مفتاح العمّاري
في الوقت الذي تتعرض فيه ليبيا لغزوات التوحش
وتداعيات الفوضى ، يظل السؤال ملحا عن دور الثقافة ، والأدب تحديدا ، في مواجهة
هذا الخراب . سؤال افتراضي ، يطمح لإقحام الثقافة ، والإبداع الأدبي والفني بصورة
خاصة كشريك في المعركة ، ورافد أكثر إستراتيجية وجدوى لكي ننتصر لصالح الإنسان فينا .
بالطبع
قد تعترض السؤال عديد المثبطات ، أقلها سيضمر شيئا من الريبة ، بل والاستهجان الذي
يذهب إلى حد السخرية والتهكّم ، سيما وأن
انشغال السكّان سيكون في الغالب منحصرا في البحث عن الأمن ، والركض خلف متطلبات
العيش ، كأولويات أساسية ، لتغدو مطاردة رغيف الخبز أكثر ضرورة ، من الإصغاء لمقطوعة
موسيقية أو قصيدة شعر . وأن ما من وقت يمكن
استقطاعه إكراما لرؤى الفن .
إزاء هكذا جماهير فقدت ثقتها بقادتها ونخبها
ومثقفيها وبنفسها أيضا ، سوف يتعذر الرهان ، ما ذا كان في وسعها الترحيب بمن سيروي
لها قصصا ، أو يحدثها عن فنون العمارة ، طالما كل شيء من حولها يتهدم ليغدو خرابا
، وأن أكثر من وحش متربّص ، قد ينقض في أي
لحظة على ما تبقى من أحلام بائسة . فداخل هذا التيه المركّب من اللهاث المعيشي ليس
من المستغرب أن يظلَّ قلق المواطن مستنفرا
تبعا لأعراض الأزمة بكل تقلباتها ، من انقطاع التيار الكهربائي إلى شحّ
المياه ، مرورا باستشراء ظاهرة الجريمة بشتى أصنافها .
في
هكذا حياة صارت تُعذّب دونما هوادة ، وعلى الرغم كل السلبيات التي تحاول ازدراء
الجمال ، لم يغفل مثقفو الحواضر ، أن الوطن في جوهره إنسان يحلم ، فكان لابد لهم
من المساهمة في تفعيل ضرورة الثقافة لمقاومة بشاعة الواقع .
مع
مطلع شهر مارس 2015 كانت العاصمة طرابلس
على موعد استثنائي لانتشال وجدانها من أتُون
الجحيم ، لحظة أن تضامن مجموعة من الكتاب أطلقوا على أنفسهم ( أصدقاء دار الفقيه
حسن ) ، ليقترحوا على مدينتهم من ثم ، كسر فداحة الخوف ، كصنف من المقاومة الناعمة
لضراوة الاختزال المخيف الذي تفرضه وحشية الفوضى ، حتى لا يظل الإبداع في طرابلس
محض هامش فائض عن الحاجة ، وبهاء محقّر ، وأيضا خشية أن لا يبقى أيما أثر للموسيقى داخل إيقاع القذائف ، وضجيج الموت . لهذا
انقض أصدقاء الفقيه حسن على الحياة بقوة ، قبل أن تفلت .
ثمة حمولة من الذكريات التاريخية الأثيرة تنطوي
عليها عتاقة جدران هذه الدار ، ووقائع لا
تمحى من سجلات طرابلس القديمة . فهي تقع بحي باب البحر ، كأشهر الأحياء التاريخية
في المدينة القديمة ، وتحديدا بزنقة
الفرنسيس ، التي تتميز بأقواسها ، وجماليات عمارتها العتيقة ذات الطراز العثماني ،
فضلا عن شرفاتها وزخرفة أبوابها ونوافذها .
كان المبني في الأصل - شيد سنة 1630م - مقرا للقنصلية الفرنسية ، حتى سنة 1939
م .. بعد ذلك سكنه مجموعة من البحارة قبل أن يؤول إلى مشروع إدارة تنظيم المدينة خلال
عشرية الثمانينيات من القرن الماضي ، ليندرج فيما بعد ضمن خطة الفضاء الثقافي .
صحيح
في البداية استهجن بعض اليائسين من إقامة هكذا نشاط فيما العاصمة تضج
بجرائم الاغتيالات والخطف والنهب ، وسكانها قلقون على أرواحهم ، وخائفون على
بناتهم وأطفالهم ، وقد أنهكهم الوقوف لساعات طوال بين طوابير الخبز والمحروقات
والمصارف . لكن وبمجرد انتظام تلك الجلسات الأدبية ، التي بادر بها الأصدقاء كنشاط
ثقافي تضافر في تأثيثه حماس مخلوط بحلم الحياة والانتصار لها ، حتى أخذ يتضاعف عدد
المرتادين من عشاق الأدب والمهتمين بقضايا الثقافة ، لتتحول لقاءات الإبداع إلى
تقليد منتظم مع أول يوم ثلاثاء من كل شهر .. عبر أمسيات تحتفي بالثقافة والإبداع ،
من حلقات نقاش وأمسيات شعرية ومعارض للرسم ، وندوات حول قضايا الكتابة الأدبية ، وأخرى
تشمل شهادات لتجارب مبدعين من أدباء وفنانين ، فضلا عن محاضرات في الفكر والتاريخ
والعمارة ، وغيرها من المحاور التي ينشغل بها المعنيون بحقول المعرفة الإنسانية .
هذا ما طمح الأصدقاء لتفعيله وسط فوضى
الاقتتال ، وقفل الشوارع ، وانتشار جرائم القتل والسرقة والخطف ، وانقطاع التيار
الكهربائي ، والمياه ، وشح الخبز ، ونقص الوقود والسيولة ،والغلاء الفاحش ، وتردي
الأخلاق العامة ، وأخبار قوارب الموت . لأنه في خضم هذا التغول ، يكفي في الحد
الأدنى ، أنهم يضخون في وجدان مدينتهم العريقة ، تلك الطاقة التي يمكن استخلاصها
من قصيدة كتبت نفسها في الظلام ، أو قطعة موسيقى حالمة تفتح نوافذ في جدران الروح
، أو لوحة تشكيلية تشير إلى أُمّ فقدت ابتسامتها لطول ما انتظرت عودة ابنها من
جبهات القتال .
تتألف
ثلة تأسيس ( أصدقاء دار الفقيه حسن
) ، من أربعة كتاب كرسوا حياتهم لخدمة الثقافة والإنتاج الأدبي ، يعدون من بين المؤثرين
في مشهد الإبداع والصحافة في ليبيا : عمر الككلي ، أسما الأسطى ، حسين المزداوي و إبراهيم حميدان . لينضم إليهم لاحقا، كل من القصاص
: مفتاح قناو ، والصحفية ، أحلام الكميشي . مثقفون مستقلون لا يحركهم سوى إخلاصهم
لليبيا وشغفهم بحياة الإبداع ، وجادون ثابروا باستماتة من أجل رفد مشروعهم ، حيث
يكفي في خضم هذه الفوضى الضارية ، وكحد
أدنى ، القليل من الأكسجين لرئة الجمال ، القليل من التضافر لإنقاذ وطن .
____
سبق نشره بموقع مراسلون
:http://www.correspondents.org/ar/node/8238?utm_content=bufferab953&utm_medium=social&utm_source=twitter.com&utm_campaign=buffer