مفتاح العمّاري
شبهة المحو
قبل رحيلِه في منتصفِ عقد التسعينيات * من القرن الذي مضى ، كان الأديب
القصّاص (محمد سالم الحاجّي) قد أضاف
لمدونة السرد في ليبيا " مجموعتين قصصيتين ، هما : " ثلاثة وجوه لعملة واحدة " و "
مشاهدات في بحر الدم " ., وعلى الرغم
من أن ( الحاجي) من الشخصيات الأدبيةِ
الفاعلةِ والمؤثرةِ التي يَصْعب نسيانها ، لكننا – كما يبدو -
قد نسيناه .
النسيانُ هُنا يَتّخِذُ - هو الآخر - عِدّة وجوهٍ لنسيانٍ واحد . ربما لأن شخصيةَ
الحاجّي قد انطوت على شيء من الخجلِ وإيثارِ العزلة ، بحيث ظلّ حوارُها باطنياً في
الغالب ، وهذا ما تشي به آثارُه القصصية
التي تعكسُ بعضا من ملامح سيرته .. فأبطال قصصه غالبا متذمّرون وقلقون ،
يتعذّر عليهم التكيف مع المحيط . وربما
النسيان هنا ، قد يُعد على وجهٍ
أكثر براءة بمثابةِ عمليةِ هضمٍ
لتجربته ، لأن آليةَ الهضمِ حين تأتي على
ما تتلقّفه من تجارب الآخرين، من شأنها أن تمتصَّ المعلومةَ ، وتستوعبها
إلى الحدِّ الذي يصل بها إغفالِ المصدرِ ومحوِه من الذاكرةِ على نحو تلقائي . ومن
وجهٍ آخر – وهو الأقل براءة والأكثر جرما -
قد يُعد النسيان بمثابةِ نكرانٍ
وجحودٍ ، لأنه ، ومنذ سنةِ رحيلِ الحاجي عن عالمِنا ، قلّما يُشار إلى آثارهِ وإسهامِه المتميز في مدونةِ القصةِ الليبية
.وهي مثلبةٌ تشي بأزمةِ كيان ، لأنّها لا تقتصر عليه وحده ، بل تشمل مبدعين آخرين
طواهم النسيان . ولعلّنا هُنا إذ نتساءل
عن أسبابِ هذه الظاهرة المقيتة ، لحظة أن يُغَلِّف السهو تجربةَ أدبٍ وحياةٍ بهذا القدر من التفرّد والثراء
، إنما نتهم أنفسنا ،وكأن ثمة من يُحاول محو آثارها وطمس ملامحها ، فباستثناء
ما استدعته الببليوغرافيا على حياء وهي تقدّمُ توصيفاً موجزاً وتقليدياً ووثائقياً
، حيث يُكتفي فقط بذكرِ ما تواترَ في مثلِ هذه الانشغالات التوثيقية ، لم نجد في مدونة
الأدب الليبي بقضها وقضيضها ، أيما اعتناء بنتاجِه القصصي من لَدُن النقادِ
والمهتمين بمسيرةِ الأدبِ القصصيّ في هذا الوطن المبتلى بمثالب نكران الذات .
عَرَفْتُ الحاجّي شحنةً من الأسئلة التي لا
تكفّ ، أسئلة تتعلّق بالوجودِ والكلمةِ والمرأةِ والمكان . كُنّا في يوم ما نَلتقي
، وكنّا نتحاور ، ونحترم اختلافنا وتنوعنا
. عاش محمد سالم الحاجيّ طيلة حياته مبدعا وعاشقا ورحالة ، ثم غادر ضفة
عالمنا ليخوض رحلة أخرى . لكن ما تركه من كلمات ، يظل كفيلا بإزالة شبهة الموت - على الأقل بالنسبة للقراءة الأصيلة . فمازالت
أفكاره حية ونشطة وجامحة . لهذا هو باق
وحاضر بقوةٍ بيننا ، وعلى الرغم من ذلك ما من أحد - كما يبدو هنا- يجيد كرامة الإصغاء سوى الندرة . وهذا
من سوء الطالع .
____
*توفي الحاجّي في 11ديسمبر1994.
وبمناسبة ذكرى وفاته أعيد نشرة هذه الكلمة .