وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الخميس، 3 نوفمبر 2016

كلمات تنتظر أن تكون شيئا


مفتاح العمّاري 

لوحة القمر للشاعر الفرنسي :جاك بريفير


كلمات تنتظر .................... أن تكون شيئا
       

  
     عندما تتعلّم حكمة الصمت ، ستبتهج كثيرا بما تبقى  من لغتك ، ستبتهج بالقدر الذي يجعلك تفكر من جديد في خوض معركة أخرى أكثر ضراوة ، وقد احتفظت بشيء من كرامة الخيال .  

**
عندما تتآلف مع العزلة ،
 سيكون حضورك مهما قصر
كفيلا بتحريك عضلة الوقت.
 صحيح ستخسر ظلال الآخرين ،
 لكنك أخيرا ستكسب ظلك .

**
عندما لا يكون ثمة ما يعوّل عليه ،
ستعوِّل حتما على ما يُنتظر ،
إنصافاً للانتظار وحده .
كأن تمشي طويلا .
ليس من أجل شيء ،
بل إكراما للمشي وحده  .
**
عندما تعتاد الصمت
 سيليق بأي موسيقى مهما نأت ترانيمها
 أن تعتلي ظهر الريح وتسافر إليك .

**
عندما يغدو التذكّر كآفة التدخين ضارا بالرئة ،
 أمض في بحثك ولا تلتفت لثرثرة الموتى . 

**
ما أبهى أن يكون التسكع في طرابلس عبر الفم الذي من نار تأكل محيطها مشفوعة بجموح النظر ، حيث لا شيء يبقى إلاّ هي ، صانعة الرماد .

**
تلاشت العناصر جميعها  .
ما من شيء في مرمى الكلمات .

**
 في سرّة طرابلس التي أحنُّ إليها،  
    ما يبدو نملاً طائشاً 
ليس سوى قشّ تذروه الريحُ
 بعد حصاد اللغات  .

**
أحيانا تقتضي الضرورةُ البحث عن كلمة  لَمْ تُنتهك ،  والنظر من تلك الزاوية المهملة .. وربما اللجوء إلى ضربات الصدفة التي توائم بين قوسين متخاصمين .. مع التربّص بهدوء رصين ، وحنكة إضافية لما تأتي به الأقدارُ من ما ورائيات لمّاحة ،  للقبض على روحِ الشيء .

**
 ثمت هنا عديدُ النزوات التي تدّعي مزاولة الكتابة ، غير أن شحّ خيالها وقحل مشتلها يجعلُ منها أكثر عدوانية وهي تسعى حثيثا إلى تبخيس المتفوّق  والمغاير والذكي  .

**
 عندما تمسي الهشاشةُ فنّاً إبداعياً له عباقرته وجهابذته وصنّاعه المهرة ،
لا يسعك حينها إلا أن تكتفي بدور المتفرج
 الذي لا حيلة له .

**
    انقضت قرابة سبعة أشهر لم أكتب خلالها قصيدة واحدة ، وهو زمن مؤلم حين تستنفذ طاقة الخيال لون الخصوبة ، وإيقاع التدفق  وموسيقى الفيض .. لحظة أن يتعطّل الوجدانُ عن التشابك مع نسيج عالمه .

**
 اشتقتُ لتلك اللحظة الموسومة بهسيسها وحفيفها ووشوشتها وأنفاسها . مضى وقت طويل لم تعاودني فيه القصيدة .  غادرتني النشوة التي كنت أشعر فيها بحياة ما ، تريد أن تخرج من عدم  ولغة تواقة .
 لم تعد تُطاردني كما كانت تفعل .
أنا حزين .

**
تلك اللهفة غادرتني /
غدوتُ منبوذاً يا قصيدة مفاتيحها لدى الموتى ،
 أين عطر خيالك .  

**

 لماذا يضجّ المكان بكائنات ثرثارة /
الشرفة غشيمة ،
 والظلالُ لا تُرَى إلا صخبا يتخبّط .

**
كلمة ، كلمة
أكرّس النثر لتنظيف شوارعك من الضوضاء ،
وغسل خيالك من دخان العروض .
ولا شيء يمنعني من حفر اللغات . 

**
     العارفُ بأحوالِ الخفاءِ يتهمُ اللغةَ لأنّها تفضحه .
لهذا ظلّ كل شيءٍ يشيرُ إلى نصفه الغائب : يطاردُ ما يعتقدهُ جنةً  تهرب . المطر يغادر علوّه بمرح لا يُضاهى .
الثعلبُ يفكّرُ في حيلة أخرى يخدع بها خيالَ الأطفال الذين كبروا ..  
الشيخ ينظرُ إلى أسفل لأن الأرض تستدرجه إلى جوفها .
ربما لأن الموت بذرة الحركة .
ربما لأن هناك حكاية أخرى تصعد إلى السماء ....
خيولُُ تفرد أجنحتها .. يقودها شاعرٌ ينزف ..
حيث لا أحد يأبه بالأحلام التي تُذبح .
حتى الصيادون  الذين لا حول لهم سوى هشّ الذباب عن جثث الدلالات الغبية ،  قالوا : السماء مجرد لون يتمدّد .. ولتذويب قطعة ملح كبيرة بحجم الألم يستغرق الأمر ثلاثة محيطات من التيه .
 فقط لأن الماء يبحث عن حرف ضائع  للإقامة الزرقاء .
فيما أنتِ أيّتها المرأة النائمة، نصفُك الوحيد يتشبّت بضرورة الليل لكي يحلم  بجندي أخير ، يشعلُ الحرائق في معاجم الجسد . يديرُ حرباً لا هوادةَ فيها ضدَّ خمسة قرونٍ من الرقاد .
فأي صمت هذا الذي يتقلّب خلف الأبواب ، لمجرد أن بضعةَ مفاتيح صغيرة تدحرجتْ من قصائد النثرِ للإطاحةِ بإقفالِ العروض الصماء .

**
 يا محضَ نومٍ يمشى . . ونافذة تُطلّ على حكايات خائفة
يا كوب شاي في شرفة تحلّق
يا عين قصيدة حارة تنقلّب من عاشقة إلى أخرى ...
يا ثدى بلاد تنسى أبناءها
مَن يغش حليبنا ويهمُس خلف الأذن برنيم كاذب .
فما  نراه من نجوم هي كلمات تحترق
لكي تُقرأ ، عليها أن تضيء .
وما نراه من غيومٍ .  خفة ماءِ
لذا يلزمنا أن نطيرَ لكي تنأى البيوت قليلاً
أن  نأخذَ الكتبَ المبلّلة ونترك الحروفَ تتلاشى
كسديمٍ  يتخدر.
لأّننا يا حبّي لا نملك ما يتخيله شاعرٌ يمشى سعيداً إلى حتفه ..
وهو يهتف :
ثمة موسيقى تتفتحّ في  حقول الله ..
ثمة حبرٌ سعيدٌ يتضافر ،
يغدو قمراً نظيفا من الشبهات
ثمة  لونٌ آخر من النساء في هذه القصيدة ..
ثمة شيء خلف إذني يتآمر ضدي
و في خزانة الريح ...
ملايين الكلمات التي تنتظر .
¨    

______ 
نثر الغائب

طرابلس ، صيف 2004