وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الأحد، 27 نوفمبر 2016

شعراءُ الجمر والفوضى


مفتاح العمَّاري



    إزاء هذا التوغل المخيف للقبح ، هل يمكن للجمال أن يصمد ؟. 
ليست ليبيا بلدا عربيا استثناء ،  طالما عليها أن تخوض بين فترة وأخرى حربا مع عدوها أو مع نفسها ، وان كانت في كلا الحربين تحتفظ بخصوصيتها . فخلال حقبة الاحتلال الايطالي خاضت حربا استمرت عشرين سنة ، أوجزها الشعراءُ في قصائد شكلت وثيقة مهمة في تاريخ النضال الليبي . ولعل القصيدة الملحمة " ما بي مرض " للشاعر رجب أبو حويش، تُعد الأبرز في هذا المتن . والتي ولدت داخل أسوار معتقل العقيلة ، كأحد المعتقلات الجماعية التي تفننت الآلةُ العسكريةُ للاستعمار الفاشستي في تصميمها ، لعزل الأهالي عن فرق المجاهدين ، منعا لأي دعم لوجستي ، حتى ولو كان بائسا ومحدودا .

      ثمة محاولات عديدة تضمنتها  - فيما بعد - مدونةُ الشعر الليبي ، بفرعيه ( الشعبي والفصيح ) ، لمحاكاة ملحمة الشاعر : رجب أبوحويش ، غير أنها تظل في الغالب جد خجولة ، مقارنة بإعجاز الأصل . وعلى الرغم من أن الشعر الشعبي كان أكثر تداولا وحضورا في ذاكرة الناس  ، لكن قصيدة الفصحى بكل أشكالها ما تزال هي الأخرى تسعى وبطموح كبير ، لأن يكون لها بصمتها الخاصة في معركة الحياة  .

    في سنة 1981 عُقد في العاصمة طرابلس مهرجان للشعر العربي ، تحت مسمّى ( الشعر المقاتل ) . هذا العنوان الشِّعَار ، انطوى على مفارقة ، حاولت أن تتحايل - كما يبدو- لأن تكون مجازا ، حتى تنسجم مع صخب إعلام العقيد القذافي ، المهووس صوتيا بظاهرة صناعة الشعارات .  غير أن المفارقة الأشد غرابة ، أن أجهزة النظام وفرق لجانه الثورية ، كانت قبل سنتين تحديدا من إقامة هكذا تظاهرة ثقافية ، قد زجّت بمعظم الكتاب الشباب في السجن ، بينهم شعراء تائقون ، صدرت ضدهم أحكام قضائية  بين المؤبد والإعدام .

     في مهرجان الشعر المقاتل ، شارك شعراء عرب كبار ، مثل : ممدوح عدوان ،  مظفر النواب ، ونزيه أبوعفش ، وشعراء شباب من بلدان عربية ، بعضهم يغادر وطنه الأمّ للمرة الأولى . قبل موعد الافتتاح الرسمي ، كانت قد تسربت قائمة الشعراء الليبيين المسجونين داخل أروقة المهرجان ، فتحمّس رهط من  الشعراء الضيوف ، على رأسهم الشاعر الجزائري الشاب ، عمر ازراج ، لتجميع توقيعات المشاركين ، كبادرة تلتمس العفو عن زملائهم المسجونين .
   لا شك أن هذه الحماسة التضامنية في حينها كانت أكثر من جريئة ، وهي بقدر ما أربكت برنامج المهرجان ، سببت حرجا واستفزازا للنظام ، عبرت عنه حالة استنفار طائشة  لأجهزته الأمنية ، ولجانه الثورية ، وقد انقلب السحر على الساحر .

      ما حدث بعد ذلك جراء هذه الفضيحة ، أن نظام القذافي  لم يعد يقامر مرة أخرى  على إقامة هكذا تظاهرات شعرية ،  وبدا أكثر ارتيابا وتوجساً وهو  يضاعف من تضييق الخناق على حركة الشعر ، وتقليص فاعليتها إلى أقصى حدّ . حيث شهدت السنوات العشر التالية فقرا مُدقِعا في صناعة ونشر الكتاب الأدبي ولاسيما الشعري ، بعد أن خضعت المطبوعات لرقابة صارمة إلى حد الوسوسة في تأويل النصوص أمنيا . وحتى تلك الأمسيات الدعائية ، والتي كانت تقام تحت مظلة الاحتفال بذكرى أعياد الفاتح من سبتمبر ، كانت تقتصر - إلا فيما ندر - على صنف من الشعراء المَدَّاحين ، يتألف جمهورها في الغالب من سدنة النظام  والمخبرين وأعضاء اللجان الثورية . ويوما عن يوم  ، نتج عن هذا الإفراط المتزايد في ضراوة القمع ، تهميش وإقصاء ، لمعظم  ما هو أصيل وحقيقي ، ولم يبق في المشهد البائس غير بعض المهرجين الذين كانوا يرتزقون عبر تحويل الشعر إلى منابر للتزلّف  . وهكذا اتسعت الفجوة بين الشعر ومحبّيه .    

    استعدتُ هذه الوقائع  وغيرها ، في اللحظة نفسها التي كنتُ أتهيأ خلالها لكتابة مقال عن دور الشعر وفاعليته ، وكيف يقرأ الشعراء الليبيون ، من موقعهم كمبدعين ، الأزمة الحالية التي تمرّ بها البلاد  . وفي الوقت نفسه كنت أتهيب استخدام عبارات على شاكلة : الشعر في مواجهة الحرب والفوضى ، خشية أن أتواطأ مع حماسة الكتابة كفرقعة إعلامية ، وان أجافي  من ثم الحقيقة الصادمة كما تلخصها شراسة اللحظة الراهنة .

     صحيح ثمة  شعراء في ليبيا قد ثابروا ، ومازالوا يثابرون من موقعهم  كمبدعين على معالجة موضوعة الحرب وما تمخض عنها من فوضى . وكتبوا نصوصا تتمتع  بقدر كبير من الجدة والجرأة والتنوع ، بتوقيعات شابة ، استأنست بمواقع الانترنت بعد أن توقفت الصحف ، وضاق فضاءُ المحافل .  لكن قد تُعدّ المسألة أكثر تعقيدا حين تحضر القصيدةُ في غياب المتلقي .  ليغدو الشاعر كمن يحرث في الماء  طالما هو يقف بمفرده وحيداً في المشهد .



     لا شك أن هذه الصورة ستكون للوهلة مدعاة للسخرية ، لتبدو كما لو أنها لقطة  منتزعة من رواية ( دون كيخوته ) . لأننا عندما نرصد المشهد من الزاوية ذاتها التي يقف فيها الشاعر ، أي من وجهة نظر المنبر الوهمي ، حيث تتمترس القصيدة لتطلق نيران مخيلتها ، سيكون الكادر مخيبا وعبثيا في آن ، إزاء الجمود الموحش لصمت مهول يملأ القاعة ، هو فقط محض مقاعد خالية . غير أن هذا العبث الشعري - لو فكرنا قليلا – لا يلبث  حتى  يتحول إلى جمال عظيم، مقارنة بما يحدث في اللحظة نفسها خارج القاعة من خراب فادح ، يحصد الأرواح ويدمر العمران ، ويقتلع مدنا بأسرها ، ليهجر أهلها شتاتا داخل ليبيا وخارجها . حينها فقط سندرك تماما أن الشاعر هنا ، يعتبر كالقابض على الجمر ، عندما يقترحُ للجمال هذا المأوى .
___
سبق نشر المقال في موقع ( مراسلون ) 22اكتوبر 2016
  http://www.correspondents.org/ar/node/8298?utm_content=bufferf37e4&utm_medium=social&utm_source=twitter.com&utm_campaign=buffer