وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الثلاثاء، 29 ديسمبر 2015

قصيدة الماء . قصائد زمان ( 8 )

مفتاح العمّاري



قصيدة الماء*

1
ماء ،
وثمة أنت
ذراعاك مشنقتي
والكتابة قبر .
الماء المنسرب  دائما هو الأجمل
ونحن متأخرين جئنا
نفرك وسخ القرى بدخان مدينة مصابة بالوهن
وننكفئ عند حافة الكلمات الضيقة
كصباح يطفأ في الحلم .
2
ماء يبلل شفة القصيدة
سأعني حبيبتي قبل النوم
والضوء في الخارج
يضجّ بالهواء النظيف
كالسّكاكين الجديدة .
3
جندي يقتحم سرير الألق
يروّض أوتار الريح
جندي مشعث
مثل شوارع مهملة
يهيئ أسنانه لصباح مغاير
صباح مصاب بالغثيان
أسبح في دمه
ولا أرى
كم قتيلا
في استدارة الرغيف  .
4
المدينة في منتصف الليل
قمر ينسكب في هدوء على صدر امرأة
ترتجف أوان الحبّ .
كان الصيف سمكا فاسدا
يسيل في لزوجة حارة تحت الإبط .
لذا منحت وقتا إضافيا للنافذة
فسقط القمر متلبّسا بالفاكهة
وممارسة الحبّ .
5
الحب أن ننام على رماد الحقائب
حقائبنا ذات النفس الحار
الحبّ
نحن الأجمل
لنا خفق الزبد على ظهر موجة حالمة
وأنت نوّارة النّوار .
6
قد نكسر كموجة من عصافير ثلج على
حجارة الشاطئ
إذن الحرية نحن .
الحرية ارتعاشه جسدينا على فراش الملح
المعشوشب بزغب ذهبيّ
لا يحتمل دغدغة اللسان .
الحرية أنت وأنا
متعانقان كأحرف كتابة على حائط
زنزانة في ظلام خشن
حيث الأصابع تجهش على رؤوسها
الحرية
هذا الورق يكفي لتنفّس القصائد
وللتواليت .
7
ماذا يصنع السجّان
بالجدران المذابة
وقد فرّ
كل المساجين
إلى الموسيقى  ؟.
8
وحيدة كالنوم في حديقة عامة
و جميلة امرأتي التي
لم أرها .
9
أنا الآن وحدي
أنا خوفكم الغامض
ثمة خنجر في يدي .
10
وثمة أنت مولّدة القصائد
القصائد التي في الدرج
القصائد التي فجأة ستنفض أغطية الأفق  .
القصائد المسدس في يد سجّان
القصائد أطفالي وهم يلعبون
القصائد
أنت يا زوجتي المريضة
صباحك سكّر .
______
الأبيار خريف 1983
*من قصائد المجنوعة الشعرية : رحلة الشنفرى .



وجه .قصائد زمان ( 7 )


مفتاح العمّاري



وجه *

حين نفخت رغوة الصابون
استدارت شرفة روحي
شموسا صغيرة
شديدة الخصوبة
وبعيدا في علوّ  ملوّن
طارت فقّاعات وجهي .

____ 
*من قصائد المجموعة الشعرية ( رحلة الشَّنْفَرى )

السواني : 10مارس 1985

الأحد، 27 ديسمبر 2015

فرانكشتاين في بغداد

مفتاح العمّاري

  


" عنف العالم " *
    
   
    حين تمّ الإعلان عن الرواية الفائزة بجازة بوكر العربية 2014 ، كنت على مشارف متن ( عنف العالم ) ، كتاب صغير الحجم تضمّن نصين ، لجان بودريار ، وادغار موران . وهما عبارة عن محاضرتين ، كانتا قبل ذلك قد اندرجتا من بين مقترحات النشاط الثقافي لبرنامج الخميس بمعهد العالم العربي / باريس .   
    في سياق تقديمه لهذا الكتيب ، وداخل  إطار توصيف عولمة العنف ، أشار الكاتب : إبراهيم محمود : كيف أن العالم يتوحّد لأول مرة عبر العنف . وأنه تجاوز مخيلة سينما هوليود ، إلى الحدّ الذي أمسى فيه ( فرانكشتاين ) كفيلم خيالي ، محض خردة .  من هنا جاءت هذه المفارقة ، أو ( الصدفة الموضوعية ) حسب تسمية السورياليين ، التي جعلت من رواية : أحمد سعداوي ( فرانكشتاين في بغداد )  الفائزة ببوكر العربية ، تلعب على توظيف هذه الشخصية الخرافية في تجسيد رعب عالمها .
     لهذه المحرضات وغيرها استجبت وبكثير من الشغف لقراءة رواية سعداوي ، والتي كما لاحظت كانت تلعب على أعادت إنتاج صياغة العنف بطبعة عربية ، عراقية ، ومن موقع أدب السرد باقتدار وتميّز .  وهي بذلك قد عبّرت عن صعود رصين ومدهش ، ليس للرواية العراقية وحسب ، بل لعلها من جوانب فنية كثيرة تضاهي أهم مقترحات السرد العالمية  في اللحظة الراهنة .   فهذه الرواية ، سواء من حيث خصائصها الأسلوبية ، ومقدرتها المتمكنة في التحايل على تعددية التأويل ، فضلا عن الحمولة الشعرية التي تخللت نسيجها من دون المساس بقوانين السرد وآلياته ، هذا إضافة إلى حبكتها الدرامية المتقنة ، وبذا تعد وبامتياز : رواية ممتعة ، لامست الكثير من الأسئلة التي تتعلق تحديدا بمشاعية العنف التي يشهدها العالم الآن ، وبصورة خاصة في عالمنا العربي ، ولا سيما بعد تفشي وتسويق أو تصدير  ظواهر التطرف الديني ، أو ما يندرج تحت مسميات الإرهاب العالمي . فالرواية ، ومن موقعها السردي  بقدر ما تكتنز به من مجازات اشارية قصد تفكيك واقعها وتأويله ، ظلت في الوقت نفسه وفيّة ، وبذكاء لحقلها الروائي ،  وهبها درجة عالية من التمكن في تجسيد عالمها ، مما جعلها وباستحقاق جديرة بهذا التكريم الذي حازته وهذا الاحتفاء .
____

*كتبت قد اردجت هذا الانطباع ضمن صفحتي الشخصية بموقع ( رفّي ) للقراءة تحت وسم :عبدالسلام alammary19

السبت، 26 ديسمبر 2015

محمد الفقيه صالح

مفتاح العمّاري


الشاعر النبيل

        في حياة القصيدة الليبية ثمة تجارب فذة ، وقامات سامقة تقتضي الحقيقة إنصافها والاعتراف بدورها المؤثر في نسيجنا الوجداني  ، لأنه يتعذر عليك أن تدعي توصيف  حراك الشعر المعاصر في ليبيا من دون أن تتوقف كثيرا إزاء المدونة الشعرية للشاعر ( محمد الفقيه صالح ) .. الذي برز كشاعر يربّي مخيلة تائقة منذ  النصف الثاني من عشرية السبعينيات، عبر الملاحق الثقافية المعروفة آنذاك ، وبصورة خاصة صحيفة الأسبوع الثقافي التي استطاعت خلال فترة زمنية قصيرة أن تفرض حضورها كمنبر إعلامي  شديد التميز ، حيث كان لها  الفضل في تقديم العديد من الشعراء الشباب ، من أبرزهم طموحا وعمقا ورصانة وتطلعا الشاعر الفذ محمد الفقيه صالح .
    فنص الفقيه ، وعبر مسيرة شعرية سلخت قرابة ثلاثين سنة ،  يستدرجك دائما إلى مناطق بالغة الجمال ، ويضعك من ثم إزاء تجربة لا تملك إلا أن تستسلم لأسرها وتحترم مسيرتها الحافلة بالمكابدة والحلم والعطاء .. ذلك لأنه شاعر كبير ومؤثر في حركة المشهد الشعري الليبي ، وأينما يذهب يحظى باحترام ومهابة ، ناهيك عن حضوره الأكثر تميزا في المحافل الشعرية الخارجية التي تقام عربيا وعالميا، سيما وأن مكانته الشعرية السامقة لا يختلف عليها اثنان ، فله شغف خاص بالحياة الثقافية ، التي يسهم في تأثيثها إبداعيا ونظريا ، وأيضا له محددات ومفاهيم جمالية في التعامل مع الكلمات ، إذ يقف دائما على أرض صلبة معبرا عن قيم رصينة ومواقف مشرفة ، وينشغل بالكتابة كهم حقيقي يعبر عن التحقق والإضافة ، مما يؤكد بأنه  شاعر خالص-  متنا وسلوكا - ، لهذا ليس من المستغرب أن يكون مُقِلّا في نتاجه ، كذلك ليس من المستغرب في أن يكرس انشغالا معرفيا بإنماء  مشروعه الشعريّ بهدوء رصين  ودربة مقتدرة .. من دون أن يغفل في  الوقت ذاته عن قراءة  ورصد و متابعة مجريات الحراك الثقافي ، وتقفّي ما يُستجد من مطبوعات ومنشورات ، مع اهتمام بالغ  بقراءة  صحافتنا المحلية، ولا سيما لحظة أن تستوقفه قراءة مقال أو نص أبداعي لا يتوانى عن الاتصال هاتفيا بكاتبه وإبداء وجهة نظره .   معجبا ومناقشا باحتفاء الشاعر المنشغل دائما بهموم الثقافة والإبداع ، فما أحوجنا في هذه الأيام  لمثل هذا السلوك الخليق بالمحبة والإكبار ، لكي نكون دائما أكثر قربا من أنفسنا وإخلاصا لوجداننا .
<> 


الجمعة، 25 ديسمبر 2015

كارلوس ليسكانو، وعربة المجانين

مفتاح العمّاري

  

عربة المجانين


     في رواية : عربة المجانبن ، لكارلوس ليسكانو يتعلق السرد بدراما سيرة السجن كما يؤكد الوسم التوضيحي على الغلاف الأول كعنوان فرعي ، وأفق منتظر . يقترح المؤلف في هذه السيرة – تقريبا – نفس الخصائص الأسلوبية التي اعتمدها في صياغة مؤلفه ( الكاتب والآخر ) ، من حيث بناء الجملة ، فضلا عن الطابع الاعترافي ، من دون أن يتخلى عن روح الدعابة الساخرة ، كأولية دفاعية ، تمثل أعلى درجات الوعي في مجابهة ضراوة الواقع ومقاومة تلك القساوة اليومية المتمثلة في مظاهر العنف ، كتعذيب جسدي ونفسي . غير أن ليسكانو هنا يلجأ بين الحين والآخر إلى تلك المقاطع ذات الطابع التنظيري ، مستعينا بها لشرح وتحليل السبل الكفيلة بمقاومة مؤسسة السجن ، مشيرا في الوقت ذاته إلى عديد الوسائل المعنوية والبدنية التي تجعل السجين أكثر صمودا ، حفاظا على نفسه من الانهيار النفسي والجسدي . وإزاء  لحظة القراءة تدخلت هذه التحليلات بطريقة اعتراضية أخلّت بفن السرد ، ولكم وددت حينها لو اكتفى المؤلف بترك المعايشة اليومية للوقائع كانخراط درامي لتعبر وحدها عن قساوة التجربة ومكابدة العزلة والتعذيب ، دونما حاجة لأية نظريات من خارج موقع الرواية ، تحتكم  غالبا الى خطابات أخرى تنتمي لحقول معرفية مغايرة كالفلسفة وعلمي النفس والاجتماع .  وفي الأثناء قد استحضرت العديد من التجارب السردية المماثلة ، من بينها مساهمات سردية متفوقة لكتاب عرب  ولا سيما المغاربة ، وهنا أخص بالذكر على سبيل المثال لا الحصر ، رواية  ( العتمة الباهرة ) للطاهر بن جلون ، وأيضا، رواية ( طائر أزرق نادر يحلق معي ) ، ليوسف فاضل . حيث كانت المعايشة الدرامية لأكثر المشاهد ضراوة ووحشية هي من تترجم  عالمها وتشي بفداحة المعاناة لحظة أن يبلغ التغول أقصى مداه في تجسيد ذلك  الحيوان الكامن فينا . بحيث كان السرد ، أبعد أثراً ، وفي الآن نفسه أكثر وفاء لنوعه . هذا فضلا عن جماليات الكتابة وحمولاتها الشعرية .

    لكن ، وعلى الرغم من ذلك يظل لكارلوس ليسكانو ، كروائي اعترافي ، موقعه الخاص ، لما يتميز به من عفوية عالية في صياغته الأسلوبية  ، إضافة إلى تلك الخصيصة التي تجاور بين الرواية والسيرة والسيناريو السينمائي وكتابة اليوميات . وبذا سيحتفظ ليسكانو لنصه بذلك السحر الخفي ، الكفيل  بجذب القراءة واستدراجها إلى أكثر المناطق فتنة وإغواء ،وهذا ما يكسب قراءة أعماله الأدبية متعة خاصة .  

الأربعاء، 23 ديسمبر 2015

بلغني أيُّها الملك ..

مفتاح العمّاري



قالت شهرزاد
     كانت  شهرزاد وهي تسرد حكاياتها الجامحة تتشبث إلى أقصى رمق  برئة الحياة ، وتوصل الليل بليل آخر . شهرزاد حاضنة الحكايات الفاتنة وهي تتناسل ملتبسة بشقيقاتها النائمات تفتح مع مستهل ظلمة الليل كنوز الخيال دونما ارتباك أو تلعثم بهذه التيمة الشهيرة " بلغني أيها الملك " . كأن الليل وطن الحكايات السادرة في لهفة إلى الخلق والتشكّل المستمرين ، مستأنسة بظلمة الكائن مضاءً  ببهاء القمر ، بدرا يمارس لعبة النمو ، ليضفي على الفضاء سحره الخاص . القمر هذا الكوكب الليلي الذي استأثر الشعراء بمديح فخامته  واستدرجه العشاق الهائمين وجدا  إلى مجالسهم وشرفاتهم ، وضمّنوه عبارات الغزل ورسائل لغرام مضيفين إليه صفات شتّى ومجازات لا عديد لها .
    هكذا ظل الليل يتحقّق مستمدا تأنيثه من صيغة المفرد ( الليلة ) .. فهو سكن  ولباس أيضا.  ضمن هذه الثنائية تقابلت الأضداد  : شهرزاد الحكاية / وشهريار السيف .  الحياة مقابل الموت ، حيث كان على ليونة الأنثى أن تمتص صلابة الذكر وتستوعب بدهاء خشونته الظاهرة بحثا عن ليونة الكامن  لتصك روايتها بلغة شفيفة وأصوات حالمة لا تعوزها طراوة النغم وسحر الموسيقى لكي تستحوذ على شغف الأذن  وترفع من وتيرة الإصغاء .  وإزاء مهارة الأنثى نسّاجة المعنى بخيوط الكلمات  صعدت الحكاية التي لا تكفّ عن النمو والدوران .. الأمر الذي عطّل عمل الموت  فظلّ السيّاف  فريسة للسأم ينتظر دونما جدوى ، متأهباً بتوتر عند عتبات النهار مترقّبا خاتمة الحياة التي تبدأ مع نهاية الحكاية .. أي في اللحظة تلك التي تتوقّف فيها آلة السرد ، حينما تكفّ شهرزاد عن خلق كائناتها الغريبة .
 لكن الحكاية وهي تؤثث عالمها كانت قد وظّفت ضراوة الزمن لصالحها .. فلم تعبأ كثيرا بشهية السيف الذي صنع من مادة زائلة ، حيث لم يبق له سوى أن يرضخ لمشيئة الصدأ .. لتستمر الحكاية .
**
   في اللحظة تلك التي مثلت فيها شهرزاد إزاء الملك الطاغية الذي تلوثت يداه بدماء نساء مملكته .. بعد أن قرر قتل جميع النساء بجريرة امرأة واحدة  هي زوجه الخائنة ، التي قيل بأنها مارست الحب مع زنجيّ من عبيد قصره في السوانح التي يتيحها انشغال الملك المخدوع برحلات الصيد .  لحظتها أدركت شهرزاد بحدس الأنثى أن السانحة النادرة لتأجيل موتها تقتضي إحاطة الملك السفاح بالحكاية المستحيلة التي يصعب سردها في ليلة واحدة .. فاستعطفت الملك متوسلة بأن يستجيب لتلبية أمنيتها الأخيرة  قبل أن يأمر سيافه بقطع رأسها ، طالبة منه السماح لها بأن تروي لأختها الصغيرة دنيا زاد الحكاية التي تعودتها قبل النوم . وإزاء هذه الأمنية الساذجة لامرأة ستقتل بعد قليل لم يجد الملك أية غضاضة في إبداء موافقته ، فتحينتها شهرزاد على الفور وافتتحت حكايتها بحشد من المردة والجن والشياطين والأنهار الغامضة  والطيور المنقرضة  وحيوانات الغابات القصية  وذئاب الصحراء  وسباع الجبل  والمدن العجيبة التي لم يطأها الخيال بعد  . كما استدعت الشعراء الصعاليك والشطار  والعيارين  والعشاق المجانين الذين استوطنوا مرابض التيه الغامضة ، والفرسان الأشاوس  بغبار لا يشق .. وروّضت الخيول الوحشية والعواصف والأحلام المعتوهة .. ثم شدّت الرحال إلى بلاد العجائب والأساطير .. وروت في الليلة الأولى  الحكاية المستعصية التي لن تنتهي إلى أبد الآبدين .
**
    في أول الأمر لم يحفل الملك بقرقعة حروف الحكاية ولا بالمرأة الجميلة في أسى ،  والتي بدت كأنها تصلّي لا تسرد قصصا .. لكنه ما لبث بعد هنيهة أن استسلم  لمهابة الإصغاء  بطواعية عمياء ، مأخوذا بفتنة السرد ، ليلفي نفسه رغما عنه فريسة حائرة تتخبّط بين أسنان فخاخ الفولاذ  والشغف والترقّب ، منتظرا في لهفة تتابع الوقائع الغريبة التي لا خواتم لها .. والتي طفقت دونما هوادة ، في إثارة الغوايات بلا توقّف عن التوق والترحال .. لكأن آفاقها ستظلّ مشرعة على الجهات الأربع .. وأن الليل على غير عادته منهوب دونما رأفة  بمصائد لغة حارة تقترف الصور الدامية ببراثن البلاغة التي تصنع معجزة السند باد ، والعنقاء ، ومصباح علاء الدين  ، وهي تُقَدّ بمفردات نادرة سكّتْ من حجارة الأساطير  ونسجت من نيران السحرة وأبخرتهم الدائخة لتطلق في سماء الخيال : بساط الريح والقصور الطائرة والخيول المجنّحة بعلو فصيح ، وتفتح مغاليق الغرف السبع المحكمة بإقفال الحكمة وطلاسم السحر الأسود .
**
       ظل الملك دون ريب مفتونا بجمال السرد ، فلم يعد يعبأ بآلة الزمن  وهي            تنظم في عقد لياليها : الليلة الأولى بعد الألف وكأن الزمان خطفة برق ، ولمحة نظر ، لأن الحكاية وهي تمخر عباب مناطق مجهولة وتنسج كائناتها المعذّبة وتحفر عميقا في تربة المخيلة  ، لم تترك مجالا لشيء ، سوى نشوة السكر التي غمرت شهرزاد بلذتها الكاسرة وجعلتها مخطوفة بمباهج حياة جديدة تتخلّق من روح الكلمات تحت صفحة قمر ضال يكاد من شدّة الوله أن ينسى دورته ، ويخطئ في حساب المواقيت . هكذا استطاعت شهرزاد أن تحتمي بدرع الحكاية وتتحصن خلف قلاعها المنيعة ، لتنقذ أعناق بنات حواء من سطوة السياف ، وأن تهزم بمفردها مشيئة القتل ، ليظلّ السياف - ولا سيما بعد صعود الحكاية كرسي العرش- زمنا طويلا عاطلا عن سفك الدماء ، وحيدا يهشّ الذباب عن رغباته الفاسدة ، لا عمل له سوى كنس الأروقة وتنظيف المراحيض والإشراف على اصطبلات الخيل وزرائب الماشية .
**
      بصدد ما حدث بعد ذلك ، أكّدت الحفريات المورفولوجية أن الليلة الثانية بعد الألف شهدت نهاية غريبة، ختمت سيرة الملك السامق ، الذي أذهلته الحكاية فأصابته بالعيّ  إلى الحّد الذي لم يجد معه بدّا من اللجوء إلى مجاز الصمت بعد أن عجز عن إيجاد الكلمات المناسبة لتوديع سكّان القصر ، فاكتفى بلحظات صامتة ، مثقلة بالرهبة والبهاء .. وهو يرنو بهدوء إلى شهرزاد : المرأة الوحيدة التي سمّت له المجاهل المستحيلة ، ووصفت هيئة الجمال المقدّس ، قبل أن يسلّمها مفاتيح مملكته الواسعة ويغادر وحيدا بلا زاد أو رفيق ، تائها عبر جهات قصية ، يبحث من دون جدوى عن مسارب الخيال وأسماء الخرائط الخفية التي تفضي إلى نار المعرفة الأولى ، حيث لا أحد يفكّر بعدُ في ارتكاب الخطيئة الفاحشة وفعل الدنس .

**
      قيل والعهدة على الراوي .. أن البلاد التي حكمتها الملكة شهرزاد قد ظلت لدهر من سؤدد ، تنعم بسخاء لا نظير له ، مأهولة بالشعراء والمغنين والحكماء .. وأن الأفكار أصبحت ترعى بحرية آمنة وسط بساتين مترعة بالدفء والطمأنينة .. وظل الرعايا إلى عهد قريب يتمتّعون بألفة صقلتها قريحة الشعراء ومخيلة الرسامين وشفافية العازفين .. حيث يجتمع الشنفرى والنّفري والحلاج والمتنبّي والجاحظ وزرياب وديك الجن، تحت قمر واحد . 

¨     

شُبهة

مفتاح العمّاري


شُبْهة

إذا متُّ في ظروف غامضة
هذا يعني أن الحياة بنت اللئيمة بدأت تضيق بي .
وحتى إن ظَلّ السرطان موضع شبهة ،
لكنني أنصح التحقق من مشتقات الربيع ،
ربما تكون أكثر تورطا .
كما أشير على أحبائي التمعّن في الصورة الوحيدة
 التي جمعتني بيغفيني ايفتشنكو عندما زار طرابلس الغرب
وقراءة آخر قصيدة كتبتها في أثناء جلسة الكيماوي، 
تلك التي :  قصيدة حزينة  قالت سميرة .



السبت، 19 ديسمبر 2015

يغفيني ايفتشنكو

مفتاح العماري



يغفيني ايفتشنكو

بابي يار ، هولوكوست ، فودكا


       
   في عام 1930 انتحر الشاعر الروسي الشاب : فلاديمير ماياكوفسكي . قبل ذلك بقليل كانت قصائده تعلق على لافتات المصانع ، وأغانيه يرددها جنود الجيش الأحمر ، لكن نقاد الأدب في ذلك الزمن ، و الذين هم بالضرورة أعضاء في الحزب الشيوعي لم يتذكروا لمايا كوفسكي سوى قصائد الحب التي تُخِلّ حسب رؤيتهم بمفاهيم الواقعية الاشتراكية .. فتحاملوا على الشاعر ، وضيقوا الخناق عليه بوسائل لا تعوزها آلة القمع والترهيب .
      بعد ذلك بسنوات قليلة جاء الدور على الشاعرة " آنا اخماتوفا " التي اتهمت هي الأخرى بالخروج على انضباطية أدب الماركسية .. فاختارت رغما عنها أن تغادر الجحيم ، على طريقة  ماياكوفسكي . وبعد قليل أيضا كان الشاعر العربيد " يغفيني ايفتشنكو "  أكثر صلابة ، ربما لأن آلة القمع قد لانت  بعض الشيء ولا سيما أن أشعاره قد صعدت بعد مرحلة ذوبان الجليد  ، وبصورة خاصة قصيدته ( ورثة ستالين )  التي هزت الأوساط الثقافية وقتذاك . ولأن الشعب الروسي بطبعه مهووس بالشعر ، مما جعله ينفرد بحساسية خاصة ودرجة عالية من التذوق والقراءة والإصغاء . في هذا المحيط الصاخب ، حقق ديوان " ايفتشنكو " أرقاما قياسية حين بيعت منه مائة ألف نسخة خلال ثمان وأربعين ساعة فقط .. وعلى الرغم من هذه الشهرة التي حققت مجدا مبكرا للشاعر ، إلا أن ايفتشنكو ظل شاعرا عربيدا ، يمثل شبهة مقيتة ، أدرجته في قائمة الحزب السوداء . حيث قدر له أن يكابد حمل وزر شبهته ، حتى ظهور مؤشرات البيروستريكا ، ليرد له اعتباره مع ثلة من الكتاب والشعراء والأدباء المنكوبين .  وإزاء هذا التكريم المتأخر عرضت الجهات الثقافية المسؤولة على الشاعر أن يختار زيارة ثلاث دول على نفقة اتحاد أدباء وكتاب روسيا  . فلبى الشاعر هذا الاحتفاء ، حيث كانت إحدى البلدان العربية من بين تلك الدول التي وقع عليها اختيار الشاعر . في ذلك البلد العربي ، أخطرت السفارة الروسية ، وزارة خارجية البلد المعني ، والتي بدورها أبرقت إلى وزارة الثقافة التي وصلتها البرقية في الدقائق الأخيرة من الدوام الرسمي . وبالنظر لضيق الوقت حيث يصادف ذلك اليوم موعد وصول الطائرة التي تقل الشاعر الضيف ،  أتصل مدير مكتب وزير الثقافة – وعلى عجل - هاتفيا بمقر اتحاد الأدباء .. في وقت لم يكن فيه ثمة أحد سوى البواب العجوز الذي كان لحظتها يتأهب لإغلاق أبواب مقر الاتحاد حين سمع رنين جرس الهاتف ، وقد استغرب في دخيلة نفسه لحظة أن أملى عليه محدثه أسم الضيف  الذي يشبه إلى حد بعيد اسم معدن مهمل .  وهكذا كان على البواب العجوز أن يكرر الاسم مرارا وتكرارا وهو يحاول الاتصال هاتفيا بمنزل رئيس الاتحاد . في مساء ذلك اليوم دخل الفندق الفخم الذي يقيم فيه  ايفتشنكو على حساب سفارته ثلاثة كتاب تقليديين يعتقدون أن أزمة الأمة العربية تكمن في إهمال فتيتها لقواعد سيبويه  .. يتبعهم ناقد تقليدي لم يقرأ من مصنفات النقد سوى بضع مقالات لمندور ،   ومؤرخ متقاعد وأستاذ جامعي من فصيلة الديناصورات .. يتقدمهم رئيس الاتحاد  . وأثناء مقابلتهم للشاعر الضيف  ، اقترح الأستاذ الجامعي أقامة أصبوحة شعرية في اليوم التالي بكلية الآداب .  غير أن سوء الطالع جعل من تلك الأصبوحة الشعرية تتزامن مع حفل موسيقى تقيمه الكلية في الفضاء المجاور للقاعة المقترحة لإيواء صوت الشاعر الكبير .  وبالتالي لم يحضر احد من الطلبة كما كان متوقعا  ، الأمر الذي صعد من خيبة الشاعر الضيف حين وجد نفسه إزاء نفر قليل ، لا يتجاوز عدد أصابع اليدين ، والذي ما كاد يلقي ، و على مضض إحدى  قصائده ، حتى صمت فجأة  فاغرا فاه ، اثر فرقعة لضحكة نسوية  فالتة ، انطلقت من المقاعد الخلفية حيث تختلي فتاة وصديقها . صمت الشاعر مستاءً وحزينا ، ثم نطق  عبارة وحيدة ، نقلها المترجم بالصيغة التالية  : " يبدو أن هذا المكان لا علاقة له بالشعر " .
 بعد أيام قليلة من هذه الوقائع الطريفة  ، كان الشاعر الروسي : ايفتشنكو  سعيدا جدا ، في تل أبيب ،  حين استقبله حشد من الشعراء والمثقفين ، على رأسهم رئيس وزراء الكيان الصهيوني . وهذا أيضا من سؤ الطالع.
  في بيت الأديب بتل أبيب ، قرأ يفتشنكو ، وبطريقته المسرحية البهلوانية : قصيدته الشهيرة  ( بابي يار ) التي يدين فيها الهولوكوست . كان من بين الحاضرين الشاعر الفلسطيني : ب . فاروق مواسي ، والذي استفزته مواقف يفتشنكو المؤيدة للسياسة الإسرائيلية . فكتب قصيدة بالمناسبة ، تحدث خلالها في عبارات مباشرة ومقتضبة ، عن الشعر والروس والفودكا والقهوة والمذابح التي ترتكبها قوات الاحتلال الصهيوني ضد المدنيين الفلسطينيين . كانت قصيدة الشاعر الفلسطيني ، تعبّر عن لحظة خيبة عالية ، رغم ركاكة اسلوبها فنيا . وهذا أيضا من سوء الطالع .
¨