وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الجمعة، 31 يوليو 2015

الضوء أحمر .. لا تمر *



مفتاح العمّاري


  الضوء أحمر لا تمر



الشاعر لطفي عبد اللطيف
                                            
§          هل يعدّ موت الشاعر حدثا يمكن أن تقف لأجله الأمة بأسرها لدقيقة واحدة كوقفة حداد ، لأنه قد أشعل النار في أصابعه لكي يضيء عتمة الحياة . وهل مازال ثمة أحد يؤمن بجدوى الشعر ويترك حيزا دافئا من أرفف ذاكرته لإيواء قصيدة واحدة . يبدو أن الزمن الذي كانت تستيقظ فيه الروح قد ولّى .. ولم يعد العالم يبدي اقل التفاتة لهؤلاء الحالمين الذين أخذ لمعانهم يخفت مع مرور الأيام ، بعد أن أمسى الشعر محض بضاعة كاسدة  لا سوق لها . والاّ كيف نفسّر هذا الجحود حيال تجربة شعرية ظلّت تصدح لأكثر من أربعين سنة ثم تخمد فجأة من دون أن تنال جائزة واحدة ، أو تحظى بذلك التكريم الذي يليق بمهابة الشعر وحضور الشاعر . قبل ذلك غادرنا  (الجيلاني طريبشان )  .. تاركا رؤياه الحزينة تصهل وحيدة في ممرات أيامنا الخائبة ..واعترافات قلقة تمزّقت رئة معانيها وهي تنتظر من يلتقطها من عتبات السهو  المؤكسد والنسيان المقيت , وها هو لطفي عبد الطيف ، يرحل في هدوء مريب ، وقد أودع في وصيته  المبعثرة ، حشدا من علامات الاستفهام التي لا أحد في مقدوره فك شفرة أسئلتها المستعصية . أن يموت الشاعر ، على هذا النحو المحايد من الصمت الثقيل ،  فاجعة تحيلنا إلى وجود أزمة ثقافة عربية تتفاقم يوما بعد يوم ،كأنها تشي   بنهاية هذا العالم . وما موت الشاعر  والشعر على هذا النحو سوى إشارة  للخراب  . 



§       " هنا قبر
         سيحضنني ولا عيدا لميلادي
         إذا ما أنهد إعيائي وإرهاقي ، وإجهادي
         لأني يا أخي في مهد أجدادي
         وأجدادي هنا ماتوا  ..
         وسوف يجيء أولادي
         ولا يبكون فالأجيال لا ترحم
         لأن جدودنا ماتوا ولم نرحم
         إذا علقم ؟ ..
         إذا مرّ ؟ .. تذوق يا أخي المجرم ..
         ولكن أنت لم تجرم  ..
         ولم نجرم  ..
         فقد جئنا وقد نمضي ولا نرجع
         فسوف يضمنا البلقع
         وسوف تضيفنا الأطلال
         ليس هناك من يفجع  . ( 1 )
          


§        لست ادري لماذا أشعر بتأنيب الضمير إزاء موتك أيها الشاعر ، وكأنني قد اقترفت ذنبا ما ،  أو صوّبت مسدسا إلى ظهرك وأطلقت الرصاص دون رحمة  . وعلى الرغم من أن رحيلك كان مسالما ، وقد حزمت حقائبك من دون إثارة أيما  ضجة ،  وهيأت خيالك بهدوء شفيف للسفر بعيدا , السفر النهائي ، الذي لم يكن صاخبا أو مفاجئا ، لكن أمرا ما يظل دائما يحيرني ، كلما ارتدى شاعر كسوة البياض تلك  ولاذ بمحطّته الأخيرة . أعترف هنا بأنني قد تواطأت مع كسل الكتابة عنك .. الكتابة التي طفقت تؤجّل نفسها دهرا .. ولا سيما أن "  أكواخ الصفيح  "  ( * ) تعد دائما- بالنسبة لي - تجربة أثيرة ودافئة تحتل موقعا خاصا من حميمية قرابة الروح التي بذرت مودتها في حقول الشعر قبل أن نلتقي .  كنت أتخيلك أيها السندباد ،  بسحنة ريفية تجعلك كثير الشبه بذلك الفتى الذي وسم غلاف الأكواخ . وحين التقينا مصادفة ، ولأول مرة في أواخر عشرية الثمانينيات ، شعرت كأن أحدا قد تسلل في غيابي وغير ملامح ذلك الفتى . فقد بدوت أكبر سنا مما كنت أعتقد ، ولم تكن بتلك النحافة التي صاغت مخيلتي شكل تضاريسها البائسة .. وهو الإحساس ذاته الذي راودني قبلها بقليل حين نكشت مطامير " حوار من الأبدية " الذي بدا كأنه قد مارس خيانة ما لسكان أكواخ الصفيح . حيث تسلطت الأدلوجة وحدها  لا القصيدة  ، وبدت هي المستبدّة على نظام الخيال الذي لا نظام له ، وهندسة القصيدة التي تضيق  حريتها  كلما هيمنت على فضائها  أدوات المهندسين ومساطرهم ووحدات قياسهم . ورغم ذلك ظل فضاء أكواخ الصفيح يحتفظ بنكهته الأولى وموقعه في سياق تاريخية مشهدنا المحلّي كعلامة وضيئة في  مشروع ديوان الشعر الليبي الحديث والمعاصر .


§         كنت ، في صباي  قد تعرفت على ذلك المتن ، والذي بدا متواريا ومهملا  ومنسيا ، ولم يحتل في خارطة القراءة النقدية تلك المكانة التي  تليق به . كذلك لم ينل ما يستحقه من الاحتفاء ، أو   يحظى كحد أدنى  بإعادة طباعته ، الأمر الذي يفضح مدى قصورنا وعدم أكثرا ثنا بالحياة الشعرية . وهذا السهو قد انسحب على معظم عناوين مدونة الشعر الليبي  ، بما في ذلك ميراث الشاعر الفذ ( على الرقيعي ) الذي أهملت جميع مقترحات إعادة طباعة منتوجه الشعري.
§        في سنة 1970  قرأت أكواخ الصفيح ، وقتها كنت لم أزل  أحبو ، محاولا  تعلّم التقاط المعاني المطروحة قريبا من ضفاف الحقول التي في متناول  أصابعي المرتبكة  . كان لطفي عبد اللطيف من بين الشعراء الذين يمشون كجرح نازف . لم أنتبه في أول الأمر إلى منشئه وموطنه الذي التبس بجهات أخرى  .. لأن وقع اسمه قد اقترن في خيالي الصغير بتخوم المنفلوطي ، حتى عندما كنت أستسلم للنوم على وقع زخات خياله الطفل وهو يهطل ضاربا صفيح أكواخنا القديمة ،  أو لمّا  أستيقظ ثملا بأحلام خجولة وقد تعثر حذائي  الثقيل بعتبات الفقر، قدرنا المبصر الذي تركت قساوته مسارب شديدة  الأسى في دروب القصيدة . حتى في تلك اللحظات التي تهرب دائما  إلى الحدّ الذي يصعب استعادتها هنا ،  كان الحزن في رحلته من الريف إلى المدينة ، وتجربة اليتم المبكر ، ووصف أيام الدراسة ، أكثر شبها بي ،  وأكبر من أن تسعه قمصاننا الممزقة وفضاءات علب التنك التي كنا نتكوم فيها مثل النفايات .  قرأت   المقدمة التي وسم بها الشاعر أول الديوان .. واستوقفني تشبثه بالمدرسة الحديثة في الشعر العربي المعاصر . وانحيازه لها.. كذلك كان له الفضل في تعرفّي لأول مرة  على أسم الشاعر العراقي : عبد الوهاب البياتي الذي استشهد بشطرين من أحدى قصائده للتدليل على  ضرورة شعر المدرسة الحديثة ، وهما " فقراء يا قمري نموت ... وقطارنا أبدا يفوت "   وفيما بعد حاولت تقصّي بعضا من نتف سيرته .. مقتفيا آثار خطواته من باريس إلى تونس و بعض العواصم الأفريقية ، من دون أن افقد تلك المهابة التي تقتضيها قداسة الشعر متهجيا عناوين ضياعه .. حتى أنني في بعض الأحيان كدت أغبطه  على تسكّعه الجميل . لأن التوق لمعرفة خرائط العواصم الأخرى وسبر ذاكرتها يظل دائما طموح الشعر الذي هو بداهة صنو سفر لا يكفّ . وأيضا لأنني كنت في ذلك الوقت قد ضقت ذرعا بحياة  الجندية في الثكنات الكالحة  التي  تجعل من الوقت وزرا ثقيلا  يجثم على ظهورنا النحيفة . وبدوت أتطلع دائما إلى شيء يومض خلف الأسلاك الشائكة . لهذا كانت قصائده رفيقة ليل ، ودليل حلم يطرد قتامة عنابر النوم ، وأنا أرددّ في السر مفردات ..  رحلته الثالثة  :  

§       " في الصفيح
يجلسون القرفصاء القاسية
يمضغون اليأس
يجترون في إفلاسهم  افلاسيه
والبواخر قاطعات المد حولي راسية
ربما سافرت يوما وانتهت انفاسيه
ربما حطّمت يوما كاسيه
ما انتهيت  ولم أزل أمشي كذا شاء القدر 
لم ازل أذكر إنسانا على ذاك الممر
حيث قال الضوء أحمر لا تمر  "  (2 )
_____________  
*كتبت هذه الكلمة بعد وفاة الشاعر بأيام قليلة ونشرت حينها في مجلة المؤتمر ضمن صفحتنا الشهرية الموسومة : غربال .
**  أكواخ الصفيح : مجموعة شعرية  ( لطفي عبد اللطيف ) صدرت سنة 1967 عن مكتبة الفكر . طرابلس / ليبيا.
(1)  من قصيدة جنيهات ( أكواخ الصفيح ) .
(2) من قصيدة الرحلة الثالثة  ( أكواخ الصفيح ) .