مفتاح العمّاري
ابنة الرّمان
يُحكى : أن رجلاً جلسَ ذات صباح تحت شجرة
توتٍ ، شارد الذهنِ يُفكّرُ مهموما في محنته، فها هو بعد سبع سنوات من زواجه لم يرزق بذريةٍ تؤنسه
وتشدّ أزره . وفيما هو كذلك ، وإذ بغولٍ في
هيئةِ شيخٍ مسنّ ،يقف قبالته ، ويناوله
رمّانةً ناضجةً في غير موسمها .. ويخبره : بأن زوجه ستحبل على الفور ، و ستنجب له
البنات والبنين إذا أكلت هذه الرمّانة . وقد اشترط عليه أن يُوهب له المولود
الأول حتى تستمر امرأته في الانجاب ، وفي
غمرةِ دهشته وافق الرجلُ العاقرُ ، مؤكّداً بأنه سيلبّي رغبةَ الشيخِ الذي اختفى
فجأة .
حكى الرجل لزوجته ما حدث
بينه وبين الشيخ ، وناولها رمانةَ السحرِ تلك ،والتي ما أن أكلت حبّها اللذيذ حتى حبلت على الفور . وفي الشهر
التاسع أنجبت بنتاً بالغةَ الحسنِ ، سمّياها (حَبّ الرمان ) ، وما كادت
الطفلةُ تكبرُ حتى استدرجها اللعبُ .. فأخذت تتعرّف على صخبِ الشارع .. ولم تأبه
كثيراً بذلك الشيخِ الغامضِ الذي ما فتئ يستوقفها بين يوم وآخر ، وينحني عليها هامسا في أذنها مكررا الجملة
ذاتها ، " قولي لأمّك أين ضاعت الكلمة " ، ثم يقرص أذنها ويختفي . لكن (حَبّ الرمان) وهي في غمرة اللعب قد سهت عن إبلاغ أمّها
بأمرِ ذلك الشيخِ الغامضِ .. حتى صبيحة ذلك اليوم الذي همّت فيه الأم بغسلِ رأسِ (
حَبّ الرمان )، فأحزنها أن ترى بقعةً
صغيرةً من الدم تصبغ أذن طفلتها .حينها فقط تذكّرت (حّبّ الرمان) حكايتها المهملة ،
وردّدت على مسامع أمها ، ما كان يقوله لها ذلك الشيخ الغامض .
في صباحِ اليومِ التالي طبعت
الأم على خد (حَبّ الرمان) قبلتها الحنونة بعد أن ألبستها أجمل فساتينها، ثم ودعتها بحرارة وهي تُحمّلها
الكلماتِ التي ينبغي أن تهمسَ بها على مسامع الغول .
وهكذا ما أن خرجت (حَبّ الرمان)
إلى الشارع حتى وجدت ذلك الشيخ الغامض في انتظارها ، فهست له بالجملة التي حفظتها عن
ظهر قلب ، " تقول لك أمي ، من هنا الى هناك يمكنك أن تأخذ الكلمة إذا شئت
" .
ما أن فهم الغولُ مغزى
العبارة ، حتى بادر بحمل (حَبّ الرمان) على كتفيه وطار بها بعيداً ليسجنها داخل
قصره النائي في الغابة الموحشة .. حيث ظلّ
كل مساء يطعمها من غنائم صيده، لحما شهيّا
من الأرانب وصغار الغزلان ، ويجلب لها فاكهةً طازجةً لم تُمَسّ .
هكذا كبرت (حَبّ الرمان ) في
كنفِ الغولِ وغدت صبيةً مليحةً يغارُ من حسنها القمر . لكن وفي يوم من الأيام ، بينما كان الغول غائباً ، خطر لها أن تتحايل على السأم بالتجوال حول أطراف
القصر .. فرأت في الأصطبل فرساً غريبة ، نصف جسمها بهيئة حيوان ، ونصفها الآخر
امرأة . . كانت تتغذّى على فضلات من لحوم البشر وعظامهم .. فتقزّزت (حَبّ الرمان) من بشاعة المشهد ، ثم استبدلت اللحم شعيراً
والعظام قشاً ، وظلّت تلاطفُ الفرسَ حتى
رامت طعامها الجديد ، وخلف القصر اكتشفت غرفةً معزولة ينبعث من وراء بابها
الموصد أنينٌ موجع ، فهالها الأمر، وشعرت بالخوف والارتياب ، ثم تقدّمت في حذرٍ من
الباب وعالجت فتح قفله.. وما كادت تدخل الغرفة حتى فوجئت بأميرٍ سجينٍ يتوجّع
وحيداً من شدّة المرض والجوع .. فدأبت على إطعامه وتطبيبه حتى تماثل للشفاء .. وحين
سألته عن نسبه عرفت بأنه ابن سلطان البلاد ، فترك كلامه في قلبها شغفا ومودة ،
وكذلك هو قد تعلّق قلبه بأدبها ولطفها
وجمالها .وذات يوم قرر الأثنان ، (حَبّ الرمان
) والأميرُ السجين، الفرارَ بعيداً عن مملكة الغول .
كانت (حَبّ الرمان) قد حدست أن قوةَ الغولِ تكمنُ بين طيات شعر رأسه ،
لذا استدرجته ذات ليلة بكلمات تقطر ودّا وأخذت تفلي له شعر رأسه ، فاستكان الغولُ
منتشياً برحلةِ الأناملِ الرقيقةِ الناعمةِ وهي تطاردُ القمل عبر مسارب فروته..
لكن اصابع حَبّ الرمان قد اصطدمت أثناء
مشيتها بين طيات الشعر الكثيف بعودٍ صلبٍ من قصبِ الواحات البعيدة ، وصرةٍ بحجم ثمرة التين ، وإبريقٍ صغير ٍمن نحاسٍ مصقول
.. وحين سألته عن سرّ هذه التعاويذ العجيبة انتفض الغولُ غاضباً ونهرها بعنفٍ
لاعهدَ لها به .. فتضرعت (حَبُّ الرمان) وهي تبكي بكاء حاراً مسّ شغاف الغولِ
وحرّك مشاعره الراكدة .. حتى رقّ لها قلبه كاشفاً في لحظةٍ واحدةٍ عن سرِّ قوته ..
وقال :
" يكفي عند الضرورة
أن يُرمى عودُ القصبِ ليكون غابة شائكة يصعب عبورها / وتكون صرّة الرماد إذا ما بُعثرت
فوق الأرض حريقا عظيما يأكلُ الأخضر واليابس ، أمّا اذا سُكب إبريق النحاسِ ، فأنه يصير نهراً هادراً يكتسحُ
السهولَ ويُغطي الجبالَ العالية.
في تلك الليلة ما كاد الغول يستغرق في نومه ،
حتى تدبّرت (حَبُّ الرمّان) عوداً شبيهاً ، وصرةً من رمادٍ لا يجاورها الشكّ ، ومن
نحاس شقيق أحضرت إبريقا آخر .. وبعد أن فكّت عقدة التعاويذ الثلاث من بين خصلات
الشعر الكثيفة .. ربطت التعاويذ المزيفة عوضا عنها . ثم تسللت هي وأميرها خارج أسوار القصر .
بينما القمر يشع بدرا ، استيقظ
الغول فزعا اثر كابوس جثم على صدره وكاد أن يكتم أنفاسه وقد هاله نباحُ الكلبِ الذي انبرى ينبح دون توقف
. في أولِ الأمر مرّر الغول أصابعه الخشنة على فروة رأسه ، فاطمأن
لوجود التعاويذ الثلاث كما هي .. ثم طفق يبحث عن (حَبّ الرمّان )، فلم يجد سوى
الفراغ وحده يجثم موحشا في المكان .. ولمّا تناهى إليه وقع حوافر الفرس وهي تخبّ
مبتعدة ، اكتنفه التوجسُ وخامره الريبُ
فركض خارجا يقتفي أثر الفرسِ التي كانت
وقتها تهرب بعيدا ، يتبعه كلبُه الوفيّ . وحين شعرت حَبّ الرمان بالخطر
، رمت عود القصب خلفها ، فأنتشرت غابة
كثيفة ، فكان على الغول أن يفقد نصف قوته لكي يشقّ مسربا وسط الأشجار الشائكة. ثم
بعثرت (حَبّ الرمان ) صرةَ الرماد ، ليرتفع حريقٌ هائل الى عنان السماء ،
فتحتّم على الغول أن يهدرَ النصفَ الثاني من قوته
لإطفاء الحريق الهائل ، وقد استنفذ آخر بلل من لعابه الكريه . حتى أنه حينها لم ينتبه لكلبه
الذي التهمته النار فسقط محترقا يلفظ عواءه الأخير .
وعندما سكبت ( حَبُّ الرمان
) إبريق النحاس ، تسمّر الغولُ مستسلماً في عجز ٍومهانة وخيبة فادحة إزاء النهر
الهادر .. وظل واقفا يرنو بحسرةٍ ومرارةٍ إلى الأفق البعيد ، حيث الفرس المحمومة
تسابق الريح ، وتتوارى بعيدا ، وهي تحمل فوق ظهرها الأمير وحَبُّ الرّمان ، صوب الضفافِ الآمنة .