وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الأربعاء، 7 ديسمبر 2016

حروب كراسة الرسم


                                                                                           مفتاح العمّاري

رسوم : آسر مفتاح ( فترة حرب التحرير)


      انسحبت الفراشاتُ ، واختفت الحديقةُ من كراسة الرسم ، ولم يبق أي أثر لعصفور فوق غصن . فقدت الحقولً بهجة شمسها ، وشجيراتها النضرة ، بعد رحيل الحيوانات الصديقة والأليفة . أجل ، خلت الأوراقُ تماماً من الأرنوب المجتهد ، والدبدوب المرح ، والحمار الطيب ، والببغاء الفنان . غادروا جميعهم حلبة الرسم ، وتخلوا عن تلك الرفقة البهية في اللعب . خسروا مشيئة الألوان الآمنة  وتضافرها ، لكي تشكل عالماً رحيما ، متسامحا وجميلا وحالما ، من قوس قزح وهو يسبح في سماء الورقة بنعومة ندية ، وشمس ربيع  حنونٌ لاشكّ ، وأزهارٌ استعارت ألوانها  من جمال نقيّ وصادق .  فجأة انسحب البهاء منكسرا وخائبا ، ليترك الفضاء للبشاعة وحدها ، للطائرات المقاتلة  والصواريخ ، للدبابات وعربات الميم طاء ، للخراب ودخان الحرائق . لحملة الكلاشنكوف وهم يجوبون الشوارع بمشية استعراضية شاهرين أسلحتهم التي تطلق النيران . حيث لاشيء يصمد ، سوى الخراب وحده .  كل شيء تغير فجأة ، هكذا هم أطفال الحروب .
       فقط هذه مجرد جزئية صغيرة . صورة منتزعة من سيرة براءة الألوان ، تحاول من جهتها تقديم ولو لقطة عابرة من مشهد الحرب الليبية الدائرة منذ خمس سنوات .. حين بدأت الحربُ تقترب أكثر فأكثر ، من البيوت والشوارع والمدارس والحدائق .. ولاسيما في أثناء القصف الجوي الذي قامت به طائرات وبوارج الناتو على المدن  والبلدات . 

     العاصمة طرابلس بصورة خاصة  كان لها نصيبها الوافر من القصف الجوي والبحري ، عندما تدفقت الصواريخ والقنابل لتدك أهدافا عسكرية وأمنية داخل الأحياء السكنية . فضلا عن اشتباكات ومعارك طاحنة دارت بالأسلحة الثقيلة في  شوارع المدينة وأحيائها المكتظة بالسكّان .
     في الآن نفسه انتقلت الحرب إلى وسائط الإعلام ، والتي لم تكن بمعزل عن حواس الطفل ومشاعره ، ولاسيما برامج التلفاز الإخبارية والتي تتناول بالخبر والصورة  ويلات ومجازر الحرب الليبية  ، بكل بشاعتها الوحشية ، من قطع رؤوس إلى بتر أطراف إلى مشاهد دامية تقشعر لها الأبدان .
     السؤال المحير : ماذا فعلت الدولة الليبية بكل هياكلها وهيئاتها ومؤسساتها ذات الشأن ، من وزارات تعليم وصحة وشؤون اجتماعية ، وثقافة وإعلام ، وأوقاف . وبأي سياسات ومخططات وبرامج تصدّت لمعالجة مشكلة ضحايا الحرب ، من هذه الفئة العمرية القاصرة عن استيعاب ما يحدث حولها من خراب مفتوح ، وفوضى جامحة خلخلت كل شيء في الحياة . للأسف ظلت الدولة  بكافة هياكلها ومؤسساتها ، بحكم تصاعد وتيرة الاقتتال ، فضلا عن الصراعات السياسية ، عاجزة تماما عن فعل أي شيء مجد وحقيقي ، وبالمثل تكاد مؤسسات المجتمع المدني هي الأخرى مرتبكة وهشة ، وقاصرة عن تفعيل دورها - ولو نسبيا -  لإنقاذ ما يمكن إنقاذه .

      قبل قليل، قال صديقي الطرابلسيّ : كان طفلنا الذي لم يجتز الخامسة من عمره ، كان سليما وفرحا وناعما ، وهو يبتكر كائنات أكثر مرحا لرسومه وألعابه ، ويملأ أركان البيت حيوية ونشاطا . لكن ما أن بدأت آلة الحرب تقترب من بيتنا حتى تغيّر كل شيء ، تغيّر إلى ما هو أمرّ  وأسوأ .  بدءاً من الأيام الأولى لانتفاضة فبراير كنّا نسمع أصداء الرصاص والقذائف . أي منذ أن احتشد جمع من الحقوقيين أمام مبني المحكمة ، بشارع السّيّدي ، والذين تمّ تفريقهم من طرف فرق الأمن بواسطة النيران وقنابل الدخان . بعض المتظاهرين لاذوا بمدخل العمارة نفسها التي نقطنها . لكن مشكلتنا تفاقمت تحديدا في اللحظة التي قصفت خلالها طائرات حلف الناتو وبوارجه الراسية في حوض المتوسط  مبنى الاستخبارات العسكرية ، والذي لا يبعد عن بيتنا سوى بضع مئات من الأمتار . انفتحت النوافذ بتأثير هزة قوية وانفجار مروع ، واقتحمت سحبٌ كثيفة من الغبار والدخان مشبعة برائحة بارود وكلس . هرعتُ مسرعا نحو طفلي والذي لم يبلغ الخامسة من عمره بعد . كان يصرخ وينتفض . وحين حملته ، ظل منكمشا على نفسه بصلابة . وقد اتخذ وضع الجنين في الرحم . مرت تلك الليلة بصخبها ورعبها . لكن لم يمر الأمر على طفلنا بسلام .
     ظل الصغير ولسنتين متتاليتين لا ينام الليل . بل يجلس في سريره متربصا ضوء الصباح .، ولا يخلد للنوم حتى يطمئن تماما لشروق الشمس . حيث تغير سلوكه على نحو مخيف ، وصار يخشى أي صوت ارتطام مباغت وعنيف ، بما في ذلك صوت طرق الباب أو إقفاله بقوة . وتدريجيا لاحظنا بأنه قد أضحى عدوانيا ، وعصبيا ، وأن ألعابه بدأت تتغير هي الأخرى ، لتتخذ أشكالا غريبة ، أكثر ميلا واستهواءً للعنف ، وبالمثل انسحب الأمر على العاب الفيديو ( البلايستيشن ) . كذلك صار يتشبث بمشاهدة أفلام الرعب  ، ويتحايل أثناء سهونا على استخدام ريموت التلفاز،  لعله يعثر على ما يلبّي حاجته لمشاهد الصور الأكثر ترويعا . بالمثل تغيرت كراسة رسمه ، لتخضع لمحاكاة صور القتال ، وقد امتلأت صفحاتها بهيئة طائرات تطلق القذائف ، وأشكال تشيرُ إلى مسلحين ودبابات ، ونيران تتصاعد ألسنتها من حطام بنايات  مدمّرة . لهذا أوليناه  المزيد من العناية والاهتمام ، مع الإصغاء لشكاته ، وحكاياته أيا كانت . ناهيك عن برامج للترويح من خلال النزهات وغيرها، مع إضافة قدر من الموسيقى في البيت ، وتوفير مطبوعات تتماشى مع سنّه : مجلات وقصص ، وتحفيزه على القراءة عبر مكافأته نظير كل قصة يقرأها ، أو يعيد كتابتها . وفي نفس الوقت كنا نتحايل على تبديل مقتنيات اللعب إلى ما هو أقلّ أذى وأكثر انسجاما وتحفيزا لخيال مسالم . إضافة إلى تغيير طلاء غرفة نومه ، وتجديد أثاثها ، وتزيين جدرانها بلوحات تحيل إلى حديقة أو حيوان أليف .
     صحيح لم تكن المسألة هينة . لكنها أخيرا مرت بسلام نسبي . إذْ خفّت قليلاً ردودُ فعله العدوانية مع مرور الوقت ، غير أن تلك النوبات من التوتر والانفعال  مازالت تنتابه  ، وان على فترات متباعدة وبشكل أقل حدة وعنفا عن ذي قبل .
    
     لكن الآن ، وبعد مضي خمس سنوات تقريبا ، شكلت ملامحها الدميمة  معاركٌ واشتباكات مسلحة ، ما تلبث حتى تعلن عن نفسها بضراوة  . يظل السؤال الأكثر حيرة وقلقا : هل ما زال  في الإمكان ، بالنسبة  لأطفال ليبيا  وغيرهم من أطفال البلدان العربية المنكوبة  بويلات الحروب  وجرائمها، أن يستعيدوا تلك البراءة التي تليق بجمال كراسة الرسم ، لكي تسترد مخلوقاتها الجميلة التي شوهتها الحرب .

¨