وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الأربعاء، 24 يونيو 2015

صبرية ساسي



مفتاح العمّاري
اسمها .. 
 صبرية ساسي 


      صبرية ساسي  .  لا تنسوا هذا الاسم ،  لا تنسوا  صبرية ، التي أضافت دمها لعلم استقلالنا ليصبح أكثر نوراً ونقاء ، حتى لا يختفي أو يخفت مرة أخرى ، أضافت روحَها وحياتها وتوقها وحلمها ، ففي كل لون من ألوانه ثمة مزيج من أنفاسها وكلماتها وحواسها وخلاياها وعطرها . من مشاعرها ومكابداتها وآلامها وتضحياتها .  صبرية ساسي : حين اختفى العلم أعادت لنا العلم وغادرتنا . كأنه لا بد للعلم من أضاحي وقرابين لكي يعلو ويرفرف ويزهو  وضيئا وحرا وشامخا في سماء ليبيا  ، لا بدّ من بشر استثنائيين ، وشجاعة نادرة لا تَهابُ الموت  ، لا بد من بطولات خارقة من سلالة عظيمة تشبه سلالة ابنة تاجوراء . صبرية ساسي : هذا هو اسمها الذي كانت  تُنادى به ، اسم يشير  تحديداً إلى امرأة خمسينية من بلدة تاجوراء  ، قبل أن تكون شهيدة وطن ، كانت ربّة منزل ومواطنة ليبية بسيطة ، تصبو لحياة كريمة ، كانت بنتاً حزينةً تترقّب بحرقة لحظة تحرير والدها من سجون الطاغية ، كانت شقيقةً حرّة وموجوعة ، تنتظر بلهفةٍ خروج أشقائها من معتقلات الأسر وعتمة الزنازين ، كانت أمّا طيبة  ترنو لتلك اللحظة  التي يصبح فيها أبنها الوحيد ، طبيبا يُعالج جراح الوطن .  وكانت أيضا سلخت قرابة ربع قرن من سيرتها الشخصية كمعلّمة  في مدرسة البلدة  بضاحية الحميدية ، تغرسُ في مشتل الناشئة شتلات المعرفة ، وتشرح لهم الفرق بين الشجرة والمشنقة ، بين حلم الراعي وضراوة الذئب . كانت مؤمنة وتقية وورعة ، تقتطع تطوّعاً جزءاً أثيراً من ساعةِ المنزل لتدريس الصغار  في جامع الحيّ ، تعاليم كتاب الله وحفظه  .  ثم كانت مناضلةً ، أسست جمعيةً خيريةً تُسهم في تقديم الدعم المعنوي واللوجستي  لثوار السابع عشر من فبراير ، تُعدّ للطاغية ما استطاعت من قوة  ، ومن ألوانِ عَلَم الاستقلالِ تُرهب عدوَّ الله وعدوَّ الوطنِ ، عدوَّ الحريةِ وعدوّها ، أن تتحول راية  الاستقلال إلى سلاح لا يُقهر ولا يفل . هذا تحديدا ما فكّرت فيه ابنةُ تاجوراء  ، وما صنعته البطلةُ الشهيدةُ : صبرية ساسي . لذا ، تذّكّروا أيها الليبيون هذا الاسم جيداً ، وليكن محفوظا بحرص في حصن حصين من ذاكرتكم  وخزائنكم وكتبكم ومناهجكم الدراسية ، ليكن حاضرا وقويا وواثقا  في أناشيدكم وأغانيكم وأشعاركم ، في رسائلكم وحكاياتكم ، في أفئدتكم وأعيادكم وحقائب تلاميذكم ، في  عيونكم وكلّ حواسكم ، في رسمكم وموسيقاكم ، وفي دمكم . ليكن أسمها المبارك راسخاً وخالداً وساطعاً في عناوين مستقبلكم  وطرقاتكم وشوارعكم . لتكن صورة شهيدةِ العَلَمِ ، إيقونةً تزيّن جدران طمأنينتكم وطوابع بريدكم .. دليلاً  وفياً يقودكم إلى براءة أدميتكم الخيّرة ، حتى لا تتوهوا مرة أخرى  بعيداً عن مرابض التوق . لتكن صبرية ساسي ، حكاية عظيمة لا تذبل، يرويها الكبارُ للصغار ، حكاية  تنمو  وتترعرع وتكبر  وتتوارث جيلاً بعد جيل .. حكاية من أساطير ثورة 17 فبراير  ، كل جيلٍ يَهَبها كلمةً من نسله ، وقطرةً من دمه ، وفيضاً من مخيّلته .. وبذرةً من مشاعره .  هكذا ستظلُّ المناضلة الشهيدة ، صبرية ساسي ، حكاية شعب ، لن تأفل أو تغيب  ، بل ستبقى مشرقة ومشعّة في سماء أدبياتنا وقيمنا وحريتنا : ربّة خيالٍ جميلٍ ، نسّاجة خلاصٍ وخزّافة حكمة ، قفاءة نورٍ وجلابة مجد .  فاحرصوا أيها الليبيون الأحرار على حكايتكم العظيمة  .. وأينما كنتم تذكّروا  شهيدةَ عَلَم الاستقلال ،  لأنكّم حين تنسون صبرية ساسي ، إنما تنسون عَلَمَكم وثورتكم ، وتتخلّون عن أنفسكم ، عن مبادئكم وقيمكم ، عن تاريخكم وأرضكم .. تتخلون حينها عن إنسانيتكم . 
      بين ظلمة ليلٍ واهن ، وغشاوةِ  نصف فجرِ يتعثّر ، من يوم  الخميس 30 يونيو 2011 ، تسلّل القتلةُ بهيئة رتلٍ مسلّحٍ ، يتألّف  من قرابة 25 عربة عسكرية مجهّزة برشاش الميم طاء ، محمّلة بالمجرمين والذخائر وقذائف الآر بي جي  ، والمسدسات وبنادق الكلاشنكوف . كل هذه التجهيزات من المجرمين والعتاد والعدّة ، حُشدت لمواجهة امرأة وحيدة من بلدة تاجوراء  . كانت التهمة الموجهة  لهذه المواطنة الحرة ، تكمن في خياطة علم الاستقلال ، فمنذ الأيام الأولى لاشتعال فتيل ثورة 17 فبراير ، التي انطلقت شرارتها في مدن وقرى الشرق الليبي ،  لتعمّ سريعا العديد من أقاليم ومناطق ومراكز مدن الغرب  وضواحيها ، منتشرة كالنار في الهشيم ، من الزنتان إلى الزاوية  مرورا بمصراته ، ، إلى اعتصامات ومظاهرات ومناوشات تقطّعت أوصالها بين كر وفر ، وسرّ وعلانية  في ضواحي وأحياء العاصمة طرابلس : فشلوم / تاجوراء / سوق الجمعة / مجمع المحاكم بشارع السيّدي  ، وصولا إلى جبهات القتال في جبل نفوسة :  نالوت ، ككلة ، القلعة  ، وغيرها من المدن والبلدات التي هبّت كالبركان ، وانطلقت حممها سعيرا حارقا . منذ  اللحظة تلك دأبت صبرية ساسي على صناعة نوع من السلاح الأكثر تأثيرا واكتساحا وترهيبا من نيران مدافع الميم طاء ، وأشدّ ترويعا وفتكا ودماراّ من صواريخ الراجمات والجراد والسكود . يتكون السلاح الذي تفطّنت له قريحة :  صبرية ساسي ، من قماش الروح الذي لا يحترق  .. حيث كانت تخيط أعْلَام الاستقلال خفيةً وسرّاً ، لتتكفل فيما بعد جسارةُ الثوارِ بتدبير كافةَ الحيلِ والسبلِ لمغافلة عسس الليل من دوريات كتائب الطاغية ، ليرتفع علمُ الاستقلال خفاقاً فوق كباري وجسور العاصمة وبناياتها العالية . كان مشهد علم الاستقلال حين يُكتشف في صبيحة اليوم التالي يثير فزعا ، ويحدث درجة عالية من الرعب  والهلع لدى الديكتاتور وأزلامه وكتائبه وجلاديه . لهذا اقتضت غرفُ عمليات باب العزيزية شنّ حملة قمع إضافية ، كُرّست خصيصا لمواجهة صناعة وانتشار أعلام الاستقلال ، فانتشرت دوريات الاستطلاع وفرق التفتيش من مخابرات الطاغية وعساكره، مقتفيةً ومنقّبة بين الأحياء الساخنة ،والشوارع والأزقة النابضة ، زارعةً الآذانَ والعيونَ الجبانةَ ، لكي تجمع وتلملم كل شاردة أو واردة ، تُلمِّح أو تشير إلى حراك (علم الاستقلال) ، الذي بقدر ما كان يعد كابوسا مخيفا  يثير الفزع في نفس الطاغية .. كان في اللحظة ذاتها يشكّل حافزا ملهما ، يرفع من معنويات سكان العاصمة التائقين للحرية والخلاص، ويضخّ فيهم  مزيداً من روح الاستبسال والصمود والمقاومة ، كان إشارة قوية لمجابهة الديكتاتور في عقر ترسانته العسكرية وأخطر قلاعه عدّة وعتادا . حينها كانت معارك التحرير قد حسمت انتصارها في مناطق الشرق الليبي ،  بينما تستعر جولاتها الأكثر عنفا وضراوة ، في أجزاء عدة من مماطق الغرب ، مثل مصراته والزنتان والقلعة ، وغيرها .كانت قنابل الناتو تدك دونما هوادة  معسكرات الطاغية  وقواعده داخل العاصمة  وخارجها .. فيما تضجّ أحياء طرابلس وضواحيها بفرقعات الرصاص ودويّ الانفجاريات  والقنابل .. وتكتظ شوارعها بطوابير طويلة للحصول على الخبز والمحروقات ،  وتغصّ سجونها ومعتقلاتها بالأسرى من الثوار والنشطاء ، ومستشفياتها بالجرحى . وقائع كثيرة ومتداخلة يتعذّر هنا الإيغال في سرد تفاصيلها . كانت الأحداث تتسارع وتتوالى ، بين أخبار الجبهات ، وثوار العاصمة الأشاوس الذين يستأنسون بغلالة الليل لتنفيذ عملياتهم النوعية .. فيما ظل علم الاستقلال يبتكر لنفسه طرقا شتى في الإعلان عن وجوده ، تعدّدتْ وتنوّعَت وتكرّرت بجرأةٍ مشاهدُ تنقّله بين شرفات المآذن  ، وأسطح البنايات ، وفوق الكباري والجسور ..  ولعلنا نستعيد الآن أخبار الفضائيات العربية والعالمية وهي تفرد حيزاً بصرياً مدهشاً لهذا الحدث المحمّل بشتى دلالات المواجهة و مجازات التحّدّي ، حين تبثّ تلك الصور التي كان خلالها علم الاستقلال يرفرف بشجاعةٍ وزُهوّ فوق جسور وكباري العاصمة ومآذنها وبناياتها العالية  .
      بعد لأي مِنَ التعقّب الماكر مِنْ أثرٍ لأثر ، توصّلت أخيراً  مخابراتُ الديكتاتور إلى اكتشاف الدليل القاطع  عبر أحد الوشاة من عصابة ما يسمّى باللجان الثورية  .
     هكذا حُوصرت المناضلةُ : صبرية ساسي ، في مقر إقامتها بتاجوراء ، بواسطة فرقةٍ كبيرةٍ من المجرمين القتلة ، تتألف من ذكور وإناث ، ففي وقت متأخر من تلك البرهة الحالكة طَوقت العرباتُ ذات الدفع الرباعي المكانَ بعنجهية متعجرفة ، لكأنها تواجه جيشا جرارا ، لا امرأة وحيدة وعزلاء إلاّ من إيمانها بالله والوطن والثورة  . اقتحم الظلمةُ عنوةً حرمةَ البيتِ الصغير الذي تلوذ به  صانعةُ الأعلامِ ومصمّمةُ شعارا ت ثورة 17 فبراير ، واقتادوها إلى مكان مجهول . لم يكتفوا بخطفها وتهديدها ، بل عذبوها بوحشية وضراوة :  قطعوا أصابع يديها التي خاطت العلم ، حرقوا أجزاء من جسدها الطاهر  بالكهرباء ولهيب الغاز  ، ثم رموها  أخيراّ في الخلاء ،  محض جسدٍ طُعن بالحراب ، وثُقبتْ أطرافُه بالرصاص ..  جراحٌ تنزفُ ، وأنفاسٌ تتقطّع بين حياة موت  .
        في صبيحة اليوم التالي ، الجمعة 1 يوليو 2011 ، عثر عليها مصادفة ،  رجلٌ  في براري منطقة سوق الخميس امسيحل ( تختلفُ الرواياتُ هنا حول المكان ، فثمة من يذكر تخوم ترهونه ، وآخر يشير إلى  قصر بن غشير )  وقد شُوهت ملامحُها  من اثر التعذيب  . كانت المسكينة تحتضر وحيدة في العراء ..  حاول الرجلُ إسعافها بأن سارع  بنقلها إلى مستشفى منطقة السبيعة . وبالكاد وصلت إلى هناك حتى لفظت أنفاسها الأخيرة . لكن لم تقف أسطورة الشهيدة عند هذه  الخاتمة  المأساوية ، إلا لتبدأ بتنضيد وضخّ مأثرة بطولية من أعظم مآثر ملحمة ثورة السابع عشر من فبراير . فقد غفل الجلادون وقتها ، أن: صبرية ساسي ، حين كانت تخيط علم الاستقلال ، أنما كانت  تنسجُ روحاً مقدّسة ، ومأثرة جليلة لا تموت ، كانت تبثّ في خلايا القماش نقاوة الدماء الزكية ، وتوق شعب بأسره يطمح للخلاص من ضراوة القهر والعبودية .. وحين كانت تواصل الليل بالنهار منكبّة على آلة الخياطة ، فيما مقاطع القماش تَعْبُر بخفةٍ وقد تضافرت ألوانُها الحارة نشيطة وجريئة وحيّة  ، إنما تصنعُ بلاغةَ الزمنِ المعجزة ، زمن الجهاد المقدس ، مقروناً بملاحم سطّرها الأجدادُ البواسلُ الذين تصدوا منذ قرن مضى لدبابات الغزاة الطليان بصدور عارية ، وأرجل عقلوها بحبالِ الإيمانِ حتى لا تَهِن عزيمتُها ، هاتفين بصلابة حادة ، ( مَرْحَبْ بالجنّة ، جَتْ تدّنّى ) .
       إذاً لا تنسوا هذا الاسم ، ( صبرية ساسي )  .. فهو أكثر من اسم لامرأة وكفى ..لأن الشهيدة  ، حين اقترحت على نفسها هذا الدور المشرّف .. كانت أولاً ،  قد تفوقت على نفسها كأمٍّ لأبنٍ وحيدٍ ، قبل أن تتفوقَ على واقعها الظالم ،  تفوقت على المكان والزمان ، حين يتآمران على براءة الحياة ، تفوقت على اللغةِ ، حين تخونُ اللغةُ بهاءَ أحرفِها وجسارةَ دلالاتِها .. تفوقت على الرصاص وقساوة الجلادين ، على آلةِ العنفِ والتعذيب ، وغطرسة الطغاة ، تفوقت على تاريخها ، لكي تبعث حياةً أخرى ،وتصنع تاريخاً آخر .. ثم تفوقت أخيراً على نفسهِا وجسدِها ، فسطّرتْ معجزتها الشخصية ، والتي تُعَدُّ لوحدِها  ملحمةً نادرةً في مدوّنة الثورات . مرة أخرى أستحلفكم بالله والوطن والثورة ، أيها البررةُ ، أن لا تنسوا الشهيدة : صبرية ساسي/ لا تنسوا هذا الاسم .