مفتاح العمّاري
" هذا المكان هو كواليس هذا الكون ،
كل شيء يحدث هنا " . لعل هذه
العبارة وحدها تندرج كعتبة ولوج يُستأنس بها لتقفي خفاء النص ، وفي الآن نفسه تعدّ
بمثابة أفق انتظار لكل ما هو متخيل ومحتمل ، في رمل ازرق .
منذ البدء ثمة ما يخلق من خامات الفوضى ،
حياة تنتشل ، أو يتم إنقاذها . وهكذا سوف نستسلم بطواعية لتداعيات مشهد كابوسي ،
وبالمثل لمشيئة اللغة وحدها لا الحدث ، بحيث لن نلتفت لمجريات الحكاية المتخفية إلا
كمجازات واستعارات ورموز يقتضي تتبع انزياحها ، وتأويلها الكثير من الحذر ، خشية
التورط فيما يوازي المتاهة نفسها ، أو ما تفضي إليه من فخاخ وغوايات . أعني متاهة
القراءة كمواز لمتاه الكتابة ، طالما يصعب فصل العناصر وفرزها أو تمييزها لحظة أن
تتأنسن الطبيعة وتتبادل المحسوسات أوصافها
وطبائعها ، بحيث يتعذر معها التمييز بين متحرك وساكن ، وحي وجامد . فللصخور جلد ،
والتراب يكتسب جذورا ، والشمس مدللة . ناهيك عن أن الأمكنة والشخصيات بلا أسماء
تشير إليها ، لهذا سوف لن تخلو الرحلة من مشقة التخمين والحدس تبعا لمقتضيات السرد
وتلك المعاني التي نحاول سبرها عبر دلالات التنويع النحوي للخطاب بين ضمير الغائب
بصيغتي الجمع والمفرد ، وبين ضمير المتكلم تذكيرا وتأنيثا ، كذلك المخاطب .
لكن وعلى الرغم من هذا التنويع وتلك
المحفزات الحكمية التي تتوالى عبر مقاطعه أو لوحاته ، يظل " لا شيء يساعد الإنسان
على معرفة أقداره كمرور الوقت " لهذا قد تستأنس القراءة هي الأخرى بمرور
اللغة وتداعياتها ، بحيث ستظل القراءة
مرتهنة تماما وبمتعة عالية لعمليتي الإصغاء والتأمل ، من دون أن تعبأ بمحاولة
الظفر بنسيج واضح لحكاية ما . لأننا لسنا إزاء عمل يتكئ على خلفيات اجتماعية أو
تاريخية ، أو رواية سيرة ، فضلا عن نزعة التنصل من أية شبهة كلاسيكية ، سواء من حيث خصائص السرد أو معمارية
البناء النصّي ، وقوانين الجملة المتحررة تماما من أية أنماط تقليدية ، مما هيأ
للغة وحدها أن تحتل فضاء السرد كما لو أنها الحدث والمعني .
لهذا سنغض الطرف لننسى كل ما هو خارج المتن ،
بل نتجاهله تماما . لأن رواية رمل أزرق تضعنا إزاء نص يهجس أولا وأخيرا
بالتحايل على اللغة ، لتُصك بهيئة صور
مكثفة ، وعبارات مقتصدة ، تحتفظ بصلة رحم قوية وقرابة حميمة مع كل ما ينتسب لسلالة
الشعر . لتظل الكلمات وحدها هي الأس
المحوري في انشغال الكتابة ، كشكل ومحتوى
، وظاهر وباطن ، وأن الافتتان بها سوف يهمل ما عداها . ولعلها ( أي الصور والكلمات
) قد تفوقت هنا لنفسها ، بالقدر الذي يهبها امتصاص فضائها كزمان ومكان غامضين ، فضلا عن الأفكار والشخصيات الأكثر غموضا وصهرها داخل مادتها ، بحيث لا تتحرك الكائنات إلا كظلال وأصداء خاضعة لآلية التداعي .
أنها
وباختصار ، فنتازيا كابوسية ، تصهر عدة أشكال في جسم واحد ، وأنت تعلم جيدا بظاهرة
التحرر من سلطة النمط ، والتي توغلت بعيدا في آلية الكتابة الإبداعية وأن أجناس
الكتابة الأدبية قد تداخلت وتشابكت بحيث لم تعد تقنيات السرد وعناصر الدراما حكرا
على الرواية أو القصة ، وبالمثل تجد ملامح القصيدة حاضرة في غيرها . لهذا لن أسوّغ
لنفسي كقارئ بتصنيف ( رمل أزرق ) ضمن أية أطر سردية : رواية ذهنية ، شعرية ،
فلسفية ، لمجرد إحساسنا كقراء بالعبث لحظة انشغالنا بمسألة البحث عن حدث يتطور ،
أو شخصيات تنمو ، أو حتى محض ملامح واضحة يمكن الاستدلال بها عن زمن لواقع افتراضي
لعالم متخيل . إذ يعدّ من الإجحاف تكدير صفو القراءة بأية منهجية سردية ، بل يتطلب
إنصافها ، أي القراءة ، بالدرجة الأولى إغفال كل ما يتعلق بنظريات الرواية . لهذا
وإكراما لهكذا تجربة فأن للقراءة التزوّد بذلك الشغف الذي تستدعيه لحظة شبيهة ،
كتلك التداعيات في آلية الكتابة السريالية : أناشيد مالدورور لليتريامون ، على
سبيل المثال ، بحيث يمكن اختزال سياق السرد ، وتتبع النمو الدرامي داخل تلك
الكثافة العالية للغة ، باعتبارها مجرد أفكار تظهر بهيئة أشياء وأسماء لكائنات هي
دائما تتجلى عبر صور وأطياف غير منتظرة .
لا شك أن طموح الكتابة في رمل أزرق عبّر عن إخلاص
متفان في تطويع السرد لشعرية واعية ، تستأنس بآلية كتابة مقطعية ، شذرية ، وأن
اختزال القول وكثافة المعنى هو ما تهجس به . كتابة مختلفة ، انهمامها ضغط العبارة إلى
أقصى حد يتسع لإيواء المعنى دونما حاجة للخوض في التفاصيل . وهذا ما يجعل الافتتان
بشعرية الأفكار وفلسفتها مهيمنا على المتن ، ليأتي السرد تلبية لاقتفاء المشاعر لا
الوقائع والأحداث . وأن المطلق في النص هو المتسلط على سياق اللغة ونظامها . ولعل
التوق الأشد مثابرة وطموحا في هذا المتن يعبر عنه الإخلاص ذاته حين يذهب إلى ابعد مدى خلف لعبته الذهنية ، والتي تفترض عالما عبثيا يخلق
نفسه ويصنع فضاءه الخاص به ، خارج أي منطق للزمان والمكان . لتبدو محيرة وصادمة
لحظة أن تضعك إزاء عبارات ومقاطع من صنف : داخل أحداق مصنوعة من عسل يغلي /
كضوضاء خانقة يصنعها وجه طفل يبكي / تمسك بكآبة ضاجة خيوط عمرها المنسلّ / ولو
صادف وعثرت على مقلع جيد للزمن لنقلت منه ما يكفيني لأن أسد كل تلك الفراغات
المنتشرة في عمري التي نجمت عن النوم ، والتي أحرص دون جدوى على سدها بكرات العيون
العائدة لأجساد جعلتها تنفق بسرعة دون صراخ علها تحتفظ بحكاياتها الطرية ذاهلة
وغير مصدقة / الرقص مع خشبة طافية وسط سماء ساقطة ومطر منهمر / ليس هناك من هو أكثر ادعاء منك أيها الشعور
بالطمأنينة . أنت لست سوى خرافة وكذبة لتزجية الوقت / رحلت الشكوك وحل الوقت .
كما لو أن ما تتوق إليه الكتابة في ( رمل
أزرق ) يبدو في أقصى دراجاته كمحض شكل ، قطعة موسيقى تسبح في فضاء مجهول .
أن رواية رمل أزرق تتسم بوعي استثنائي في خوض مغامرة التجريب ، وينبغي
أن تحتل حيزها وبجدارة في حقل الكتابة الإبداعية
، لا أن تركن للظل . وأن أي إرجاء أو تأخير في نشرها ، لا يعدّ تقصيرا وحسب
، بل إجحافا .
لا أدعي هنا الإحاطة بعمل تستحق طبيعته
التجريدية أكثر من قراءة .. لكن إذا كنا نتوخى المتعة من خلال المقروء ، فبالنسبة
لي كقارئ قد تحقق هذا المطلب ، وأشهد بأنني استمتعت كثيرا صحبة رواية رمل أزرق ، كعمل
لا يصنّف إلا باعتباره – وبامتياز- إبداعا استثنائيا . فضلا عن كونه يشي بإضافة حقيقية للحقل السردي
في مشهدنا الليبي ، إضافة جديرة بأن يشاد بتميزها وفرادتها .
_____
طرابلس الغرب . 9 يوليو 2016