مفتاح
العماري
يغفيني ايفتشنكو
بابي يار ، هولوكوست ، فودكا
في عام 1930 انتحر الشاعر الروسي الشاب :
فلاديمير ماياكوفسكي . قبل ذلك بقليل كانت قصائده تعلق على لافتات المصانع ،
وأغانيه يرددها جنود الجيش الأحمر ، لكن نقاد الأدب في ذلك الزمن ، و الذين هم بالضرورة أعضاء في الحزب الشيوعي لم يتذكروا لمايا كوفسكي
سوى قصائد الحب التي تُخِلّ حسب رؤيتهم بمفاهيم الواقعية الاشتراكية .. فتحاملوا
على الشاعر ، وضيقوا الخناق عليه بوسائل لا تعوزها آلة القمع والترهيب .
بعد
ذلك بسنوات قليلة جاء الدور على الشاعرة " آنا اخماتوفا " التي اتهمت هي
الأخرى بالخروج على انضباطية أدب الماركسية .. فاختارت رغما عنها أن تغادر الجحيم
، على طريقة ماياكوفسكي . وبعد قليل أيضا
كان الشاعر العربيد " يغفيني ايفتشنكو " أكثر صلابة ، ربما لأن آلة القمع قد لانت بعض الشيء ولا سيما أن أشعاره قد صعدت بعد مرحلة
ذوبان الجليد ، وبصورة خاصة قصيدته ( ورثة
ستالين ) التي هزت الأوساط الثقافية
وقتذاك . ولأن الشعب الروسي بطبعه مهووس بالشعر ، مما جعله ينفرد بحساسية خاصة ودرجة عالية من التذوق والقراءة والإصغاء . في
هذا المحيط الصاخب ، حقق ديوان " ايفتشنكو " أرقاما قياسية حين بيعت منه
مائة ألف نسخة خلال ثمان وأربعين ساعة فقط .. وعلى الرغم من هذه الشهرة التي حققت
مجدا مبكرا للشاعر ، إلا أن ايفتشنكو ظل شاعرا عربيدا ، يمثل شبهة مقيتة ، أدرجته
في قائمة الحزب السوداء . حيث قدر له أن يكابد حمل وزر شبهته ، حتى ظهور مؤشرات
البيروستريكا ، ليرد له اعتباره مع ثلة من الكتاب والشعراء والأدباء المنكوبين
. وإزاء هذا التكريم المتأخر عرضت الجهات
الثقافية المسؤولة على الشاعر أن يختار زيارة ثلاث دول على نفقة اتحاد أدباء وكتاب
روسيا . فلبى الشاعر هذا الاحتفاء ، حيث
كانت إحدى البلدان العربية من بين تلك الدول التي وقع عليها اختيار الشاعر . في
ذلك البلد العربي ، أخطرت السفارة الروسية ، وزارة خارجية البلد المعني ، والتي
بدورها أبرقت إلى وزارة الثقافة التي وصلتها البرقية في الدقائق الأخيرة من الدوام
الرسمي . وبالنظر لضيق الوقت حيث يصادف ذلك اليوم موعد وصول الطائرة التي تقل
الشاعر الضيف ، أتصل مدير مكتب وزير
الثقافة – وعلى عجل - هاتفيا بمقر اتحاد الأدباء .. في وقت لم يكن فيه
ثمة أحد سوى البواب العجوز الذي كان لحظتها يتأهب لإغلاق أبواب مقر الاتحاد حين
سمع رنين جرس الهاتف ، وقد استغرب في دخيلة نفسه لحظة أن أملى عليه محدثه أسم
الضيف الذي يشبه إلى حد بعيد اسم معدن
مهمل . وهكذا كان على البواب العجوز أن
يكرر الاسم مرارا وتكرارا وهو يحاول الاتصال هاتفيا بمنزل رئيس الاتحاد . في مساء
ذلك اليوم دخل الفندق الفخم الذي يقيم فيه
ايفتشنكو على حساب سفارته ثلاثة كتاب تقليديين يعتقدون أن أزمة الأمة
العربية تكمن في إهمال فتيتها لقواعد سيبويه
.. يتبعهم ناقد تقليدي لم يقرأ من مصنفات النقد سوى بضع مقالات لمندور
، ومؤرخ متقاعد وأستاذ جامعي من فصيلة
الديناصورات .. يتقدمهم رئيس الاتحاد .
وأثناء مقابلتهم للشاعر الضيف ، اقترح
الأستاذ الجامعي أقامة أصبوحة شعرية في اليوم التالي بكلية الآداب . غير أن سوء الطالع جعل من تلك الأصبوحة الشعرية تتزامن مع حفل موسيقى تقيمه الكلية في الفضاء
المجاور للقاعة المقترحة لإيواء صوت الشاعر الكبير . وبالتالي لم يحضر احد من الطلبة كما كان
متوقعا ، الأمر الذي صعد من خيبة الشاعر الضيف حين وجد نفسه إزاء نفر قليل ، لا
يتجاوز عدد أصابع اليدين ، والذي ما كاد يلقي ، و
على مضض إحدى قصائده ، حتى صمت فجأة فاغرا فاه ، اثر فرقعة لضحكة نسوية فالتة ،
انطلقت من المقاعد الخلفية حيث تختلي فتاة وصديقها . صمت الشاعر مستاءً وحزينا ، ثم نطق عبارة وحيدة ،
نقلها المترجم بالصيغة التالية : "
يبدو أن هذا المكان لا علاقة له بالشعر " .
بعد أيام قليلة من
هذه الوقائع الطريفة ، كان الشاعر الروسي : ايفتشنكو سعيدا جدا ، في تل أبيب ، حين استقبله
حشد من الشعراء والمثقفين ، على رأسهم رئيس وزراء الكيان الصهيوني . وهذا أيضا من سؤ الطالع.
في بيت الأديب بتل أبيب ، قرأ يفتشنكو ،
وبطريقته المسرحية البهلوانية : قصيدته الشهيرة
( بابي يار ) التي يدين فيها الهولوكوست . كان من بين الحاضرين الشاعر
الفلسطيني : ب . فاروق مواسي ، والذي استفزته مواقف يفتشنكو المؤيدة للسياسة
الإسرائيلية . فكتب قصيدة بالمناسبة ، تحدث خلالها في عبارات مباشرة ومقتضبة ، عن
الشعر والروس والفودكا والقهوة والمذابح التي ترتكبها قوات الاحتلال الصهيوني ضد المدنيين الفلسطينيين . كانت قصيدة الشاعر الفلسطيني ،
تعبّر عن لحظة خيبة عالية ، رغم ركاكة اسلوبها فنيا . وهذا أيضا من سوء الطالع .
¨