وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري
‏إظهار الرسائل ذات التسميات ، كتب ،. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات ، كتب ،. إظهار كافة الرسائل

الجمعة، 25 أكتوبر 2024

مع الجراب للكاتب: أحمد يوسف عقيلة

 

 

مفتاح العمّاري

____ الجراب بين السيرة والرواية 

 

         

(1)

      تتحقق الكتابة الإبداعية ولاسيما في حقلها السردي عبر ترسيخ علاقتها بمحيطها من انسان وحيوان ونبات. وبظواهر الطبيعة وتجليات طقسها. وفي وقائع الجراب للسارد أحمد يوسف عقيلة، ستتنامى الدهشة باضطراد خلال ثلاثة وتسعين مقطعا قصيرا جاءت بهيئة شذرات كتبت بتقشف؛ لينفتح حكيها منذ الكلمات الأولى على الأرض. يقول: " في البراري البكر العارية ولدتُ" / "غِب المطر تزدان الأرض بالقميحاء الصفراء الفاقعة". ولسوف تستمر معنا هذه الثيمة بالتجاور مع الأم والبيت بلغة حميمة ذات حمولة جمالية تثريها استعاراتٌ متقنة؛ تجتاحها غالبا بلاغةُ الصورة بواقعيةٍ فائقة: " عندما كنت طفلا يحبو.. ولم يتجاوز نظري مدخل البيت بعد.. وجدت تجليات الطبيعة في بيت أمّي.. في زخارف الأروقة.. والهدمة.. والإكليم.. والحوايا.. والشواري.. والمخلاة".

     وهكذا ستحتفظ الأسماء والأشياء على الدوام بتلك القرابة السحرية؛ بحيث يتعذّر هنا تبرئة الواقع مما هو ممكن تخيلا. أي أن الحقيقيّ في هذه التجربة السردية الاستثناء هو من سيتورط في استدراج المتخيل الى حدّ الانصهار تمامًا. هذا ما يحدث في براري الجراب بأوديته وغاباته وجباله. بحيث لم يسلم النهار من طبائع الليل وأطيافه. فما من شيء في سيرة الراوي كنسيج يتداخل مع ذاكرة النجع يمكن عزوه الى الطبيعة وحدها دونما حضور أليف للميتافيزيقا. لأنه مهما حاولنا الزعم، بأن ما ترصده عينُ الطفل حسب كوادر الصور وزواياها يقع ضمنًا كعمل تسجيلي وثائقي يتعلّق تحديدًا بما تحتمله حياةُ البادية في الجبل الأخضر من حكايات؛ سيظلّ دونما ريب محض ادعاء، طالما ليس بوسع ذاكرة السارد في الجراب التنصل من غواية الشعرية واضفاء لمسات مطمئنة لترتيق كل ما يشي بالقبح ويهدّد بتفشي الوحشية، لحظة أن يتغوّل الانسان ويمسي عدوًا. ليس لأخيه وحسب؛ بل لنفسه، وللطبيعة ذاتها التي وهبته نعمها.

     يشير العنوان الفرعي للكتاب بوصفه سيرة للنجع. لكن خلافا لما يمكن توقعه في منطق السيرة كسياق تراكمي للحدث؛ لا يقدم تسلسلا زمنيا لحياة كاملة وانّما يتعمّد اختزالها في التقاط المؤثر في بناء وجدانها. أي لا يتورّط في تتبع مسار زمني يخضع لمنطق العلم، بقدر ما يستجيب لما هو حيّ وفاعل في الذاكرة. فتداعيات التنقّل من البحث عن الترفاس، واصطياد اليرابيع، الى الرعي، والحصاد، والعلاقة بالقطط والجراء والخراف، ورصد وقائع الأعراس والمآتم، ومشاهد سقوط المطر وفيضان الأودية. ولقطة وقوع الجعل( بو درنه) في قصعة الرز، وما ينذر به تربّص طائر العقاب للأرانب والجديان وصغار الخراف من مصائر دامية. لهو عالم بقدر ما يفيض بالبساطة؛ لكنه في الوقت نفسه يعج بحشد من المفارقات الدامية.

     لعلّ الانطباع الأكثر رسوخًا الذي غمرني في أثناء قراءتي لمحتويات " الجراب " بوصفه منجزًا أدبيًا له بصمته الخاصة به في تعزيز الهوية، أنني ومنذ البدء قد استسلمت تماما لسحر الحكي، لحظة أن وجدت نفسي إزاء صنف أصيل من حفريات الكتابة السردية، في أكثر براعتها الجمالية تكثيفا وايجازا وتفوقا. وأنني من جهة أخرى سوف العن الحظ العاثر عندما تظهر هكذا مغامرات سردية متفوقة في بيئة تكن خصومة تاريخية للقراءة، تزدري الأدب وتهمل شأن صانعيه.

    ولربما هذا القبح العام هو ما حاول الكاتب معالجته في نسيج الجراب. فثمة دائما مساع حثيثة للاستدراك. بحيث لا تفلت الصورة البشعة في نهاية المطاف من دون أن تخضع لشيء من الفلترة وتجميل تشوهاتها الإجتماعية وخزينها النفسي، عبر اخضاعها لعمل المخيلة. وبذا تفوق عقيلة كسارد دربة في تشذيب سلوك الغابة حتى تصبح الحياة محتملة. فمنذ مفتتح الشذرة الأولى سنلاحظ بكل يسر مدى استئناس آلة السرد هنا بتقنية الاغراب التي تتخذ من مشاهدات الطفولة وسيطا لنقل وقائع فضاء السيروي موضوع النص، التي كان لها التأثير الأوفر في أن تبقى الدهشة حاضرة على الدوام. ليظل كل ما هو مؤثر ومثير ومغو وصادم وغريب يفيض على الدوام بقوة من ذاكرة النجع، عبر حضور حميم للإنسان والطبيعة.

     وهنا لن أبالغ إذا ما صرحت بأن أحمد يوسف عقيلة يعد الكاتب العربي الأكثر قرابة واحاطة بأسرار الطبيعة؛ وقد أغنى قاموسها بمفردات جديدة، وجسّر أوديتها وجبالها وتلالها، وأنسن كائناتها من طير وحيوان ونبات، كمفاتيح للتعرف على تفاصيل طبائع الأمكنة؛ وتفكيكها من ثم، عبر ثيمات تتألف من ثنائيات واضداد: الحياة والموت، القبح والجمال، الخير والشر، من دون أن يغفل تطويع عديد المحفزات الخليقة بأن تكتسب العلاقة فيما بينها ومعها مفاهيم ومعارف إنسانية يحضر فيها الوجدان بقوة من خلال تلك الخلفيات التي تضفيها شعرية السرد على الواقع والمتخيل.. كجزئين حيين لحقيقة واحدة. ينتصر في معركتها الأنسان لصالح انسانيته؛ عندما يتآخى مع محيطه ليكون صديقا وفيا للبيئة التي يتفاعل معها بحب.

    أن مقترحات الحكي لدى أحمد يوسف عقيلة، سواء أكانت في الجراب أو غيره من عناوينه القصصية، تشي دائما باقتدار كبير، يؤهلها لأن تحتل موقعا بارزا، بوصفها علامة بين العلامات الأهم في مشروع السرد العربي. ذلك عندما تبادر القراءة لإنصاف نفسها عبر تكريم مقروئها. ولا سيما أن عقيلة قد وضع في جرابه كنوزا ثمينة يندر مثيلها في سوق المصنّفات الأدبية. فهو لم يكتف بمخزون ذاكرة الطفولة والصبا في تأثيث سيرة النجع، وحسب؛ بل كان لحقيبة ادواته في تقنيات الكتابة عملها غير المسبوق في إضفاء عديد المهارات الذكية على عمارة اللغة. والخصائص الجمالية لبنائها. يأتي من بينها اقتراح إقامة صرحها على نسق من المقاطع القصار بهيئة حكايات أو قصص تضافرت في تكوينها عدة خصائص فنية استأنست بنظام المشهد السينمائي.. يحكمها تنضيد معنوي تخدمه جملة من الاستعارات التي وهبت اللغة حيوات شتى.

     أكرر: على الرغم من هذه الأصالة في نسيج الجراب لكننا - وبكل أسف- لم نعطه ذلك الاهتمام المستحق والاحتفاء الذي يليق به. هذا التقصير مبعثه خلل القراءة نفسها. ونعني هنا القراءة كجزء من منظومة ثقافية لا تزال حتى يومنا هذا غير مؤهلة لاستقبال السرد الكتابي كمتطلب معرفي وغذاء روحاني لا غني عنه. ولن يكون الأمر مستغربا في مجتمع لا تولي مؤسساته الحد الأدنى من توفير المحفزات الكفيلة بتنمية الحياة الثقافية.

 

(2)

       استئناسا باستعارة "امبرتو ايكو" حول الرواية بوصفها غابة، أحاول هنا مقاربة سيرة النجع في "الجراب" للكاتب: أحمد يوسف عقيلة، باعتبارها رواية انبنت على خلفية سيروية. لاسيما وأن الفضاء المتخيل في الجراب يشكل كسرا متناميا للرتم التسجيلي لواقعية كل من السيرة واليوميات والمذكرات. ولعل ذلك يتطلب منا دونما مبالغة التوقف عند كل ما هو ممكن بسياق العالم الماثل الذي اقترحه علينا السارد في حياة الغابة التي كرس لسكّها أكثر أدوات حقيبته السردية براعة في تنضيد وتعشيق جملة من الحكايات على نحو سبق وان وصفناه بالمبتكر. هذه الحكايات تضافرت جميعا في خلق نسق فني سوف ينتسب للرواية بخلفية سيروية. وهنا لا نستند على أوجه التماثل بين غابة الجراب وتلك التي افترضها "امبرتو ايكو" لمجرد أن اغلب احداث الجراب تنحدر من سلالة غابات الجبل الأخضر؛ ليقيننا أن هذا التشابه في السطح لن يكون كافيا ما لم نظفر بالتأثير المتوخى للخيال وحرارة الوجدان كطاقة اسهمت في تحريك وضخ وقائع نجع الجراب. وهذه الخاصية يمكن التدليل عليها من خلال براعة آلة السارد في تصعيد المتخيل، والتي حسبا لتقديرنا برهنت على جودة عملها عبر تلك التقانة العالية التي عملت عليها حقيبة أدواته؛ بوصفه ساردا مقتدرا يملك من الخبرة ومهارة الصناعة ما يؤهله لمعالجة علاقات الأسماء والأشياء بحيث يكسب منجزه عديد الخصائص الفنية والجمالية التي تضعه في مصاف حقل الرواية لا السيرة.

    من جهة اخرى ولا سيما في طابعها الاعترافي تعد سيرة النجع حسب قراءتنا قد ذوبت داخل خلطتها المادة الخام الجديرة بعمارة عمل روائي شديد الخصوصية. ولتعزيز وجهة نظرنا والتدليل أكثر على مقصدنا نشير تحديدا الى روايات: "ادواردو غاليانو" كضرب من العمارة التي تعتمد في بنائها على خاصية التقطيع الشذري في تسلسل وقائع فضائها الخاص بها. بحيث تنتهج صنفًا من الحبكة الداخلية، ذات البعد الدرامي الخفي؛ أي غير الظاهر على مستوى الصراع وتطور الحدث.

     في الجراب أيضا وبقليل من التمهل يمكن العثور بيسر على عديد محفزات الصراع التي تغذي استمرارية الجدل بين الأضداد، ونمو الحدث على المستويين المادي والمعنوي. فضلا عن اتساق النص دراميا داخل كادر نسيجي (زمكان)؛ بداية من الإشارة لميلاد الرواي، حتى التحاقه بالمدرسة والرحيل من ثم عن النجع، مرورا بكل الأحوال التي شهدتها الغابة ضمن الحيز الزمني المقدر لوقائع شتى تتعلق بكائنات الغابة وسكانها وظواهر الطبيعة، وما يعبر عن حياتها عبر تراتب فصول السنة.

     كذلك، لم يدخر الكاتب جهدا في اضفاء لغة شعرية ذات حمولة عالية من محرضات المخيلة. مما يجعل منجزه أكثر قرابة من حقل الرواية لا السيرة، التي يمكن (حسب تقديرنا) ركنها (أي السيرة) كهامش ملحق، يندرج ضمن عنوان الكتاب، أوحت به عبارة الوسم: "سيرة النجع"؛ والتي حتى إن قصد الكاتب من خلالها تذكير القارئ بأنه ازاء عمل سيروي للبيئة وسكانها، فأنني كقارئ غير ملزم بالإذعان لهذا التنبيه الإرشادي، الذي قد يكون مضللا. لأني بالمقابل سأجد في سجلات مدونة الرواية الكثير من المصنفات التي حمل غلافها صفة الرواية، بينما هي محض تقرير اجتماعي او تكديس وثائقي لا تربطه أي صلات بعمل المخيلة. هكذا مفارقات ترجح وجهة نظرنا في انتساب الجراب لحقل الرواية لا السيرة. وفيما اعلم أن مهنة التصنيف تُلقى على عاتق الناقد الأدبي لا المؤلف.

    وهكذا يقترن جراب عقيلة كمنجز سردي بعالم الغابة، ليبرهن من خلال الخلق الإبداعي لا التسجيلي؛ بأن أبرز صفاته تكمن في مشاعر الصدق التي (كما اشرت) تستمدّ فرادتها وبامتياز، كون الكاتب أكثر ايغالا في تفاصيل الطبيعة، وتجسيد أبرز تجلياتها جمالا وتسامحا وسلاما. وأننا كقراء سنظل على تماس دائم مع هذا السخاء الآمن في كل كلمة، وكل حركة، وكل نبضة، وقطرة عرق ورفرفة حلم؛ ودونما ريب ستلامس قراءتنا نمطا من الكتابة يعبر عن اصالته بحرفية عاليه. وهذا ما كفل، ويكفل لتجربة الكتابة لدى أحمد يوسف عقيلة استثناءً فريدًا، ويضع معظم مؤلفاته ولا سيما الجراب، في منطقة جذب خاصة بها. وانني حين اعترف كقارئ بفضلها على جماليات مدونتنا السردية العربية؛ انما لكونها هي من فرضت هذا الاعتراف باستحقاق كبير. اذ يكفي في الحد الأدنى من الانفتاح على القراءة التصريح بأن الجراب تعد من أهم التجارب السردية العربية المحفزة على الشراكة. ففي لحظة القراءة ستشعر كما لو أنك قد اصبحت جزءا من هذا العالم البريّ؛ لتجد نفسك من ثم كقارئ منخرطا في تأثيثه. بوصفه عملا قابلا بشهية عالية لاستدراجك على ادارة التفاعل كضرب من القراءة المنتجة التي تسهم دونما ريب ليس في تأويل المقروء وحسب؛ بل في اعادة كتابته كما يحلو لها هي حين تهبك الفراغ تلو الفراغ، كطاقة محتملة لإيقاظ مخيلتك أنت الآخر.

    من هنا تكتسب القراءة وظيفتها كعامل خلق؛ لا صدى. فلم يعد القارئ تبعا لذلك مجرد ظل للمؤلف أو تابع يقتفي ما يُحتذى؛ بل جزءًا فاعلا في الخلق عبر تحويل النص المقروء الى مادة خام يمكن اعادة تدويرها دون المساس بخصائص الأصل؛ لتظل كتلته كما هي سليمة من العطب.

    مع كائنات عقيلة ستحظى القراءة هي الأخرى بحياتها الخاصة بها. وسيبقى كل ما هو جميل في الجراب ينمو دونما توقف قادرا في كل وقت بأن يهبنا بذرة الحياة، معبرا من جهته عن قدرة لا متناهية على خلق حياة موازية من دون أن يتخلى عن شكله الأول. لأن كل تلك الحمولة الثرية التي اتسع لها هذا البهاء كانت (كما أشرت) تفيض بروح صديقة، تنغمر بحب كبير في قيعان أوديتها وغاباتها، متآلفة بطمأنينة عالية مع كائنات الطبيعة واشيائها. كما لو كان الكاتب يستمد سلامه الداخلي وتلك الروح السمحة من العطاء والإيثار والحب من مخلوقات نجعه ذاتها التي شكلت معرفته بالعالم، ووسمت لغته، وطبعت سلوكه بهذا الوفاء غير المسبوق. وأيضا لأن شخصية الراوي في الجراب كانت في الواقع تكتب نفسها بقدر كبير من العفوية والاحاطة بأدق أسرار المكان؛ فضلا عن التعاطي السخيّ (ودونما حدود) مع اللغة والتوق والجمال؛ لتهبنا منجزا خليقا بالإشادة والإكبار. لأن ما احتواه جراب هذا المروض البارع للغابة يعد في رأيي المتواضع عملا جديرا بالفخر والاشادة. كتابة أصيلة منحتنا الثقة في السرد والمتخيل؛ الثقة كرد اعتبار للقراءة، وأيضا السعي لكتابة متفردة تشكل رافدا مهما ومثلا يُحتذى لترسيخ اتجاه أكثر تجذرا؛ يتسم بخصوصية ليبية في الواقعية الجديدة. لأن ما فعله الكاتب يُعبّر بقوة عن اخلاصه وحبه لبيئته، وتوطنه فيها الى حد التوغل في معرفة أدق خفاياها؛ ففي الوقت الذي لجأ فيه معظم كتاب الأرياف والواحات في ليبيا الى المدن. ظل (عقيلة) الكاتب الاستثناء، الأكثر تشبثا بملاذه؛ دائم القرب الى حد الدهشة من الطين والأعشاب والأشجار، تجمعه صلة رحم شديدة الرسوخ بالأرض التي خبر عن جدارة لغتها وطبائع قاطنيها وتقاليد فصولها ومشية ظلالها وايقاع رياحها وامطارها. في جزء منها تذكرنا سيرة النجع بغابة تشيلي؛ تلك التي قدمتها لنا على طبق شعريّ، قصائدُ بابلو نيرودا.

____________ 

باب بن غشير 19 فبراير 2022

19 فبراير 2022

الأربعاء، 16 أكتوبر 2024

مدونةُ الطير ( من نصوص حياة الظل)

                                                                                       مفتاح العمّاري 


__________   مدونةُ الطير*

 "أوقفني وقال إن لم ترني لم تكن بي.

وقال لي أن رأيت غيري لم ترني"

  -النفري، من موقف قد جاء وقتي-

 

 (1)

في التيه،

ولدَ الشاعرُ والذئب.

سلخ الهدهد ثلاثة فصول،

ليصل إلى تخوم الصيف الخفيّة:

أيها الحكيم، رأيت السّالكَ يخرج من وحل الغافل،

له بلاغة السيف وحدّ المعنى.

رأيت الأشجار أجنحة تنتظر البرق.

والبحر خمس ضفاف للملح. 

رأيت الكوخ الصغير الذي رسمته يد طفلة ناعسة

يسبح في سماء صفراء.

في التيه.

قطعوا سرّة الشاعر بكر أمه وذراع أبيه،

وتركوا الذئب يعوي،

فتحوا بريدَ الغابات والأساطير،

وتركوا الذئبَ يعوي،

جابوا الأسواقَ والبساتين، لكي يظفروا برمّانٍ في غير موسمه،

وتركوا الذئبَ يعوي.

سلخوا معرفة الجبال، وحصدوا حكمة البراري،

ناموا في عراء الفاقة فخورين بالضحك

والذئبُ يعوي .........

 

(2)

في التيه،

برج ريح،

يستدرجُ المواقدَ لخبزه.

طابورٌ خامسٌ يعمل في سلك

الزوابع خاطفة العطرِ وبذورِ الموسيقى.

كل وتر تنقرهُ الخفةُ يتقطّع على ضفافِ الوجع.

 

(3)

في التيه،

ليس الشاعر حدثا يُحتفى به.

لكن يوم ختانه صادف ذكرى المولد النبويّ،

نحروا جملاً عند ضريح سيدي عبد الجليل،

جلبوا جرارَ الماء من العيونِ النائمة،

وتركوا الذئبَ يعوي.

طافتْ فرقُ الحضرةِ عبر الشوارع الكالحة،

تَقْرعُ الدفوفَ وترفعُ المدائحَ والأعلام.

 محفوفة بالصبيةِ والعيّارين والدراويش وحملةِ المباخر.

يُرشّ المنشدون بماء الزهرِ كلّما مروا بمحاذاةِ الدكاكين.

لم أذهب طويلاً يا مولاي وراء مواكب المديحِ والبخور،

لأن إخوةَ الطيرِ هبطوا راقصين وقد أغراهم السمر،

فالنوم يُعدّ مروقا، لأن القمرَ يُزهر على ذرى الأحلامِ الفقيرة.

وُلدت النجومُ توائم، وظلّ الحلمُ اخضر.

وزّعوا اللحمَ وفطائر الزيت،

وسكبوا شاي النعناع في طاسات صغيرة.

 

(4)

في التيه

كَبُر الشاعرُ والجنديُ يا مولاي، والذئبُ يعوي،

لم يهدأ، حتى أضرموا معاجمَ العشقِ، واحترقتْ أًصابعُ الخيال.

كل عذراء اشرأبتْ خلف الكتانِ حلمةُ نشيدِها.

فيما الثكناتُ ترسمُ خرائطَ النفير.

خفقت الراياتُ الفتيةُ وتدحرج صوتُ البوق.

 جنديّ زاحفٌ إلى الموتِ في جيبهِ كلمةٌ،

شاعرٌ عليلٌ في قلبه طفلٌ ينتزعُ لعبته من فوضى الألوان،

في حلقه امرأةٌ تغرز جثةَ الشعر بالدبابيس،

في نسيانه خديعةٌ تكحّل سوءتها بحبرٍ مغشوش،

في عينيه سكبت الشمسُ قارةً من اليقين،

تركت أرضاً محروقةً ونملاً يتعرّشُ بالأهداب.

شاعرٌ أعمى ...............

 

(5)

في التيه يا مولاي: حلّقت فوق منازل العنكبوت،

رأيت ابنة الرماد،

التي خالط دخانها لسان الشعر، وسقف العشير،

واسم الكتاب.

 

 (6)

في التيه

تستيقظ توتةُ فمها هذي الفاتنةُ،

حين تنده يا مولاي:

هي حديقةُ نزوات،

مطرٌ برتقالي،

شَعْرٌ من نارٍ تتلون،

شفقُ وردٍ، في صحنِ قمرٍ مغسول،

تفاحٌ ماكرٌ يحتلّ حديقةَ خديها،

غيبوبةُ حمّى،

موجةٌ وضفةٌ من خلطةِ عشقٍ مخمور.

تَنْدهُ:

خُذني من أعلى ذروةٍ ترتعشُ بين أصابع فخامتك،

خذني ولا تعبأ بعواء المعلولِ،

دعه لوجاره يتلوّى بين خرابين، وأغثني

أنا طريدتُك وكنزُ رحيلِكَ ....

أغثني أيها الباشقُ

ولا تختلط عليّ كثيراً فتضيع بعيدا عن صدري،

 أو تخمد فحولتك في غزو أوديتي،

لا أفهمك، سبحان هديرك يا رعد،

يا إبرةَ ثوبي وبرقَ جبيني

يا غايةَ وطري، ومنقذَ جرفي من لغوِ السيل

لا أفهم:

تصعدُ في أرجائي ضراوةُ نبيذ ك،

رحلةُ شفقٍ أحمر تغمرني.

أنت عنترة: أنا   غمدُ سيفك.

أنت المتنبي: أنا مدارُ قصيدك،

قوافيك بعيدا عني،

شتاتٌ من حجّاج يُطوفون بلا كعبة.

سبحانك يا هذا البارق،

سبحان قضّي وقضيضك، كمّلني أوكُلْني

اقبّل سماءَ نعليكَ خذني بأسنانكَ قوياً، ولا تعبأ بعواء الذئب.

أربعون زمهريراً في بئري،

أنا الشتاءُ، البردُ نشيجُ سُكّاني

فخذني قوياً أني أريدُك،

أريدُ أن ينصهرَ صقيعي في كانونِ جحيمك يا بيتَ النار

أن تتوهّجَ شهقةُ كهفي في عسلِ بركانك

يا جسرَ ماءٍ وجمرٍ بين قبّتين

أين بعثرت فضّتكَ يا سلطانَ الضوء

أنا سلّةُ ليلٍ،

وفاكهةُ سرّ،

أنا فمُكَ

يا كأسَ العابرِ 

فلا تنبذ صدري، فيذبل فستاني،

لا تثمل أيها المخرّبُ هندسةَ النهدِ

خارجَ حانتنا أو تعبث بغمّازة خيالكَ

سكران في شرفةِ ملهمةٍ أخرى

ثم تأتيني تعتعةً،

لا تفقه عطري من عرقي.

خذني، ولا تلتفت لعواء الخلّب.

  

(7)

بعد قليل يا مولاي

قال الذئبُ،

وهو يقودُ القطيعَ إلى مخيلةِ الفناء

: قفْ يا اسمَ التيه،

مزقتني المساربُ.

وهذا ما رأيت.

______  

برلين. خريف 2009

 * من نصوص كتابي: "حياة الظل"

 

الثلاثاء، 15 أكتوبر 2024

أنا في الشارع

 


مفتاح العمّاري


أنا في الشارع

_________________      

 


     في ميدان الشهداء: أي الساحة الخضراء، قبل خمس سنوات، وسوق الخبزة أيام الباشاوات والآغات والكيخيات؛ هو نفسه ميدان ايطاليا أيام الغزاة الفاشست عندما كان الجنرال بالبو ينصب المشانق بجانب نافورة السباع، ويضاجع الحسناوات في فندق فيكتوريا. هنا حيثما تلتفت سيسبقك الماضي، لأن البناية الغربية للميدان، أعني مصرف الجمهورية، أي مصرف الأمة قبل عام واحد، وبنك روما قبل مائة عام، ستظل هي نفسها الأبهة الأبرز في طرابلس لطابع العمارة الكلاسيكية التي خلفها الطليان.

   جلست مكدودا بوهن خائب على مقربة من حواف النافورة، محدقا في بلاهة إلى حشود الحمام والمسلحين والنفايات. أخيرا أنا وحدي بعد أن أدركت أختي مريم أن لها أما، تحتاج للماء والضوء، فمريم الوحيدة في العائلة التي تملك مولد كهرباء يعمل بالبنزين، أخيرا راودها الحياء وقدمت هي وزوجها المدجج بالثرثرة، وحملوا العجوز في سيارة مكيّفة. ولأنني وحدي تذكرت سيبتموس سيفروس قبل نفيه إلى لبدة. ففي يوم ما كان الرجل يقف بأبهة موليا ظهره لسوق الترك وهو يتطلع بكبرياء ناحية الميدان، منتصبا بفخامة قامة حجرية لإمبراطور روماني نصف ليبي. التقطنا صورا أنا ورفيقي في الكتيبة الرابعة والذي سيقتل في معركة وادي الدوم. من هنا أيضا مرّ موسليني، وقبله بأربعة قرون تبول جندي سكير من فرق ايزابيلا. هنا هتفت الجماهير للطغاة، ودفنت أكوام من جثث ضحايا الطاعون، وشيعت جنازات، وأقيمت صلوات استسقاء، ووزعت أوسمة، ووضعت أجساد على منصات الإعدام. كما حصد الرصاص أرواح عشرات المتظاهرين في ليلة العشرين من فبراير 2011. هنا التقيت الشاعر علي صدقي عبد القادر ذات مساء خريفي، كان يرشق وردة في جيب سترته ويتغزل في الشمس والخواء، كما لو أن طرابلس لا تضم سجونا ومعتقلات وشعراء تتعفن أحلامهم وقصائدهم داخل الأقبية والزنازين.

      رنّ هاتفي المحمول. سمعت وبصعوبة من يسأل:

-  أنت في البيت؟

-  لا، أنا في الشارع.    

__________

*من محتويات كتابي " تقطير العزلة، محاولة لتدوير خانة الصفر" طبعة أولى 2020 طرابلس ليبيا.

 

 

 

 

 

 


الحداثة والشعر في ليبيا

 


                                                                                       مفتاح العمّاري 



تجليات تجربة الشعر المعاصر في ليبيا*



   
".......أسماء كثيرة برزت خلال عشرية السبعينات. القلة فقط هي التي صمدت نصوصها متحررة من أوبئة التقليد الأعمى. وهذه القلة لم تشكّل تيارا شعريا، بل اتسم مسارها بتجارب شعرية منفردة، تتميز باختيار الجملة الشعرية ذات الإيقاع الموسيقي المحمّلة بشفافية وجدانية حارة ذات الرصانة والسبك لدى، محمد الفقيه صالح، سلسة وحميمة وسريّة لدى الجيلاني طريبشان، وغنائية حالمة في شعر السنوسي حبيب.

    لكن ثمة أسئلة كثيرة تثيرها التجربة الشعرية في السبعينات: ماذا قدّمت في سياق لحظتها ضمن التجربة الشعرية العربية بوجه عام. وأين موقعها؟ وهل شكّلت علامة لها مميزاتها، وخصائصها، وسماتها الذاتية.

    واستطرادا؛ لماذا وقفت هذه التجربة في الغالب عند حدود القبول والتلقي؟  لتخضع لفعل الامتثال والتأثر. بحيث توقفت شهرتها إقليميا، ولم يبلغ صداها المركز، وباقي أطراف المحيط؟ أسئلة كثيرة تثيرها تجربة هذا الشعر البائس، الذي تقاطر شعراؤه إلى المدينة، بسحنات بدوية وريفية، معفرة بغبار القرى، والواحات الصحراوية. ثم لا شيء في جعبة الذاكرة، سوى بعض الفتافيت لسيرة محزنة، مشمولة بمكابدات التشرد والعزلة.

_______

* مقتطف من: (تجليات تجربة الشعر المعاصر في ليبيا)

ضمن محتويات كتابي: فعل القراءة والتأويل 

الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والاعلان

الطبعة الأولى: ( 1996)

الثلاثاء، 23 أبريل 2019

بريد الليل *



مفتاح العمّاري



_______   رسائل ضائعة
  

" كنت أعتقد أن الحب يكشف الأقنعة، وأنه الحقيقة كما علموني في أقوال المسيح... أشعر الآن بأنّ قناعا هائلا يغطي جسد العالم بأسره؛ بأن العالم ليس سوى تراكم آلاف مؤلفة من الأقنعة، وإني عمياء."

(بريد الليل)
      لا مكان هنا سوى ما تقضمه الغربة من أحلام مهجورة. ولا زمان إذا شئت، غير غرائب هذا الزمان. "بريد الليل"** رواية قصيرة، للكاتبة هدى بركات.*** عُصرت عباراتها بقوة؛ ليخرج الألم بكثافة؛ قطرة، قطرة. تحايلتْ لغتها بدهاء على خرسانة السطح، لكي تنفد وتتغلغل عميقا في الداخل إلى آخر بذرة ظلام تنمو. لغة حارة، مكدومة ونازفة، كأنها ما خلقت إلا للتنقيب والغوص في بواطن وأسرار ذاكرة معذبة.
      آلة السرد في بريد الليل، مقلع جحيم باطني، مفردات قاسية، مع كل ضربة فأس؛ تحتك العبارة بمناطق غائرة لا يفلها غير مواصلة الحفر بعناد حتى تصل إلى الغور وتكسر طبقته الصلدة، لتفيض مدافن الروح الهائمة بما فيها، نزيفا لسوائل زنخة، وريح عفنة، ودماء فاسدة، ومخلوقات دميمة، كثرت تشوهاتها فأمست بلا ملامح  لطول ما قبعت حبيسة في ظلمات كهوفها.

     هذه الرواية تدخل الآن حلبة المنافسة ضمن القائمة القصيرة المرشحة لنيل- الجائزة العالمية للرواية العربية-.
    بالنسبة لي شخصيا كقارئ، صارت منتخبات (البوكر) في نسختها العربية، ومنذ نشأتها الأولى تشكل زادا استثنائيا؛ فلطالما حرصت على اقتنائها وقراءتها، قبل موعد حفلها الختامي لإعلان الرواية الفائزة. وفي الأثناء، قد (يصدق حدسي ويخيب). من "عزازيل" إلى "حرب الكلب الثانية " مرورا ب"ساق البامبو" و"فرنكشتاين في بغداد: و "موت صغير"  داومتُ بحماسة لا يعوزها شغف المحب، كل عام على قراءة منتخبات قائمتها القصيرة، والكتابة حولها. لهذا يزهو أرشيفي الشخصي بعديد القصاصات التي تذكرني بهذا الاحتفاء الذي يجعلني مدينا لفضل مؤسسي الجائزة ورعاتها، وبالمثل لصناعة هذا الصنف من الخيال البارع الذي نضّده روائيون أرّخوا لمشاعرنا بسرد روائي طموح ومتقن، دائم التفوق على نفسه وواقعه. ولعل هذه واحدة من المآثر التي شكلت بالنسبة لي محرضا كبيرا لمقاومة المرض والتشبث بالحياة، طالما هناك من هو قادر على خض أرواحنا حتى لا تنام .
*مقتطف من قراءتي في رواية بريد الليل
**دار الآداب ط أولى 2018.
*** روائية لبنانية.

___________

الأحد، 9 أبريل 2017

روايات البوكر (مصائر : ربعي المدهون )



مفتاح العمّاري




روايات البوكر
مصائر ربعي المدهون

      تنفتح راوية مصائر، على بداية رصينة تقترح قدرا من الهدوء لافتتاح سردها . وان كانت أول جملة في الافتتاحية فضفاضة بعض الشيء  " ما أن لا مست قدم جولي الدرجة الأولى لسلم الحديد الصدئ الصاعد حتى باب البيت الأزرق الشاحب مثل سماء حائرة بين الشتاء والصيف ، " . وهي تتداعى على خلفية إيقاع أجراس كنائس تُدقّ . لنعرف أن جولي نصف الفلسطينية ، قد قدمت من لندن إلى عكا تلبية لوصية أمها الأرمينية الفلسطينية والتي تزوجت من طبيب برتبة ضابط بالجيش البريطاني وهربت معه لوطنه ، وظلت هناك إلى أن توفيت قبل أيام  . وكانت قبل منيتها بأسبوع قد أوصت أن يذر نصف رماد جثتها فوق نهر التايمز ، فيما يدفن النصف الآخر ببيت العائلة القديم ، والذي منذ اقترانها بزوجها الانجليزي ، حيث اقتضت الأحداث بعد ذلك أن تهجر عكا نهائيا ، بعيد إنجابها لأبنتها الوحيدة داخل قاعدة عسكرية  في 1948 – هي نفسها جولي –  التي التزمت بتنفيذ وصية الأم ، جاءت تحمل رماد الأم في قارورة بهيئة تمثال وهي تصعد درج المبني باتجاه البيت القديم الذي هجرته عائلة جدّها لأمها منذ ستين سنة .
 
    وهكذا حققت الحركة الأولى في الرواية التي اقترح لها المؤلف هذا الكونشرتو السلّمي ، لتقبض على واقعية عالمها بطريقة تحقق إلى حد كبير تناغما شديد البراعة من حيث التنقل بين الأمكنة والشخصيات وربطها بالوقائع وما يتخللها من مشاهد ولقطات برعت في تجسيد شخصياتها وتكثيف عديد الدلالات ، فضلا عن استدعاء التاريخي  من أحداث وشخصيات ، معظمها ذو صلة بتأثيث الهوية ولملمة شظاياها . ضمن انمامها بتوصيف المجتمعي بكل مكوناته الثقافية ، والتوغل في تشخيص الشتات والغربة ، سواء في الخارج أو الداخل . الحركة الأولى حافظت على سياقها ، وهي تلعب على مجموعة من التيمات كوحدات مؤسسة لمقتضيات السرد ، واستطاعت باقتدار أن تسطر أكثر من مقولة ، ورسالة من دون أن تخل بما هو ممتع وشيق  ومؤثر فنياً ، معبّرة عن خبرة رصينة في استدعاء أطراف واقعها عبر تجميع مواده وتنضيد صوره وشحنها بتلك الطاقة ذات الحمولة الحارة شعريا .

    لكن حالما تدخل الرواية في حركتها الثانية حتى يختل ميزان العمل ، وتفقد العملية السردية تلك الوتيرة التصاعدية في إنماء عالمها . عبر إقحام شخصية  ( جنين ) كرواية داخل رواية ، لها أسئلتها الموزعة بين عالميها الافتراضي ، والواقعي كمحاولة  تفشل في ترتيق ذلك الاتصال الذي يتوق لخلق قدر من الارتباط على نحو ما بشخوص الحركة الأولى ، لكنه في الآن يسحب الرواية إلى حافة الهشاشة ، والتي ما تلبث أن تنحدر إلى علاقات مفككة ، سواء على مستوى السرد أو تطور الشخصيات والوقائع ، وتنجر في بعض مقاطعها إلى الثرثرة وتكرار المعلومة ، كأن ثمة مقاطع تم إقحامها عنوة مما سبب في هلهلة النسيج ، إلى حد غاب معه التماسك الفني والموضوعي في الآن نفسه . لأننا لو قمنا بعملية جرد لعديد الوقائع والشخصيات بدءا من الحركة الثانية سنجد بأن بعضها لا يخدم السياق ، ولو تم حذفه لحافظت الرواية على تماسكها وترابط أحداثها . وبدأت تضعف ، أو تتلاشى تلك الرصانة التي وسمت القسم الأول عبر الانجذاب للتجريب ، والذي جاء كشكل من اللعب لا تحتمل الرواية إيواءه . أو هو بالأحرى لم يكن متناغما مع السياق الفني الذي اقترحته الرواية على نفسها  . ناهيك عن التورط أحيانا في حوارات هي أشبه بالثرثرة العابرة ، كما هو الحال في تداعيات الحديث  غير المجدي في معظمه  مع راكب في طائرة . وإقحام الكاتب لنفسه في تفاصيل داخل النص جانبتها حظوظ إثراء  عناصرها الدرامية . وبالمثل اندرج توظيف رواية أخرى داخل الرواية . ولعل هذا الإغواء للتدليل على العالم الافتراضي داخل المتخيل نفسه إربك مسألة التحكم في مسارات النص وإنماء مقولاته نتيجة للخوض في سير عديد الشخصيات العابرة . هذا التكديس للأمكنة والوقائع والأسماء كان له تأثيره السيئ على معمارية رواية مصائر .

    كان حريا بالكاتب أن يتشبث بجولي لتكون محورا عوضا عن زوجها وليد ، باعتبار أن جولي هي الخطوة الأولى في درج البناية الأصيلة ، كمجاز لبناء مصائر كرواية . وأن دورها لا يقتصر على دفن رماد جثة أمها بل هي تكتشف من جديد مسقط رأسها .  فجولي التي تقع تحت تأثير أصول مختلطة ، باعتبارها نصف فلسطينية ، ارتهنت في لحظة ما لتنفيذ وصية أم ميتة لكي تدفن رمادها في عكا . كم كانت شخصية ( معلومات ، فاطمة ) قابلة لمزيد من الامتلاء والتأثيث لكي تحتل دورا أكثر محورية ، كم لو أن الأمكنة ، تلك التي تستعاد كان يمكن أن تحيا مرة أخرى عبر هذه الشخصية التي خضعت لإهمال مبكر من طرف السارد . ولم يوليها الإنصاف السردي ، كاستحقاق تقتضيه ضرورات فنية . لتشكل أكبر فجوة في عمارة هذا المتن ، أدت بالتالي إلى ارتكاب عديد الفجوات والفراغات الشبيهة ، والتي مر بها الكاتب مرور الكرام مستسلما لتلبية تقطيع تلك الرواية الموازية داخل الرواية نفسها ، ليقحم شخصية ( باقي هناك ) وغيرها من الشخصيات الافتراضية لترصّ دونما أي مسوغ نسيجي يجعلها تتشابك ولو ذهنيا في الحد الأدنى . بينما في رأيي تعد محض مادة خام ، كان في الإمكان تأجيلها لمشروع مختلف عبر كتابة سردية أخرى ، لعله سيكون مختلفا لو أعتني به ، ليحافظ على استقلاليته كرواية إضافية يمكن للكاتب أن يهبها ما يليق بها من الاعتناء لكي تكتمل بمعزل عن خارطة مصائر .

    خاتمة الرواية والتي هي الأخرى تندرج بمثابة  - عود على بدء -  لأن جولي التي كما جاء في الحركة الأولى قد أفلحت في إيداع تمثال القارورة الذي يحتوي على رماد جثة الأم الميتة في بيت العائلة القديم . هذا ما قالته لزوجها وليد ، بل ذهبت إلى أن العائلة التي تسكن بيت جدها ، تعتزم تحويل البيت إلى فندق يحمل اسم الأم . الأمر الذي يعزى إليه من ثم تحوّل جولي نفسها ، لحظة أن أحاطت زوجها برغبتها في الانتقال من لندن والاستقرار بعكا .  لكن سنكتشف أخيرا ، بأن جولي تحتفظ بحكاية أخرى . لحظة أن تفشي بأن العائلة التي تحتل بيت الجد كانت يهودية ، حيث فوجئت بزوجين عجوزين  كريهين ، أسفرت مهمتها أخيرا عن تعذر الوصول معهما إلى أي تفاهم بشأن دفن رماد الميتة ، كفكرة قوبلت باستهجان بالغ العداوة ، ولاسيما من طرف الزوج العجوز الذي دفع جولي بعنف ، مما ترتب عنه سقوط القارورة وكسرها وانتشار الرماد الذي تكفلت الريح بمهمة حمله في جو عكا .  

      وهنا تماما ، يسمو الكاتب باللحظة الخاتمة ، واختزال دلالاتها بتوقيعة شعرية في غاية الكثافة والجمال ، لجأ إليها - ربما تحايلا - لوضع حد لتلك المشاهد واللقطات التي لن تتوقف . لأن ربعي المدهون إذا ما ذهب أكثر في هذا  التواطؤ مع تلك الوتيرة التي تفاقم هياجها بعد الحركة الأولى ، كان يمكنه تدوين عشرات المجلدات من دون أن يصل إلى خاتمة مقنعة ، يمكنها أن تضع حدا لهكذا مجانية ، كادت أن تُفقد السرد نصف مهابته وجماله.

 ___ 
10 مارس 2016.
جاءت هذه الملاحظات على هامش قراءتي لرواية ( مصائر ) عندما رشحت للقائمة القصيرة ( البوكر العربية 2016 ) ، أي قبل فوزها بالجائزة .

الجمعة، 5 أغسطس 2016

مع رمل أزرق .. لمأمون الزائدي

مفتاح العمّاري

 

      

    " هذا المكان هو كواليس هذا الكون ، كل شيء يحدث هنا " . لعل هذه العبارة وحدها تندرج كعتبة ولوج يُستأنس بها لتقفي خفاء النص ، وفي الآن نفسه تعدّ بمثابة أفق انتظار لكل ما هو متخيل ومحتمل ، في رمل ازرق .  
     منذ البدء ثمة ما يخلق من خامات الفوضى ، حياة تنتشل ، أو يتم إنقاذها . وهكذا سوف نستسلم بطواعية لتداعيات مشهد كابوسي ، وبالمثل لمشيئة اللغة وحدها لا الحدث ، بحيث لن نلتفت لمجريات الحكاية المتخفية إلا كمجازات واستعارات ورموز يقتضي تتبع انزياحها ، وتأويلها الكثير من الحذر ، خشية التورط فيما يوازي المتاهة نفسها ، أو ما تفضي إليه من فخاخ وغوايات . أعني متاهة القراءة كمواز لمتاه الكتابة ، طالما يصعب فصل العناصر وفرزها أو تمييزها لحظة أن تتأنسن الطبيعة  وتتبادل المحسوسات أوصافها وطبائعها ، بحيث يتعذر معها التمييز بين متحرك وساكن ، وحي وجامد . فللصخور جلد ، والتراب يكتسب جذورا ، والشمس مدللة . ناهيك عن أن الأمكنة والشخصيات بلا أسماء تشير إليها ، لهذا سوف لن تخلو الرحلة من مشقة التخمين والحدس تبعا لمقتضيات السرد وتلك المعاني التي نحاول سبرها عبر دلالات التنويع النحوي للخطاب بين ضمير الغائب بصيغتي الجمع والمفرد ، وبين ضمير المتكلم تذكيرا وتأنيثا ، كذلك المخاطب .
      لكن وعلى الرغم من هذا التنويع وتلك المحفزات الحكمية التي تتوالى عبر مقاطعه أو لوحاته ، يظل " لا شيء يساعد الإنسان على معرفة أقداره كمرور الوقت " لهذا قد تستأنس القراءة هي الأخرى بمرور اللغة وتداعياتها ، بحيث ستظل  القراءة مرتهنة تماما وبمتعة عالية لعمليتي الإصغاء والتأمل ، من دون أن تعبأ بمحاولة الظفر بنسيج واضح لحكاية ما . لأننا لسنا إزاء عمل يتكئ على خلفيات اجتماعية أو تاريخية ، أو رواية سيرة ، فضلا عن نزعة التنصل من أية شبهة  كلاسيكية ، سواء من حيث خصائص السرد أو معمارية البناء النصّي ، وقوانين الجملة المتحررة تماما من أية أنماط تقليدية ، مما هيأ للغة وحدها أن تحتل فضاء السرد كما لو أنها الحدث والمعني .  
    لهذا سنغض الطرف لننسى كل ما هو خارج المتن ، بل نتجاهله تماما . لأن رواية رمل أزرق تضعنا إزاء نص يهجس أولا وأخيرا بالتحايل على اللغة ،  لتُصك بهيئة صور مكثفة ، وعبارات مقتصدة ، تحتفظ بصلة رحم قوية وقرابة حميمة مع كل ما ينتسب لسلالة الشعر .  لتظل الكلمات وحدها هي الأس المحوري في انشغال الكتابة ،  كشكل ومحتوى ، وظاهر وباطن ، وأن الافتتان بها سوف يهمل ما عداها . ولعلها ( أي الصور والكلمات ) قد تفوقت هنا لنفسها ، بالقدر الذي يهبها امتصاص فضائها  كزمان ومكان غامضين ، فضلا عن  الأفكار والشخصيات الأكثر غموضا  وصهرها داخل مادتها ، بحيث لا تتحرك الكائنات  إلا كظلال وأصداء خاضعة لآلية التداعي .
      أنها وباختصار ، فنتازيا كابوسية ، تصهر عدة أشكال في جسم واحد ، وأنت تعلم جيدا بظاهرة التحرر من سلطة النمط ، والتي توغلت بعيدا في آلية الكتابة الإبداعية وأن أجناس الكتابة الأدبية قد تداخلت وتشابكت بحيث لم تعد تقنيات السرد وعناصر الدراما حكرا على الرواية أو القصة ، وبالمثل تجد ملامح القصيدة حاضرة في غيرها . لهذا لن أسوّغ لنفسي  كقارئ بتصنيف ( رمل أزرق )  ضمن أية أطر سردية : رواية ذهنية ، شعرية ، فلسفية ، لمجرد إحساسنا كقراء بالعبث لحظة انشغالنا بمسألة البحث عن حدث يتطور ، أو شخصيات تنمو ، أو حتى محض ملامح واضحة يمكن الاستدلال بها عن زمن لواقع افتراضي لعالم متخيل . إذ يعدّ من الإجحاف تكدير صفو القراءة بأية منهجية سردية ، بل يتطلب إنصافها ، أي القراءة ، بالدرجة الأولى إغفال كل ما يتعلق بنظريات الرواية . لهذا وإكراما لهكذا تجربة فأن للقراءة التزوّد بذلك الشغف الذي تستدعيه لحظة شبيهة ، كتلك التداعيات في آلية الكتابة السريالية : أناشيد مالدورور لليتريامون ، على سبيل المثال ، بحيث يمكن اختزال سياق السرد ، وتتبع النمو الدرامي داخل تلك الكثافة العالية للغة ، باعتبارها مجرد أفكار تظهر بهيئة أشياء وأسماء لكائنات هي دائما تتجلى  عبر صور وأطياف غير منتظرة .
   لا شك أن طموح الكتابة في رمل أزرق عبّر عن إخلاص متفان في تطويع السرد لشعرية واعية ، تستأنس بآلية كتابة مقطعية ، شذرية ، وأن اختزال القول وكثافة المعنى هو ما تهجس به . كتابة مختلفة ، انهمامها ضغط العبارة إلى أقصى حد يتسع لإيواء المعنى دونما حاجة للخوض في التفاصيل . وهذا ما يجعل الافتتان بشعرية الأفكار وفلسفتها مهيمنا على المتن ، ليأتي السرد تلبية لاقتفاء المشاعر لا الوقائع والأحداث . وأن المطلق في النص هو المتسلط على سياق اللغة ونظامها . ولعل التوق الأشد مثابرة وطموحا في هذا المتن يعبر عنه الإخلاص ذاته  حين يذهب إلى ابعد مدى خلف  لعبته الذهنية ، والتي تفترض عالما عبثيا يخلق نفسه ويصنع فضاءه الخاص به ، خارج أي منطق للزمان والمكان . لتبدو محيرة وصادمة لحظة أن تضعك إزاء عبارات ومقاطع من صنف : داخل أحداق مصنوعة من عسل يغلي / كضوضاء خانقة يصنعها وجه طفل يبكي / تمسك بكآبة ضاجة خيوط عمرها المنسلّ / ولو صادف وعثرت على مقلع جيد للزمن لنقلت منه ما يكفيني لأن أسد كل تلك الفراغات المنتشرة في عمري التي نجمت عن النوم ، والتي أحرص دون جدوى على سدها بكرات العيون العائدة لأجساد جعلتها تنفق بسرعة دون صراخ علها تحتفظ بحكاياتها الطرية ذاهلة وغير مصدقة / الرقص مع خشبة طافية وسط سماء ساقطة ومطر منهمر /  ليس هناك من هو أكثر ادعاء منك أيها الشعور بالطمأنينة . أنت لست سوى خرافة وكذبة لتزجية الوقت / رحلت الشكوك وحل الوقت .
    كما لو أن ما تتوق إليه الكتابة في ( رمل أزرق ) يبدو في أقصى دراجاته   كمحض شكل ، قطعة موسيقى تسبح في فضاء مجهول .
     أن رواية رمل أزرق  تتسم بوعي استثنائي في خوض مغامرة التجريب ، وينبغي أن تحتل حيزها وبجدارة في حقل الكتابة الإبداعية  ، لا أن تركن للظل . وأن أي إرجاء أو تأخير في نشرها ، لا يعدّ تقصيرا وحسب ، بل إجحافا . 
    لا أدعي هنا الإحاطة بعمل تستحق طبيعته التجريدية أكثر من قراءة .. لكن إذا كنا نتوخى المتعة من خلال المقروء ، فبالنسبة لي كقارئ قد تحقق هذا المطلب ، وأشهد بأنني استمتعت كثيرا صحبة رواية رمل أزرق ، كعمل لا يصنّف إلا باعتباره – وبامتياز- إبداعا استثنائيا  . فضلا عن كونه يشي بإضافة حقيقية للحقل السردي في مشهدنا الليبي ، إضافة جديرة بأن يشاد بتميزها وفرادتها .

_____

طرابلس الغرب . 9 يوليو 2016