مفتاح العمّاري
ثلاث نملات تعبر كتابا
-3-
ما تزال ملامح الحرب ، ومشيئة الفوضى تعبّر عن
نفسها بضراوة ، وقد تركت آثارها بالفعل على لغة ووجوه القاطنين ، نظرات خائفة ومرتابة وقلقة دائما ، كذلك على
الشوارع ، ثمة خرائب يجسدها حطام ظل غباره عالقا على بقايا شجيرات عطشى تتخلل الأرصفة التي غدت مكبا للنفايات ،و مخابز اقفل ثلاثة أرباعها ، وضجيج محركات توليد الطاقة التي تعوض
انقطاع الكهرباء ، وزحمة السيارات ، وهي تصطف في طوابير طويلة انتظارا لدورها في
تعبئة الوقود ، هذا فضلا عن سماع فرقعات الرصاص ودوي انفجار القذائف الذي يشق الجو
بين حين وآخر ويهز الجدران ويخلخل النوافذ والأبواب ، وعواء سيارات الإسعاف
والمطافئ الذي لا ينقطع.
منذ أربع سنوات لم تترك الحرب موقعا إلا وأخضعته
لقانونها وقد تجاسرت بأن حولت الشوارع إلى جبهات للقتال .
هنا في حي الطاحونة
للحركة وتيرة يومية تشي أحيانا كأن شيئا لم يتغير . وإنني لأتساءل كلما غادرت شقتي
هابطا إلى الشارع محتاطا وحذرا بالطبع من
سرعة السيارات كلما قطعت الطرقات، هل بلغ تعلق الناس بالحياة إلى حد يجعلهم غير مبالين ، كما لو أنهم لا يكترثون للحرب . كان علينا منذ خمسة شهور أن نتوخّى وبدقة
حذرة سياسة التقشف ، ولاسيما بعد تأخر معاش العجوز ، لذا لا نشتري إلا الضروري
،وهذا ما حدث ، فقد اشترينا دقيقا تضاعف ثمنه ، وبقوليات وزيتا وتمرا ورزا وعلب تونة
. حين ذكرت الضروريات ، أعني تلك التي عليها أن تصمد ، وقد حالفنا فصل الشتاء لكي
تسلم مونتنا ، لاسيما الطحين والبقول من الحشرات والبكتريا والتسوس . لهذا
وبأعجوبة تستمر الحياة . ومن جهتي ، تحايلت بطرق عديدة حتى لا أخسر الحدّ الأدنى
من عزيمتي ، ليس من ضراوة الفوضى أو اتساع رقعة التهدّم التي تتفاقم يوما بعد يوم
، بل من غضب العجوز ، أمي التي لا ترحم إذا ما قصرت في تلبية حاجاتها .
أسابيع ثقيلة ومقلقة لم أكتب بعد شيئا مجديا ،
فيما الحرب لا تهدأ ، فما أن تتوقف في هذا الحي حتى تنفجر في ذاك . لقد تعبنا ،
وعلى الرغم من ذلك كله يظل اللجوء إلى
الكتابة هو حيلتي الوحيدة لمخاتلة الخوف والعوز والظلام .
كان معظم أصدقائي قد نزحوا . اختاروا الغربة
طمعا في الأمن ، وحرية الرأي بالنسبة للناشطين منهم . بعد أن تفشت ظاهرة الاغتيال
والخطف والاعتقال . كانت سياسة القمع وتكميم الأفواه قد طالت العديد ممن برزوا خلال الأيام الأولى من
الثورة .
لكن حتى وان بدت طرابلس الآن في نظر التاريخ محض مدينة
مخذولة خلف حطام أسوارها العتيقة ، دخانها يتفنّن في تظليل السماء ، ونوافذها
مطفأة وأطفالها يلعبون بالكلاشنكوف ، ساحة اقتتال وخطف وذبح وترويع .تستوطنها
النفايات و ينتهكها المارقون واللصوص ودهاقنة السياسة وسماسرة الحرب ، لكنها ليست فزعة أو هيابة إذ
يروقها كلّ صباح أن تعرض الخبز ساخنا . صحيح قد فقد الربع دينار هيبته ،والذي كان
لبضعة أسابيع خلت يمكنه جلب عشر بانينات ، ستكفينا أنا والعجوز لثلاثة أيام ، وأضحى الآن بالكاد يساوي رغيفا هزيلا تم
التحايل على وزنه وحجمه ونكهته . لهذا أحمد الله بأنني لست أكولا ، والعجوز أيضاء لم تعد تحفل بالطعام إلا
لتسكين ثورة الجوع . لهذا لا تطلب سوى بعض الحساء من الخضار المخفوق في الخلاط
الكهربائي ، عندما يكون التيار سخيا ، وإلا سأضطر مرغما لهرسه يدويا .. في شيء من العجالة حتى ألتحق
بخيالي الذي تركته يتخبط فوق لوحة مفاتيح جهاز الكمبيوتر .
_____
* المقطع (3) من سردية ثلاث نملات تعبر كتابا .