مفتاح العمّاري
فقط .. نريدُ أن
نفهم
كأن من يحاول زعزعة أمننا ، يريد تحويل
ليبيا إلى مضخة خوف ، ومنطقة عنف وإرهاب ،
وإلا كيف نفسّر سيناريو الاغتيالات في بنغازي .. ولماذا تحديداً تمّ تركيز وتكثيف هذه العمليات
على بنغازي من دون غيرها ، لكأنها منطقة صيد مفتوحة لأعمال الترويع والاغتيال
والخطف والتخريب . ألا يحق لنا بعد كل هذه
العمليات الإرهابية أن نسأل عن هوية هذه الجرائم ونوايا وأهداف مرتكبيها المجهولين
، أي من وراء تصعيد وتيرة هذا التفخيخ
والتلغيم والقنابل الموقوتة ؟ و لماذا يحدث ذلك في هذا الظرف الحساس والتوقيت
الاستثنائي بالذات ، وكيف نفهم أن يظل حتى الآن الفعلُ من دون فاعل ، والجرمُ بلا
مجرم . لا شك ستكون المسألة محيرة ومتعذرة الفهم ؟ لأننا بطبعنا نخشى الجرائم
الغامضة ، والجرائم المباغتة ، والجرائم
التائهة ، والجرائم العمياء والخرساء .. حيث الوضوح لم يعد وضوحا إلا بكونه غامضا
ومتسترا ومتواريا ، ولا الشارع جزءا من الطمأنينة، ولا البيت منزلا آمنا يمكن تربية هناءته وأحلامه وتطلعاته ورؤاه ..حتى
اختلطت علينا أحلامنا ، وأمست تصاويرها وأصداؤها
سليلةُ عنفٍ وإرهاب ، فأضحت من ثم بهيئة كوابيس استمرأت صور العنف ودوي
القنابل حتى تحولت الانفجارات إلى إيقاعات
يومية ترافقنا لحظة بلحظة .. فلم نعد نميّز
بين الواقع واللا واقع ، وبين الثورة
ونقيضها . طالما رامت خرائط الدم تشكيل ملامح الأسى ، ورسم تضاريس الخوف .. الخوف على الوطن والثورة ، لأن ما يحدث في ليبيا
يبدو أحيانا أكبر من خارطة إقليم بلد صغير
يطمح للحرية والعدالة والتقدّم ، وأبعد من أن يُشار إليه إلا بكونه أكثر غموضا من الغموض نفسه
. طالما أن الغموض هو الصفة الواضحة والبينة والمعلومة ، وأننا أمسينا نقبض على الغموض كمشتبه ومتهم ومدان وحيد في كل ما يرتكب من
جرائم وانتهاكات وقلاقل وخروقات ، وأن الغموض وحده لا سواه هو ما تبقى من أدلة
دامغة لا تضيف سوى المزيد من العمى والتيه والقلق والشتات .. حين لا يقود الغموض إلا
إلى غموض سواه أكثر عتمة وقتامة وتشابكا
وتلبكا . فعبر هذه التأتأة ،وهذا العيّ ، وهذا التعتيم لملامح الواقع المضبّب ، تحضر
الجنايةُ ويغيب الجاني ، نعرفُ الضحيةَ ونجهلُ الجلاد ، نرى الجريمة ولا نبصر
المجرم ، ثم نرفع الفعل تلو الفعل مبنيا على مجهوله وغموضه وتواريه . وكأن القتلة
والجناة يرتدون طاقية إخفاء . ليظل الخفيُّ خفياً ، والغامضُ غامضاً ، والسرُّ سراً ، والمجهولُ مجهولاً ، والتيهُ تيهاً ، والشتاتُ شتاتاً ، حتى صرنا نشك
في أنفسنا وأبنائنا وأشقائنا وأصدقائنا وجيراننا ، طالما لم نعرف بعدُ هويةَ عدونا ، وطالما نستيقظ كل صباح على تفجيرات معلومة
بقنابل مجهولة .. نعرفُ أسماء وعناوين وجهات وأصول وأنساب الضحايا والقتلى والمخطوفين ، فيما تتبخّر أوصافُ وهيئاتُ وسماتُ
وأدلةُ وأسماءُ الإرهابيين والمخربين والقتلة والخاطفين . فقط نريد أن نعرف من هم أعداؤنا حتى يكون أصدقاؤنا
أبرياء من الشبهات والتهم . وسواء كان من يستهدف
زعزعة أمن واستقرار ليبيا ، وخنقنها وتمزيقها وترويعها وتخويفها وتشتيتها من داخل
الوطن أم من خارجه .. ذيلاً أم رأساً ، مأموراً أم آمراً ، تابعاً أم متبوعاً ،
صغيراً أم كبيراً ، عصابة أم دولة ، فقط كل ما يخشاه المواطن الليبي هو : أن ثمة
من يسعى لتخريط هذا البلد وتجريفها بنفس الجرافات والديناميت والقنابل التي شوهت ملامح العراق . وكل ما يشغل فكر المواطن الليبي ، أن يكون
أكثر إحاطة وقرباً من حقيقة واقعه وتفاصيل
يومه ، عوضا عن هذا المتاه المخيف ، أن يعرف
ماذا يقول ، وماذا يقرر ، وكيف يسير وينام ويصحو ، وماذا يرتدي وماذا يأكل وماذا
يشرب وكيف يتنفس .. هل يعتق اللحية ويمرد
الشارب ويرتدي جلابية .. هل يلبس سراويل
الجينز وقبعات الكاو بوي أم يختار العباية والعقال والشماخ ، هل يفرض على
حريمه النقاب أم سيكتفي بالحجاب .. وهل أن صوت المرأة هو الآخر عورة مما يفترض
ارتداء كمامة أو تركيب كاتم صوت ، أو منعها من الخروج سوى مرتين في العمر : إلى
معتقل الزوجية أو القبر . يريد أن يفهم من
الذي يحاربه في دينه ووطنه وحريته وقوته وهناءته
وطمأنينته ، ويحاول سرقة ثورته .. ومن
الذي ينزعج إذا فرح المواطن الليبي أو ظفر
بشيء من الرحمة والرفاهة والنفط . من الذي يحسده ويبغضه ويكرهه إلى هذا الحد
الموغل في وحشيته وشراسته وعنفه . فالليبي مواطنٌ طيبٌ ومسالمٌ ومحبّ ، سخيٌّ وجوّادٌ
وكريمٌ وعفيف ، مبدعٌ وحالمٌ وصبورٌ ، معطاءٌ ولطيفٌ وشجاعٌ ومقدام . فقط ، نريد أن نفهم ، و هذا ما يقلق الليبيون
جميعا ، في الشرق والغرب والوسط والجنوب والشمال ، يريدون أن يعرفوا عدوّهم من
صديقهم ... وأن يعيشوا في وطنهم كما يحبون هم أن يكون الوطن ، لا كما يُخَطّط له المبغضون
والمخربون بأن يكون بهيئة قطيع ، ومجتمع ثكنات وعصابات مافيا . يريد الليبيون أن يبنوا بلادهم ، ويعمروا مدنهم
وقراهم ..أن تكون لهم مدارس وجامعات وأكاديميات ومستشفيات و طرق ومطارات وموانئ وقطارات وحدائق ودور عرض ومسارح ومكتبات ومقاه ومتنزهات ، شأنهم شأن غيرهم من البشر الآمنين في عالمنا
المتحضّر .. أن يستقروا ويستجموا ، فقد تعب
الليبيون من الألم ، ومن المستعمرين والغزاة والقراصنة والطغاة ، ومن تاريخ طويل من الإثم والهتك والتجويع والنهب والقتل والحرمان . أفلا
يحق لهم أخيرا أن ينعموا بوطنهم ، فقد تعبوا من
دسائس العملاء ومؤامرات الخونة .. تعبوا من حيل اللصوص والمارقين .. وتعبوا
من الدخلاء والمرتزقة والمرتشين . تعبوا
من الخوف والألم والحزن والقلق والنزيف .. كيف يمكنهم الآن قفل ملفات
الشهداء والجرحى والمفقودين إذا كان كل يوم هناك المزيد من الشهداء والجرحى
والمفقودين .. كيف يمكن إعادة بناء ما تهدّم من بشر وبيوت ومنشآت .. وهناك من يقترف المزيد من القتل ويراكم الدمار والخراب . كيف يتسنى لليبيا أن
تستقر وهناك من يقلقه استقرارها ، وأن
تفرح بنصرها طالما ثمة من تزعجه أفراحها وانتصاراتها
. أجل قد تعبنا جميعا ، لأننا نخوض حربا مع عدو ماكر لا يُرى ، ولا
جبهة له سوى الخفاء .. عدو لا يحمل اسماً
أو صفة ، وما من دليل حتى الآن يشير إليه . هكذا ، وبعد عشرات التفجيرات وعمليات
الخطف والاغتيالات يظل شخص الجاني متعذرا عن الكشف ، فهل سنلجأ إلى مهارات السحرة
والمشعوذين طالما حتى اللحظة ما تزال أجهزتنا الأمنية والبحثية عاجزة عن اكتشاف
بصمات المجرمين ، وأنها لم تعثر بعد على دليل واحد قد يعطي بصيص أملٍ ، أو يُشكّل
رأس خيط . هل يُعقل أن نفقد عشرات الضحايا من قيادات وكوادر الجيش والشرطة ، إضافة
إلى تفجيرات واعتداءات طالت مقار سفارات وقنصليات وشركات أجنبية ... وحتى الآن لم
تسفر التحقيقات عن ما يشير إلى فاعل بعينه . لهذا نخشى أن يظل الواقع غامضا ،
والدولة غامضة ، والثورة أيضا ما لم يعرف الليبيون ما الذي يحدث في ليبيا . وبذا يمكن تأجيل التباحث والتشاور في مسألة تشريع الصيرفة الإسلامية طالما ثمة ما
هو أشنع وأكثر فداحة وشرّا وتحريما من
الربا ، وأنه لا جدوى من تقديم مسألة
العزل السياسي في الوقت الذي قد يستوجب فيه فرض العزل الأمني وقانون الطوارئ وحضر
التجوال ، وبالمثل يمكن غض النظر عن زنا النظر ، وتأجيل بناء وإقامة الجدار العازل بين الأعضاء المنتخبين ديمقراطيا في
قاعة مؤتمرنا الوطني العام ، كحد فاصل بين إقليمي الذكور والإناث في قاعات ريكسوس ،
تلبية لنداء صريح جداً ، انطلقت صرخته المؤمنة من أحد الأعضاء الخائفين من غواية
النفس الأمّارة بالسوء ، ريثما يتسنى لنا
بناء ما تهدم من حصون أمننا وقلاع طمأنينتنا . يرحمكم الله ، أجّلوا كلَّ شيءٍ
وفكروا كيف يمكن أن يعيش الليبيون في وطنهم دونما إرهاب مسلح وتفجيرات وقنابل
موقوتة ، دونما خطف واغتيالات ، دونما
جرائم معلنة ومجرمين سريين . في السياق
ذاته ، ومن زاوية نظر أخرى ، ثمة من يقول بأن هذه المسألة قد ضُخّمت كثيرا ، وخضعت
على الصعيد الإعلامي لشيء من المبالغة والتهويل ، وهي لا تستحق كل هذا الارتياب والتوجس
والقلق والحذر والخوف ، معززّّا قوله بأن حياة المواطنين في مدينة بنغازي مستقرة
وهادئة ، بدليل أن المواطن يذهب إلى عمله ويمارس نشاطه اليومي ، كالتسوق وارتياد
المقاهي والمتنزّهات ، وأن المحال التجارية والخدمية تظل مفتوحة إلى ما بعد منتصف
الليل .. وأن بنغازي أعظم من أن يتزعزع أمنها أو يتمّ تروعها ببضع جرائم عابرة ،
ربّما هي من فعل فتيان متهورون من تجار المخدّرات ، تندرج ضمن تصفية حسابات عالقة
بينهم وبين رجال الشرطة . ونحن إذ نأمل أن تحمل هذه النظرة المتفائلة قدرا من الحقيقة والعقلانية ، وأنها
لا تنطلق من خديعة التصالح مع الأمر
الواقع عندما تركن إلى تبسيطه وتهوينه ، أن لا يذهب بنا التبسيط إلى ما هو أكثر
تعقيدا .. لأن الحياة في بغداد هي الأخرى - وعلى الرغم من سلسلة التفجيرات
المستمرة وعمليات الاعتقالات والمذابح شبه اليومية - تظل مستقرة ، وتمارس نشاطها الاعتيادي، ولم تنقطع علاقة البغداديين بالسوق ودور العرض والمقاهي
والمتنزهات. وبقدر ما يعبر هذا المشهد عن عراقة وصمود متأصلين ، قد يشي في الوقت
ذاته بمظاهر التكيّف مع صور العنف ووقائع الإرهاب شبه اليومية ، وهذا
ما نخشى استنساخه هنا في مدننا الليبية . لذا أردنا فقط أن نفهم ،حتى لا نتواطأ من حيث لا ندري مع مظاهر مروّعة لجرائم معلومة
، تقيد دائما في خانات مجهولة
. فقط .. أن نفهم . حفظ الله ليبيا .
____
* مقالة نشرت ضمن سلسلة مقالات اسبوعية ، بصحيفة فبراير خلال سنة 2012 والربع الأول من 2013 .