وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

السبت، 5 ديسمبر 2015

فَنّ العزلة


 مفتاح العمّاري   
                                  
فن العزلة  .. نهاية العالم

       تعبر قصيدة النثر في لحظتها الراهنة بامتياز عن فن العزلة ..  فقد استطاعت عبر تاريخها القصير أن تقصي نفسها  لتكون من أكثر الفنون عزلة عن القراء  ، مؤكدة في الوقت نفسه  وباستمرار على تضييق مساحة تداولها ، ولعل تهمة العزلة تندرج من بين أبرز الاتهامات التي يواجهها هذا الصنف من الكتابة الشعرية .  كذلك بقد ر ما يتفق منظروها على تحررها من شروط الوزن والقافية لكنهم لم يتفقوا بعد  على أيجاد الحد الأدنى من المعايير للتفريق بين شعرية النثر وقصيدة النثر .. اي هل ثمة شروط فنية يمكن من خلالها الاحتكام إلى شكل ما ،  تنفرد به قصيدة النثر عن شعرية النثر .  هذا المأزق يعد من أبرز الإشكاليات التي تقف عائقا أمام أنصار ها ومريديها  . 

       تبعا لما تقدم ، هل  مازال في  وسع الشاعر العربي الآن ،  أن يشكل ثقلا معرفيا ضمن منظومة ما يسمى بالحياة الثقافية على صعيد حراكها الإبداعي والإعلامي ، بصيغة أخرى هل ثمة حيز حقيقي ، له فاعلية التأثر و التأثير في تشكيل الذائقة وبلورة الرأي ، أي هل يمارس الشاعر من موقع خطابه الشعري أي دور في تغيير حساسية التقبّل والتداول ، والمساهمة في رفد وتجديد مفاهيمنا ، والرفع من درجة معرفتنا بالعالم المحيط . وهل ما زال الشاعر العربي  وفق تعامله مع أدواته  يصلح لأن يكون رافدا معنويا من روافد اللغة الجميلة ، التي بدورها ذات صلة وطيدة بتنضيد المخيلة وشحن طاقة المشاعر والأحاسيس ، ونمط السلوك .  وهل في الإمكان القول بأن الشاعر العربي المعاصر في مقدوره استعادة موقعه . بمعنى هل القصيدة العربية  حسب آخر مستجدات آلياتها الكتابية وأشكالها وخصائصها الفنية ، وتنوع طرائقها  ، و تشتتها هيكليا وإيقاعيا بين عدة أشكال كتابية من العمود إلى  النثر مرورا بقصيدة التفعيلة  ، هل في وسعها مستقبلا أن تحظى ولو بجزء ضئيل من الاستجابة ، يهبها حدا أدنى من التشابك النسيجي مع تحولات المجتمع الثقافية بكل أبعادها .. وأنها حقا ستكون قادرة على تلبية حاجات روحية ومتطلبات معرفية ، بحيث تجد ما يبرر ضرورة تواجدها  كجنس إبداعي له صفة التحقق والمشاركة في صناعة الحياة . هذه الأسئلة المرة تعبر عن مقدمة بالغة التمزق النفسي ، والتهدم المعرفي في سيرة الشاعر العربي الذي أمسى خارج دورة الحياة . هذه الحقيقة المرة تؤكد يوما بعد يوم انقراض شخصية الشاعر ، ومحوها من فسيفساء الكادر الثقافي ..ومن ثم لم يعد للقصيدة أي دور في تأثيث الوجدان الجمعي ، لأن اللحظة الراهنة ، وببساطة شديدة التعقيد قد أقصت الشاعر بعيدا عن سوقها ودورة نموها المتسارعة . فللحياة هي الأخرى لعبتها الخاصة بها .

       هذه بعض الأسئلة التي ينتجها الواقع الثقافي ونعني هنا أوساط المثقفين  حيال القصيدة العربية الراهنة ولا سيما نوعها النثري ، والتي تظل على الرغم من تهكمها و حدّة نبرتها الهجائية اللاذعة  تعكس درجة عالية من الصدق وفي نفس الوقت تثير العديد من الإشكاليات ، وأيضا  تلامس طرفا من الحقيقة المرة ، لأن القصيدة العربية بأشكالها الراهنة لم تعد تحتل ذلك الركن الحميم في وجدان القارئ ، ونعني  بصورة خاصة ذلك الحيز  الذي يجعلها تمثل متطلبا معنويا ملحا . وهي بقدر ما ظلت ردحا طويلا من الزمن تحتل موقع الصدارة بين الفنون الشفوية والكتابية الى الحد الذي أكسبها قدرا من القداسة والعلو حتى أضحت شاهدا ومعيارا على الفصاحة والفروسية والوجاهة والنبل ، غير أنها الآن تبدو كأنها منقطعة تماما عن خبراتها وذاكرتها .. فما الذي حدث حتى أضحت ملامحها خافتة بلا بريق. ولماذا يا ترى تبدو متقوقعة ومعزولة ، وكأنها قد كفرت بنسيج الحياة العربية ، بمعنى أنها لم تعد متناغمة مع إيقاعية الحراك العربي ..وأمست عضوا دخيلا ، حتى أن  معظم الاسهامات الخجولة في نظرية الجمال العربي ، و التي حاولت تسويغ مبررات وجودها ، قد فشلت في اكسابها اي حيز يليق بكائن يتسم بحد أدنى من ( كاريزما ) القبول  .. مع الأخذ في الحسبان بان أزمة الشعر لا تقتصر على النوع النثري بل تشمل ايضا الشعر الموزون . فما الذاي حدث حتى يغدو  الشاعر خاملا ورخوا بعد أن كان  في أزمنة مجده الغابرة يستنفر الخيال ويوقظ الأحاسيس ويلهب المشاعر ويثير فتنة الجمال ، لماذا  أمسى هكذا :  مثار سخرية ، ومحط تحقير وتبخيس وفي أفضل الأحوال هو مثار شفقة أهله ، حيث لم يعد قادرا على تحريك ساكن ، وكأنه قد تواطأ هو الآخر مع حالة تهميشه ،  وتصالح على نحو غامض مع بؤسه  وخيبته وقلّة حيلته ، واني لأستغرب كيف ما يزال بعض الشعراء يستمرؤون الوقوف خلف المنابر وإلقاء قصائد لا يحس بها أحد ،  بما في ذلك الشاعر نفسه الذي أضحى مجرد بهلوان وضيع .

       هذه الأسئلة لطالما راودتنا كثيرا ولاسيما في الآونة الأخيرة حيث فقدنا أي أحتفاء بالوقوف خلف المنبر ، وبدأنا نحاول قدر الإمكان التملص من الإسهام والمشاركة في  عديد الأمسيات الشعرية التي تقام هنا أو هناك ..كأن شعلة اللهب تلك قد انطفأت فجأة وخمد بريقها ، فلم تعد تلاوة الشعر تثير فينا ذلك الإحساس الجميل الذي تعودناه  . لذا يمكن القول من خلال عديد الشواهد أن الشاعر العربي  قد أسهم من حيث يدري أو لا يدري في  الإساءة إلى قصيدته ، أي أنه قد تورط في تكريس الجفوة بين القصيدة والمتلقي ،  فلم تعد القصيدة بالنسبة للشاعر تنطلق من نسيج عام بل هي نسيج شخصي ،  اذ بات كل شاعر يكتب قصيدته الخاصة به ،  وحسب هذا التشكّل الذي أضحت معه القصيدة تنطلق من تاريخية الشاعر وشخصيته وعالمه المغلق الغامض تعذّر علي القارئ بداهة اللحاق بهكذا قصيدة هي في حقيقة أمرها أشد غرابة وانغلاقا على نفسها   ..  وهكذا بداية  من مشروع أو حركة تيار الحداثة في الشعر العربي  صارت القصيدة تنأى شيئا فشيئا إلى أن غدت مسألة اللحاق بها تتطلب سرعة ماراتونية بالغة القسوة تشترط دائما ادعاء مفاهيم وقيم غير متاحة على أرضية واقع الثقافة العربية في لحظتها المعاشة الأشد فوضى وتقلّبا ،  فما يزال الواقع الثقافي  العربي ميّالا بطبعه إلى سلطة الأذن وعادات  الإصغاء،   مبجلا سحر الصوت عوضا عن سحر المعنى . يكرس الإنشاد لا التأمل ، وهو منذ زمن سحيق يستسلم لنسق التذكر  محكوما بعقل غناء ومخيال رحيل ، دائما يجرفه الحنين إلى الماقبل / الماضي / الذاكرة . مفتونا بالكلام لا الكتابة ، هو كائن شفوي  ، يستقي معلوماته ويراكم خبراته شفاهة لا كتابة . حتى عصر النهضة ظل العقل العربي أسير ثقافة الشفوي ، وماالتدوين سوى حافظة شفوية .. فلم يتخلخل نمط الغنائية كمستوى للتفكير إلا مع صعود مرحلة الطباعة التي برزت كمقدمة مهمة لأن يكون الكتاب مشاعا وليس حكرا على الصفوة من الفقهاء .. غير أن ارتفاع نسبة الأمية قد احتفظ بمشاتل خصبة لنمو النمط الغنائي عبر  ما ينتجه الشعر الشعبي الذي شكل بديلا عن شعر الفصحى ، بعد اضمحلال وإفلاس شعر العربية في القرون الوسطى أو ما يسمى بعصور الانحطاط التي شهدت بؤسا مريعا في مستويات المنتوج الشعري .

       في نهاية المطاف نشير هنا إلى جزئية أخرى ساهمت في تكريس عزلة الشاعر ، وإقصاء قصيدته ، هذه الجزئية تضعنا تحديدا إزاء سياسة السوق التي تتحكم الآن في توجيه مسار العالم ،  حيث أضحى كل شيء قابلا لمخططات آليات البورصة  بما في ذلك المعتقدات والأوطان والشعوب . تشتعل الحروب ، وترتكب أبشع المذابح البشرية ، وتتسع خرائط الفقر المصنّع ، وتبتكر الأوبئة والفيروسات ، وتدار صناعة وترويج المخدرات تحت إشراف ورعاية الدول الكبرى بالتعاون مع شبكات المافيا العالمية ، وتتفاقم جرائم الاقتصاد وفضائح السياسة العالمية ، تبعا لهيمنة الكتل المتسلطة على مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة .. كل ذلك والشاعر الذي يفترض فيه أسطرت مسار الانحطاط الحضاري ، واقتفاء اثر الحدث لكي يضع الوجدان العالمي دائما في مركز الإحساس ،  من حيث الملامسة الأدبية القادرة على تجسيد وتشخيص موطن الداء ، ظل غائبا عن سياق الأحداث ، ووقائع اللحظة المعاشة  التي نجحت في تهميش دوره عبر سلسلة من الاستلابات والتغريبات الثقافية ،كان من بينها سطوة التطرف في التجريب والمغامرة .. بحيث أضحى الشاعر آخر كائن يمكنه الاستجابة لتقلبات الواقع ، ومفارقات الحياة الآخذة في التصاعد .
  إذن ، غاب الشاعر عن مسيرة الألم ولم يعد في وسع كلماته أن تجد لها صدى في منظومة التلقي والقراءة  والتداول.. وبدت القصيدة آخر شيء يمكن له أن يستجيب لتوترات العصر ، ويرصد تشيوءات الإنسان في مرحلة العولمة التي كرست كل شيء لآليات السوق بما في ذلك الإنسان نفسه  . لكن يبدو أن فلسفة التعولم ومخططات التشيؤ قد أفسحت المجال عريضا وواسعا لطقاطيق العوالم وهز الوسط ومن ثم تبدّلت الأدوار ، فعوضا عن الشاعر الذي يسهم في تحويل العالم إلى أسطورة ، انقلبت المعادلة وتأسطر الشاعر نفسه متحولا إلى متاه ، وهكذا سيكون على الإنسانية خوض رحلة عسيرة ريثما تعثر في وجدانها على روح الشاعر التي ضاعت وسط ضجيج ووحشية آلة السوق  .لأن موت الشاعر هو في جوهره  ، دلالة خطيرة تشي بموت الخيال ونهاية العالم .
___________
طرابلس صيف 1998