مفتاح العمّاري
روايات البوكر
مصائر ربعي المدهون
تنفتح
راوية مصائر، على بداية رصينة تقترح قدرا من الهدوء لافتتاح سردها . وان كانت أول
جملة في الافتتاحية فضفاضة بعض الشيء
" ما أن لا مست قدم جولي الدرجة الأولى لسلم الحديد الصدئ الصاعد حتى
باب البيت الأزرق الشاحب مثل سماء حائرة بين الشتاء والصيف ، " . وهي تتداعى على
خلفية إيقاع أجراس كنائس تُدقّ . لنعرف أن جولي نصف الفلسطينية ، قد قدمت من لندن
إلى عكا تلبية لوصية أمها الأرمينية الفلسطينية والتي تزوجت من طبيب برتبة ضابط
بالجيش البريطاني وهربت معه لوطنه ، وظلت هناك إلى أن توفيت قبل أيام . وكانت قبل منيتها بأسبوع قد أوصت أن يذر نصف
رماد جثتها فوق نهر التايمز ، فيما يدفن النصف الآخر ببيت العائلة القديم ، والذي منذ
اقترانها بزوجها الانجليزي ، حيث اقتضت الأحداث بعد ذلك أن تهجر عكا نهائيا ، بعيد
إنجابها لأبنتها الوحيدة داخل قاعدة عسكرية
في 1948 – هي نفسها جولي – التي
التزمت بتنفيذ وصية الأم ، جاءت تحمل رماد الأم في قارورة بهيئة تمثال وهي تصعد
درج المبني باتجاه البيت القديم الذي هجرته عائلة جدّها لأمها منذ ستين سنة .
وهكذا حققت الحركة الأولى في الرواية التي اقترح لها المؤلف هذا الكونشرتو السلّمي ، لتقبض على واقعية عالمها بطريقة تحقق إلى حد كبير تناغما شديد البراعة من حيث التنقل بين الأمكنة والشخصيات وربطها بالوقائع وما يتخللها من مشاهد ولقطات برعت في تجسيد شخصياتها وتكثيف عديد الدلالات ، فضلا عن استدعاء التاريخي من أحداث وشخصيات ، معظمها ذو صلة بتأثيث الهوية ولملمة شظاياها . ضمن انمامها بتوصيف المجتمعي بكل مكوناته الثقافية ، والتوغل في تشخيص الشتات والغربة ، سواء في الخارج أو الداخل . الحركة الأولى حافظت على سياقها ، وهي تلعب على مجموعة من التيمات كوحدات مؤسسة لمقتضيات السرد ، واستطاعت باقتدار أن تسطر أكثر من مقولة ، ورسالة من دون أن تخل بما هو ممتع وشيق ومؤثر فنياً ، معبّرة عن خبرة رصينة في استدعاء أطراف واقعها عبر تجميع مواده وتنضيد صوره وشحنها بتلك الطاقة ذات الحمولة الحارة شعريا .
وهكذا حققت الحركة الأولى في الرواية التي اقترح لها المؤلف هذا الكونشرتو السلّمي ، لتقبض على واقعية عالمها بطريقة تحقق إلى حد كبير تناغما شديد البراعة من حيث التنقل بين الأمكنة والشخصيات وربطها بالوقائع وما يتخللها من مشاهد ولقطات برعت في تجسيد شخصياتها وتكثيف عديد الدلالات ، فضلا عن استدعاء التاريخي من أحداث وشخصيات ، معظمها ذو صلة بتأثيث الهوية ولملمة شظاياها . ضمن انمامها بتوصيف المجتمعي بكل مكوناته الثقافية ، والتوغل في تشخيص الشتات والغربة ، سواء في الخارج أو الداخل . الحركة الأولى حافظت على سياقها ، وهي تلعب على مجموعة من التيمات كوحدات مؤسسة لمقتضيات السرد ، واستطاعت باقتدار أن تسطر أكثر من مقولة ، ورسالة من دون أن تخل بما هو ممتع وشيق ومؤثر فنياً ، معبّرة عن خبرة رصينة في استدعاء أطراف واقعها عبر تجميع مواده وتنضيد صوره وشحنها بتلك الطاقة ذات الحمولة الحارة شعريا .
لكن حالما تدخل الرواية في حركتها الثانية
حتى يختل ميزان العمل ، وتفقد العملية السردية تلك الوتيرة التصاعدية في إنماء
عالمها . عبر إقحام شخصية ( جنين ) كرواية
داخل رواية ، لها أسئلتها الموزعة بين عالميها الافتراضي ، والواقعي كمحاولة تفشل في ترتيق ذلك الاتصال الذي يتوق لخلق قدر
من الارتباط على نحو ما بشخوص الحركة الأولى ، لكنه في الآن يسحب الرواية إلى حافة
الهشاشة ، والتي ما تلبث أن تنحدر إلى علاقات مفككة ، سواء على مستوى السرد أو
تطور الشخصيات والوقائع ، وتنجر في بعض مقاطعها إلى الثرثرة وتكرار المعلومة ، كأن
ثمة مقاطع تم إقحامها عنوة مما سبب في هلهلة النسيج ، إلى حد غاب معه التماسك
الفني والموضوعي في الآن نفسه . لأننا لو قمنا بعملية جرد لعديد الوقائع والشخصيات
بدءا من الحركة الثانية سنجد بأن بعضها لا يخدم السياق ، ولو تم حذفه لحافظت
الرواية على تماسكها وترابط أحداثها . وبدأت تضعف ، أو تتلاشى تلك الرصانة التي
وسمت القسم الأول عبر الانجذاب للتجريب ، والذي جاء كشكل من اللعب لا تحتمل
الرواية إيواءه . أو هو بالأحرى لم يكن متناغما مع السياق الفني الذي اقترحته
الرواية على نفسها . ناهيك عن التورط أحيانا
في حوارات هي أشبه بالثرثرة العابرة ، كما هو الحال في تداعيات الحديث غير المجدي في معظمه مع راكب في طائرة . وإقحام الكاتب لنفسه في
تفاصيل داخل النص جانبتها حظوظ إثراء
عناصرها الدرامية . وبالمثل اندرج توظيف رواية أخرى داخل الرواية . ولعل
هذا الإغواء للتدليل على العالم الافتراضي داخل المتخيل نفسه إربك مسألة التحكم في
مسارات النص وإنماء مقولاته نتيجة للخوض في سير عديد الشخصيات العابرة . هذا
التكديس للأمكنة والوقائع والأسماء كان له تأثيره السيئ على معمارية رواية مصائر .
كان حريا بالكاتب أن يتشبث بجولي لتكون محورا
عوضا عن زوجها وليد ، باعتبار أن جولي هي الخطوة الأولى في درج البناية الأصيلة ،
كمجاز لبناء مصائر كرواية . وأن دورها لا يقتصر على دفن رماد جثة أمها بل هي تكتشف
من جديد مسقط رأسها . فجولي التي تقع تحت
تأثير أصول مختلطة ، باعتبارها نصف فلسطينية ، ارتهنت في لحظة ما لتنفيذ وصية أم
ميتة لكي تدفن رمادها في عكا . كم كانت شخصية ( معلومات ، فاطمة ) قابلة لمزيد من
الامتلاء والتأثيث لكي تحتل دورا أكثر محورية ، كم لو أن الأمكنة ، تلك التي
تستعاد كان يمكن أن تحيا مرة أخرى عبر هذه الشخصية التي خضعت لإهمال مبكر من طرف
السارد . ولم يوليها الإنصاف السردي ، كاستحقاق تقتضيه ضرورات فنية . لتشكل
أكبر فجوة في عمارة هذا المتن ، أدت بالتالي إلى ارتكاب عديد الفجوات والفراغات
الشبيهة ، والتي مر بها الكاتب مرور الكرام مستسلما لتلبية تقطيع تلك الرواية الموازية
داخل الرواية نفسها ، ليقحم شخصية ( باقي هناك ) وغيرها من الشخصيات الافتراضية
لترصّ دونما أي مسوغ نسيجي يجعلها تتشابك ولو ذهنيا في الحد الأدنى . بينما في
رأيي تعد محض مادة خام ، كان في الإمكان تأجيلها لمشروع مختلف عبر كتابة سردية
أخرى ، لعله سيكون مختلفا لو أعتني به ، ليحافظ على استقلاليته كرواية إضافية يمكن
للكاتب أن يهبها ما يليق بها من الاعتناء لكي تكتمل بمعزل عن خارطة مصائر .
خاتمة الرواية والتي هي الأخرى تندرج بمثابة - عود على بدء - لأن جولي التي كما جاء في الحركة الأولى قد أفلحت
في إيداع تمثال القارورة الذي يحتوي على رماد جثة الأم الميتة في بيت العائلة
القديم . هذا ما قالته لزوجها وليد ، بل ذهبت إلى أن العائلة التي تسكن بيت جدها ،
تعتزم تحويل البيت إلى فندق يحمل اسم الأم . الأمر الذي يعزى إليه من ثم تحوّل
جولي نفسها ، لحظة أن أحاطت زوجها برغبتها في الانتقال من لندن والاستقرار بعكا
. لكن سنكتشف أخيرا ، بأن جولي تحتفظ
بحكاية أخرى . لحظة أن تفشي بأن العائلة التي تحتل بيت الجد كانت يهودية ، حيث
فوجئت بزوجين عجوزين كريهين ، أسفرت
مهمتها أخيرا عن تعذر الوصول معهما إلى أي تفاهم بشأن دفن رماد الميتة ، كفكرة
قوبلت باستهجان بالغ العداوة ، ولاسيما من طرف الزوج العجوز الذي دفع جولي بعنف ،
مما ترتب عنه سقوط القارورة وكسرها وانتشار الرماد الذي تكفلت الريح بمهمة حمله في
جو عكا .
وهنا تماما ، يسمو الكاتب باللحظة الخاتمة ، واختزال دلالاتها بتوقيعة شعرية في غاية الكثافة والجمال ، لجأ إليها - ربما تحايلا - لوضع حد لتلك المشاهد واللقطات التي لن تتوقف . لأن ربعي المدهون إذا ما ذهب أكثر في هذا التواطؤ مع تلك الوتيرة التي تفاقم هياجها بعد الحركة الأولى ، كان يمكنه تدوين عشرات المجلدات من دون أن يصل إلى خاتمة مقنعة ، يمكنها أن تضع حدا لهكذا مجانية ، كادت أن تُفقد السرد نصف مهابته وجماله.
وهنا تماما ، يسمو الكاتب باللحظة الخاتمة ، واختزال دلالاتها بتوقيعة شعرية في غاية الكثافة والجمال ، لجأ إليها - ربما تحايلا - لوضع حد لتلك المشاهد واللقطات التي لن تتوقف . لأن ربعي المدهون إذا ما ذهب أكثر في هذا التواطؤ مع تلك الوتيرة التي تفاقم هياجها بعد الحركة الأولى ، كان يمكنه تدوين عشرات المجلدات من دون أن يصل إلى خاتمة مقنعة ، يمكنها أن تضع حدا لهكذا مجانية ، كادت أن تُفقد السرد نصف مهابته وجماله.
___
10 مارس 2016.
جاءت هذه الملاحظات على هامش قراءتي لرواية ( مصائر ) عندما رشحت للقائمة القصيرة ( البوكر العربية 2016 ) ، أي قبل فوزها بالجائزة .