مفتاح العمّاري
أنا في
الشارع
_________________
في ميدان الشهداء: أي الساحة الخضراء، قبل خمس سنوات، وسوق الخبزة أيام الباشاوات
والآغات والكيخيات؛ هو نفسه ميدان ايطاليا أيام الغزاة الفاشست عندما كان الجنرال
بالبو ينصب المشانق بجانب نافورة السباع، ويضاجع الحسناوات في فندق فيكتوريا. هنا
حيثما تلتفت سيسبقك الماضي، لأن البناية الغربية للميدان، أعني مصرف الجمهورية، أي
مصرف الأمة قبل عام واحد، وبنك روما قبل مائة عام، ستظل هي نفسها الأبهة
الأبرز في طرابلس لطابع العمارة الكلاسيكية التي خلفها الطليان.
جلست مكدودا بوهن خائب على مقربة من حواف النافورة، محدقا في بلاهة إلى حشود
الحمام والمسلحين والنفايات. أخيرا أنا وحدي بعد أن أدركت أختي مريم أن لها أما،
تحتاج للماء والضوء، فمريم الوحيدة في العائلة التي تملك مولد كهرباء يعمل بالبنزين،
أخيرا راودها الحياء وقدمت هي وزوجها المدجج بالثرثرة، وحملوا العجوز في سيارة
مكيّفة. ولأنني وحدي تذكرت سيبتموس سيفروس قبل نفيه إلى لبدة. ففي يوم ما كان
الرجل يقف بأبهة موليا ظهره لسوق الترك وهو يتطلع بكبرياء ناحية الميدان، منتصبا
بفخامة قامة حجرية لإمبراطور روماني نصف ليبي. التقطنا صورا أنا ورفيقي في الكتيبة
الرابعة والذي سيقتل في معركة وادي الدوم. من هنا أيضا مرّ موسليني، وقبله بأربعة
قرون تبول جندي سكير من فرق ايزابيلا. هنا هتفت الجماهير للطغاة، ودفنت
أكوام من جثث ضحايا الطاعون، وشيعت جنازات، وأقيمت صلوات استسقاء، ووزعت
أوسمة، ووضعت أجساد على منصات الإعدام. كما حصد الرصاص أرواح عشرات المتظاهرين في
ليلة العشرين من فبراير 2011. هنا التقيت الشاعر علي صدقي عبد القادر ذات مساء
خريفي، كان يرشق وردة في جيب سترته ويتغزل في الشمس والخواء، كما لو أن طرابلس لا
تضم سجونا ومعتقلات وشعراء تتعفن أحلامهم وقصائدهم داخل الأقبية والزنازين.
رنّ هاتفي المحمول. سمعت وبصعوبة من يسأل:
- أنت في البيت؟
- لا، أنا في الشارع.
__________
*من محتويات كتابي " تقطير
العزلة، محاولة لتدوير خانة الصفر" طبعة أولى 2020 طرابلس ليبيا.