مفتاح العمّاري
____ الجراب بين السيرة والرواية
(1)
تتحقق
الكتابة الإبداعية ولاسيما في حقلها السردي عبر ترسيخ علاقتها بمحيطها من انسان
وحيوان ونبات. وبظواهر الطبيعة وتجليات طقسها. وفي وقائع الجراب للسارد أحمد يوسف
عقيلة، ستتنامى الدهشة باضطراد خلال ثلاثة وتسعين مقطعا قصيرا جاءت بهيئة شذرات
كتبت بتقشف؛ لينفتح حكيها منذ الكلمات الأولى على الأرض. يقول: " في البراري
البكر العارية ولدتُ" / "غِب المطر تزدان الأرض بالقميحاء الصفراء الفاقعة".
ولسوف تستمر معنا هذه الثيمة بالتجاور مع الأم والبيت بلغة حميمة ذات حمولة جمالية
تثريها استعاراتٌ متقنة؛ تجتاحها غالبا بلاغةُ الصورة بواقعيةٍ فائقة: "
عندما كنت طفلا يحبو.. ولم يتجاوز نظري مدخل البيت بعد.. وجدت تجليات الطبيعة في
بيت أمّي.. في زخارف الأروقة.. والهدمة.. والإكليم.. والحوايا.. والشواري..
والمخلاة".
وهكذا
ستحتفظ الأسماء والأشياء على الدوام بتلك القرابة السحرية؛ بحيث يتعذّر هنا تبرئة
الواقع مما هو ممكن تخيلا. أي أن الحقيقيّ في هذه التجربة السردية الاستثناء هو من
سيتورط في استدراج المتخيل الى حدّ الانصهار تمامًا. هذا ما يحدث في براري الجراب
بأوديته وغاباته وجباله. بحيث لم يسلم النهار من طبائع الليل وأطيافه. فما من
شيء في سيرة الراوي كنسيج يتداخل مع ذاكرة النجع يمكن عزوه الى الطبيعة وحدها
دونما حضور أليف للميتافيزيقا. لأنه مهما حاولنا الزعم، بأن ما ترصده عينُ الطفل
حسب كوادر الصور وزواياها يقع ضمنًا كعمل تسجيلي وثائقي يتعلّق تحديدًا بما تحتمله
حياةُ البادية في الجبل الأخضر من حكايات؛ سيظلّ دونما ريب محض ادعاء، طالما
ليس بوسع ذاكرة السارد في الجراب التنصل من غواية الشعرية واضفاء لمسات مطمئنة
لترتيق كل ما يشي بالقبح ويهدّد بتفشي الوحشية، لحظة أن يتغوّل الانسان ويمسي
عدوًا. ليس لأخيه وحسب؛ بل لنفسه، وللطبيعة ذاتها التي وهبته نعمها.
يشير العنوان الفرعي للكتاب بوصفه
سيرة للنجع. لكن خلافا لما يمكن توقعه في منطق السيرة كسياق تراكمي للحدث؛ لا يقدم
تسلسلا زمنيا لحياة كاملة وانّما يتعمّد اختزالها في التقاط المؤثر في بناء
وجدانها. أي لا يتورّط في تتبع مسار زمني يخضع لمنطق العلم، بقدر ما يستجيب لما هو
حيّ وفاعل في الذاكرة. فتداعيات التنقّل من البحث عن الترفاس، واصطياد اليرابيع،
الى الرعي، والحصاد، والعلاقة بالقطط والجراء والخراف، ورصد وقائع الأعراس
والمآتم، ومشاهد سقوط المطر وفيضان الأودية. ولقطة وقوع الجعل( بو درنه) في قصعة
الرز، وما ينذر به تربّص طائر العقاب للأرانب والجديان وصغار الخراف من مصائر
دامية. لهو عالم بقدر ما يفيض بالبساطة؛ لكنه في الوقت نفسه يعج بحشد من المفارقات
الدامية.
لعلّ الانطباع الأكثر رسوخًا الذي
غمرني في أثناء قراءتي لمحتويات " الجراب " بوصفه منجزًا أدبيًا له
بصمته الخاصة به في تعزيز الهوية، أنني ومنذ البدء قد استسلمت تماما لسحر الحكي،
لحظة أن وجدت نفسي إزاء صنف أصيل من حفريات الكتابة السردية، في أكثر براعتها
الجمالية تكثيفا وايجازا وتفوقا. وأنني من جهة أخرى سوف العن الحظ العاثر عندما
تظهر هكذا مغامرات سردية متفوقة في بيئة تكن خصومة تاريخية للقراءة، تزدري الأدب
وتهمل شأن صانعيه.
ولربما هذا القبح العام هو ما حاول
الكاتب معالجته في نسيج الجراب. فثمة دائما مساع حثيثة للاستدراك. بحيث لا تفلت
الصورة البشعة في نهاية المطاف من دون أن تخضع لشيء من الفلترة وتجميل تشوهاتها
الإجتماعية وخزينها النفسي، عبر اخضاعها لعمل المخيلة. وبذا تفوق عقيلة كسارد دربة
في تشذيب سلوك الغابة حتى تصبح الحياة محتملة. فمنذ مفتتح الشذرة الأولى سنلاحظ
بكل يسر مدى استئناس آلة السرد هنا بتقنية الاغراب التي تتخذ من مشاهدات الطفولة
وسيطا لنقل وقائع فضاء السيروي موضوع النص، التي كان لها التأثير الأوفر في أن
تبقى الدهشة حاضرة على الدوام. ليظل كل ما هو مؤثر ومثير ومغو وصادم وغريب يفيض على
الدوام بقوة من ذاكرة النجع، عبر حضور حميم للإنسان والطبيعة.
وهنا لن أبالغ إذا ما صرحت بأن أحمد
يوسف عقيلة يعد الكاتب العربي الأكثر قرابة واحاطة بأسرار الطبيعة؛ وقد أغنى
قاموسها بمفردات جديدة، وجسّر أوديتها وجبالها وتلالها، وأنسن كائناتها من طير
وحيوان ونبات، كمفاتيح للتعرف على تفاصيل طبائع الأمكنة؛ وتفكيكها من ثم، عبر
ثيمات تتألف من ثنائيات واضداد: الحياة والموت، القبح والجمال، الخير والشر، من
دون أن يغفل تطويع عديد المحفزات الخليقة بأن تكتسب العلاقة فيما بينها ومعها
مفاهيم ومعارف إنسانية يحضر فيها الوجدان بقوة من خلال تلك الخلفيات التي تضفيها
شعرية السرد على الواقع والمتخيل.. كجزئين حيين لحقيقة واحدة. ينتصر في معركتها
الأنسان لصالح انسانيته؛ عندما يتآخى مع محيطه ليكون صديقا وفيا للبيئة التي
يتفاعل معها بحب.
أن مقترحات الحكي لدى أحمد يوسف
عقيلة، سواء أكانت في الجراب أو غيره من عناوينه القصصية، تشي دائما باقتدار كبير،
يؤهلها لأن تحتل موقعا بارزا، بوصفها علامة بين العلامات الأهم في مشروع السرد
العربي. ذلك عندما تبادر القراءة لإنصاف نفسها عبر تكريم مقروئها. ولا سيما أن
عقيلة قد وضع في جرابه كنوزا ثمينة يندر مثيلها في سوق المصنّفات الأدبية. فهو لم
يكتف بمخزون ذاكرة الطفولة والصبا في تأثيث سيرة النجع، وحسب؛ بل كان لحقيبة
ادواته في تقنيات الكتابة عملها غير المسبوق في إضفاء عديد المهارات الذكية على
عمارة اللغة. والخصائص الجمالية لبنائها. يأتي من بينها اقتراح إقامة صرحها على
نسق من المقاطع القصار بهيئة حكايات أو قصص تضافرت في تكوينها عدة خصائص فنية
استأنست بنظام المشهد السينمائي.. يحكمها تنضيد معنوي تخدمه جملة من الاستعارات
التي وهبت اللغة حيوات شتى.
أكرر: على الرغم من هذه الأصالة في
نسيج الجراب لكننا - وبكل أسف- لم نعطه ذلك الاهتمام المستحق والاحتفاء الذي يليق
به. هذا التقصير مبعثه خلل القراءة نفسها. ونعني هنا القراءة كجزء من منظومة
ثقافية لا تزال حتى يومنا هذا غير مؤهلة لاستقبال السرد الكتابي كمتطلب معرفي
وغذاء روحاني لا غني عنه. ولن يكون الأمر مستغربا في مجتمع لا تولي مؤسساته الحد
الأدنى من توفير المحفزات الكفيلة بتنمية الحياة الثقافية.
(2)
استئناسا باستعارة "امبرتو
ايكو" حول الرواية بوصفها غابة، أحاول هنا مقاربة سيرة النجع في
"الجراب" للكاتب: أحمد يوسف عقيلة، باعتبارها رواية انبنت على خلفية
سيروية. لاسيما وأن الفضاء المتخيل في الجراب يشكل كسرا متناميا للرتم التسجيلي
لواقعية كل من السيرة واليوميات والمذكرات. ولعل ذلك يتطلب منا دونما مبالغة
التوقف عند كل ما هو ممكن بسياق العالم الماثل الذي اقترحه علينا السارد في حياة
الغابة التي كرس لسكّها أكثر أدوات حقيبته السردية براعة في تنضيد وتعشيق جملة من
الحكايات على نحو سبق وان وصفناه بالمبتكر. هذه الحكايات تضافرت جميعا في خلق نسق
فني سوف ينتسب للرواية بخلفية سيروية. وهنا لا نستند على أوجه التماثل بين غابة
الجراب وتلك التي افترضها "امبرتو ايكو" لمجرد أن اغلب احداث الجراب
تنحدر من سلالة غابات الجبل الأخضر؛ ليقيننا أن هذا التشابه في السطح لن يكون
كافيا ما لم نظفر بالتأثير المتوخى للخيال وحرارة الوجدان كطاقة اسهمت في تحريك
وضخ وقائع نجع الجراب. وهذه الخاصية يمكن التدليل عليها من خلال براعة آلة السارد
في تصعيد المتخيل، والتي حسبا لتقديرنا برهنت على جودة عملها عبر تلك التقانة
العالية التي عملت عليها حقيبة أدواته؛ بوصفه ساردا مقتدرا يملك من الخبرة ومهارة
الصناعة ما يؤهله لمعالجة علاقات الأسماء والأشياء بحيث يكسب منجزه عديد الخصائص
الفنية والجمالية التي تضعه في مصاف حقل الرواية لا السيرة.
من جهة اخرى ولا سيما في طابعها
الاعترافي تعد سيرة النجع حسب قراءتنا قد ذوبت داخل خلطتها المادة الخام الجديرة
بعمارة عمل روائي شديد الخصوصية. ولتعزيز وجهة نظرنا والتدليل أكثر على مقصدنا
نشير تحديدا الى روايات: "ادواردو غاليانو" كضرب من العمارة التي تعتمد
في بنائها على خاصية التقطيع الشذري في تسلسل وقائع فضائها الخاص بها. بحيث تنتهج
صنفًا من الحبكة الداخلية، ذات البعد الدرامي الخفي؛ أي غير الظاهر على مستوى
الصراع وتطور الحدث.
في الجراب أيضا وبقليل من التمهل يمكن
العثور بيسر على عديد محفزات الصراع التي تغذي استمرارية الجدل بين الأضداد، ونمو
الحدث على المستويين المادي والمعنوي. فضلا عن اتساق النص دراميا داخل كادر نسيجي
(زمكان)؛ بداية من الإشارة لميلاد الرواي، حتى التحاقه بالمدرسة والرحيل من ثم عن
النجع، مرورا بكل الأحوال التي شهدتها الغابة ضمن الحيز الزمني المقدر لوقائع شتى
تتعلق بكائنات الغابة وسكانها وظواهر الطبيعة، وما يعبر عن حياتها عبر تراتب فصول
السنة.
كذلك، لم يدخر الكاتب جهدا في اضفاء
لغة شعرية ذات حمولة عالية من محرضات المخيلة. مما يجعل منجزه أكثر قرابة من حقل
الرواية لا السيرة، التي يمكن (حسب تقديرنا) ركنها (أي السيرة) كهامش ملحق، يندرج
ضمن عنوان الكتاب، أوحت به عبارة الوسم: "سيرة النجع"؛ والتي حتى إن قصد
الكاتب من خلالها تذكير القارئ بأنه ازاء عمل سيروي للبيئة وسكانها، فأنني كقارئ
غير ملزم بالإذعان لهذا التنبيه الإرشادي، الذي قد يكون مضللا. لأني بالمقابل سأجد
في سجلات مدونة الرواية الكثير من المصنفات التي حمل غلافها صفة الرواية، بينما هي
محض تقرير اجتماعي او تكديس وثائقي لا تربطه أي صلات بعمل المخيلة. هكذا مفارقات
ترجح وجهة نظرنا في انتساب الجراب لحقل الرواية لا السيرة. وفيما اعلم أن مهنة
التصنيف تُلقى على عاتق الناقد الأدبي لا المؤلف.
وهكذا يقترن جراب عقيلة كمنجز سردي
بعالم الغابة، ليبرهن من خلال الخلق الإبداعي لا التسجيلي؛ بأن أبرز صفاته تكمن في
مشاعر الصدق التي (كما اشرت) تستمدّ فرادتها وبامتياز، كون الكاتب أكثر ايغالا في
تفاصيل الطبيعة، وتجسيد أبرز تجلياتها جمالا وتسامحا وسلاما. وأننا كقراء سنظل على
تماس دائم مع هذا السخاء الآمن في كل كلمة، وكل حركة، وكل نبضة، وقطرة عرق ورفرفة
حلم؛ ودونما ريب ستلامس قراءتنا نمطا من الكتابة يعبر عن اصالته بحرفية عاليه.
وهذا ما كفل، ويكفل لتجربة الكتابة لدى أحمد يوسف عقيلة استثناءً فريدًا، ويضع
معظم مؤلفاته ولا سيما الجراب، في منطقة جذب خاصة بها. وانني حين اعترف كقارئ
بفضلها على جماليات مدونتنا السردية العربية؛ انما لكونها هي من فرضت هذا الاعتراف
باستحقاق كبير. اذ يكفي في الحد الأدنى من الانفتاح على القراءة التصريح بأن
الجراب تعد من أهم التجارب السردية العربية المحفزة على الشراكة. ففي لحظة القراءة
ستشعر كما لو أنك قد اصبحت جزءا من هذا العالم البريّ؛ لتجد نفسك من ثم كقارئ
منخرطا في تأثيثه. بوصفه عملا قابلا بشهية عالية لاستدراجك على ادارة التفاعل كضرب
من القراءة المنتجة التي تسهم دونما ريب ليس في تأويل المقروء وحسب؛ بل في اعادة
كتابته كما يحلو لها هي حين تهبك الفراغ تلو الفراغ، كطاقة محتملة لإيقاظ مخيلتك
أنت الآخر.
من هنا تكتسب القراءة وظيفتها كعامل خلق؛ لا صدى. فلم يعد القارئ تبعا لذلك مجرد ظل للمؤلف أو تابع يقتفي ما يُحتذى؛ بل جزءًا فاعلا في الخلق عبر تحويل النص المقروء الى مادة خام يمكن اعادة تدويرها دون المساس بخصائص الأصل؛ لتظل كتلته كما هي سليمة من العطب.
مع كائنات عقيلة ستحظى القراءة هي الأخرى بحياتها الخاصة بها. وسيبقى كل ما هو جميل في الجراب ينمو دونما توقف قادرا في كل وقت بأن يهبنا بذرة الحياة، معبرا من جهته عن قدرة لا متناهية على خلق حياة موازية من دون أن يتخلى عن شكله الأول. لأن كل تلك الحمولة الثرية التي اتسع لها هذا البهاء كانت (كما أشرت) تفيض بروح صديقة، تنغمر بحب كبير في قيعان أوديتها وغاباتها، متآلفة بطمأنينة عالية مع كائنات الطبيعة واشيائها. كما لو كان الكاتب يستمد سلامه الداخلي وتلك الروح السمحة من العطاء والإيثار والحب من مخلوقات نجعه ذاتها التي شكلت معرفته بالعالم، ووسمت لغته، وطبعت سلوكه بهذا الوفاء غير المسبوق. وأيضا لأن شخصية الراوي في الجراب كانت في الواقع تكتب نفسها بقدر كبير من العفوية والاحاطة بأدق أسرار المكان؛ فضلا عن التعاطي السخيّ (ودونما حدود) مع اللغة والتوق والجمال؛ لتهبنا منجزا خليقا بالإشادة والإكبار. لأن ما احتواه جراب هذا المروض البارع للغابة يعد في رأيي المتواضع عملا جديرا بالفخر والاشادة. كتابة أصيلة منحتنا الثقة في السرد والمتخيل؛ الثقة كرد اعتبار للقراءة، وأيضا السعي لكتابة متفردة تشكل رافدا مهما ومثلا يُحتذى لترسيخ اتجاه أكثر تجذرا؛ يتسم بخصوصية ليبية في الواقعية الجديدة. لأن ما فعله الكاتب يُعبّر بقوة عن اخلاصه وحبه لبيئته، وتوطنه فيها الى حد التوغل في معرفة أدق خفاياها؛ ففي الوقت الذي لجأ فيه معظم كتاب الأرياف والواحات في ليبيا الى المدن. ظل (عقيلة) الكاتب الاستثناء، الأكثر تشبثا بملاذه؛ دائم القرب الى حد الدهشة من الطين والأعشاب والأشجار، تجمعه صلة رحم شديدة الرسوخ بالأرض التي خبر عن جدارة لغتها وطبائع قاطنيها وتقاليد فصولها ومشية ظلالها وايقاع رياحها وامطارها. في جزء منها تذكرنا سيرة النجع بغابة تشيلي؛ تلك التي قدمتها لنا على طبق شعريّ، قصائدُ بابلو نيرودا.
____________
باب بن غشير 19 فبراير 2022
19 فبراير 2022