وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الثلاثاء، 15 نوفمبر 2016

أصدقاء دار الفقيه حسن

                                                                                           مفتاح العمّاري




    في الوقت الذي تتعرض فيه ليبيا لغزوات التوحش وتداعيات الفوضى ، يظل السؤال ملحا عن دور الثقافة ، والأدب تحديدا ، في مواجهة هذا الخراب . سؤال افتراضي ، يطمح لإقحام الثقافة ، والإبداع الأدبي والفني بصورة خاصة  كشريك في المعركة ، ورافد أكثر إستراتيجية  وجدوى لكي ننتصر لصالح الإنسان فينا .

     بالطبع قد تعترض السؤال عديد المثبطات ، أقلها سيضمر شيئا من الريبة ، بل والاستهجان الذي يذهب إلى حد السخرية والتهكّم  ، سيما وأن انشغال السكّان سيكون في الغالب منحصرا في البحث عن الأمن ، والركض خلف متطلبات العيش ، كأولويات أساسية ، لتغدو مطاردة رغيف الخبز أكثر ضرورة ، من الإصغاء لمقطوعة موسيقية أو قصيدة شعر . وأن ما من وقت  يمكن استقطاعه إكراما لرؤى الفن .

     إزاء هكذا جماهير فقدت ثقتها بقادتها ونخبها ومثقفيها وبنفسها أيضا ، سوف يتعذر الرهان ، ما ذا كان في وسعها الترحيب بمن سيروي لها قصصا ، أو يحدثها عن فنون العمارة ، طالما كل شيء من حولها يتهدم ليغدو خرابا ، وأن أكثر من وحش متربّص ،  قد ينقض في أي لحظة على ما تبقى من أحلام بائسة . فداخل هذا التيه المركّب من اللهاث المعيشي ليس من المستغرب أن يظلَّ قلق المواطن مستنفرا  تبعا لأعراض الأزمة بكل تقلباتها ، من انقطاع التيار الكهربائي إلى شحّ المياه ، مرورا باستشراء ظاهرة الجريمة بشتى أصنافها .

     في هكذا حياة صارت تُعذّب دونما هوادة ، وعلى الرغم كل السلبيات التي تحاول ازدراء الجمال ، لم يغفل مثقفو الحواضر ، أن الوطن في جوهره إنسان يحلم ، فكان لابد لهم من المساهمة في تفعيل ضرورة الثقافة لمقاومة بشاعة الواقع .

     مع مطلع شهر مارس 2015  كانت العاصمة طرابلس على موعد استثنائي  لانتشال وجدانها من أتُون الجحيم ، لحظة أن تضامن مجموعة من الكتاب أطلقوا على أنفسهم ( أصدقاء دار الفقيه حسن ) ، ليقترحوا على مدينتهم من ثم ، كسر فداحة الخوف ، كصنف من المقاومة الناعمة لضراوة الاختزال المخيف الذي تفرضه وحشية الفوضى ، حتى لا يظل الإبداع في طرابلس محض هامش فائض عن الحاجة ، وبهاء محقّر ، وأيضا خشية أن لا يبقى أيما أثر  للموسيقى داخل إيقاع القذائف ، وضجيج الموت . لهذا انقض أصدقاء الفقيه حسن على الحياة بقوة ، قبل أن تفلت .

    ثمة حمولة من الذكريات التاريخية الأثيرة تنطوي عليها عتاقة جدران هذه  الدار ، ووقائع لا تمحى من سجلات طرابلس القديمة . فهي تقع بحي باب البحر ، كأشهر الأحياء التاريخية في المدينة القديمة ،  وتحديدا بزنقة الفرنسيس ، التي تتميز بأقواسها ، وجماليات عمارتها العتيقة ذات الطراز العثماني ، فضلا عن شرفاتها وزخرفة أبوابها ونوافذها .  كان المبني في الأصل - شيد سنة 1630م - مقرا للقنصلية الفرنسية ، حتى سنة 1939 م .. بعد ذلك سكنه مجموعة من البحارة قبل أن يؤول إلى مشروع إدارة تنظيم المدينة خلال عشرية الثمانينيات من القرن الماضي ، ليندرج فيما بعد ضمن خطة الفضاء الثقافي .

      صحيح  في البداية استهجن بعض اليائسين من إقامة هكذا نشاط فيما العاصمة تضج بجرائم الاغتيالات والخطف والنهب ، وسكانها قلقون على أرواحهم ، وخائفون على بناتهم وأطفالهم ، وقد أنهكهم الوقوف لساعات طوال بين طوابير الخبز والمحروقات والمصارف . لكن وبمجرد انتظام تلك الجلسات الأدبية ، التي بادر بها الأصدقاء كنشاط ثقافي تضافر في تأثيثه حماس مخلوط بحلم الحياة والانتصار لها ، حتى أخذ يتضاعف عدد المرتادين من عشاق الأدب والمهتمين بقضايا الثقافة ، لتتحول لقاءات الإبداع إلى تقليد منتظم مع أول يوم ثلاثاء من كل شهر .. عبر أمسيات تحتفي بالثقافة والإبداع ، من حلقات نقاش وأمسيات شعرية ومعارض للرسم ، وندوات حول قضايا الكتابة الأدبية ، وأخرى تشمل شهادات لتجارب مبدعين من أدباء وفنانين ، فضلا عن محاضرات في الفكر والتاريخ والعمارة ، وغيرها من المحاور التي ينشغل بها المعنيون بحقول المعرفة الإنسانية .

    هذا ما طمح الأصدقاء لتفعيله وسط فوضى الاقتتال ، وقفل الشوارع ، وانتشار جرائم القتل والسرقة والخطف ، وانقطاع التيار الكهربائي ، والمياه ، وشح الخبز ، ونقص الوقود والسيولة ،والغلاء الفاحش ، وتردي الأخلاق العامة ، وأخبار قوارب الموت . لأنه في خضم هذا التغول ، يكفي في الحد الأدنى ، أنهم يضخون في وجدان مدينتهم العريقة ، تلك الطاقة التي يمكن استخلاصها من قصيدة كتبت نفسها في الظلام ، أو قطعة موسيقى حالمة تفتح نوافذ في جدران الروح ، أو لوحة تشكيلية تشير إلى أُمّ فقدت ابتسامتها لطول ما انتظرت عودة ابنها من جبهات القتال .


    تتألف  ثلة  تأسيس ( أصدقاء دار الفقيه حسن ) ، من أربعة كتاب كرسوا حياتهم لخدمة الثقافة والإنتاج الأدبي ، يعدون من بين المؤثرين في مشهد الإبداع والصحافة في ليبيا : عمر الككلي ، أسما الأسطى ، حسين المزداوي  و إبراهيم حميدان . لينضم إليهم لاحقا، كل من القصاص : مفتاح قناو ، والصحفية ، أحلام الكميشي . مثقفون مستقلون لا يحركهم سوى إخلاصهم لليبيا وشغفهم بحياة الإبداع ، وجادون ثابروا باستماتة من أجل رفد مشروعهم ، حيث يكفي  في خضم هذه الفوضى الضارية ، وكحد أدنى ، القليل من الأكسجين لرئة الجمال ، القليل من التضافر لإنقاذ وطن .
____  
سبق نشره بموقع مراسلون 
:http://www.correspondents.org/ar/node/8238?utm_content=bufferab953&utm_medium=social&utm_source=twitter.com&utm_campaign=buffer