مفتاح العمّاري
لأن الحرب الدائرة هنا - أعني في ليبيا - مازالت تفرض
جنونا يتعاظم ، وينتشر بقوة ، إلى الحد الذي بات فيه من المتعذّر التكهّن متى
ستنتهي الحرب ، وما ستضيفه من كوارث، سوف لن تقتصر على القتل وتخريب العمران وخلق
الأزمات المعيشية ، بل ستعمل على المزيد من الهدم للنفس البشرية من الداخل ،
لتخلّف اضطرابات سلوكية وتشوهات أخلاقية تصعب معالجتها في زمن قصير . ولاسيما حين
يتعلق الأمر بالأطفال كضحايا .
لكن كيف سنقرأ هذا الصنف من العنف المركّب ،
حين يكون الأطفال هدفا مبرمجا يدخل ضمن أجندات تحويلهم إلى مستوعب متفجرات وأحزمة
ناسفة . حين ينقلب البشر أنفسهم على
آدميتهم ويخونون قيمهم ، ليمسوا مشتلا خصبا
للشذوذ والتطرف ومن ثم التغول ، الذي يستمدّ قوته من استخدام مقولات ظلامية
أجثثت من ماض سحيق ، فضلا عن امتلاك السلاح والاستحواذ على السلطة ومقدرات الناس ،
والتدخل في عباداتهم وتعليمهم ، وممارسة الوصاية على سلوكهم وعاداتهم الاجتماعية .
وهكذا ستتفشى ظواهر العنف تبعا للغلبة ، وردات الفعل من العنف المضاد للمغلوبين .
متوالية تتفاقم وتيرة جنونها في كرّ وفر ، وغالب ومغلوب .
في هكذا معقل للتوحش ، ستظلّ الطفولة وحدها كفئة هشة ، الأكثر عرضة لمثالب العنف ولاسيما
على المستوى النفسي والتربوي . عندها لا مناص من الاعتراف بمقولة المفكر هوبز
" الإنسان ذئب لأخيه الإنسان "
. وهذا ما حدث ويحدث في ليبيا ،
وبصفتي كمواطن ليبي ، لشد ما تؤلمني مشاهد التفسخ ، تلك التي تجبر جزءا من أطفالنا ، أن يتخلوا عن طفولتهم ،
ليتحولوا إلى كائنات مخيفة بهيئة فرانكشتاين بريء ، يتجول وسط مخلّفات ربيع خائب .
في
رواية ( الدفتر الكبير ) للكاتبة الفرنسية
من - أصل مجري - : أغوتا كريستوف ، يتحول الأطفال تحت ضغوط الحرب إلى قتلة . حيث
لن يتورع طفلان توأم ، لم يبلغا سن المراهقة بعد ، عن ارتكاب أبشع الجرائم ، ليمسيا
محض وحشين صغيرين . لأن أول شيء يمكن للحرب أن تفعله ، هو انتهاكها للبراءة ، لحظة
أن تعيد تدوير العنف كنوع من أنواع اللعب . فبعد سلسلة من الوقائع المروّعة . في
النهاية سيقتل الطفلان والدهما ، ليتخذ أحدهما من جسد الأب الميت ، جسر عبور يتقي
من خلاله الأسلاك الشائكة المكهربة ، حتى يفلت بجلده وهو يتسلق هاربا إلى الضفة الأخرى
، كمنطقة حدودية آمنة . داخل هذه الفنتازيا الكابوسية، التي صاغتها مخيلة الكاتبة
أغوتا كريستوف ، تتجسد ويلات الحرب بصورة أكثر عنفا وقسوة ووحشية ، عندما يقترح
السرد ترجمة فظاعة الحرب وفوضاها مجسدة في تحويل البراءة نفسها ، إلى وحش كاسر ، من ضحية إلى جاني . حيث تمتسخ الطفولة إلى أداة
جريمة ، وآلة مروعة من آلات العنف . والتي لم تكن في البدء غير فسحة لممارسة
اللعب ، لعب بريء يتخلق كمحاكاة لمشاهد
العنف .
أنه لشيء أكبر من أن يحتمله ضمير الإنسانية .
ولكن هذه الوقائع المريعة والصادمة كانت
وما تزال ، تمثل مشهدا طبيعيا هنا ( أعني في ليبيا )، ضمن الظواهر التي تسفر عنها
منتجات الاقتتال ، وهستيريا الفوضى . لاسيما وأن المسلحين قد شكلوا ملمحا يوميا ،
غزا مراكز معظم مدننا الكبيرة ، ومفاصل أحيائها وضواحيها . ساعتها ، وبقدر ما انتشرت الألعاب الصينية التي
تحاكي مستعملات الحروب من بنادق ومسدسات
وسكاكين وسيوف بلاستيكية ، ومفرقعات نارية ، بوفرة غريبة اجتاحت الأسواق ، لكن
الأطفال لم يكتفوا بذلك وحسب ، بل استجابوا لابتكارات مخيلتهم ، في صناعة ألعابهم
من مخلفات الاشتباكات في الشوارع ، كالظرف الفارغ ، أو معالجة تلك الأدوات التي
يمكن إعادة تصميمها بعد نزعها من عربات عسكرية مدمرة ومحترقة ، تركت لأيام في
الساحات والأماكن العامة .
الآن ، وبعد انقضاء قرابة خمس سنوات من عمر الفوضى ، والحرب المفتوحة . أين يقف أطفال ليبيا الذين كبروا وتربّوا داخل هذا الأتون . فلا ريب أن تأثير مشاهد العنف كان ضاريا عليهم
، و فادحا إلى أبعد حدّ . ولعلّهم بقدر ما
كانوا ضحايا لا ذنب لهم سوى وجودهم في بيئة تواطأ حملةُ السلاح فيها مع غواية
العنف ، إلاّ أن الأمر الصادم ، والأكثر فاجعة أن بعضهم أي ( الأطفال ) قد تحولوا
خلال هذا الحيز المخيف من زمن الحرب إلى
مجرمين ، من فئة اللصوص والقتلة وتجار المخدرات ، وأيضا إلى أدوات عنف من صنف شاذ
، بعد أن نجحت آلة التطرف في استدراج بعضهم
إلى صفوفها ، واستخدامهم كعبوات
ناسفة ، وأجسام مفخخة ، حيث لا يقتضي الأمر سوى العمل على تجفيف عقول الناشئة من
الصبيان الذين لم يجتز معظمهم سن الخامسة عشرة ، واصطيادهم من أروقة المساجد
والزوايا وخلوات تحفيظ القرآن .
وهكذا نخلص إلى أن تداعيات العنف في المشهد
الليبي ، تجاوزت في خريف 2016 ، كل ما
يمكن للعقل تصديقه . لأن مظاهر الظلم ، وانتهاك حقوق الطفل قد تعددت وتنوعت ، لتدخل في متاهات غامضة
لا حصر لها . ففضلا عن تيتم العديد من الأطفال الذين فقدوا إباءهم وأمهاتهم ، عن
الذين تشردوا وأمسوا بلا مأوى كنازحين داخل وطنهم ، عن حرمان أبناء النازحين وغير
النازحين من حقوق التعليم بعد أن تحولت المدارس في بعض المناطق إلى مخيمات إيواء ،
وثكنات للمسلحين ، عن فقدانهم للرعاية الصحية والترفيه . عن شلل الدولة وعجزها
التام لإيجاد أية برامج أو مقترحات تستهدف معالجة مشاكلهم ، وتأمين الحدّ الأدنى
من حقوقهم . فوق هذا كله يتعرض الأطفال في
مناطق الغرب الليبي ومنذ ثلاث سنوات إلى
عمليات الخطف ، كرهائن ، تقوم بها عصابات مجرمة تساوم أهاليهم لدفع مبالغ طائلة
كفدية . وحين يعجز ذووهم عن الدفع يتم قتلهم ورميهم في الخلاء ومكبات القمامة .
عبر
هذه الوقائع وغيرها ، وصلت بشاعة الجرائم التي ترتكب في حق الطفل الليبي حدا لا
يطاق ، وأنه لا الدولة ، ولا المجتمع بكل فئاته
وتنظيماته الأهلية ، كان في مقدورهم إنقاذ أطفالهم من أتون هذه الفوضى.
وبالنظر لهذا الغبن ، لجأ أطفال ليبيا أنفسهم في نهاية المطاف ، إلى تشكيل برلمانهم الخاص بهم
، فقط كرسالة أرادوا من خلالها الإشارة إلى تقاعس الكبار وعجزهم .
¨