وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الخميس، 10 ديسمبر 2015

نسيان محمد سالم الحاجي

مفتاح العمّاري

شبهة المحو 

      قبل رحيلِه في منتصفِ عقد التسعينيات * من القرن الذي مضى ، كان الأديب القصّاص (محمد سالم الحاجّي)  قد أضاف لمدونة السرد في ليبيا " مجموعتين قصصيتين ، هما :  " ثلاثة وجوه لعملة واحدة " و " مشاهدات في بحر الدم " .,  وعلى الرغم من أن ( الحاجي)  من الشخصيات الأدبيةِ الفاعلةِ والمؤثرةِ التي يَصْعب نسيانها ، لكننا – كما  يبدو -  قد نسيناه .
    النسيانُ هُنا يَتّخِذُ - هو الآخر  - عِدّة وجوهٍ لنسيانٍ واحد . ربما لأن شخصيةَ الحاجّي قد انطوت على شيء من الخجلِ وإيثارِ العزلة ، بحيث ظلّ حوارُها باطنياً في الغالب ، وهذا ما تشي به آثارُه القصصية  التي تعكسُ بعضا من ملامح سيرته .. فأبطال قصصه غالبا متذمّرون وقلقون ، يتعذّر عليهم التكيف مع المحيط . وربما  النسيان  هنا ، قد يُعد على وجهٍ أكثر براءة  بمثابةِ عمليةِ هضمٍ لتجربته  ، لأن آليةَ الهضمِ  حين تأتي على  ما تتلقّفه من تجارب الآخرين، من شأنها أن تمتصَّ المعلومةَ ، وتستوعبها إلى الحدِّ الذي يصل بها إغفالِ المصدرِ ومحوِه من الذاكرةِ على نحو تلقائي . ومن وجهٍ آخر – وهو الأقل براءة والأكثر جرما -  قد يُعد  النسيان بمثابةِ نكرانٍ وجحودٍ ، لأنه ، ومنذ سنةِ رحيلِ الحاجي عن عالمِنا  ، قلّما يُشار إلى آثارهِ  وإسهامِه المتميز في مدونةِ القصةِ الليبية .وهي مثلبةٌ تشي بأزمةِ كيان ، لأنّها لا تقتصر عليه وحده ، بل تشمل مبدعين آخرين طواهم النسيان .  ولعلّنا هُنا إذ نتساءل عن أسبابِ هذه الظاهرة المقيتة ، لحظة أن يُغَلِّف السهو  تجربةَ أدبٍ وحياةٍ بهذا القدر من التفرّد والثراء ، إنما نتهم أنفسنا  ،وكأن ثمة  من يُحاول محو آثارها وطمس ملامحها ، فباستثناء ما استدعته الببليوغرافيا على حياء وهي تقدّمُ توصيفاً موجزاً وتقليدياً ووثائقياً ، حيث يُكتفي فقط بذكرِ ما تواترَ في مثلِ هذه الانشغالات التوثيقية ، لم نجد في مدونة الأدب الليبي بقضها وقضيضها ، أيما اعتناء بنتاجِه القصصي من لَدُن النقادِ والمهتمين بمسيرةِ الأدبِ القصصيّ في هذا الوطن المبتلى بمثالب نكران الذات . 
     عَرَفْتُ الحاجّي شحنةً من الأسئلة التي لا تكفّ ، أسئلة تتعلّق بالوجودِ والكلمةِ والمرأةِ والمكان . كُنّا في يوم ما نَلتقي ، وكنّا نتحاور ، ونحترم اختلافنا وتنوعنا  . عاش محمد سالم الحاجيّ طيلة حياته مبدعا وعاشقا ورحالة ، ثم غادر ضفة عالمنا ليخوض رحلة أخرى . لكن ما تركه من كلمات ، يظل كفيلا بإزالة شبهة الموت  - على الأقل بالنسبة للقراءة الأصيلة . فمازالت أفكاره حية ونشطة وجامحة .  لهذا هو باق وحاضر بقوةٍ بيننا ، وعلى الرغم من ذلك ما من أحد - كما يبدو هنا- يجيد كرامة الإصغاء سوى الندرة . وهذا من  سوء الطالع .
____

*توفي الحاجّي في 11ديسمبر1994. وبمناسبة ذكرى وفاته أعيد نشرة هذه الكلمة .

الاثنين، 7 ديسمبر 2015

باولو كويلو وحيل الخيميائي

مفتاح العمّاري

الكون بأسره يتضافر لتحقيق رغباتك
       تندرج رواية الخيميائي باعتبارها الرواية الثانية في تسلسل قائمة روايات باولو كويلو . وتعد بامتياز الأكثر شهرة ومبيعا من بين مؤلفاته . وبغض النظر عن ما حققته الخيميائي من أرقام قياسية في سوق المبيعات ، وما حصدته من جوائز ، كذلك بغض النظر عن المديح الذي حظيت به في أوساط القراء ونقاد الأدب  - عالميا - ، وبغض النظر عن أرقام ترجمتها ، والتي تصل إلى قرابة  65 لغة  عالمية .  لأن الرواية ذاتها التي تتمحور حول أسطورة منتزعة بذكاء من حكايات  شهرزاد في ألف ليلة وليلة ، قد تفوقت على خاماتها وذاكرتها ومرجعياتها وتاريخها ، بل تفوقت على نفسها داخل نوعها الروائي بامتياز تحسد عليه .  لتتحول هي الأخرى إلى أسطورة .  بفضل خصائص وحيل فنية عديدة من بينها تلك اللعبة التي تتناص في الوقت نفسه مع أدبيات ما يعرف بعلم تنمية الذات ، كحيلة متقنة تكفلت عباراتها الحكمية ، وبحنكة في أن تأخذ لها من الحكاية الشعبية  في تراثنا العربي جسدا .. وقد كانت رمية أكثر من صائبة . فهنا تتضافر الأسطورة والحكمة ،  فضلا عن براعة السرد في صناعة هذه المعجزة الصغيرة ، من دون أن تتخلى الكلمات عن أشدّ المجازات ضراوة في تنضيد عالمها .  وما حكاية الراعي وأحلام كنزه التي تجوب بنا عبر الصحراء  ، سوى حيلة بارعة ، تتضامن من أجل أن يستعيد العالم هنا – عبر اللغة – بهاءه المتخيل : التحقق عبر اقتفاء الحلم .

    لا شك أن كويلو قد احتال في تأثيث ، وإعادة إنتاج تلك الشذرات المكتنزة بحمولة فلسفة الصوفي والحكمي ، والتي تستثمرها معظم المؤسسات والمدونات  والكتابات المعنية ، أو المنشغلة بموضوعة تنمية الذات ، على غرار تلك العبارات الشائعة ،مثل : عندما تريد شيئا ما فأن الكون بأسره يتضافر ليوفر لك تحقق رغباتك . هذا فضلا عن كونها قد اقترحت اسلوبا سرديا يتجاور ، وبشاعرية عالية مع انساق القصص الشعبي ، مما أضفى عليها بعدا جماليا من حيث التكثيف والسلاسة . ولأنها تتمتع بهذه الفضائل الماكرة  ، وغيرها من الشبهات الحميدة ، والمريبة ، أجدني أعود لتصفحها بين فترة وأخرى ، ليس لشهرتها العالمية بعد نوبل – لأنني أعد من بين المحظوظين الذين أتيح لهم الاطلاع على طبعتها العربية الأولى في مناطق الظل قبل بضع سنوات من اكتشافها وشهرتها في عواصم الثقافة العربية – ثقافة الإعلانات و (البروبقاندا ) ، ولذلك حكاية أخرى  - بل لشيء يتعلق تحديدا بالخيميائي ، ينبغي تكريمه عبر تأكيد اعترافنا بتلك المتع المصانة ، والاستدلال عليها عبر الكلمات التي من سلالة هذا الراعي البرازيلي ، الذي يذكرنا بأنفسنا في يوم ما . وفي يوم ما أيضا لعلني سأستأنس بفصل من ترجمة ابن المقفع في ( كليلة ودمنة – حين يأتي الحديث حول رواية أخرى ، تطمح لمضاهاة الخيميائي ، ألا وهي رواية ( اسمي أحمر ) للتركي أورهان باموق ، والتي تقع هي الأخرى من حيث آلية سردها ، ومادتها الخام  في فخّ التناص إلى حدّ الاستنساخ . 

الأحد، 6 ديسمبر 2015

دروز بلغراد لربيع جابر

مفتاح العمّاري

حكاية حنا يعقوب
      رواية ( دروز بلغراد .. حكاية حنا يعقوب )  لربيع جابر ، تترجم عبر تراجيديا أحداثها ووقائعها وحكاياتها التي تتلخص في محنة المواطن : حنا يعقوب ، بائع البيض المسلوق ، حين قاده حظه العاثر ليكون كبش فداء ، لحظة أن يقبض عليه ذات صباح عندما تصادف وجوده وهو يحمل سلة البيض المسلوق ، عند أطراف ميناء بيروت ، ليزجّ به مع مساجين دروز في سفينة تجارية ، أثناء التأهب لترحيلهم من بيروت إلى بلغراد ، كبديل لسجين درزي ، تمّ إطلاقه تهريبا برشوة في الليلة المنصرمة بتواطؤ الباشا أو حاكم المدينة . ولكي يتم تغطية هذه الشبهة قبض على حنا يعقوب كبديل للسجين الدرزي ، ليحمل من ثم اسم ( سليمان ) ، عوضا عن (حنا ) . حيث تتواطأ كل الظروف المحيطة فيما بعد – سواء في قعر السفينة أو في أقبية السجون – بأن يلبّي صاغرا ، كلما نودي باسم سليمان : أسباب تتعلق أولا بالعيّ حين فقد القدرة على النطق ، اثر ضربهم له في أول الأمر بكعب بندقية على فمه فتهشمت أسنانه . وثانيا باللغة ، وثالثا لأسباب العداء الكامن حينها بين الدروز والمسيحيين .. ورابعا بفوضى إدارة السجون وقتذاك . لأنه بعد أن غادر بيروت قد ظل محض رقم ، ولا يعلم سره سوى السجناء القريبين منه ، وبصورة خاصة أخوة السجين الذي تم تهريبه . وتلك حكاية لها تداعياتها وتفاصيلها في فضاء هذا المتن السردي . ولكن الكاتب ، وعبر السياق السردي للنص قد مرر الكثير من الدلالات ، لاسيما عبر الشخصية المحورية : حنا يعقوب ، كرجل مسالم ومتسامح وطيب ، ينحصر عالمه في حبه لزوجته هيلانة ، وطفلته الرضيعة بربرا ، والانشغال بتدبير قوت أسرته كبائع جوال للبيض المسلوق .
   تبدأ الوقائع في العشرية السادسة من القرن التاسع عشر ، أي في تلك الفترة التي شهدت انحطاط الدولة العثمانية ، وبدايات مؤشرات اندحارها وسقوطها . تلك الدولة التي بدأت باحتلال إقليم صغير في البلقان في الربع الأول من القرن الرابع عشر ، لتتوسع تدريجيا عبر أوربا وآسيا وشمال إفريقيا كإمبراطورية عظيمة دمجت في نسيجها قوميات عديدة وعقائد وديانات ولغات شتى ، لتفرض وجودها وقوتها عسكريا وسياسيا ، في المناطق الخاضعة لها بكل ما ابتكرته من أنظمة وخطط وسياسات عسكرية واقتصادية دعمت استمرارها لستة قرون متواصلة .
    هنا وعبر هذه السيرة الملحمة في حكاية حنا يعقوب ومكابداته طيلة 12 سنة ، مجسدة في غربته المتعددة عن الوطن والدين واللغة والعائلة والاسم .  هذا ما يشير إليه الاقتلاع المأساوي في سيرة حنا يعقوب . لأن الرواية بقدر تناصها التاريخي ، تقع أيضا في تناص روائي مع جنسها . فلأمر ما ذكرتني برائعة : أمين معلوف ( ليون الأفريقي) . فعلى الرغم من اختلاف الوقائع والحقبة التاريخية التي تفصل حسن الوزان عن حنا يعقوب ، إلا أن الأول كمسلم ، وعلى الرغم من أن مأساته تنطلق من حملات التفتيش الصليبية في الأندلس ، والتي تلقي ببصماتها على رحلته المريرة  ، حتى لحظة لجوئه إلى الكنيسة في روما كملاذ ، فيما تنقلب الأدوار هنا ، أعني  في دروز بلغراد ،لأن حنا يعقوب ، يعود من منفاه أخيرا ضمن قوافل الحجاج المسلمين باسم ( الحاج سليمان ) ، من البلقان إلى بيروت ، حتى يتخلى عن القافلة أخيرا ، في أثناء توقفها بمحطتها في دمشق .
   ثمة عديد الملاحظات ،خرجت بها من خلال قراءتي لهذه الرواية ، من بينها : أن جزءا من مكابدات حنا يعقوب في معاقله ، كان يمكن تكثيفه واختزاله عوضا عن الوقوع في تكرار الصور والمشاهد .

     فقط ، هذه محض انطباعات عابرة اقتضتها قراءة أولى . لكن تظل هذه الرواية في المجمل تنطوي على قدر من الجماليات ، سواء في حبكتها الدرامية أو خصائصها السردية  ، وبحق هي رواية ممتعة . 

السبت، 5 ديسمبر 2015

يا أبي قد صرت أفهم

مفتاح العمّاري

يا أبي قد صرتُ أفهم ..


    في بلدٍ كهذا يزخر بالمبدعين الحقيقيين – من شعراء يقتفون سيرة الحُلم ، ويصلحون بعض أخطاء المتنبَّي ، وروائيين يسردون ما غفلتْ عنه شهرزاد ، ويكملون رحلة السندباد في متاهات العجائب والأساطير ، وبُحَّاثٍ ومفكرين يعالجون سهوَ ابن رشد ، ويعمِّرون خرائبَ ابن خلدون ، ورسَّامين يجوبون آفاق اللون ، وهم يتحسَّسون بلوامس من ضوءٍ حكمةَ الظلَِّ في ابتسامة المونوليزا ، وكُتَّابٍ مهرةٍ يعيدون البهاء لهيئة الجاحظ ، الذي قتلته كُتب الورَّاقين – فمن شيخِ الشعراء مصطفى بن زكري، إلى آخرسُلالة  الشعراء المخفورين بشغف البهاء  وفتنته ، مرَّت مائةُ عام ونيَّف محفوفةً بالشعر ، والحروب ، والغزوات ، والجوع اللاَّمع ، والحكايات الضائعة ، والتَّوق الذي لا يكفُّ . ألا تكفي هذه الرحلة للاحتفاء بتجلَّيات الكائن الذي جعل الحياة أكثر رسوخاً وتجذُّراَ .  إن المجتمع المتطلَّع بخيال جامح لذرى الحضارة ، ومباهج الحداثة ، لا يغفل قيمة مُبدعيه، ولا يدع أي مجالٍ للسهو: لكي ينسى إعادة طباعة إشعار الراحل علي الرقيعي كجزءٍ من ضميره الثقافي وقطعةٍ حيَّةٍ من حُلمه الدائم للحرية والانعتاق. كذلك لا يغفل عن تتويج المبدعين والكتاب الكبار ولاسيما من يشكلون علامات لها شأنها في الداخل والخارج، فبعضهم لديه من  التميز ما يجعله جديرا بان يعنى بمؤلفاته وتسويقه، ولا سيما من يحوز منهم على درجة عالية من الكفاءة التي  لا تضاهى، مقارنة بأشهر كُتاّب المقالة في وطننا الكبير وفي العالم أيضاً. أشير هنا تحديدا الى المعلم: يوسف القويري. فلمَ لا نبادر  لطباعة مؤلفاته بالشكل الذي يليق ببهاء حلمها وقوة افكارها، ومن ثم توزيعها على أوسع نطاقٍ ممكن؛ سعياً لتكريس المزيد من القراءة الواعية، التي تجعل عناوينه حاضرةً واثيرةً، وراسخةً في ذاكرة الناشئة. لِمَ لا يكون الاحتفاء قائماً كعلاقة حيَّة في الشارع، ومكينة بالقدر الذي يجعل اسم ( خليفة الفاخري) كافياً لإفساح المجال أمام المعرفة؛ كي تأخذ موقعها في صدارة المشهد ؟ وأنْ تغدو طرابلس أكثر بهجةً وطمأنينة حين تتذكر شاعرا مثل (علي صدقي عبد القادر)، وتراه ذاكرة وجداننا بعيون القصيدة وحدها فخماً ، ومهيباً بهيئة السراي .
    دعونا إذن نفكَّر قليلا في أفراد عائلتنا من عشَّاق المعرفة ، ونعترف بجدواهم ؛ حتى يكون حُلمنا سامقاً ، وكبيراً بحجم الكون ؛ لأن سهونا سيكون فادحاً؛ حين تجعلنا مباهجُ ثقافةُ السوقِ نغفل عن قيمة الكيان الحق، الذي يبدأ من احترامنا لتلك اللحظة القلقة، التي أحاطت بقصيدة علي الرقيعي حين قال:
 يا أبي
 قد صرتُ أفهم
 روعة الحرف الذي
 يصنعُ للإنسان سلَّم.

<>   

الشاعر محي الدين المحجوب

                  مفتاح العمّاري  
           في الواثقة بعصافيرها 

     لنعترف أولاً أن القراءة هنا مدفوعة بأشدّ حاجاتها تطلّباً : المتعة والمعرفة وكشف السرّ والانتصار على الخارج ، لتجاوز خيباته وخرابه وثرثرته .
إنها بنت اللحظة المسافرة – القراءة سفر – مقرون بالحدس وشغف التحقّق . وهي مثل الكتابة لها حفرياتها أيضا .
     في أول الأمر قرأت  " الواثقة بعصافيرها " وكأنّني أقتفي أثر حكاية ما ، أو أبحث عن نسيج خفيّ للكائن الخالق الذي يُفخَّخ صمت الكلمات . سأعترف أيضاً بأنني أحياناً لم أقترب من النصوص كما هي لألامس خصائصها وانبش دلالاتها المتوارية بقدر ما كنت أكمن للقبض على السلالة التي ينتمي إليها القول الشعري في هذا المتن وأكتشف المضامير وأزيح التكوّمات لعلّني أعثر على ضالتي ، ثمة إذا قراءة مغرضة ، محدودة البراءة وهي – بأي حال من الأحوال – مهما تعاطفت مع المقروء : وحاولت أن ترَتّق مكرها بألوان وإشارات وأقواس وعوارض لمّاحة حيناً ، ومتحايلة حيناً آخر ..  لكنّها في أخر المطاف تقول نفسها ، وفق لحظتها الخاصة بها.
   خارج المتن يمكن وصف الشاعر  محي الدين محجوب  بنتف من سيرة غير كاملة لرجل نحيف يرتدي عادة نظارات طبية ويتكلم بنبرة واطئة تخصّه وحده ، يخرج الكلام خلالها مهموساً وشفيفاً ، فيه شيء من اللطف والمكابدة والصبر والانتظار والخجل والهدوء حتى أن ظلّه يكاد لا يُرى . كان والده فيما اعلم رجل دين له شغف بالزهد والتصوف – ترك كتباً أثيرة وبضع مخطوطات يتزوّد الشاعر بحكمتها .
     في منتصف عشرية الثمانينات تعرّفت على الشاعر محي الدين محجوب ، وعلى قصائده التي كان ينشرها في الصحف المحلّية وقد كان مؤثراً في بعضها ومميزاً .. خاصة في قصيدته الطويلة "الغميضة ". كان يثابر على طرابلس قادماً من صرمان - مسقط رأس الشاعر علي الفزاني -كأنه في نزهة قصيرة ، وغالباً ما يظهر برفقة أصدقاء طيبين وحميمين .

صائد المفردات ..

قبل الدخول إلى المتن يفتتح الشاعر مغاليق الكلام باستهلال خاطف تختزله هذه العبارة :"بسنّارته يتزيّن صائد المفردة " .. هل يحقّ  لنا أن نستأنس هذا الاستهلال كأفق انتظار محتمل لرحلة صيد يتم خلالها الإطاحة بالمفردات العالقة بسنّارته . إذا افترضنا هذا المعطى كشرط سيميائي للقراء ة يمكننا اعتبار العصافير مفردات مجنحة في سماء " الواثقة بعصافيرها " واعتبار السنّارة مجاز فخ .
   فالفضاء في معظمه متاح لكائنات الجو واليابسة أكثر منه لكائنات الماء . وعلى الرغم من ذلك فإن حركة القول الشعري تبدأ من الومضة الأولى " بالماء المسرور" مجازاً لليّونة والانسكاب والشفافية مستخدمة في دلالاتها النحوية : ضمير الغائب بعبارات مقتصدة :
  " مسرور بلونه
   لا يخلف الماء

   مجراه

   أو يورّث
   قطراته " *
        النصّ يقرُّ بالمجرى في لمحة خاطفة ومخادعة تصمت على ما تبقى ، وتظلّ بعيدة عنّا تلك المحرّضات النفسية التي يُجاز فيها للسيولة أن تحجب ميراثها لكن عن من ، طالما هي لا تخالف المجرى ؟ هذه اللغة المتكتّمة كأنّها تنشغل عن فراغاتها لتنضيذ مغزاها بمفردات لاحقة ، لم تلتقطها بعد سنّارة المعنى ، أو كأن الشاعر قد تعمّد أشراك القارئ في صياغة النصّ أو تتمّته وفقا لتهيوءات لحظة القراءة .. ولاسيما إن المقطع الذي يلي يظلّ مفتوحا ولا يُلبّي حاجتنا بالكامل رغم تنوّع دلالته النحوية من الغائب إلى المتكلم :
"على تلالي
  تمطر
  بما لا يخطر
   ببال غيمة "
     تظهر مشهدية التلال مجرّدة غير موصوفة فلم تتشكَّل على النحو النسيجي الذي يمنحها بعداً درامياً في القصيدة , له مساحته الذاتية ..فيما يبدو المطر الذي لم يخطر ببال غيمة هو الآخر لا يحمل خبراً شافياً . حيث يظهر المطر بلا حالات – هكذا نخرج في أول الأمر بصيد اللاجدوى ،ونكتشف الكثير من المفردات الصامتة عالقة بسنّارة القصيدة ، لكن بعد حين ما تلبث أن تأخذ المفردة مجراها وهي تجوس عبر مسارب أخرى كأنّ الجوهر طريدها ، تبحث عن المغزى في خفاء نثري مكثّف يوجز مشيته ، ويقتصد الخطى مكتفياً بحمولة حارة من البديهيات التي تقبض على المعنى في بساطة فادحة ، لتنضّد جملة واحدة تكفي لإيواء القصيدة في هدوء موصوف بالزهد والتقشّف والاختزال ، معتمدة الإشارة اللمّاحة الوضيئة المسكونة بروح الأشياء التي تأنس للعلو ، وتغدو على الدوام حيّة ونابضة  توعد بجدواها ، ونشعر للوهلة كأننّا إزاء شطحات النّفري أو محي الدين ابن عربي .
 يقول الشاعر في قصيدة " من بين جميع الكلام " :
 (1)
  "كل صرخة تحمل صمتها
 (2)
 شفق على الصمت
 مِن الصمت .
 (3)
 نذرت
 لثرثرتك صمتي .
 (4)
 مِن بين جميع الكلام
اختار صمتها .
      إنها لغةُ مسَّ ، مؤثثة بأمكنة الروح وحواسها اللاهبة تنتخب علامات التجريد ،  هكذا " كل صرخة تحمل صمتها "  ..  وهنا يتجلّى محي الدين محجوب كشاعر خلوة ، يجذب العلو إليه بمصيدة القصيدة متزوّداً بسلاح البراءة والعذوبة . فبهذا الرنيم ذي النبرة الصوفية التي تخالطها آلية العبارة الحكيمة ينفتح باب الصمت بإيجاز شديد الوقع ، و كأن المتن في مجمله يختزل بهذه الصرخة . أو هي الصرخة مختزلة بصمتها تأوي المتن بأسره .
   في مطارح أخرى من هذه المجموعة تبدو بعض المقاطع الشعرية وهي ( تتمخظر ) خارج سياقها كأنّها تكتفي بنفسها أوهي تحاول بثّ لقطاتها السريعة مثل حفنة من دبابيس في كوادر البياض ، وتنحو اللعب بشيء من الحذق والشيطنة مستخدمة العديد من التيمات ، كالإغراب والإدهاش والتهكّم ..متكئة حيناً على المفارقة وحيناً على اللقطات الطريفة ..موغلة في تجريب مهارتها إلى الحدّ الذي تخذلها فيه العبارة فتغدو الدلالات في بعض المقاطع باردة بسذاجتها وخلوّها من أية متعة تحتمل إيواء الكامن في أوعية الشعر :
  
 " تلح عليّ بنات أفكاري
      إن أدرج أسماءها

      في كتيب عائلتي "

فتأتي الكلمات في جملة اعتراضية تقول نفسها مباشرة بمنأى عن عنوانها ، وتنطّ بخفة ما بين وردة الارتواء في حديقة العطش ، والحطّاب الذي يهاب فأسه لطول ما تعوّدت القطع / ثم يقفز إلى فضاء آخر يقترب من غرفة الكتابة حيث الأفكار الملحاحة تريد إدراجها في كتيب العائلة ، لتبدو كل صورة معزولة عن سياقها وكأنّها انتزعت عنوة من مشهدها العام .. حيث تتشظّى الحالة الشعرية في نقط متناثرة لا يتيح لها تباعدها أي تجاور أو تلاحم لتشكَّل خطاً له نسيجه الدرامي شعرياً.. فثمة حياد يلقى عبارته الطريفة ويمضي دون إبطاء . مثل ما فعل في نصّ قصير بعنوان " سارق المعرفة " ، والذي يقول :
" اختلس الولاّعة
  قال :

 - بروميثيوس

    ليس أفضل مني "
    هكذا وعلى الطريقة ذاتها نجد الكثير من العبارات المحايدة ،كأن يكون الحطّاب على حذر من فأسه القاطعة .. مما يلاحظ غياب البعد الذاتي للقائل ، فالجملة غالباً ما تظهر متروكة لشغف العبارة وحدها ، منذورة للحظتها مزهوّة بصيدها لائذة بالصمت ، مطمئنة لحكمته وسهوه ، وهي تمجّدُ النسيان صانع البياض . إزاء هذا النمط من القول ، يقع العبء على القراءة وحدها ، فهي مطالبة بأن تجاور الأضداد وتقرَّب ما بين الأشياء المتباعدة . لكن مهما كانت القراءة صافية ومتسامحة ، فهي لا تتنازل عن مطلبها كحقّ ذاتي ،  ملزمة بأدائه تجاه نفسها ، لتعمّق معرفتها بالمقروء ، لأنّه ليس في وسعها أن تضفي الوهج عل الأشياء المطفأة ..  فالكتابة الشعرية هي وحدها المطالبة بتجسيد روح الكائن : الروح المصابة بالمسَّ ، التي تمشي ، وفي " كل صرخة تحملُ صمتها " _ كما يقول محجوب _ لتوقظ المخلوقات النائمة ، وتنشر فتنتها بين الكائنات الأخرى .
_____________________________
*عن كتابنا : عتبة لنثر العالم .
** المقتطفات الشعرية من مجموعة( الواثقة بعصافيرها) . 





فَنّ العزلة


 مفتاح العمّاري   
                                  
فن العزلة  .. نهاية العالم

       تعبر قصيدة النثر في لحظتها الراهنة بامتياز عن فن العزلة ..  فقد استطاعت عبر تاريخها القصير أن تقصي نفسها  لتكون من أكثر الفنون عزلة عن القراء  ، مؤكدة في الوقت نفسه  وباستمرار على تضييق مساحة تداولها ، ولعل تهمة العزلة تندرج من بين أبرز الاتهامات التي يواجهها هذا الصنف من الكتابة الشعرية .  كذلك بقد ر ما يتفق منظروها على تحررها من شروط الوزن والقافية لكنهم لم يتفقوا بعد  على أيجاد الحد الأدنى من المعايير للتفريق بين شعرية النثر وقصيدة النثر .. اي هل ثمة شروط فنية يمكن من خلالها الاحتكام إلى شكل ما ،  تنفرد به قصيدة النثر عن شعرية النثر .  هذا المأزق يعد من أبرز الإشكاليات التي تقف عائقا أمام أنصار ها ومريديها  . 

       تبعا لما تقدم ، هل  مازال في  وسع الشاعر العربي الآن ،  أن يشكل ثقلا معرفيا ضمن منظومة ما يسمى بالحياة الثقافية على صعيد حراكها الإبداعي والإعلامي ، بصيغة أخرى هل ثمة حيز حقيقي ، له فاعلية التأثر و التأثير في تشكيل الذائقة وبلورة الرأي ، أي هل يمارس الشاعر من موقع خطابه الشعري أي دور في تغيير حساسية التقبّل والتداول ، والمساهمة في رفد وتجديد مفاهيمنا ، والرفع من درجة معرفتنا بالعالم المحيط . وهل ما زال الشاعر العربي  وفق تعامله مع أدواته  يصلح لأن يكون رافدا معنويا من روافد اللغة الجميلة ، التي بدورها ذات صلة وطيدة بتنضيد المخيلة وشحن طاقة المشاعر والأحاسيس ، ونمط السلوك .  وهل في الإمكان القول بأن الشاعر العربي المعاصر في مقدوره استعادة موقعه . بمعنى هل القصيدة العربية  حسب آخر مستجدات آلياتها الكتابية وأشكالها وخصائصها الفنية ، وتنوع طرائقها  ، و تشتتها هيكليا وإيقاعيا بين عدة أشكال كتابية من العمود إلى  النثر مرورا بقصيدة التفعيلة  ، هل في وسعها مستقبلا أن تحظى ولو بجزء ضئيل من الاستجابة ، يهبها حدا أدنى من التشابك النسيجي مع تحولات المجتمع الثقافية بكل أبعادها .. وأنها حقا ستكون قادرة على تلبية حاجات روحية ومتطلبات معرفية ، بحيث تجد ما يبرر ضرورة تواجدها  كجنس إبداعي له صفة التحقق والمشاركة في صناعة الحياة . هذه الأسئلة المرة تعبر عن مقدمة بالغة التمزق النفسي ، والتهدم المعرفي في سيرة الشاعر العربي الذي أمسى خارج دورة الحياة . هذه الحقيقة المرة تؤكد يوما بعد يوم انقراض شخصية الشاعر ، ومحوها من فسيفساء الكادر الثقافي ..ومن ثم لم يعد للقصيدة أي دور في تأثيث الوجدان الجمعي ، لأن اللحظة الراهنة ، وببساطة شديدة التعقيد قد أقصت الشاعر بعيدا عن سوقها ودورة نموها المتسارعة . فللحياة هي الأخرى لعبتها الخاصة بها .

       هذه بعض الأسئلة التي ينتجها الواقع الثقافي ونعني هنا أوساط المثقفين  حيال القصيدة العربية الراهنة ولا سيما نوعها النثري ، والتي تظل على الرغم من تهكمها و حدّة نبرتها الهجائية اللاذعة  تعكس درجة عالية من الصدق وفي نفس الوقت تثير العديد من الإشكاليات ، وأيضا  تلامس طرفا من الحقيقة المرة ، لأن القصيدة العربية بأشكالها الراهنة لم تعد تحتل ذلك الركن الحميم في وجدان القارئ ، ونعني  بصورة خاصة ذلك الحيز  الذي يجعلها تمثل متطلبا معنويا ملحا . وهي بقدر ما ظلت ردحا طويلا من الزمن تحتل موقع الصدارة بين الفنون الشفوية والكتابية الى الحد الذي أكسبها قدرا من القداسة والعلو حتى أضحت شاهدا ومعيارا على الفصاحة والفروسية والوجاهة والنبل ، غير أنها الآن تبدو كأنها منقطعة تماما عن خبراتها وذاكرتها .. فما الذي حدث حتى أضحت ملامحها خافتة بلا بريق. ولماذا يا ترى تبدو متقوقعة ومعزولة ، وكأنها قد كفرت بنسيج الحياة العربية ، بمعنى أنها لم تعد متناغمة مع إيقاعية الحراك العربي ..وأمست عضوا دخيلا ، حتى أن  معظم الاسهامات الخجولة في نظرية الجمال العربي ، و التي حاولت تسويغ مبررات وجودها ، قد فشلت في اكسابها اي حيز يليق بكائن يتسم بحد أدنى من ( كاريزما ) القبول  .. مع الأخذ في الحسبان بان أزمة الشعر لا تقتصر على النوع النثري بل تشمل ايضا الشعر الموزون . فما الذاي حدث حتى يغدو  الشاعر خاملا ورخوا بعد أن كان  في أزمنة مجده الغابرة يستنفر الخيال ويوقظ الأحاسيس ويلهب المشاعر ويثير فتنة الجمال ، لماذا  أمسى هكذا :  مثار سخرية ، ومحط تحقير وتبخيس وفي أفضل الأحوال هو مثار شفقة أهله ، حيث لم يعد قادرا على تحريك ساكن ، وكأنه قد تواطأ هو الآخر مع حالة تهميشه ،  وتصالح على نحو غامض مع بؤسه  وخيبته وقلّة حيلته ، واني لأستغرب كيف ما يزال بعض الشعراء يستمرؤون الوقوف خلف المنابر وإلقاء قصائد لا يحس بها أحد ،  بما في ذلك الشاعر نفسه الذي أضحى مجرد بهلوان وضيع .

       هذه الأسئلة لطالما راودتنا كثيرا ولاسيما في الآونة الأخيرة حيث فقدنا أي أحتفاء بالوقوف خلف المنبر ، وبدأنا نحاول قدر الإمكان التملص من الإسهام والمشاركة في  عديد الأمسيات الشعرية التي تقام هنا أو هناك ..كأن شعلة اللهب تلك قد انطفأت فجأة وخمد بريقها ، فلم تعد تلاوة الشعر تثير فينا ذلك الإحساس الجميل الذي تعودناه  . لذا يمكن القول من خلال عديد الشواهد أن الشاعر العربي  قد أسهم من حيث يدري أو لا يدري في  الإساءة إلى قصيدته ، أي أنه قد تورط في تكريس الجفوة بين القصيدة والمتلقي ،  فلم تعد القصيدة بالنسبة للشاعر تنطلق من نسيج عام بل هي نسيج شخصي ،  اذ بات كل شاعر يكتب قصيدته الخاصة به ،  وحسب هذا التشكّل الذي أضحت معه القصيدة تنطلق من تاريخية الشاعر وشخصيته وعالمه المغلق الغامض تعذّر علي القارئ بداهة اللحاق بهكذا قصيدة هي في حقيقة أمرها أشد غرابة وانغلاقا على نفسها   ..  وهكذا بداية  من مشروع أو حركة تيار الحداثة في الشعر العربي  صارت القصيدة تنأى شيئا فشيئا إلى أن غدت مسألة اللحاق بها تتطلب سرعة ماراتونية بالغة القسوة تشترط دائما ادعاء مفاهيم وقيم غير متاحة على أرضية واقع الثقافة العربية في لحظتها المعاشة الأشد فوضى وتقلّبا ،  فما يزال الواقع الثقافي  العربي ميّالا بطبعه إلى سلطة الأذن وعادات  الإصغاء،   مبجلا سحر الصوت عوضا عن سحر المعنى . يكرس الإنشاد لا التأمل ، وهو منذ زمن سحيق يستسلم لنسق التذكر  محكوما بعقل غناء ومخيال رحيل ، دائما يجرفه الحنين إلى الماقبل / الماضي / الذاكرة . مفتونا بالكلام لا الكتابة ، هو كائن شفوي  ، يستقي معلوماته ويراكم خبراته شفاهة لا كتابة . حتى عصر النهضة ظل العقل العربي أسير ثقافة الشفوي ، وماالتدوين سوى حافظة شفوية .. فلم يتخلخل نمط الغنائية كمستوى للتفكير إلا مع صعود مرحلة الطباعة التي برزت كمقدمة مهمة لأن يكون الكتاب مشاعا وليس حكرا على الصفوة من الفقهاء .. غير أن ارتفاع نسبة الأمية قد احتفظ بمشاتل خصبة لنمو النمط الغنائي عبر  ما ينتجه الشعر الشعبي الذي شكل بديلا عن شعر الفصحى ، بعد اضمحلال وإفلاس شعر العربية في القرون الوسطى أو ما يسمى بعصور الانحطاط التي شهدت بؤسا مريعا في مستويات المنتوج الشعري .

       في نهاية المطاف نشير هنا إلى جزئية أخرى ساهمت في تكريس عزلة الشاعر ، وإقصاء قصيدته ، هذه الجزئية تضعنا تحديدا إزاء سياسة السوق التي تتحكم الآن في توجيه مسار العالم ،  حيث أضحى كل شيء قابلا لمخططات آليات البورصة  بما في ذلك المعتقدات والأوطان والشعوب . تشتعل الحروب ، وترتكب أبشع المذابح البشرية ، وتتسع خرائط الفقر المصنّع ، وتبتكر الأوبئة والفيروسات ، وتدار صناعة وترويج المخدرات تحت إشراف ورعاية الدول الكبرى بالتعاون مع شبكات المافيا العالمية ، وتتفاقم جرائم الاقتصاد وفضائح السياسة العالمية ، تبعا لهيمنة الكتل المتسلطة على مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة .. كل ذلك والشاعر الذي يفترض فيه أسطرت مسار الانحطاط الحضاري ، واقتفاء اثر الحدث لكي يضع الوجدان العالمي دائما في مركز الإحساس ،  من حيث الملامسة الأدبية القادرة على تجسيد وتشخيص موطن الداء ، ظل غائبا عن سياق الأحداث ، ووقائع اللحظة المعاشة  التي نجحت في تهميش دوره عبر سلسلة من الاستلابات والتغريبات الثقافية ،كان من بينها سطوة التطرف في التجريب والمغامرة .. بحيث أضحى الشاعر آخر كائن يمكنه الاستجابة لتقلبات الواقع ، ومفارقات الحياة الآخذة في التصاعد .
  إذن ، غاب الشاعر عن مسيرة الألم ولم يعد في وسع كلماته أن تجد لها صدى في منظومة التلقي والقراءة  والتداول.. وبدت القصيدة آخر شيء يمكن له أن يستجيب لتوترات العصر ، ويرصد تشيوءات الإنسان في مرحلة العولمة التي كرست كل شيء لآليات السوق بما في ذلك الإنسان نفسه  . لكن يبدو أن فلسفة التعولم ومخططات التشيؤ قد أفسحت المجال عريضا وواسعا لطقاطيق العوالم وهز الوسط ومن ثم تبدّلت الأدوار ، فعوضا عن الشاعر الذي يسهم في تحويل العالم إلى أسطورة ، انقلبت المعادلة وتأسطر الشاعر نفسه متحولا إلى متاه ، وهكذا سيكون على الإنسانية خوض رحلة عسيرة ريثما تعثر في وجدانها على روح الشاعر التي ضاعت وسط ضجيج ووحشية آلة السوق  .لأن موت الشاعر هو في جوهره  ، دلالة خطيرة تشي بموت الخيال ونهاية العالم .
___________
طرابلس صيف 1998

حجاب

مفتاح العمّاري

     ليس من الإنصاف في شيء  لحظة أن تكون مجهولة  ملامح وأسماء وجهات وخرائط وعناوين من تصطفيه دون غيره لتقاسمه أوقاتك وتبثه مشاعرك ، وتشاطره ذاكرتك ودروبك وحكاياتك وخبزك وبهجتك ودموعك وملحك وكل أوجاعك . عندما تتكلم بلغة ناصعة ونقية مع شخص ينظر إليك من شق الباب أو عبر ثقب ما، شخص يراك بيّناً وجلياً ، بينما  لا تبصر منه سوى ما تقترحه الكلمات من إيحاءات و ألوان وأصداء يظلُّ يقينها نهباً لمعاول الشكّ . ولعله رغم ما تنطوي عليه مفارقات هذه  الصورة السوداء من إحساس مجحف بالقساوة والظلم لحظة أن تكون معلوما ومعلنا ومتجليا إلى أقصى درجات الشفافية والوضوح  لكائن متستر ومجهول يستمرئ معك لعبة الخفاء والإضمار والتكتم .. أن تنفتح على المغلق وتنكشف إزاء المحجوب والمندس ، عباراتك تتدفق عارية، تاركة مضانها ودلالاتها ومصبّاتها تنساب نظيفة ومعلنة وبريئة وواضحة في بؤرة الضوء بينما يتوارى شريكك  خلف سجف العتمة،  وهو يتجاذب معك أطراف الكلام  ، حيث يتاح له رصد إيماءة عينيك ، وارتعاشه شهقتك وامتقاع ذاكرتك  وهفهفة خيالك ، واستعراض تاريخك وجغرافيتك ومعتقداتك وهوسك وجنونك ، وحتى ألعابك البريئة  وأثاث غرفة نومك ،وإكسسوارات حمامك  وكل شيء يخص قامتك المفضوحة ، من أخمص قدميك إلى  قبعة سمائك ، ومن مهدك إلى لحدك ،بينما يتعذر عليك اختراق ظلال صورته المشفوعة بطغيان قتامتها ، لتجد نفسك رهنا بعثرات النظر، متلبكا ومرتبكا و عاجزا عن  اقتفاء اثر الصوت ، وحدس صداه المظلم الذي يدور تبعا لنزوات التورية ، ومجازات التكتم ، وتقلبات طقسها المريب ،ودورة فصولها الغريبة ، محاولا الإصغاء لنبرة الكلمات مستنفرا نباهة أذنيك لكي تسعفك على رسم ملامح محدثك ، مكرسا خيالك لحشد من السمات التي تتزاحم دونما جدوى ، مستشعرا في داخلك قساوة لحظتك الظالمة  حين تتعطل بقية حواسك ويختزل كيانك بهيئة أذن صاغية ، فيما ينعم من يبادلك الكلام بإطلاق حواسه كلها ، حيث يبصرك ويسمعك ويتحسس تضاريسك ويشمّ رائحتك .
     ستشعر في دخيلة نفسك بأن هكذا حوار بين التجلي والخفاء لن يكون عادلا أو متكافئا عندما تظل أجهزة حواسك على هذا النحو من الغبن ، بينما يحوز الطرف المقابل على مفاتيحك ومحفظة أسرارك وأجندة عواطفك وأرقام هواتفك . لكن عندما يكون مجهولك هو يقينك الوحيد والممكن الذي وهبته لك حظوظ الصدفة الأم ، واللحظة المستحيلة التي لا تتكرر إشاراتها دائما بنفس الإعجاز، عندها ستحمد العناية راجيا أن يظل خفيك خفيا ومجهولك مجهولا ، لأن فاجعتك قد تنقلب إلى واقع أبلغ عنفا ومرارة لحظة أن تنكشف لك حقيقة محدثك ،فحينها قد تفقده إلى الأبد ولن تجد بديلا تصطفيه لمشاطرتك الخبز والكذب  والشجار والحليب والسفر والدموع والأحلام .
___
طرابلس 11ديسمبر 2007


الثلاثاء، 1 ديسمبر 2015

لا أريد تاريخا ينبح على العابرين


مفتاح العمّاري
اللوحة لكايل طومسون

لا أريد تاريخا ينبح على العابرين


خذوا بساتينكم وأعطوني غابتي المتوحشة ،
 أنا ذئب اللغات سأعوي بعشرين طريقة
 لكي يستيقظ الجياع ويخرجون من تاريخ كهوفهم
 خذوا أمجاد حروبكم  واتركوا قصيدتي ،
 لا أريد تاريخا ينبح على العابرين .
خذوا قصوركم وأسواركم وحراسكم وأعطوني أغنيتي ،
 أنا عطشان ، وحبيبتي تنتظر ،
خذوا القاعات  والفنادق والمنابر والخطب ومكبرات الصوت وتذاكر السفر والجوازات الحمراء وأعتقوا خيالي ..
 أريد اسمي بسيطا ومهذبا بخمسة حروف صقلتها أقفال التجارب ،
فألمي يتفاقم وأطفالي يكبرون بلا وطن .
 خذوا جيوشكم وأعطوني وردتي فحبيبتي تقف عند المنعطف
 خذوا غباركم ..
 أريد سماء قصيدتي صافية بلا دساتير ومعتقلات  
خذوا كنوزكم 
وردّوا لي ذاكرتي الأولى عن الفقر والأكواخ والمطر والأعياد .
خذوا نقودكم ، أريد وحلي نظيفا من الصخب واللصوص .
 خذوا قوانينكم أريد أن تظل مقاهينا بلا مخبرين  وصحفنا بلا مقصات وأناشيدنا بلا عواصف ، وأقمارنا بلا قضبان وعطر حبيباتنا  يسافر.
خذوا جدرانكم أريد الريح والعصافير والخيول والصدى.
خذوا النفط والذهب والطحين ..
 تكفيني بضع كلمات لكي أحلق أبعد من مدى .
خذوا التعاليم واللوائح والأعلام والأناشيد
أريد لغتي فسيحة بلا حواجز وأسلاك شائكة وخرائط وحدود .
خذوا شيوخكم بعيدا عن صلاتي
أريد الله كما عرفته وأنا أبكي على قبر أبي .
واتركوا لي شأن ذئابي أعرف كيف أربِّيها .
اتركوا لي صراخي وفوضاي
اتركوا لي قماشة خيالي أتدثر بها .
 خذوا أحذيتكم الثقيلة ونجوم النحاس بعيدا عن طاولتي
 وأعطوني فنجان قهوتي وردّوا لي هدوئي .
 أعطوني غيمة
 لعلّي أرسم ربيعا جديدا .
_______  

كاتنزارو  10 مارس 2008

D .SAKKO

                                                                                                                                               مفتاح العمّاري

           دكتور ساكّو 




Sakko  رجل من سلالة كاليجولا  ،
يحمل ثلاثة أسماء ثقيلة
في الطريق من روما إلى كاتنزارو
يستهلك هذا الحوت البريّ ثلاثة أحذية سيئة الحظ ،
تتقدّمه بطن إمبراطور
وجد نفسه بمحض الصدف البليدة ، ورعاية المافيا
جرّاحا بدرجة بروفيسور
هو  الوحيد في مستشفى جرمانيتّو الذي يمشي مدجّجا
بقطيع من الأطباء الحمقى
له قرون استشعار لمعرفة أنباء الرماد ،
أينما يذهب يترك خلفه جثثا طازجة
وصخبا من الأخطاء العظيمة . 
___  
كاتنزارو ، 20 ابريل 2008