورها في تعبئة الوقود ، هذا فضلا عن سماع فرقعات الرصاص ودوي انفجار القذائف الذي يشق الجو بين حين وآخر ويهز الجدران ويخلخل النوافذ والأبواب ، وعواء سيارات الإسعاف والمطافئ الذي لا ينقطع.

     منذ أربع سنوات لم تترك  الحرب موقعا إلا وأخضعته لقانونها وقد تجاسرت بأن حولت الشوارع إلى جبهات للقتال .
    هنا في حي الطاحونة للحركة وتيرة يومية تشي أحيانا كأن شيئا لم يتغير . وإنني لأتساءل كلما غادرت شقتي هابطا إلى الشارع محتاطا  وحذرا بالطبع من سرعة السيارات كلما قطعت الطرقات، هل بلغ تعلق الناس بالحياة إلى حد يجعلهم  غير مبالين ، كما لو أنهم لا يكترثون للحرب  . كان علينا منذ خمسة شهور أن نتوخّى وبدقة حذرة سياسة التقشف ، ولاسيما بعد تأخر معاش العجوز ، لذا لا نشتري إلا الضروري ،وهذا ما حدث ، فقد اشترينا دقيقا تضاعف ثمنه ، وبقوليات وزيتا وتمرا ورزا وعلب تونة . حين ذكرت الضروريات ، أعني تلك التي عليها أن تصمد ، وقد حالفنا فصل الشتاء لكي تسلم مونتنا ، لاسيما الطحين والبقول من الحشرات والبكتريا والتسوس . لهذا وبأعجوبة تستمر الحياة . ومن جهتي ، تحايلت بطرق عديدة حتى لا أخسر الحدّ الأدنى من عزيمتي ، ليس من ضراوة الفوضى أو اتساع رقعة التهدّم التي تتفاقم يوما بعد يوم ، بل من غضب العجوز ، أمي التي لا ترحم إذا ما قصرت في تلبية حاجاتها .
   أسابيع ثقيلة ومقلقة لم أكتب بعد شيئا مجديا ، فيما الحرب لا تهدأ ، فما أن تتوقف في هذا الحي حتى تنفجر في ذاك . لقد تعبنا ، وعلى الرغم من ذلك كله يظل  اللجوء إلى الكتابة هو حيلتي الوحيدة لمخاتلة الخوف والعوز والظلام . 
    كان معظم أصدقائي قد نزحوا . اختاروا الغربة طمعا في الأمن ، وحرية الرأي بالنسبة للناشطين منهم . بعد أن تفشت ظاهرة الاغتيال والخطف والاعتقال . كانت سياسة القمع وتكميم الأفواه قد  طالت العديد ممن برزوا خلال الأيام الأولى من الثورة .
   لكن حتى وان  بدت طرابلس الآن في نظر التاريخ محض مدينة مخذولة خلف حطام أسوارها العتيقة ، دخانها يتفنّن في تظليل السماء ، ونوافذها مطفأة وأطفالها يلعبون بالكلاشنكوف ، ساحة اقتتال وخطف وذبح وترويع .تستوطنها النفايات و ينتهكها المارقون واللصوص ودهاقنة السياسة  وسماسرة الحرب ، لكنها ليست فزعة أو هيابة إذ يروقها كلّ صباح أن تعرض الخبز ساخنا . صحيح قد فقد الربع دينار هيبته ،والذي كان لبضعة أسابيع خلت يمكنه جلب عشر بانينات ، ستكفينا أنا والعجوز لثلاثة أيام  ، وأضحى الآن بالكاد يساوي رغيفا هزيلا تم التحايل على وزنه وحجمه ونكهته . لهذا أحمد الله بأنني لست  أكولا ، والعجوز أيضاء لم تعد تحفل بالطعام إلا لتسكين ثورة الجوع . لهذا لا تطلب سوى بعض الحساء من الخضار المخفوق في الخلاط الكهربائي ، عندما يكون التيار سخيا ، وإلا سأضطر مرغما  لهرسه يدويا .. في شيء من العجالة حتى ألتحق بخيالي الذي تركته يتخبط فوق لوحة مفاتيح جهاز الكمبيوتر .

_____   
* المقطع (3) من سردية ثلاث نملات تعبر كتابا .