مفتاح العمّاري
قالت شهرزاد
كانت شهرزاد
وهي تسرد حكاياتها الجامحة تتشبث إلى أقصى رمق
برئة الحياة ، وتوصل الليل بليل آخر . شهرزاد حاضنة الحكايات الفاتنة وهي
تتناسل ملتبسة بشقيقاتها النائمات تفتح مع مستهل ظلمة الليل كنوز الخيال دونما
ارتباك أو تلعثم بهذه التيمة الشهيرة " بلغني أيها الملك " . كأن الليل
وطن الحكايات السادرة في لهفة إلى الخلق والتشكّل المستمرين ، مستأنسة بظلمة الكائن
مضاءً ببهاء القمر ، بدرا يمارس لعبة
النمو ، ليضفي على الفضاء سحره الخاص . القمر هذا الكوكب الليلي الذي استأثر
الشعراء بمديح فخامته واستدرجه العشاق
الهائمين وجدا إلى مجالسهم وشرفاتهم ،
وضمّنوه عبارات الغزل ورسائل لغرام مضيفين إليه صفات شتّى ومجازات لا عديد لها .
هكذا ظل الليل يتحقّق مستمدا تأنيثه
من صيغة المفرد ( الليلة ) .. فهو سكن
ولباس أيضا. ضمن هذه الثنائية
تقابلت الأضداد : شهرزاد الحكاية /
وشهريار السيف . الحياة مقابل الموت ، حيث
كان على ليونة الأنثى أن تمتص صلابة الذكر وتستوعب بدهاء خشونته الظاهرة بحثا عن
ليونة الكامن لتصك روايتها بلغة شفيفة
وأصوات حالمة لا تعوزها طراوة النغم وسحر الموسيقى لكي تستحوذ على شغف الأذن وترفع من وتيرة الإصغاء . وإزاء مهارة الأنثى نسّاجة المعنى بخيوط الكلمات صعدت الحكاية التي لا تكفّ عن النمو والدوران
.. الأمر الذي عطّل عمل الموت فظلّ
السيّاف فريسة للسأم ينتظر دونما جدوى ، متأهباً
بتوتر عند عتبات النهار مترقّبا خاتمة الحياة التي تبدأ مع نهاية الحكاية .. أي في
اللحظة تلك التي تتوقّف فيها آلة السرد ، حينما تكفّ شهرزاد عن خلق كائناتها
الغريبة .
لكن الحكاية وهي تؤثث عالمها كانت قد وظّفت
ضراوة الزمن لصالحها .. فلم تعبأ كثيرا بشهية السيف الذي صنع من مادة زائلة ، حيث
لم يبق له سوى أن يرضخ لمشيئة الصدأ .. لتستمر الحكاية .
**
في اللحظة
تلك التي مثلت فيها شهرزاد إزاء الملك الطاغية الذي تلوثت يداه بدماء نساء مملكته
.. بعد أن قرر قتل جميع النساء بجريرة امرأة واحدة هي زوجه الخائنة ، التي قيل بأنها مارست الحب
مع زنجيّ من عبيد قصره في السوانح التي يتيحها انشغال الملك المخدوع برحلات الصيد
. لحظتها أدركت شهرزاد بحدس الأنثى أن السانحة
النادرة لتأجيل موتها تقتضي إحاطة الملك السفاح بالحكاية المستحيلة التي يصعب
سردها في ليلة واحدة .. فاستعطفت الملك متوسلة بأن يستجيب لتلبية أمنيتها
الأخيرة قبل أن يأمر سيافه بقطع رأسها ،
طالبة منه السماح لها بأن تروي لأختها الصغيرة دنيا زاد الحكاية التي تعودتها قبل
النوم . وإزاء هذه الأمنية الساذجة لامرأة ستقتل بعد قليل لم يجد الملك أية غضاضة
في إبداء موافقته ، فتحينتها شهرزاد على الفور وافتتحت حكايتها بحشد من المردة
والجن والشياطين والأنهار الغامضة والطيور
المنقرضة وحيوانات الغابات القصية وذئاب الصحراء
وسباع الجبل والمدن العجيبة التي
لم يطأها الخيال بعد . كما استدعت الشعراء
الصعاليك والشطار والعيارين والعشاق المجانين الذين استوطنوا مرابض التيه
الغامضة ، والفرسان الأشاوس بغبار لا يشق
.. وروّضت الخيول الوحشية والعواصف والأحلام المعتوهة .. ثم شدّت الرحال إلى بلاد
العجائب والأساطير .. وروت في الليلة الأولى
الحكاية المستعصية التي لن تنتهي إلى أبد الآبدين .
**
في
أول الأمر لم يحفل الملك بقرقعة حروف الحكاية ولا بالمرأة الجميلة في أسى ، والتي بدت كأنها تصلّي لا تسرد قصصا .. لكنه ما
لبث بعد هنيهة أن استسلم لمهابة الإصغاء بطواعية عمياء ، مأخوذا بفتنة السرد ، ليلفي
نفسه رغما عنه فريسة حائرة تتخبّط بين أسنان فخاخ الفولاذ والشغف والترقّب ، منتظرا في لهفة تتابع
الوقائع الغريبة التي لا خواتم لها .. والتي طفقت دونما هوادة ، في إثارة الغوايات
بلا توقّف عن التوق والترحال .. لكأن آفاقها ستظلّ مشرعة على الجهات الأربع .. وأن
الليل على غير عادته منهوب دونما رأفة بمصائد
لغة حارة تقترف الصور الدامية ببراثن البلاغة التي تصنع معجزة السند باد ،
والعنقاء ، ومصباح علاء الدين ، وهي تُقَدّ
بمفردات نادرة سكّتْ من حجارة الأساطير
ونسجت من نيران السحرة وأبخرتهم الدائخة لتطلق في سماء الخيال : بساط الريح
والقصور الطائرة والخيول المجنّحة بعلو فصيح ، وتفتح مغاليق الغرف السبع المحكمة
بإقفال الحكمة وطلاسم السحر الأسود .
**
ظل
الملك دون ريب مفتونا بجمال السرد ، فلم يعد يعبأ بآلة الزمن وهي
تنظم في عقد لياليها : الليلة الأولى بعد الألف وكأن الزمان خطفة برق ،
ولمحة نظر ، لأن الحكاية وهي تمخر عباب مناطق مجهولة وتنسج كائناتها المعذّبة
وتحفر عميقا في تربة المخيلة ، لم تترك
مجالا لشيء ، سوى نشوة السكر التي غمرت شهرزاد بلذتها الكاسرة وجعلتها مخطوفة
بمباهج حياة جديدة تتخلّق من روح الكلمات تحت صفحة قمر ضال يكاد من شدّة الوله أن
ينسى دورته ، ويخطئ في حساب المواقيت . هكذا استطاعت شهرزاد أن تحتمي بدرع الحكاية
وتتحصن خلف قلاعها المنيعة ، لتنقذ أعناق بنات حواء من سطوة السياف ، وأن تهزم
بمفردها مشيئة القتل ، ليظلّ السياف - ولا سيما بعد صعود الحكاية كرسي العرش- زمنا
طويلا عاطلا عن سفك الدماء ، وحيدا يهشّ الذباب عن رغباته الفاسدة ، لا عمل له سوى
كنس الأروقة وتنظيف المراحيض والإشراف على اصطبلات الخيل وزرائب الماشية .
**
بصدد ما حدث بعد ذلك ، أكّدت
الحفريات المورفولوجية أن الليلة الثانية بعد الألف شهدت نهاية غريبة، ختمت سيرة
الملك السامق ، الذي أذهلته الحكاية فأصابته بالعيّ إلى الحّد الذي لم يجد معه بدّا من اللجوء إلى
مجاز الصمت بعد أن عجز عن إيجاد الكلمات المناسبة لتوديع سكّان القصر ، فاكتفى
بلحظات صامتة ، مثقلة بالرهبة والبهاء .. وهو يرنو بهدوء إلى شهرزاد : المرأة
الوحيدة التي سمّت له المجاهل المستحيلة ، ووصفت هيئة الجمال المقدّس ، قبل أن
يسلّمها مفاتيح مملكته الواسعة ويغادر وحيدا بلا زاد أو رفيق ، تائها عبر جهات
قصية ، يبحث من دون جدوى عن مسارب الخيال وأسماء الخرائط الخفية التي تفضي إلى نار
المعرفة الأولى ، حيث لا أحد يفكّر بعدُ في ارتكاب الخطيئة الفاحشة وفعل الدنس .
**
قيل والعهدة على الراوي .. أن البلاد التي حكمتها
الملكة شهرزاد قد ظلت لدهر من سؤدد ، تنعم بسخاء لا نظير له ، مأهولة بالشعراء
والمغنين والحكماء .. وأن الأفكار أصبحت ترعى بحرية آمنة وسط بساتين مترعة بالدفء
والطمأنينة .. وظل الرعايا إلى عهد قريب يتمتّعون بألفة صقلتها قريحة الشعراء
ومخيلة الرسامين وشفافية العازفين .. حيث يجتمع الشنفرى والنّفري والحلاج والمتنبّي
والجاحظ وزرياب وديك الجن، تحت قمر واحد .
¨