وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الأربعاء، 28 أكتوبر 2015

رقصة الحصان الكوري


مفتاح العمّاري

غانغام ستايل




    في الميكرو باص  (Iveco) كعلامة ليبية مسجلة من حيث توفّر سبل الراحة والهدوء والطمأنينة ، بفضل سائقيها الشبان الذين كما يبدو ، هم دائما في حالة من النشوة  والتوهان ، وكأنهم يقودون تحت تأثير السكر . فجأة ارتفع عبر مكبرات الصوت ، صخبُ أغنية ( غانغام ستايل ) ، فأبتهج طفلي آسر  ذو الست سنوات وهو يلفت انتباهي الى الأغنية مرددا اسمها بطريقته ( جام ستابل ) . فادهشتني حالة تعلقه بالأغنية ، وقلت في نفسي أن هذا الجيل قد تفوق علينا من حيث المعلومة ، فهو يعرف كل شيء . كنت أدرك أن التلفاز قد  أسهم في توجيه حواسنا وإعادة تكييف وصياغة ذائقتنا وميولنا وشغفنا . ثم انتبهت في اللحظة ذاتها إلى  أن معظم الشبان من ركّاب الايفكو قد بدأوا يتمايلون ويحركون رؤوسهم تبعا لأيقاع الأغنية ..وهكذا قطعنا مشوارنا ، من حيّ باب بن غشير إلى شارع عمر المختار ، على إيقاعات  أشهر أغنيات الراب بنكهة كورية جنوبية . أثناء سيرنا أنا والصغير عبر الرصيف المحاذي لواجهة معرض طرابلس الدولي ، كان ضجيج أغنية الغانغام ما يزال يتردد في كومة رأسي . وكنت أتساءل بيني وبين نفسي عن السرّ وراء تلك الزلزلة التي احدثتها شطحة مغني الراب الكوري الجنوبي ، ساي  ( بارك دجاي سانغ ) ،  عبر أغنيته الضاربة  تحت وقع رقصة الحصان الكورية أو الحصان الخفيّ ، والتي غدت بين ليلة وضحاها أشهر من نار على علم ..  غزت معظم خرائط وأقاليم العالم ، واكتسحت  كبرى الساحات والميادين في أمّهات عواصم أوربا ، واثارت ضجيجا وجدلا وصخبا  له أول وليس له آخر  ، ولا سيما بعد أن خلخلت وقوّضت عروش زعماء وملوك وقياصرة الموسيقى ، وهزّت امبراطوريات الطرب وأطاحت بألمع كواكب ومجرات ونجوم الراب والبوب والروك والتانغو والسيمفوني ، بعد أن اكتسح مغناطيس جاذبيتها السحرية  أرقاما قياسية حطّمت المعقول واللامعقول ، حيث استطاعت أن تهيّج جموح المراهقين ، وتستدرج رقص الأطفال ، وتخلخل رصانة الكهول ، وتلعب بأوتار الشيوخ والعجائز، وتمكّنت بقدرة عجيبة ،  لا عهد للفن بها ، وفي غضون أشهر قليلة  - تعد على أصابع اليد الواحدة -  من استدراج قرابة المليار زائر على اليوتيوب ،* الأمر الذي لا سابق له ، بل يعد فتحا جديدا في عالم الفن والطرب والغناء والرقص والموسيقى . ما هو السرّ الذي وهب هذه الأغنية جاذبية لا تضاهى ، وجعل من مغنيها المغمور نجما عالميا يتلقى الدعوات ويجوب العالم ويحصد الجوائز  ويحظى بشرف ضيافة علّية القوم من صنّاع القرار  وأبرز الأثرياء والنجوم وكبار رجالات الساسة .   هل  أمسى العالم  هشا وتافها ومائعا إلى الحد الذي  تُهزّ  فيه أردافه مع إيقاعات وأنغام أغنية بسيطة ذات كلمات متواضعة فنيا ، و( بلغة كورية ) غير مفهومة خارج موطنها .السؤال نفسه سيعيد صياغة جملته بدهشة أخرى إزاء تلك الميزة التي وهبت هذه الأغنية قدرة فائقة وسرعة ضوئية مكنتها من عبور القارات ،بشتى ألوانها ولغاتها وأجناسها ومللها وثقافاتها ومعتقداتها ، لتكتسح  وفي سهولة ويسر قلاع العالم بقضه وقضيضه، في غضون أسابيع قليلة .  من يجيد اللغة الكورية الجنوبية يقول أن ابنها البار، المغني ( ساي )  يتهكم في كلمات  أغنيته الصاروخية ، وبطريقة في غاية السخرية والشرشحة من سلوكيات ومظاهر وعادات سكّان حي ( غانغام ) ، أحد أحياء سيول المعروف بمحاله وأسواقه الفاخرة ومطاعمه المفضلة لدى المشاهير . هكذا أغنية ساخرة وقصيرة ، مصحوبة بحركات تسمى ( رقصة الحصان الكوري ) ، وتلهج بكلمات لغة  مغمورة، تمكّنت من أن تحظى  بكل هذا الإعجاب ، مرحبا بها من كافة سكّان قارات العالم بمختلف أديانه ومشاربه وحضاراته ،  في الشرق والغرب والشمال والجنوب  ،لتحظى  باحتفاء جامح وصلت حماسته إلى أقصى درجات الشغف والجنون . هل ثمة سرّ غامض وخفيّ  وراء صعود هذه الأغنية الفلكية ؟ كيف يُكتب لها كل هذا الانتشار اذا كان معظم الملايين الذين رقصوا وهاجوا وشطحوا  مع أنغامها لا يفهمون كلماتها ..؟  هل هي ضربة حظ عشواء كما خمّن البعض ، أم السرّ يكمن في ضربة سوط على ظهر الحصان الكوري ، هي التي  ألهمت المغني (ساي)  بهذه الرقصة السحرية التي هزّت أوساط آسيا وأوربا والولايات المتحدة وكندا وافريقيا ، بل وصلت الى عقر دار الناطقين بلغة الضاد ، فها هم - كما تردد في بعض المواقع الاخبارية - شبان من أنصار الراب السعوديين ، قد تفننوا على طريقتهم بتقليد حركاتها وهم يرقصون بقمصانهم الطويلة البيضاء ، بعد أن اخترقت غانغام ستايل أوساط اللبنانيين ، وحتى بعض الشباب السوريين - والعهدة على الراوي  -  لم تقف محنة وطنهم حائلا بينهم وبين تفويت متعة الرقص صحبة إيقاع الحصان الكوري . من السذاجة والحمق أن تعد هذه الظاهرة مجرد نزوات عابرة ، لحظة أن تظلّ  محيّرة ومربكة ، بل ومتعذّرة الفهم ، كذلك يعد من الحمق ، بل من الغباء اعتبارها محض طفرة ما تلبث أن تزول ويلفها النسيان ، كسحابة صيف (خلّب) ستنقشع مع أول هبوب للريح ، من دون أن تترك أثرا . هذا التبسيط والاستخفاف بظاهرة غنائية كونية جلبت قرابة مليار مشاهد  قد يكون مخلاً على نحو ما ، حين يغفل بأن أغنية الحصان الخفي هي في حقيقة أمرها كثيرة الشبه بحصان طروادة .. حيث لا يكفي القول بأنها تندرج ضمن تفشي ظاهرة تسليع الفن المعولم ، لحظة ترجمة هذه الطفرةُ  ووضعها ضمن إطارها وحيزها الإعلامي ومجتمعها الافتراضي .. لأن آلةَ العالمِ بدأت تعمل تبعا لجاذبية  الإعلان الفضائي  ، وسحر ( الصورة ) و (الإيقاع) ، وأن المسألة برمتها تتعلق تحديدا بتحريك الجسد ، لا الوجدان . ولعلّ توظيف الإيقاع الوحشي هنا ، بعيدا عن روح الموسيقى  ، كان له تأثيره و سلطانه  في تهييج تلك اللغة المشاع ، التي تخترق الحواس،وتهزّ الأبدان من دون أيما حاجة للفهم ، حيث يكفي هنا صناعة المتعة وحدها . هذه الأسئلة – وبنوايا حسنة -  تنبش على نحو ما ، موضع البراءة ، وفي الأثناء ، لا تهمل نوايا المكر والخداع في هكذا صرْعات عابرة للقارات ، فهي حتما ، ومن خلال تراكماتها ، ستمحو قيماً وتضيف أخرى بديلة . لكن ، وفي نهاية  مطاف هذه الرقصة الكورية الكاسحة، ألا يحق لنا أن نخشى على قيمنا من غزوات مريبة ..  وحتى لا نتوه بعيدا عن موسيقانا  ولغتنا  وأشعارنا وحكاياتنا ، يحق لنا أيضا – كحد أدنى -  أن نسأل أنفسنا ،  ما الذي يحدث في هذا العالم . فقط هذا كلّ شيء . يقول العارف ، عوضا عن استنطاق أغنية ساذجة ، ومكابدة البحث في أعطاف كلماتها وموسيقاها عن معجزات لم  ولن توجد ، تقتضي الحكمة التوقف قليلا ، والتنقيب في داخلنا ، بدل أن نذهب بعيدا لنضيع في متاهة لغات لا نفهمها ، لأنه والحالة هذه ، علينا الاعتراف بأن الخلل يكمن في ما وصلت اليه ثقافتنا السمعية والبصرية من تشوّهات قيمية مسّت الجوهريّ فيها ، فقد يحقّ لك أن تغني وترقص بكل الإيقاعات والأنغام القريبة والبعيدة ، الأليفة والوحشية ، بشتى هوّياتها ومواطنها وسلالاتها  ، من محاكاة مخلوقات البتلز الى كائنات الراب ، مرورا بالشطح على ( بنادير الحضرة ودرابيك المرزكاوي )  والدبكة والزار والراي والكاسكا  ، مثلما يحق لك أن ترتدي ما يلبّي رغبتك  من أزياء بشتى ماركاتها وصرعاتها بما فيها سروايل النصف ساق ، وحتى النصف مؤخرة .. وأن تطلق لشهيتك العنان لشتى اصناف المأكولات التي تجود بها الاعلانات ومطابخ فتافيت والشيف رمزي ، ولك مطلق الخيار  في المفاضلة بين البازين والعصبان مرورا بالهامبورغر والبيتزا واللازانيا ، الخ .. وبالمثل يمكنك  أن تزاحم خلق الله ، وتقلّد وتتماهى وتستأنس وتروم وتشغف وتحب كما يحلو لك . فقط ثمة سؤال ملحّ وضروريّ ، يعد من الحمق لو لم تتوقف عنده قليلا ، وهو : كيف تسمح لنفسك بكل هذا التطفّل لتستهلك منتجات الآخر ، من الابرة الى التلفاز / من عودالثقاب إلى المصباح الكهربائي والقطار والطائرة والدبابة والصاروخ/ من ورق التواليت إلى السفينة ،/ من القلم إلى الكمبيوتر / من السينما إلى الموسيقا ، مرورا بمكياج زوجتك ، والعاب طفلك ، طلاء غرفتك وأثاث واكسسوارات بيتك وبكل أدواتك ومستعملاتك اليومية : قداحتك ، مفاتيحك ، علبة سجائرك ، جواربك ، أحذيتك ، قمصانك ، عطرك وقهوتك وساعة يدك وهاتفك الجوال . من حضرة الايفكو  الى  بلاط الرصيف .. بينما أنت لست شريكا حقيقيا في صناعة هذا العالم ، لأنك في حقيقة أمرك خارج المسهمين في تنضيد نسيجه وتاثيث حلمه وثقافته ورؤاه ، ثم وبكل يسر ، ها أنت لا تجد أيما غضاضة  بهزّ اردافك والانجذاب بكل خفّة ، بمجرد أن ترتفع ايقاعات اغنية غانغام ستايل . ثم تتساءل  في حيرة ، ما السرّ ؟ . كما قلت لك ، وحتى لا نتوه  بعيدا ، أن السر لا يكمن  فيما تعتقده من تفاهة العالم . بل عليك اذا اردت معرفة السرّ ، أن تنظر أولا تحت قدميك قبل أن تتأهب لخطوتك التالية خارج عتبة بيتك . لأن الفتى الكوري ( ساي ) ، بعد أن رصف أهله وذووه الطرق  وبنوا  المصانع والأبراج والقلاع  والأنفاق والبوارج والقطارات ، وبرعوا في فنون مخترعات التكنولوجيا الالكترونية والدقيقة  والرقمية ..وغيرها من الابتكارات العظيمة ، فكّر هو من جهته في اضافة لمسة يسيرة  ومتواضعة الى موسيقى  العالم ، فلجأ الى تطعيم الراب بنكهة كورية ، وقبل أن يرقص في باريس ولندن وواشنطن ، اطلق أولا حصانه الكوري في ميادين  سيول . لهذا وذاك منحته بلاده وسام ( أوكوغوان ) للأستحقاق الثقافي ، والذي يعتبر من أرفع الأوسمه في كوريا الجنوبية . ألم أقل لك : علينا أن نفكّر أولا ، حتى لا نضيع مرة أخرى .
_____
*كتبت هذه المقالة في أواخر 2012

الأربعاء، 21 أكتوبر 2015

مثل حيوان طائش (3)*


مفتاح العمّاري
ثلاث نملات تعبر كتابا 
-3- 

  ما تزال ملامح الحرب ، ومشيئة الفوضى تعبّر عن نفسها بضراوة ، وقد تركت آثارها بالفعل على لغة ووجوه القاطنين ، نظرات خائفة ومرتابة وقلقة دائما ، كذلك على الشوارع ، ثمة خرائب  يجسدها حطام  ظل غباره عالقا على بقايا شجيرات عطشى  تتخلل الأرصفة التي غدت مكبا للنفايات ،و مخابز  اقفل ثلاثة أرباعها ، وضجيج محركات توليد الطاقة التي تعوض انقطاع الكهرباء ، وزحمة السيارات ، وهي تصطف في طوابير طويلة انتظارا لدورها في تعبئة الوقود ، هذا فضلا عن سماع فرقعات الرصاص ودوي انفجار القذائف الذي يشق الجو بين حين وآخر ويهز الجدران ويخلخل النوافذ والأبواب ، وعواء سيارات الإسعاف والمطافئ الذي لا ينقطع.

     منذ أربع سنوات لم تترك  الحرب موقعا إلا وأخضعته لقانونها وقد تجاسرت بأن حولت الشوارع إلى جبهات للقتال .
    هنا في حي الطاحونة للحركة وتيرة يومية تشي أحيانا كأن شيئا لم يتغير . وإنني لأتساءل كلما غادرت شقتي هابطا إلى الشارع محتاطا  وحذرا بالطبع من سرعة السيارات كلما قطعت الطرقات، هل بلغ تعلق الناس بالحياة إلى حد يجعلهم  غير مبالين ، كما لو أنهم لا يكترثون للحرب  . كان علينا منذ خمسة شهور أن نتوخّى وبدقة حذرة سياسة التقشف ، ولاسيما بعد تأخر معاش العجوز ، لذا لا نشتري إلا الضروري ،وهذا ما حدث ، فقد اشترينا دقيقا تضاعف ثمنه ، وبقوليات وزيتا وتمرا ورزا وعلب تونة . حين ذكرت الضروريات ، أعني تلك التي عليها أن تصمد ، وقد حالفنا فصل الشتاء لكي تسلم مونتنا ، لاسيما الطحين والبقول من الحشرات والبكتريا والتسوس . لهذا وبأعجوبة تستمر الحياة . ومن جهتي ، تحايلت بطرق عديدة حتى لا أخسر الحدّ الأدنى من عزيمتي ، ليس من ضراوة الفوضى أو اتساع رقعة التهدّم التي تتفاقم يوما بعد يوم ، بل من غضب العجوز ، أمي التي لا ترحم إذا ما قصرت في تلبية حاجاتها .
   أسابيع ثقيلة ومقلقة لم أكتب بعد شيئا مجديا ، فيما الحرب لا تهدأ ، فما أن تتوقف في هذا الحي حتى تنفجر في ذاك . لقد تعبنا ، وعلى الرغم من ذلك كله يظل  اللجوء إلى الكتابة هو حيلتي الوحيدة لمخاتلة الخوف والعوز والظلام . 
    كان معظم أصدقائي قد نزحوا . اختاروا الغربة طمعا في الأمن ، وحرية الرأي بالنسبة للناشطين منهم . بعد أن تفشت ظاهرة الاغتيال والخطف والاعتقال . كانت سياسة القمع وتكميم الأفواه قد  طالت العديد ممن برزوا خلال الأيام الأولى من الثورة .
   لكن حتى وان  بدت طرابلس الآن في نظر التاريخ محض مدينة مخذولة خلف حطام أسوارها العتيقة ، دخانها يتفنّن في تظليل السماء ، ونوافذها مطفأة وأطفالها يلعبون بالكلاشنكوف ، ساحة اقتتال وخطف وذبح وترويع .تستوطنها النفايات و ينتهكها المارقون واللصوص ودهاقنة السياسة  وسماسرة الحرب ، لكنها ليست فزعة أو هيابة إذ يروقها كلّ صباح أن تعرض الخبز ساخنا . صحيح قد فقد الربع دينار هيبته ،والذي كان لبضعة أسابيع خلت يمكنه جلب عشر بانينات ، ستكفينا أنا والعجوز لثلاثة أيام  ، وأضحى الآن بالكاد يساوي رغيفا هزيلا تم التحايل على وزنه وحجمه ونكهته . لهذا أحمد الله بأنني لست  أكولا ، والعجوز أيضاء لم تعد تحفل بالطعام إلا لتسكين ثورة الجوع . لهذا لا تطلب سوى بعض الحساء من الخضار المخفوق في الخلاط الكهربائي ، عندما يكون التيار سخيا ، وإلا سأضطر مرغما  لهرسه يدويا .. في شيء من العجالة حتى ألتحق بخيالي الذي تركته يتخبط فوق لوحة مفاتيح جهاز الكمبيوتر .

_____   
* المقطع (3) من سردية ثلاث نملات تعبر كتابا .

الأحد، 18 أكتوبر 2015

كهل يصغي لخياله ويفكّر

مفتاح العمّاري

أحلامٌ شابّةٌ تَجْمعنا

           حين غادره حُلُمُه ، فكّر  الكهل : بأن ثمة امرأة حقيقية  في هذا الجزء الخامل من العالم  تشبه المرأة التي أيقظته من نومه  ،  وتحت غمرة إحساس غامض بغبطة خفية لا يدرك مصدرها لم ينتظر في سريره ريثما يتكاثف الضوء في الخارج قليلا  بالقدر الذي يتيح له رؤية الطريق .  هبّت ريح  باردة ، أحس على أثرها بقشعريرة مبهجة تسري في جسده  وهو ينحدر عبر الهضبة  ، حيث لا أحد سواه يتأمل تخوم " الرملة "    وظلال منازلها وأشجارها المتوحدة في هيئة ظلام يتبدد على مهل ،  بمشيئة شمس فتية تمزّق أقمشة الظلمة  بألوان قرمزية مخلوطة بفضة لامعة  ..تَهِبُ أفق الشرق شعاعا آمنا ومرحا . وفيما هو يضرب الدرب الترابي متجاوزا شجرة سرو هرمة  بمحاذاة سور قديم  تهدّمت بعض أطرافه يحيط جبّانة قديمة   ، غافلته كآبة مهيبة تسللت بخفاء إلى شغاف روحه التائهة .. حين بانت له شواهد القبور ِبين فروع شجر الخروب  .. عندها تذكّر أباه الميت  .. وحبيبته الغائبة ، فاحتال على خوفه مترنّما بمقطع يتيم لأغنية شعبية  تحكي عن الحمام الذي يطوي البلدان النائية تحت جناحيه ويحمل الرسائل والوعود والقبلات الحارة .   عند المنعطف  الذي يفضي لطريق الإسفلت توقف مستأنسا بشجرة زيتون . كانت الساعة تناوش السابعة  ، بينما الحافلة لم تأت .. ومن دون جدوى انبرى يلوّح للسيارات المارة  .. لكنه وتحت وطأة إحساسه بالخيبة  طفق يطلق العنان لخياله الجامح مستدرجا المرأة التي رآها في حلمه .. وسرح بعيدا دونما إحساس بالوقت الذي يمرّ سريعا .  لم يتح له خياله التوقف لهنيهة لكي  يشعر بقامته التي تقمّصت هيئة كهل وحيد في عزلته الغامضة  من دون أيما انتباه  لعواء الفصول وهي تمضي  ، وتبدّل الجهات . لم يدرك الكهل أن الأشياء والأسماء لم تعد كما هي  .. وأنه من حيث لا يدري ظل دهرا ، رهين برزخه ، يصغي فقط لنواميس حلمه ،  وينتظر على الدوام دونما رأفة بالزمن ، و قد استحال إلى حطام شبح يابس تغلغلت أقدامه  عميقا في جوف الأرض ، وتشابكت بعروق شجرة الزيتون  ..وبدا مثل قبر مهجور في الريح .  هناك على قارعة الطريق الريفية ، لم يكن في وسع المارة الذين كبروا فيما بعد أن يخمنوا بأن كتلة التراب تلك .. والتي تحجّرت بفعل قساوة الزمن والترقّب  هي مجرد أطلال مهدّمة لرجل حالم ، كان في يوم ما ينتظر الحافلة ، ويتربّص   بامرأة  ويصغي مستسلما لخياله ، ويفكر بهدوء في المرأة نفسها التي عبرت منذ هنيهة  ، هامسا لنفسه : قد نهرم ، وتشيخ أجسادنا ، لكن ثمة دائما أحلام شابة تجمعنا .
_______
الرملة: صيف 1997




السبت، 17 أكتوبر 2015

حماقات العابر


مفتاح العمّأري

أحبّ ارتكاب الحماقات حين يغدو التعقّل عبئا


     أحب الوطن والشعر والنساء  ../ أحب المشي على طريق الشط ورؤية البواخر الراسية والأطفال وهم يلعبون تحت السماء الخجولة . أحب  التسكع  في أزقة اطرابلس القديمة. لكنما قد أتوسد العواصف ،  وأنام في المهب . أحب العبث بالنجوم ونواقل الصوت الصاخبة  والقصائد التي لا تصلح للإلقاء في القاعات الوقورة ، أحب أشباهي  الحمقى وهم يتساقطون الواحد تلو الآخر في شباك النثر غير ملتفتين لنصائح النحاة وخبب المهذارين .. أجل أحب ارتكاب الحماقات حين يغدو التعقّل عبئا على الحقيقة  . أحب أن أخسر أصدقائي الحميمين وحبيباتي الأثيرات إذا كانت الحقيقة  تقتضي حكمة الكذب .  أحب التنصل من عواطفي لحظة أن يوضع الشعر والنباح في سلة واحدة .. وأيضا أحب ركوب القطارات البعيدة فيما حبيبتي تغفو على صدري . أحب النحاس وخلخلة القوانين عندما يغدو الشك يقينا  للضرورة .. لكي أبصر جيدا ترهات السادة وهم يتمخطون على أحلامنا البريئة . أحب  التمعن فوق العادة كلما لاحت لي فكرة غامضة تطفر من شقوق الحقائق البائسة .. أحب شتم الكلمات العاجزة عن استضافة الرؤى وركلها على مؤخراتها .. أحب روايات  إبراهيم الكوني ، وأغوتا كريستوف ،  وكلّ شيء لا يذكرني بشيخوخة العالم .. وانتظر الضرورة التي تقتضي التبول على نجوم فنادق ( كازا بلانكا ) التي حرمني حملة الحقائب من قرص أثدائها النافرة  . أحب الهواء المعطر بأنفاس أطفالي وعرق حقائبهم المدرسية  وضحكاتهم الطرية وهم ينطون بمرح على رؤوس الأعوام ، محتفلين بتفوقهم على مدارس الوهم ،  أحبهم   وأحب بلادي الصغيرة .. وأريدها تلك الأميرة الناعسة في مقهى ساحة جامع الفناء  .. أريد الكثير ،  والكثير من التسكع و العواصم  والموسيقى والمطر .. وأنا أنظر إلى قساوة الزمن الخؤون  وهو يعبر تاركا تجاعيد وجهي  على المرايا .. وأنتظر من يحييني : صباح الخير يا عمّي مفتاح  .. صباح الخير أيها الشاعر الكهل المتخفي بعلانية خلف قبعته الجديدة .. أنتظر المطارات الصقيلة  وهي ترنو بتوله إلى حذائي ..  وأتساءل ما الذي تخفيه أقدامي يا ترى  حتى تتعثر بلادي  ولا تراني   .
________  

طرابلس خريف 2005

الأحد، 4 أكتوبر 2015

الجيلاني طريبشان


مفتاح العمّاري

الجيلاني طريبشان ..

الجيلاني طريبشان 1944-2001



جيلاني
ياجيم اللهفة وباب الجمر  ..
أيها الألف :  ملك الأبجدية الشاعرة
حروف نار تتكوّر في سماء المعنى ..
بقعة نجم جريئة تُبَدِّدُ ظُلمة الحبر  ..
 موجة هادرة في بحر اللغات   ..
ظلنا المشرّد  بين بكائين  ،
من كرادة إلى الرجبان ،
بألوان تائقة ترسمُ وجهَ كوكبٍ صغير
يتململ  في رياح الشعر  .

جيلاني
أين بريدك أيُّها الباسل ، وعناوين حبيباتك  ؟
فلم يعد هاتفك يتنفس .
هل غيرت أرقام قصيدتك ؟
فما من أحد يتكلم ..
الأنك تفضِّل السبق ، صرت دائما تنأى  ؟
فماذا نفعل نحن الذين نركض خلف ريش أحلامنا
متطلعين إلى قصائدك وهي تحلق فوق مخدات الغيم ؟
هل نتمسّك بهواء قليل ، لنطيِّر كلماتنا الواجفة
ونمضي  ؟
فيما أنت أيُّها القرويّ تُغيّر وجهةَ سفرك
من كركاس إلى الغيب ...
كأنّك تفتح ممرات سرّ لحواسّ لَمْ نألفها ..
أيّة نباهة تلك التي أرادتك خَفيّاً
لا تكشفك شموسُ اللغات .

أيها المشاء ..
ماذا حلّ بحذائك  ؟
وكيف ذبلت أوراقُ قميصك المشجّر  ؟
قل يا صاحبي
ما الذي رأيته لحظتها وأنت تذهب

خلف قصيدتك الأخيرة .. ؟  
____ 
الرملة سبتمبر2001

نثر الوجه


مفتاح العمّاري
نثر الوجه..

     لكتابة وجهك كما أراه تلزمني غابات من الأسماء الحارة لكي أذوّب كل ما يعترضني من خجل وامضي حرا إلا من دمك وهو ينفر عنيفا ليلون الطرقات بشذاه.. سأقترح  كتابة أكثر تماسكا وتورطا في الغواية حيث تقتضي الهشاشة الحضور اللائق بمهابة ملكة ،هذا إذا اتفقنا على إقحام الوضاعة في ثنايا اللغات التي نقترح استدعاء مفرداتها لرسم الوجه ذاته بألوان أكثر شراسة وتوحشا. إذ يظل رسم الوجه ذاته بثلاث طرق أو أكثر مسألة في غاية التطلّب طالما أن صوتي البارق هو من يسكّ ذلك المديح السادر منذ زمن في مكان ما من التاريخ الأحمق لتلك السفينة التي تمخر عباب البحار والمحيطات دونما هدف سوى إلقاء الحمقى في الغريق الخافي .. حيث يبدو العالم أكثر وحشة من دون وجه. أعني ذلك الوجه المجهول وهو يشي بجمال صارخ ، علّه يجتاح ظلمة أشدّ قتامه وطعنا ونزيفا ، ظلمة تنطوي على لغات شتى حتى يمكن الاقتراب من ملامحه الغامضة .. وتوصيف هيئته بحياد مبارك ، لعل من يراه سيدرك مدى بشاعة أن يظل هذا العالم متروكا لسلطة الأوغاد والبهائم .  ولأنني لم افلح بعد في القبض على ذلك الشيء تبعا لما هو متعذر ومستحيل وخفي ومجهول .. لهذا سأظل اركض إلى مالا نهاية بغض النظر عن وعورة القواميس وضراوة المعاجم . كأنني الآن اكرر نفسي حين استعيد العبارات ذاتها التي انكتبت من قبل ، والتصقت بأجساد وأسماء ووجوه أخرى .
**

    أتخيل أشياء كان ينبغي أن توجد ، لكي تلمس وترى وتشم ـ أشياء قريبة .. حواس تتململ وتقلق وتنتفض وتعربد وتفرح وترتكب المزيد من الهوس والجنون . ربما سأكتب قصيدة أو تعويذة أتقرّب بها من تلك الوجوه التي نحاول أن نطلق عليها ما يليق بها من صور وأسماء .. لكن ليس بالضرورة دائما افتراض أو ادعاء معرفة ما بمخلوقاتنا .. وأن ما نصطفيه أو نحبه قد  نتوهم معرفته ليظل متوحدا بينما نحن لا نعرف أنفسنا حق المعرفة.. ربما لأننا أكثر تعددا و تنوعا ، وأن ما نحتاجه من أسماء  لا يحيط بما تقترفه أفكارنا من سفر ونوم ولعب  .
____ 
طرابلس 2 يوليو 2007