وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الأربعاء، 28 أكتوبر 2015

رقصة الحصان الكوري


مفتاح العمّاري

غانغام ستايل




    في الميكرو باص  (Iveco) كعلامة ليبية مسجلة من حيث توفّر سبل الراحة والهدوء والطمأنينة ، بفضل سائقيها الشبان الذين كما يبدو ، هم دائما في حالة من النشوة  والتوهان ، وكأنهم يقودون تحت تأثير السكر . فجأة ارتفع عبر مكبرات الصوت ، صخبُ أغنية ( غانغام ستايل ) ، فأبتهج طفلي آسر  ذو الست سنوات وهو يلفت انتباهي الى الأغنية مرددا اسمها بطريقته ( جام ستابل ) . فادهشتني حالة تعلقه بالأغنية ، وقلت في نفسي أن هذا الجيل قد تفوق علينا من حيث المعلومة ، فهو يعرف كل شيء . كنت أدرك أن التلفاز قد  أسهم في توجيه حواسنا وإعادة تكييف وصياغة ذائقتنا وميولنا وشغفنا . ثم انتبهت في اللحظة ذاتها إلى  أن معظم الشبان من ركّاب الايفكو قد بدأوا يتمايلون ويحركون رؤوسهم تبعا لأيقاع الأغنية ..وهكذا قطعنا مشوارنا ، من حيّ باب بن غشير إلى شارع عمر المختار ، على إيقاعات  أشهر أغنيات الراب بنكهة كورية جنوبية . أثناء سيرنا أنا والصغير عبر الرصيف المحاذي لواجهة معرض طرابلس الدولي ، كان ضجيج أغنية الغانغام ما يزال يتردد في كومة رأسي . وكنت أتساءل بيني وبين نفسي عن السرّ وراء تلك الزلزلة التي احدثتها شطحة مغني الراب الكوري الجنوبي ، ساي  ( بارك دجاي سانغ ) ،  عبر أغنيته الضاربة  تحت وقع رقصة الحصان الكورية أو الحصان الخفيّ ، والتي غدت بين ليلة وضحاها أشهر من نار على علم ..  غزت معظم خرائط وأقاليم العالم ، واكتسحت  كبرى الساحات والميادين في أمّهات عواصم أوربا ، واثارت ضجيجا وجدلا وصخبا  له أول وليس له آخر  ، ولا سيما بعد أن خلخلت وقوّضت عروش زعماء وملوك وقياصرة الموسيقى ، وهزّت امبراطوريات الطرب وأطاحت بألمع كواكب ومجرات ونجوم الراب والبوب والروك والتانغو والسيمفوني ، بعد أن اكتسح مغناطيس جاذبيتها السحرية  أرقاما قياسية حطّمت المعقول واللامعقول ، حيث استطاعت أن تهيّج جموح المراهقين ، وتستدرج رقص الأطفال ، وتخلخل رصانة الكهول ، وتلعب بأوتار الشيوخ والعجائز، وتمكّنت بقدرة عجيبة ،  لا عهد للفن بها ، وفي غضون أشهر قليلة  - تعد على أصابع اليد الواحدة -  من استدراج قرابة المليار زائر على اليوتيوب ،* الأمر الذي لا سابق له ، بل يعد فتحا جديدا في عالم الفن والطرب والغناء والرقص والموسيقى . ما هو السرّ الذي وهب هذه الأغنية جاذبية لا تضاهى ، وجعل من مغنيها المغمور نجما عالميا يتلقى الدعوات ويجوب العالم ويحصد الجوائز  ويحظى بشرف ضيافة علّية القوم من صنّاع القرار  وأبرز الأثرياء والنجوم وكبار رجالات الساسة .   هل  أمسى العالم  هشا وتافها ومائعا إلى الحد الذي  تُهزّ  فيه أردافه مع إيقاعات وأنغام أغنية بسيطة ذات كلمات متواضعة فنيا ، و( بلغة كورية ) غير مفهومة خارج موطنها .السؤال نفسه سيعيد صياغة جملته بدهشة أخرى إزاء تلك الميزة التي وهبت هذه الأغنية قدرة فائقة وسرعة ضوئية مكنتها من عبور القارات ،بشتى ألوانها ولغاتها وأجناسها ومللها وثقافاتها ومعتقداتها ، لتكتسح  وفي سهولة ويسر قلاع العالم بقضه وقضيضه، في غضون أسابيع قليلة .  من يجيد اللغة الكورية الجنوبية يقول أن ابنها البار، المغني ( ساي )  يتهكم في كلمات  أغنيته الصاروخية ، وبطريقة في غاية السخرية والشرشحة من سلوكيات ومظاهر وعادات سكّان حي ( غانغام ) ، أحد أحياء سيول المعروف بمحاله وأسواقه الفاخرة ومطاعمه المفضلة لدى المشاهير . هكذا أغنية ساخرة وقصيرة ، مصحوبة بحركات تسمى ( رقصة الحصان الكوري ) ، وتلهج بكلمات لغة  مغمورة، تمكّنت من أن تحظى  بكل هذا الإعجاب ، مرحبا بها من كافة سكّان قارات العالم بمختلف أديانه ومشاربه وحضاراته ،  في الشرق والغرب والشمال والجنوب  ،لتحظى  باحتفاء جامح وصلت حماسته إلى أقصى درجات الشغف والجنون . هل ثمة سرّ غامض وخفيّ  وراء صعود هذه الأغنية الفلكية ؟ كيف يُكتب لها كل هذا الانتشار اذا كان معظم الملايين الذين رقصوا وهاجوا وشطحوا  مع أنغامها لا يفهمون كلماتها ..؟  هل هي ضربة حظ عشواء كما خمّن البعض ، أم السرّ يكمن في ضربة سوط على ظهر الحصان الكوري ، هي التي  ألهمت المغني (ساي)  بهذه الرقصة السحرية التي هزّت أوساط آسيا وأوربا والولايات المتحدة وكندا وافريقيا ، بل وصلت الى عقر دار الناطقين بلغة الضاد ، فها هم - كما تردد في بعض المواقع الاخبارية - شبان من أنصار الراب السعوديين ، قد تفننوا على طريقتهم بتقليد حركاتها وهم يرقصون بقمصانهم الطويلة البيضاء ، بعد أن اخترقت غانغام ستايل أوساط اللبنانيين ، وحتى بعض الشباب السوريين - والعهدة على الراوي  -  لم تقف محنة وطنهم حائلا بينهم وبين تفويت متعة الرقص صحبة إيقاع الحصان الكوري . من السذاجة والحمق أن تعد هذه الظاهرة مجرد نزوات عابرة ، لحظة أن تظلّ  محيّرة ومربكة ، بل ومتعذّرة الفهم ، كذلك يعد من الحمق ، بل من الغباء اعتبارها محض طفرة ما تلبث أن تزول ويلفها النسيان ، كسحابة صيف (خلّب) ستنقشع مع أول هبوب للريح ، من دون أن تترك أثرا . هذا التبسيط والاستخفاف بظاهرة غنائية كونية جلبت قرابة مليار مشاهد  قد يكون مخلاً على نحو ما ، حين يغفل بأن أغنية الحصان الخفي هي في حقيقة أمرها كثيرة الشبه بحصان طروادة .. حيث لا يكفي القول بأنها تندرج ضمن تفشي ظاهرة تسليع الفن المعولم ، لحظة ترجمة هذه الطفرةُ  ووضعها ضمن إطارها وحيزها الإعلامي ومجتمعها الافتراضي .. لأن آلةَ العالمِ بدأت تعمل تبعا لجاذبية  الإعلان الفضائي  ، وسحر ( الصورة ) و (الإيقاع) ، وأن المسألة برمتها تتعلق تحديدا بتحريك الجسد ، لا الوجدان . ولعلّ توظيف الإيقاع الوحشي هنا ، بعيدا عن روح الموسيقى  ، كان له تأثيره و سلطانه  في تهييج تلك اللغة المشاع ، التي تخترق الحواس،وتهزّ الأبدان من دون أيما حاجة للفهم ، حيث يكفي هنا صناعة المتعة وحدها . هذه الأسئلة – وبنوايا حسنة -  تنبش على نحو ما ، موضع البراءة ، وفي الأثناء ، لا تهمل نوايا المكر والخداع في هكذا صرْعات عابرة للقارات ، فهي حتما ، ومن خلال تراكماتها ، ستمحو قيماً وتضيف أخرى بديلة . لكن ، وفي نهاية  مطاف هذه الرقصة الكورية الكاسحة، ألا يحق لنا أن نخشى على قيمنا من غزوات مريبة ..  وحتى لا نتوه بعيدا عن موسيقانا  ولغتنا  وأشعارنا وحكاياتنا ، يحق لنا أيضا – كحد أدنى -  أن نسأل أنفسنا ،  ما الذي يحدث في هذا العالم . فقط هذا كلّ شيء . يقول العارف ، عوضا عن استنطاق أغنية ساذجة ، ومكابدة البحث في أعطاف كلماتها وموسيقاها عن معجزات لم  ولن توجد ، تقتضي الحكمة التوقف قليلا ، والتنقيب في داخلنا ، بدل أن نذهب بعيدا لنضيع في متاهة لغات لا نفهمها ، لأنه والحالة هذه ، علينا الاعتراف بأن الخلل يكمن في ما وصلت اليه ثقافتنا السمعية والبصرية من تشوّهات قيمية مسّت الجوهريّ فيها ، فقد يحقّ لك أن تغني وترقص بكل الإيقاعات والأنغام القريبة والبعيدة ، الأليفة والوحشية ، بشتى هوّياتها ومواطنها وسلالاتها  ، من محاكاة مخلوقات البتلز الى كائنات الراب ، مرورا بالشطح على ( بنادير الحضرة ودرابيك المرزكاوي )  والدبكة والزار والراي والكاسكا  ، مثلما يحق لك أن ترتدي ما يلبّي رغبتك  من أزياء بشتى ماركاتها وصرعاتها بما فيها سروايل النصف ساق ، وحتى النصف مؤخرة .. وأن تطلق لشهيتك العنان لشتى اصناف المأكولات التي تجود بها الاعلانات ومطابخ فتافيت والشيف رمزي ، ولك مطلق الخيار  في المفاضلة بين البازين والعصبان مرورا بالهامبورغر والبيتزا واللازانيا ، الخ .. وبالمثل يمكنك  أن تزاحم خلق الله ، وتقلّد وتتماهى وتستأنس وتروم وتشغف وتحب كما يحلو لك . فقط ثمة سؤال ملحّ وضروريّ ، يعد من الحمق لو لم تتوقف عنده قليلا ، وهو : كيف تسمح لنفسك بكل هذا التطفّل لتستهلك منتجات الآخر ، من الابرة الى التلفاز / من عودالثقاب إلى المصباح الكهربائي والقطار والطائرة والدبابة والصاروخ/ من ورق التواليت إلى السفينة ،/ من القلم إلى الكمبيوتر / من السينما إلى الموسيقا ، مرورا بمكياج زوجتك ، والعاب طفلك ، طلاء غرفتك وأثاث واكسسوارات بيتك وبكل أدواتك ومستعملاتك اليومية : قداحتك ، مفاتيحك ، علبة سجائرك ، جواربك ، أحذيتك ، قمصانك ، عطرك وقهوتك وساعة يدك وهاتفك الجوال . من حضرة الايفكو  الى  بلاط الرصيف .. بينما أنت لست شريكا حقيقيا في صناعة هذا العالم ، لأنك في حقيقة أمرك خارج المسهمين في تنضيد نسيجه وتاثيث حلمه وثقافته ورؤاه ، ثم وبكل يسر ، ها أنت لا تجد أيما غضاضة  بهزّ اردافك والانجذاب بكل خفّة ، بمجرد أن ترتفع ايقاعات اغنية غانغام ستايل . ثم تتساءل  في حيرة ، ما السرّ ؟ . كما قلت لك ، وحتى لا نتوه  بعيدا ، أن السر لا يكمن  فيما تعتقده من تفاهة العالم . بل عليك اذا اردت معرفة السرّ ، أن تنظر أولا تحت قدميك قبل أن تتأهب لخطوتك التالية خارج عتبة بيتك . لأن الفتى الكوري ( ساي ) ، بعد أن رصف أهله وذووه الطرق  وبنوا  المصانع والأبراج والقلاع  والأنفاق والبوارج والقطارات ، وبرعوا في فنون مخترعات التكنولوجيا الالكترونية والدقيقة  والرقمية ..وغيرها من الابتكارات العظيمة ، فكّر هو من جهته في اضافة لمسة يسيرة  ومتواضعة الى موسيقى  العالم ، فلجأ الى تطعيم الراب بنكهة كورية ، وقبل أن يرقص في باريس ولندن وواشنطن ، اطلق أولا حصانه الكوري في ميادين  سيول . لهذا وذاك منحته بلاده وسام ( أوكوغوان ) للأستحقاق الثقافي ، والذي يعتبر من أرفع الأوسمه في كوريا الجنوبية . ألم أقل لك : علينا أن نفكّر أولا ، حتى لا نضيع مرة أخرى .
_____
*كتبت هذه المقالة في أواخر 2012