وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الأربعاء، 7 ديسمبر 2016

حروب كراسة الرسم


                                                                                           مفتاح العمّاري

رسوم : آسر مفتاح ( فترة حرب التحرير)


      انسحبت الفراشاتُ ، واختفت الحديقةُ من كراسة الرسم ، ولم يبق أي أثر لعصفور فوق غصن . فقدت الحقولً بهجة شمسها ، وشجيراتها النضرة ، بعد رحيل الحيوانات الصديقة والأليفة . أجل ، خلت الأوراقُ تماماً من الأرنوب المجتهد ، والدبدوب المرح ، والحمار الطيب ، والببغاء الفنان . غادروا جميعهم حلبة الرسم ، وتخلوا عن تلك الرفقة البهية في اللعب . خسروا مشيئة الألوان الآمنة  وتضافرها ، لكي تشكل عالماً رحيما ، متسامحا وجميلا وحالما ، من قوس قزح وهو يسبح في سماء الورقة بنعومة ندية ، وشمس ربيع  حنونٌ لاشكّ ، وأزهارٌ استعارت ألوانها  من جمال نقيّ وصادق .  فجأة انسحب البهاء منكسرا وخائبا ، ليترك الفضاء للبشاعة وحدها ، للطائرات المقاتلة  والصواريخ ، للدبابات وعربات الميم طاء ، للخراب ودخان الحرائق . لحملة الكلاشنكوف وهم يجوبون الشوارع بمشية استعراضية شاهرين أسلحتهم التي تطلق النيران . حيث لاشيء يصمد ، سوى الخراب وحده .  كل شيء تغير فجأة ، هكذا هم أطفال الحروب .
       فقط هذه مجرد جزئية صغيرة . صورة منتزعة من سيرة براءة الألوان ، تحاول من جهتها تقديم ولو لقطة عابرة من مشهد الحرب الليبية الدائرة منذ خمس سنوات .. حين بدأت الحربُ تقترب أكثر فأكثر ، من البيوت والشوارع والمدارس والحدائق .. ولاسيما في أثناء القصف الجوي الذي قامت به طائرات وبوارج الناتو على المدن  والبلدات . 

     العاصمة طرابلس بصورة خاصة  كان لها نصيبها الوافر من القصف الجوي والبحري ، عندما تدفقت الصواريخ والقنابل لتدك أهدافا عسكرية وأمنية داخل الأحياء السكنية . فضلا عن اشتباكات ومعارك طاحنة دارت بالأسلحة الثقيلة في  شوارع المدينة وأحيائها المكتظة بالسكّان .
     في الآن نفسه انتقلت الحرب إلى وسائط الإعلام ، والتي لم تكن بمعزل عن حواس الطفل ومشاعره ، ولاسيما برامج التلفاز الإخبارية والتي تتناول بالخبر والصورة  ويلات ومجازر الحرب الليبية  ، بكل بشاعتها الوحشية ، من قطع رؤوس إلى بتر أطراف إلى مشاهد دامية تقشعر لها الأبدان .
     السؤال المحير : ماذا فعلت الدولة الليبية بكل هياكلها وهيئاتها ومؤسساتها ذات الشأن ، من وزارات تعليم وصحة وشؤون اجتماعية ، وثقافة وإعلام ، وأوقاف . وبأي سياسات ومخططات وبرامج تصدّت لمعالجة مشكلة ضحايا الحرب ، من هذه الفئة العمرية القاصرة عن استيعاب ما يحدث حولها من خراب مفتوح ، وفوضى جامحة خلخلت كل شيء في الحياة . للأسف ظلت الدولة  بكافة هياكلها ومؤسساتها ، بحكم تصاعد وتيرة الاقتتال ، فضلا عن الصراعات السياسية ، عاجزة تماما عن فعل أي شيء مجد وحقيقي ، وبالمثل تكاد مؤسسات المجتمع المدني هي الأخرى مرتبكة وهشة ، وقاصرة عن تفعيل دورها - ولو نسبيا -  لإنقاذ ما يمكن إنقاذه .

      قبل قليل، قال صديقي الطرابلسيّ : كان طفلنا الذي لم يجتز الخامسة من عمره ، كان سليما وفرحا وناعما ، وهو يبتكر كائنات أكثر مرحا لرسومه وألعابه ، ويملأ أركان البيت حيوية ونشاطا . لكن ما أن بدأت آلة الحرب تقترب من بيتنا حتى تغيّر كل شيء ، تغيّر إلى ما هو أمرّ  وأسوأ .  بدءاً من الأيام الأولى لانتفاضة فبراير كنّا نسمع أصداء الرصاص والقذائف . أي منذ أن احتشد جمع من الحقوقيين أمام مبني المحكمة ، بشارع السّيّدي ، والذين تمّ تفريقهم من طرف فرق الأمن بواسطة النيران وقنابل الدخان . بعض المتظاهرين لاذوا بمدخل العمارة نفسها التي نقطنها . لكن مشكلتنا تفاقمت تحديدا في اللحظة التي قصفت خلالها طائرات حلف الناتو وبوارجه الراسية في حوض المتوسط  مبنى الاستخبارات العسكرية ، والذي لا يبعد عن بيتنا سوى بضع مئات من الأمتار . انفتحت النوافذ بتأثير هزة قوية وانفجار مروع ، واقتحمت سحبٌ كثيفة من الغبار والدخان مشبعة برائحة بارود وكلس . هرعتُ مسرعا نحو طفلي والذي لم يبلغ الخامسة من عمره بعد . كان يصرخ وينتفض . وحين حملته ، ظل منكمشا على نفسه بصلابة . وقد اتخذ وضع الجنين في الرحم . مرت تلك الليلة بصخبها ورعبها . لكن لم يمر الأمر على طفلنا بسلام .
     ظل الصغير ولسنتين متتاليتين لا ينام الليل . بل يجلس في سريره متربصا ضوء الصباح .، ولا يخلد للنوم حتى يطمئن تماما لشروق الشمس . حيث تغير سلوكه على نحو مخيف ، وصار يخشى أي صوت ارتطام مباغت وعنيف ، بما في ذلك صوت طرق الباب أو إقفاله بقوة . وتدريجيا لاحظنا بأنه قد أضحى عدوانيا ، وعصبيا ، وأن ألعابه بدأت تتغير هي الأخرى ، لتتخذ أشكالا غريبة ، أكثر ميلا واستهواءً للعنف ، وبالمثل انسحب الأمر على العاب الفيديو ( البلايستيشن ) . كذلك صار يتشبث بمشاهدة أفلام الرعب  ، ويتحايل أثناء سهونا على استخدام ريموت التلفاز،  لعله يعثر على ما يلبّي حاجته لمشاهد الصور الأكثر ترويعا . بالمثل تغيرت كراسة رسمه ، لتخضع لمحاكاة صور القتال ، وقد امتلأت صفحاتها بهيئة طائرات تطلق القذائف ، وأشكال تشيرُ إلى مسلحين ودبابات ، ونيران تتصاعد ألسنتها من حطام بنايات  مدمّرة . لهذا أوليناه  المزيد من العناية والاهتمام ، مع الإصغاء لشكاته ، وحكاياته أيا كانت . ناهيك عن برامج للترويح من خلال النزهات وغيرها، مع إضافة قدر من الموسيقى في البيت ، وتوفير مطبوعات تتماشى مع سنّه : مجلات وقصص ، وتحفيزه على القراءة عبر مكافأته نظير كل قصة يقرأها ، أو يعيد كتابتها . وفي نفس الوقت كنا نتحايل على تبديل مقتنيات اللعب إلى ما هو أقلّ أذى وأكثر انسجاما وتحفيزا لخيال مسالم . إضافة إلى تغيير طلاء غرفة نومه ، وتجديد أثاثها ، وتزيين جدرانها بلوحات تحيل إلى حديقة أو حيوان أليف .
     صحيح لم تكن المسألة هينة . لكنها أخيرا مرت بسلام نسبي . إذْ خفّت قليلاً ردودُ فعله العدوانية مع مرور الوقت ، غير أن تلك النوبات من التوتر والانفعال  مازالت تنتابه  ، وان على فترات متباعدة وبشكل أقل حدة وعنفا عن ذي قبل .
    
     لكن الآن ، وبعد مضي خمس سنوات تقريبا ، شكلت ملامحها الدميمة  معاركٌ واشتباكات مسلحة ، ما تلبث حتى تعلن عن نفسها بضراوة  . يظل السؤال الأكثر حيرة وقلقا : هل ما زال  في الإمكان ، بالنسبة  لأطفال ليبيا  وغيرهم من أطفال البلدان العربية المنكوبة  بويلات الحروب  وجرائمها، أن يستعيدوا تلك البراءة التي تليق بجمال كراسة الرسم ، لكي تسترد مخلوقاتها الجميلة التي شوهتها الحرب .

¨  

الأحد، 27 نوفمبر 2016

شعراءُ الجمر والفوضى


مفتاح العمَّاري



    إزاء هذا التوغل المخيف للقبح ، هل يمكن للجمال أن يصمد ؟. 
ليست ليبيا بلدا عربيا استثناء ،  طالما عليها أن تخوض بين فترة وأخرى حربا مع عدوها أو مع نفسها ، وان كانت في كلا الحربين تحتفظ بخصوصيتها . فخلال حقبة الاحتلال الايطالي خاضت حربا استمرت عشرين سنة ، أوجزها الشعراءُ في قصائد شكلت وثيقة مهمة في تاريخ النضال الليبي . ولعل القصيدة الملحمة " ما بي مرض " للشاعر رجب أبو حويش، تُعد الأبرز في هذا المتن . والتي ولدت داخل أسوار معتقل العقيلة ، كأحد المعتقلات الجماعية التي تفننت الآلةُ العسكريةُ للاستعمار الفاشستي في تصميمها ، لعزل الأهالي عن فرق المجاهدين ، منعا لأي دعم لوجستي ، حتى ولو كان بائسا ومحدودا .

      ثمة محاولات عديدة تضمنتها  - فيما بعد - مدونةُ الشعر الليبي ، بفرعيه ( الشعبي والفصيح ) ، لمحاكاة ملحمة الشاعر : رجب أبوحويش ، غير أنها تظل في الغالب جد خجولة ، مقارنة بإعجاز الأصل . وعلى الرغم من أن الشعر الشعبي كان أكثر تداولا وحضورا في ذاكرة الناس  ، لكن قصيدة الفصحى بكل أشكالها ما تزال هي الأخرى تسعى وبطموح كبير ، لأن يكون لها بصمتها الخاصة في معركة الحياة  .

    في سنة 1981 عُقد في العاصمة طرابلس مهرجان للشعر العربي ، تحت مسمّى ( الشعر المقاتل ) . هذا العنوان الشِّعَار ، انطوى على مفارقة ، حاولت أن تتحايل - كما يبدو- لأن تكون مجازا ، حتى تنسجم مع صخب إعلام العقيد القذافي ، المهووس صوتيا بظاهرة صناعة الشعارات .  غير أن المفارقة الأشد غرابة ، أن أجهزة النظام وفرق لجانه الثورية ، كانت قبل سنتين تحديدا من إقامة هكذا تظاهرة ثقافية ، قد زجّت بمعظم الكتاب الشباب في السجن ، بينهم شعراء تائقون ، صدرت ضدهم أحكام قضائية  بين المؤبد والإعدام .

     في مهرجان الشعر المقاتل ، شارك شعراء عرب كبار ، مثل : ممدوح عدوان ،  مظفر النواب ، ونزيه أبوعفش ، وشعراء شباب من بلدان عربية ، بعضهم يغادر وطنه الأمّ للمرة الأولى . قبل موعد الافتتاح الرسمي ، كانت قد تسربت قائمة الشعراء الليبيين المسجونين داخل أروقة المهرجان ، فتحمّس رهط من  الشعراء الضيوف ، على رأسهم الشاعر الجزائري الشاب ، عمر ازراج ، لتجميع توقيعات المشاركين ، كبادرة تلتمس العفو عن زملائهم المسجونين .
   لا شك أن هذه الحماسة التضامنية في حينها كانت أكثر من جريئة ، وهي بقدر ما أربكت برنامج المهرجان ، سببت حرجا واستفزازا للنظام ، عبرت عنه حالة استنفار طائشة  لأجهزته الأمنية ، ولجانه الثورية ، وقد انقلب السحر على الساحر .

      ما حدث بعد ذلك جراء هذه الفضيحة ، أن نظام القذافي  لم يعد يقامر مرة أخرى  على إقامة هكذا تظاهرات شعرية ،  وبدا أكثر ارتيابا وتوجساً وهو  يضاعف من تضييق الخناق على حركة الشعر ، وتقليص فاعليتها إلى أقصى حدّ . حيث شهدت السنوات العشر التالية فقرا مُدقِعا في صناعة ونشر الكتاب الأدبي ولاسيما الشعري ، بعد أن خضعت المطبوعات لرقابة صارمة إلى حد الوسوسة في تأويل النصوص أمنيا . وحتى تلك الأمسيات الدعائية ، والتي كانت تقام تحت مظلة الاحتفال بذكرى أعياد الفاتح من سبتمبر ، كانت تقتصر - إلا فيما ندر - على صنف من الشعراء المَدَّاحين ، يتألف جمهورها في الغالب من سدنة النظام  والمخبرين وأعضاء اللجان الثورية . ويوما عن يوم  ، نتج عن هذا الإفراط المتزايد في ضراوة القمع ، تهميش وإقصاء ، لمعظم  ما هو أصيل وحقيقي ، ولم يبق في المشهد البائس غير بعض المهرجين الذين كانوا يرتزقون عبر تحويل الشعر إلى منابر للتزلّف  . وهكذا اتسعت الفجوة بين الشعر ومحبّيه .    

    استعدتُ هذه الوقائع  وغيرها ، في اللحظة نفسها التي كنتُ أتهيأ خلالها لكتابة مقال عن دور الشعر وفاعليته ، وكيف يقرأ الشعراء الليبيون ، من موقعهم كمبدعين ، الأزمة الحالية التي تمرّ بها البلاد  . وفي الوقت نفسه كنت أتهيب استخدام عبارات على شاكلة : الشعر في مواجهة الحرب والفوضى ، خشية أن أتواطأ مع حماسة الكتابة كفرقعة إعلامية ، وان أجافي  من ثم الحقيقة الصادمة كما تلخصها شراسة اللحظة الراهنة .

     صحيح ثمة  شعراء في ليبيا قد ثابروا ، ومازالوا يثابرون من موقعهم  كمبدعين على معالجة موضوعة الحرب وما تمخض عنها من فوضى . وكتبوا نصوصا تتمتع  بقدر كبير من الجدة والجرأة والتنوع ، بتوقيعات شابة ، استأنست بمواقع الانترنت بعد أن توقفت الصحف ، وضاق فضاءُ المحافل .  لكن قد تُعدّ المسألة أكثر تعقيدا حين تحضر القصيدةُ في غياب المتلقي .  ليغدو الشاعر كمن يحرث في الماء  طالما هو يقف بمفرده وحيداً في المشهد .



     لا شك أن هذه الصورة ستكون للوهلة مدعاة للسخرية ، لتبدو كما لو أنها لقطة  منتزعة من رواية ( دون كيخوته ) . لأننا عندما نرصد المشهد من الزاوية ذاتها التي يقف فيها الشاعر ، أي من وجهة نظر المنبر الوهمي ، حيث تتمترس القصيدة لتطلق نيران مخيلتها ، سيكون الكادر مخيبا وعبثيا في آن ، إزاء الجمود الموحش لصمت مهول يملأ القاعة ، هو فقط محض مقاعد خالية . غير أن هذا العبث الشعري - لو فكرنا قليلا – لا يلبث  حتى  يتحول إلى جمال عظيم، مقارنة بما يحدث في اللحظة نفسها خارج القاعة من خراب فادح ، يحصد الأرواح ويدمر العمران ، ويقتلع مدنا بأسرها ، ليهجر أهلها شتاتا داخل ليبيا وخارجها . حينها فقط سندرك تماما أن الشاعر هنا ، يعتبر كالقابض على الجمر ، عندما يقترحُ للجمال هذا المأوى .
___
سبق نشر المقال في موقع ( مراسلون ) 22اكتوبر 2016
  http://www.correspondents.org/ar/node/8298?utm_content=bufferf37e4&utm_medium=social&utm_source=twitter.com&utm_campaign=buffer

قهوة


مفتاح العمّاري 





حيث لا أحدا في البيت .
أسكب قليلا من القهوة
على النار ..
رائحتها المحروقة
 تجعل الجدران أقل وحشة .

بقليل من الموسيقى

مفتاح العمّاري



بيت بلا شرفات 
بلا حديقة 
بلا ذكريات سيئة ،
بلا ساعات حتى .
يزهو بقليل من الموسيقى
 وامرأة تمشط حلمها 
و هذه القهوة .
صباح الخير .

الثلاثاء، 15 نوفمبر 2016

شتاء

مفتاح العمّاري






__________   شتاء

 عندما تمطر 
لا يهتم بفعل شيء آخر ،
 يسحب كرسيا ويجلس عند النافذة .
فقط لكي يتذكر تلك الأمطار البعيدة
 التي هجرته .
إمطار تهطل من سموات الكتب ،
من الوسائد
والموسيقى 
    وقد وهبت حواسها للريح
وهي تسافر في عربات الدرجة الثالثة ،
في قطارات مبلولة ،
في أكواخ وخنادق وعنابر نوم .

 كان يفضل المزيد من الغيوم ،
يحب السماء خاشعة ومحتشمة ومظللة ،
 وبيتا كريما للطيور .

 ليس جنديا هذا الشاعر .    

 انه أنا ، الذي يكتب الآن
 هذه القصيدة . 

أصدقاء دار الفقيه حسن

                                                                                           مفتاح العمّاري




    في الوقت الذي تتعرض فيه ليبيا لغزوات التوحش وتداعيات الفوضى ، يظل السؤال ملحا عن دور الثقافة ، والأدب تحديدا ، في مواجهة هذا الخراب . سؤال افتراضي ، يطمح لإقحام الثقافة ، والإبداع الأدبي والفني بصورة خاصة  كشريك في المعركة ، ورافد أكثر إستراتيجية  وجدوى لكي ننتصر لصالح الإنسان فينا .

     بالطبع قد تعترض السؤال عديد المثبطات ، أقلها سيضمر شيئا من الريبة ، بل والاستهجان الذي يذهب إلى حد السخرية والتهكّم  ، سيما وأن انشغال السكّان سيكون في الغالب منحصرا في البحث عن الأمن ، والركض خلف متطلبات العيش ، كأولويات أساسية ، لتغدو مطاردة رغيف الخبز أكثر ضرورة ، من الإصغاء لمقطوعة موسيقية أو قصيدة شعر . وأن ما من وقت  يمكن استقطاعه إكراما لرؤى الفن .

     إزاء هكذا جماهير فقدت ثقتها بقادتها ونخبها ومثقفيها وبنفسها أيضا ، سوف يتعذر الرهان ، ما ذا كان في وسعها الترحيب بمن سيروي لها قصصا ، أو يحدثها عن فنون العمارة ، طالما كل شيء من حولها يتهدم ليغدو خرابا ، وأن أكثر من وحش متربّص ،  قد ينقض في أي لحظة على ما تبقى من أحلام بائسة . فداخل هذا التيه المركّب من اللهاث المعيشي ليس من المستغرب أن يظلَّ قلق المواطن مستنفرا  تبعا لأعراض الأزمة بكل تقلباتها ، من انقطاع التيار الكهربائي إلى شحّ المياه ، مرورا باستشراء ظاهرة الجريمة بشتى أصنافها .

     في هكذا حياة صارت تُعذّب دونما هوادة ، وعلى الرغم كل السلبيات التي تحاول ازدراء الجمال ، لم يغفل مثقفو الحواضر ، أن الوطن في جوهره إنسان يحلم ، فكان لابد لهم من المساهمة في تفعيل ضرورة الثقافة لمقاومة بشاعة الواقع .

     مع مطلع شهر مارس 2015  كانت العاصمة طرابلس على موعد استثنائي  لانتشال وجدانها من أتُون الجحيم ، لحظة أن تضامن مجموعة من الكتاب أطلقوا على أنفسهم ( أصدقاء دار الفقيه حسن ) ، ليقترحوا على مدينتهم من ثم ، كسر فداحة الخوف ، كصنف من المقاومة الناعمة لضراوة الاختزال المخيف الذي تفرضه وحشية الفوضى ، حتى لا يظل الإبداع في طرابلس محض هامش فائض عن الحاجة ، وبهاء محقّر ، وأيضا خشية أن لا يبقى أيما أثر  للموسيقى داخل إيقاع القذائف ، وضجيج الموت . لهذا انقض أصدقاء الفقيه حسن على الحياة بقوة ، قبل أن تفلت .

    ثمة حمولة من الذكريات التاريخية الأثيرة تنطوي عليها عتاقة جدران هذه  الدار ، ووقائع لا تمحى من سجلات طرابلس القديمة . فهي تقع بحي باب البحر ، كأشهر الأحياء التاريخية في المدينة القديمة ،  وتحديدا بزنقة الفرنسيس ، التي تتميز بأقواسها ، وجماليات عمارتها العتيقة ذات الطراز العثماني ، فضلا عن شرفاتها وزخرفة أبوابها ونوافذها .  كان المبني في الأصل - شيد سنة 1630م - مقرا للقنصلية الفرنسية ، حتى سنة 1939 م .. بعد ذلك سكنه مجموعة من البحارة قبل أن يؤول إلى مشروع إدارة تنظيم المدينة خلال عشرية الثمانينيات من القرن الماضي ، ليندرج فيما بعد ضمن خطة الفضاء الثقافي .

      صحيح  في البداية استهجن بعض اليائسين من إقامة هكذا نشاط فيما العاصمة تضج بجرائم الاغتيالات والخطف والنهب ، وسكانها قلقون على أرواحهم ، وخائفون على بناتهم وأطفالهم ، وقد أنهكهم الوقوف لساعات طوال بين طوابير الخبز والمحروقات والمصارف . لكن وبمجرد انتظام تلك الجلسات الأدبية ، التي بادر بها الأصدقاء كنشاط ثقافي تضافر في تأثيثه حماس مخلوط بحلم الحياة والانتصار لها ، حتى أخذ يتضاعف عدد المرتادين من عشاق الأدب والمهتمين بقضايا الثقافة ، لتتحول لقاءات الإبداع إلى تقليد منتظم مع أول يوم ثلاثاء من كل شهر .. عبر أمسيات تحتفي بالثقافة والإبداع ، من حلقات نقاش وأمسيات شعرية ومعارض للرسم ، وندوات حول قضايا الكتابة الأدبية ، وأخرى تشمل شهادات لتجارب مبدعين من أدباء وفنانين ، فضلا عن محاضرات في الفكر والتاريخ والعمارة ، وغيرها من المحاور التي ينشغل بها المعنيون بحقول المعرفة الإنسانية .

    هذا ما طمح الأصدقاء لتفعيله وسط فوضى الاقتتال ، وقفل الشوارع ، وانتشار جرائم القتل والسرقة والخطف ، وانقطاع التيار الكهربائي ، والمياه ، وشح الخبز ، ونقص الوقود والسيولة ،والغلاء الفاحش ، وتردي الأخلاق العامة ، وأخبار قوارب الموت . لأنه في خضم هذا التغول ، يكفي في الحد الأدنى ، أنهم يضخون في وجدان مدينتهم العريقة ، تلك الطاقة التي يمكن استخلاصها من قصيدة كتبت نفسها في الظلام ، أو قطعة موسيقى حالمة تفتح نوافذ في جدران الروح ، أو لوحة تشكيلية تشير إلى أُمّ فقدت ابتسامتها لطول ما انتظرت عودة ابنها من جبهات القتال .


    تتألف  ثلة  تأسيس ( أصدقاء دار الفقيه حسن ) ، من أربعة كتاب كرسوا حياتهم لخدمة الثقافة والإنتاج الأدبي ، يعدون من بين المؤثرين في مشهد الإبداع والصحافة في ليبيا : عمر الككلي ، أسما الأسطى ، حسين المزداوي  و إبراهيم حميدان . لينضم إليهم لاحقا، كل من القصاص : مفتاح قناو ، والصحفية ، أحلام الكميشي . مثقفون مستقلون لا يحركهم سوى إخلاصهم لليبيا وشغفهم بحياة الإبداع ، وجادون ثابروا باستماتة من أجل رفد مشروعهم ، حيث يكفي  في خضم هذه الفوضى الضارية ، وكحد أدنى ، القليل من الأكسجين لرئة الجمال ، القليل من التضافر لإنقاذ وطن .
____  
سبق نشره بموقع مراسلون 
:http://www.correspondents.org/ar/node/8238?utm_content=bufferab953&utm_medium=social&utm_source=twitter.com&utm_campaign=buffer

السبت، 5 نوفمبر 2016

لم نتعارف كما ينبغي

مفتاح العمّاري 







1
ما ذنبي إذا أهملتني الصدف ،
ولم أعرف سجن ( بورتا بينيتو ) ، 
إلا كحديقة  يتوسطها مقهى
ما ذنبي إذا طلبت ارقيلا ،
وكتبت هذه القصيدة .
فقط أتساءل .


2
كبر في الحانة .
يدّعي صحبة أنجلز
يلتهم النساء ، 
       والكتب قبل أن تبرد .
ومع ذلك يتقيأ ترهات ، 
لا علاقة لها بأصل العائلة .


3

لا يقرأ .
فقط يكدّس الكتب
         في غرفة مظلمة
يتركها ردحا حتى تتعفّن .
يقول : 
   كل كلمة تصمد  ،
صدى طائر .


4
لا دخان ،
لا ضحك ،
لا شيء .
ومع ذلك جارتنا تَطبُخ .


5
لم نتعارف كما ينبغي
لم نعش كأصدقاء ،
ولم نصغ لزوربا .
شيٌ كهذا
يحدث في طرابلس .


6
روايتي التي أواصل كتابتها
منذ خمس سنوات ،
تخضع لانقطاع الكهرباء ،
وقصف المليشيات .
لهذا تعذّر عليّ
إحصاء القتلى
وكنس النفايات .


7
في انتظار أن أموت بالسرطان
سأعيش تسعين سنة أو أكثر .
لماذا ،
    تسعين سنة أو أكثر ؟
لأنّ كل قبلة
ليست هي نفسها
التي تنتظر .


8
لأنني جرّبت الحرب والمعتقلات ،
وعرفت الصحراء على حقيقتها ،
أفضِّل أن تُطبخ الحياة على نارٍ هادئة .
الحبّ خصوصاً ..
ينبغي أن يكون ناضجا .


9
حتى وهو يلوذ بصمته
لمْ يعد الكلامُ آمناً  .

¨          
___ 
عمّان . نوفمبر 2016

الخميس، 3 نوفمبر 2016

كلمات تنتظر أن تكون شيئا


مفتاح العمّاري 

لوحة القمر للشاعر الفرنسي :جاك بريفير


كلمات تنتظر .................... أن تكون شيئا
       

  
     عندما تتعلّم حكمة الصمت ، ستبتهج كثيرا بما تبقى  من لغتك ، ستبتهج بالقدر الذي يجعلك تفكر من جديد في خوض معركة أخرى أكثر ضراوة ، وقد احتفظت بشيء من كرامة الخيال .  

**
عندما تتآلف مع العزلة ،
 سيكون حضورك مهما قصر
كفيلا بتحريك عضلة الوقت.
 صحيح ستخسر ظلال الآخرين ،
 لكنك أخيرا ستكسب ظلك .

**
عندما لا يكون ثمة ما يعوّل عليه ،
ستعوِّل حتما على ما يُنتظر ،
إنصافاً للانتظار وحده .
كأن تمشي طويلا .
ليس من أجل شيء ،
بل إكراما للمشي وحده  .
**
عندما تعتاد الصمت
 سيليق بأي موسيقى مهما نأت ترانيمها
 أن تعتلي ظهر الريح وتسافر إليك .

**
عندما يغدو التذكّر كآفة التدخين ضارا بالرئة ،
 أمض في بحثك ولا تلتفت لثرثرة الموتى . 

**
ما أبهى أن يكون التسكع في طرابلس عبر الفم الذي من نار تأكل محيطها مشفوعة بجموح النظر ، حيث لا شيء يبقى إلاّ هي ، صانعة الرماد .

**
تلاشت العناصر جميعها  .
ما من شيء في مرمى الكلمات .

**
 في سرّة طرابلس التي أحنُّ إليها،  
    ما يبدو نملاً طائشاً 
ليس سوى قشّ تذروه الريحُ
 بعد حصاد اللغات  .

**
أحيانا تقتضي الضرورةُ البحث عن كلمة  لَمْ تُنتهك ،  والنظر من تلك الزاوية المهملة .. وربما اللجوء إلى ضربات الصدفة التي توائم بين قوسين متخاصمين .. مع التربّص بهدوء رصين ، وحنكة إضافية لما تأتي به الأقدارُ من ما ورائيات لمّاحة ،  للقبض على روحِ الشيء .

**
 ثمت هنا عديدُ النزوات التي تدّعي مزاولة الكتابة ، غير أن شحّ خيالها وقحل مشتلها يجعلُ منها أكثر عدوانية وهي تسعى حثيثا إلى تبخيس المتفوّق  والمغاير والذكي  .

**
 عندما تمسي الهشاشةُ فنّاً إبداعياً له عباقرته وجهابذته وصنّاعه المهرة ،
لا يسعك حينها إلا أن تكتفي بدور المتفرج
 الذي لا حيلة له .

**
    انقضت قرابة سبعة أشهر لم أكتب خلالها قصيدة واحدة ، وهو زمن مؤلم حين تستنفذ طاقة الخيال لون الخصوبة ، وإيقاع التدفق  وموسيقى الفيض .. لحظة أن يتعطّل الوجدانُ عن التشابك مع نسيج عالمه .

**
 اشتقتُ لتلك اللحظة الموسومة بهسيسها وحفيفها ووشوشتها وأنفاسها . مضى وقت طويل لم تعاودني فيه القصيدة .  غادرتني النشوة التي كنت أشعر فيها بحياة ما ، تريد أن تخرج من عدم  ولغة تواقة .
 لم تعد تُطاردني كما كانت تفعل .
أنا حزين .

**
تلك اللهفة غادرتني /
غدوتُ منبوذاً يا قصيدة مفاتيحها لدى الموتى ،
 أين عطر خيالك .  

**

 لماذا يضجّ المكان بكائنات ثرثارة /
الشرفة غشيمة ،
 والظلالُ لا تُرَى إلا صخبا يتخبّط .

**
كلمة ، كلمة
أكرّس النثر لتنظيف شوارعك من الضوضاء ،
وغسل خيالك من دخان العروض .
ولا شيء يمنعني من حفر اللغات . 

**
     العارفُ بأحوالِ الخفاءِ يتهمُ اللغةَ لأنّها تفضحه .
لهذا ظلّ كل شيءٍ يشيرُ إلى نصفه الغائب : يطاردُ ما يعتقدهُ جنةً  تهرب . المطر يغادر علوّه بمرح لا يُضاهى .
الثعلبُ يفكّرُ في حيلة أخرى يخدع بها خيالَ الأطفال الذين كبروا ..  
الشيخ ينظرُ إلى أسفل لأن الأرض تستدرجه إلى جوفها .
ربما لأن الموت بذرة الحركة .
ربما لأن هناك حكاية أخرى تصعد إلى السماء ....
خيولُُ تفرد أجنحتها .. يقودها شاعرٌ ينزف ..
حيث لا أحد يأبه بالأحلام التي تُذبح .
حتى الصيادون  الذين لا حول لهم سوى هشّ الذباب عن جثث الدلالات الغبية ،  قالوا : السماء مجرد لون يتمدّد .. ولتذويب قطعة ملح كبيرة بحجم الألم يستغرق الأمر ثلاثة محيطات من التيه .
 فقط لأن الماء يبحث عن حرف ضائع  للإقامة الزرقاء .
فيما أنتِ أيّتها المرأة النائمة، نصفُك الوحيد يتشبّت بضرورة الليل لكي يحلم  بجندي أخير ، يشعلُ الحرائق في معاجم الجسد . يديرُ حرباً لا هوادةَ فيها ضدَّ خمسة قرونٍ من الرقاد .
فأي صمت هذا الذي يتقلّب خلف الأبواب ، لمجرد أن بضعةَ مفاتيح صغيرة تدحرجتْ من قصائد النثرِ للإطاحةِ بإقفالِ العروض الصماء .

**
 يا محضَ نومٍ يمشى . . ونافذة تُطلّ على حكايات خائفة
يا كوب شاي في شرفة تحلّق
يا عين قصيدة حارة تنقلّب من عاشقة إلى أخرى ...
يا ثدى بلاد تنسى أبناءها
مَن يغش حليبنا ويهمُس خلف الأذن برنيم كاذب .
فما  نراه من نجوم هي كلمات تحترق
لكي تُقرأ ، عليها أن تضيء .
وما نراه من غيومٍ .  خفة ماءِ
لذا يلزمنا أن نطيرَ لكي تنأى البيوت قليلاً
أن  نأخذَ الكتبَ المبلّلة ونترك الحروفَ تتلاشى
كسديمٍ  يتخدر.
لأّننا يا حبّي لا نملك ما يتخيله شاعرٌ يمشى سعيداً إلى حتفه ..
وهو يهتف :
ثمة موسيقى تتفتحّ في  حقول الله ..
ثمة حبرٌ سعيدٌ يتضافر ،
يغدو قمراً نظيفا من الشبهات
ثمة  لونٌ آخر من النساء في هذه القصيدة ..
ثمة شيء خلف إذني يتآمر ضدي
و في خزانة الريح ...
ملايين الكلمات التي تنتظر .
¨    

______ 
نثر الغائب

طرابلس ، صيف 2004