وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الخميس، 10 ديسمبر 2015

نسيان محمد سالم الحاجي

مفتاح العمّاري

شبهة المحو 

      قبل رحيلِه في منتصفِ عقد التسعينيات * من القرن الذي مضى ، كان الأديب القصّاص (محمد سالم الحاجّي)  قد أضاف لمدونة السرد في ليبيا " مجموعتين قصصيتين ، هما :  " ثلاثة وجوه لعملة واحدة " و " مشاهدات في بحر الدم " .,  وعلى الرغم من أن ( الحاجي)  من الشخصيات الأدبيةِ الفاعلةِ والمؤثرةِ التي يَصْعب نسيانها ، لكننا – كما  يبدو -  قد نسيناه .
    النسيانُ هُنا يَتّخِذُ - هو الآخر  - عِدّة وجوهٍ لنسيانٍ واحد . ربما لأن شخصيةَ الحاجّي قد انطوت على شيء من الخجلِ وإيثارِ العزلة ، بحيث ظلّ حوارُها باطنياً في الغالب ، وهذا ما تشي به آثارُه القصصية  التي تعكسُ بعضا من ملامح سيرته .. فأبطال قصصه غالبا متذمّرون وقلقون ، يتعذّر عليهم التكيف مع المحيط . وربما  النسيان  هنا ، قد يُعد على وجهٍ أكثر براءة  بمثابةِ عمليةِ هضمٍ لتجربته  ، لأن آليةَ الهضمِ  حين تأتي على  ما تتلقّفه من تجارب الآخرين، من شأنها أن تمتصَّ المعلومةَ ، وتستوعبها إلى الحدِّ الذي يصل بها إغفالِ المصدرِ ومحوِه من الذاكرةِ على نحو تلقائي . ومن وجهٍ آخر – وهو الأقل براءة والأكثر جرما -  قد يُعد  النسيان بمثابةِ نكرانٍ وجحودٍ ، لأنه ، ومنذ سنةِ رحيلِ الحاجي عن عالمِنا  ، قلّما يُشار إلى آثارهِ  وإسهامِه المتميز في مدونةِ القصةِ الليبية .وهي مثلبةٌ تشي بأزمةِ كيان ، لأنّها لا تقتصر عليه وحده ، بل تشمل مبدعين آخرين طواهم النسيان .  ولعلّنا هُنا إذ نتساءل عن أسبابِ هذه الظاهرة المقيتة ، لحظة أن يُغَلِّف السهو  تجربةَ أدبٍ وحياةٍ بهذا القدر من التفرّد والثراء ، إنما نتهم أنفسنا  ،وكأن ثمة  من يُحاول محو آثارها وطمس ملامحها ، فباستثناء ما استدعته الببليوغرافيا على حياء وهي تقدّمُ توصيفاً موجزاً وتقليدياً ووثائقياً ، حيث يُكتفي فقط بذكرِ ما تواترَ في مثلِ هذه الانشغالات التوثيقية ، لم نجد في مدونة الأدب الليبي بقضها وقضيضها ، أيما اعتناء بنتاجِه القصصي من لَدُن النقادِ والمهتمين بمسيرةِ الأدبِ القصصيّ في هذا الوطن المبتلى بمثالب نكران الذات . 
     عَرَفْتُ الحاجّي شحنةً من الأسئلة التي لا تكفّ ، أسئلة تتعلّق بالوجودِ والكلمةِ والمرأةِ والمكان . كُنّا في يوم ما نَلتقي ، وكنّا نتحاور ، ونحترم اختلافنا وتنوعنا  . عاش محمد سالم الحاجيّ طيلة حياته مبدعا وعاشقا ورحالة ، ثم غادر ضفة عالمنا ليخوض رحلة أخرى . لكن ما تركه من كلمات ، يظل كفيلا بإزالة شبهة الموت  - على الأقل بالنسبة للقراءة الأصيلة . فمازالت أفكاره حية ونشطة وجامحة .  لهذا هو باق وحاضر بقوةٍ بيننا ، وعلى الرغم من ذلك ما من أحد - كما يبدو هنا- يجيد كرامة الإصغاء سوى الندرة . وهذا من  سوء الطالع .
____

*توفي الحاجّي في 11ديسمبر1994. وبمناسبة ذكرى وفاته أعيد نشرة هذه الكلمة .