وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الخميس، 19 يناير 2017

فرانكشتاين الربيع الليبي

مفتاح العمّاري



     لأن الحرب الدائرة هنا - أعني في ليبيا - مازالت تفرض جنونا يتعاظم ، وينتشر بقوة ، إلى الحد الذي بات فيه من المتعذّر التكهّن متى ستنتهي الحرب ، وما ستضيفه من كوارث، سوف لن تقتصر على القتل وتخريب العمران وخلق الأزمات المعيشية ، بل ستعمل على المزيد من الهدم للنفس البشرية من الداخل ، لتخلّف اضطرابات سلوكية وتشوهات أخلاقية تصعب معالجتها في زمن قصير . ولاسيما حين يتعلق الأمر بالأطفال كضحايا .

    لكن كيف سنقرأ هذا الصنف من العنف المركّب ، حين يكون الأطفال هدفا مبرمجا يدخل ضمن أجندات تحويلهم إلى مستوعب متفجرات وأحزمة ناسفة . حين ينقلب  البشر أنفسهم على آدميتهم ويخونون قيمهم ، ليمسوا مشتلا خصبا  للشذوذ والتطرف ومن ثم التغول ، الذي يستمدّ قوته من استخدام مقولات ظلامية أجثثت من ماض سحيق ، فضلا عن امتلاك السلاح والاستحواذ على السلطة ومقدرات الناس ، والتدخل في عباداتهم وتعليمهم ، وممارسة الوصاية على سلوكهم وعاداتهم الاجتماعية . وهكذا ستتفشى ظواهر العنف تبعا للغلبة ، وردات الفعل من العنف المضاد للمغلوبين . متوالية تتفاقم وتيرة جنونها في كرّ وفر ، وغالب ومغلوب .          

     في هكذا معقل للتوحش ، ستظلّ الطفولة  وحدها  كفئة هشة ، الأكثر عرضة لمثالب العنف ولاسيما على المستوى النفسي والتربوي . عندها لا مناص من الاعتراف بمقولة المفكر هوبز " الإنسان ذئب لأخيه الإنسان "  .  وهذا ما حدث ويحدث في ليبيا ، وبصفتي كمواطن ليبي ، لشد ما تؤلمني مشاهد التفسخ ، تلك التي  تجبر جزءا من أطفالنا ، أن يتخلوا عن طفولتهم ، ليتحولوا إلى كائنات مخيفة بهيئة فرانكشتاين بريء ، يتجول وسط مخلّفات ربيع خائب .

     في رواية ( الدفتر الكبير )  للكاتبة الفرنسية من - أصل مجري - : أغوتا كريستوف ، يتحول الأطفال تحت ضغوط الحرب إلى قتلة . حيث لن يتورع طفلان توأم ، لم يبلغا سن المراهقة بعد ، عن ارتكاب أبشع الجرائم ، ليمسيا محض وحشين صغيرين . لأن أول شيء يمكن للحرب أن تفعله ، هو انتهاكها للبراءة ، لحظة أن تعيد تدوير العنف كنوع من أنواع اللعب . فبعد سلسلة من الوقائع المروّعة . في النهاية سيقتل الطفلان والدهما ، ليتخذ أحدهما من جسد الأب الميت ، جسر عبور يتقي من خلاله الأسلاك الشائكة المكهربة ، حتى يفلت بجلده وهو يتسلق هاربا إلى الضفة الأخرى ، كمنطقة حدودية آمنة . داخل هذه الفنتازيا الكابوسية، التي صاغتها مخيلة الكاتبة أغوتا كريستوف ، تتجسد ويلات الحرب بصورة أكثر عنفا وقسوة ووحشية ، عندما يقترح السرد ترجمة فظاعة الحرب وفوضاها مجسدة في تحويل البراءة  نفسها ، إلى وحش كاسر ،  من ضحية إلى جاني . حيث تمتسخ الطفولة إلى أداة جريمة ، وآلة مروعة من آلات العنف . والتي لم تكن في البدء غير فسحة لممارسة اللعب  ، لعب بريء يتخلق كمحاكاة لمشاهد العنف  .

    أنه لشيء أكبر من أن يحتمله ضمير الإنسانية . ولكن هذه الوقائع المريعة والصادمة  كانت وما تزال ، تمثل مشهدا طبيعيا هنا ( أعني في ليبيا )، ضمن الظواهر التي تسفر عنها منتجات الاقتتال ، وهستيريا الفوضى . لاسيما وأن المسلحين قد شكلوا ملمحا يوميا ، غزا مراكز معظم مدننا الكبيرة ، ومفاصل أحيائها وضواحيها .  ساعتها ، وبقدر ما انتشرت الألعاب الصينية التي تحاكي مستعملات الحروب من بنادق  ومسدسات وسكاكين وسيوف بلاستيكية ، ومفرقعات نارية ، بوفرة غريبة اجتاحت الأسواق ، لكن الأطفال لم يكتفوا بذلك وحسب ، بل استجابوا لابتكارات مخيلتهم ، في صناعة ألعابهم من مخلفات الاشتباكات في الشوارع ، كالظرف الفارغ ، أو معالجة تلك الأدوات التي يمكن إعادة تصميمها بعد نزعها من عربات عسكرية مدمرة ومحترقة ، تركت لأيام في الساحات والأماكن العامة  .  
   
     الآن ، وبعد انقضاء قرابة  خمس سنوات من عمر الفوضى  ، والحرب المفتوحة . أين يقف أطفال  ليبيا الذين كبروا وتربّوا داخل هذا الأتون  . فلا ريب أن تأثير مشاهد العنف كان ضاريا عليهم ، و فادحا إلى أبعد حدّ .  ولعلّهم بقدر ما كانوا ضحايا لا ذنب لهم سوى وجودهم في بيئة تواطأ حملةُ السلاح فيها مع غواية العنف ، إلاّ أن الأمر الصادم ، والأكثر فاجعة أن بعضهم أي ( الأطفال ) قد تحولوا خلال هذا الحيز المخيف من زمن  الحرب إلى مجرمين ، من فئة اللصوص والقتلة وتجار المخدرات ، وأيضا إلى أدوات عنف من صنف شاذ ، بعد أن نجحت آلة التطرف في استدراج بعضهم  إلى صفوفها ، واستخدامهم  كعبوات ناسفة ، وأجسام مفخخة ، حيث لا يقتضي الأمر سوى العمل على تجفيف عقول الناشئة من الصبيان الذين لم يجتز معظمهم سن الخامسة عشرة ، واصطيادهم من أروقة المساجد والزوايا وخلوات تحفيظ القرآن .

      وهكذا نخلص إلى أن تداعيات العنف في المشهد الليبي ، تجاوزت في خريف 2016  ، كل ما يمكن للعقل تصديقه . لأن مظاهر الظلم ، وانتهاك حقوق  الطفل قد تعددت وتنوعت ، لتدخل في متاهات غامضة لا حصر لها . ففضلا عن تيتم العديد من الأطفال الذين فقدوا إباءهم وأمهاتهم ، عن الذين تشردوا وأمسوا بلا مأوى كنازحين داخل وطنهم ، عن حرمان أبناء النازحين وغير النازحين من حقوق التعليم بعد أن تحولت المدارس في بعض المناطق إلى مخيمات إيواء ، وثكنات للمسلحين ، عن فقدانهم للرعاية الصحية والترفيه . عن شلل الدولة وعجزها التام لإيجاد أية برامج أو مقترحات تستهدف معالجة مشاكلهم ، وتأمين الحدّ الأدنى من حقوقهم  . فوق هذا كله يتعرض الأطفال في مناطق الغرب الليبي ومنذ ثلاث سنوات  إلى عمليات الخطف ، كرهائن ، تقوم بها عصابات مجرمة تساوم أهاليهم لدفع مبالغ طائلة كفدية . وحين يعجز ذووهم عن الدفع يتم قتلهم ورميهم في الخلاء ومكبات القمامة .

    عبر هذه الوقائع وغيرها ، وصلت بشاعة الجرائم التي ترتكب في حق الطفل الليبي حدا لا يطاق ، وأنه لا الدولة ، ولا المجتمع بكل فئاته  وتنظيماته الأهلية ، كان في مقدورهم إنقاذ أطفالهم من أتون هذه الفوضى.

   وبالنظر لهذا الغبن ، لجأ أطفال ليبيا أنفسهم  في نهاية المطاف ، إلى تشكيل برلمانهم الخاص بهم ، فقط كرسالة أرادوا من خلالها الإشارة إلى تقاعس الكبار وعجزهم .   

¨