مفتاح العمّاري
توطينُ الفوضى
خلال
الأسابيع الأولى من نشوةِ انتصار ثورة التحرير شهدت الحياةُ في ليبيا تضامنا
مغمورا بمباهج لا تًضاهى ..عندما أصبح كل شيء مضمّخاً بنكهةِ الفرح ، وصارت
البسمةُ البهيجةُ لغةً مَشَاعَاً ، تعبِّرُ عن أبجديةِ التضامن والتآزر والتضافر
بين الليبيين ، لحظة أن تفوّقت النفوسُ على آلامِها ومواجِعها وتهدّمِها وخسائرها ، وتجاوزت
الشوارعُ خرابَها وبؤسَها وبشاعَة نفاياتِها وأوبئتِها العالقة .. وانخرط الجميعُ
في تنظيم حملات تطوعيةٍ لمؤازرةِ الجرحى وأُسَر الشهداء والمفقودين ، فيما تدافع
الشبيبةُ ذكوراً وإناثا لنظافةِ الأحياء وشوارع المدن ، وتنظيم حركة المرور ،
وتسيير عمل الأفران ومحطّات الوقود ، بل والتطوّع لجلبِ صهاريج مياه الشرب
وتوزيعها مجانا على الأحياء ، عندما انقطعت المياه عن العديد من المدن والبلدات ،
ناهيك عن تكاتف حراك مؤسسات المجتمع المدني التي بادرت بالعديد من المناشط
التطوعية الخيرية ، من جمع التبرعات وإقامة البازارات والمهرجانات الخطابية ..
وزيارة الجرحى وأسر الشهداء . ما أروع أن
نستعيدَ تلك الأيام محمولة بأصداء التكبير ورفرفة الأعلام والزغاريد والأناشيد .
لكن يبدو أن استشعار طعم الحريةِ بعد دهرٍ من الحرمانات والمكابدات المريرة ، وما تشكّله من ضخّ مباغت وعنيفِ في شرايين
المنتصر بجرعات حارةٍ من فائضِ الثقةِ
المفرطة التي يصعب مقاومة نشوتها في جموح
كيانه وقوته ، حينها لا غرابة في أن يستسلم المنتصرُ لتدفقِ حماستِه وعنفوانِه
، تلك الصدمةً قد فعلت فعلها إلى الحدّ
الذي التبست فيه جمالياتُ الحريةِ بتشوهات الفوضى . فما
كادت تنقضي الأسابيعُ الأولى حتى بدأنا نشهدُ تفاقمَ سلوكيات مشينة تَشِي بحالةٍ مزريةٍ من حمّى الجشعِ والتكالب
والتهتّكِ والانفلات ، إذ استغل من به طمع ذلك الفراغ في مؤسسات الدولة ولا سيما
الأمنية والضبطية والقضائية ، ووجدها سانحة لا تُعوض في ممارسة انتهاك القوانين..
وقد وقفنا جميعا على العديد من الأنباء والأخبار المروّعة من حوادث الخطف
والقتل والسرقة والنهب ، يقوم بها أشخاصٌ مسلحون ،انتحلوا دونما غضاضة ، صفةَ ثوارِ
مَا بَعْد التحرير .. بعد أن وجدوها فرصة سانحة لتصفية حساباتهم مع الماضي
والبطالة والتشرد والتسكّع لينتقموا ، كل
بطريقته ، حيث يكفي في الحدّ
الأدنى الحصول على قطعة كلاشنكوف ، كمؤهل
يكفل لصاحبه الانضمام لأحدى الكتائب الناشئة والمشبوهة ، التي انتشرت وقتها
كانتشار النار في الهشيم . هكذا بدأت الفوضى تفرض إيقاعها وأسلوبها وأبجديتها ،
ففي غياب تفعيلِ القضاء وتطبيقِ القانون
لا غرابة أن تستشري مثل هذه الأمراض ضاربة عرض الحائط بكل النظم والأعراف ومعايير
الأخلاق الآدمية والحياة المدنية .. لينسحب تهتكها على كل ما يمس أمن وحياة
المواطن : سطو مسلح ، اغتيالات ، قفل شوارع
ومدارس ومؤسسات دولة ، بل أحياء
بكاملها يتم أحيانا غلقها وسدّ منافذِها لمجرد أن بضع بنادق صدئة ومعتوهة
من فصيلة الكلاشنكوف قد ثملت ، وبذا قد أرادت لأمرٍ في نفسِها الإعلان عن حضورِها كيفما يروق لها ، لتفرض بين الحين والآخر جزءا
من إيقاعها ، وتفضي بنا إلى أكداس من الجرائم البشعة التي يتعذّر هنا سردَ
تراجيديتها . لذا يقتضي الحال أن نتفطّنَ – وبالضرورة - بأن ثمة من يتربّص بهذه
الثورة المباركة ، ويحيكُ ضدَّها الدسائسَ والمؤامرات قصد تشويهِها وتقويضِها
وتعطيل مسيرتها ، وبصورةٍ خاصة حين نَرُوزُ تلك الجرائم الفادحة والخطيرة ، والتي
لا يُمكن الاكتفاء فقط بإدراجها ضمن وتيرةِ
الفوضى والانفلات ، ومن ثم لا ينبغي أن تمرّ مرورا عابرا ، ولا سيما حين يؤدي تفاقمها إلى تعطيل بناء المؤسسات العسكريةِ
والأمنيةِ والقضائيةِ عبر تهديدِ وخطفِ وتصفيةِ قياداتها وكوادرها واقتحام مقارها ، مما يسبب في شلّ تطبيق
القوانين وبطء تفعيل القضاء عبر العديد من
المظاهر التي تستعرض عضلات السلاح وتفرض أبجديتها ولغة حوارها بفعل الرصاص المتغّول
والرصاص الغامض .
ونحن حين
نطالب الكلاشنكوف أن تلتزم بشرعية
الكلاشنكوف ، بأن تكون لنا ، لا علينا ،
أن تحمينا ، لا أن تُرهبنا ، وتزعزع استقرارنا .. نعني هنا أولاً وأخيراً كلاشنكوف المقاومة وحرب
التحرير ، الكلاشنكوف التي أنحازت للثورةِ لا ضدها ، كلاشنكوف التكبير التي حققت النصر
وبشّرت بالحرية ، كلاشنكوف الثوار ، لا المندسين .
_____