وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الاثنين، 14 سبتمبر 2015

مونولوج



مفتاح العمّاري

مونولوج


    في لحظة  بالغة القساوة والأسى ، قد يأكلك السام وتغدو مستسلما دون هوادة لضراوة النأي والعزلة .. معتقدا لا محالة بأنك بهيمة منبوذة .. فائضا عن حاجة الزمن الذي تتفاقم شراسة آلته يوما بعد يوم..حيث لاشيء البتة جديرا بالطمأنينة .  وفي غمرة هذا الإحساس الموغل في الوحشة والتهدم .. تكتشف لهنيهة بأن ثمة في هذه المدينة من يتذكّرك، ويهبك حيزا ودودا من وجدانه وتسامحه . هنا ، وعلى الرغم من تلك الإشارة التي تضيء ركنا مظلما في روحك الجهمة .. وتوقظ في نفسك يقينا ما بالتفاؤل والزهو .. إلاّ انك حتما سترتبك إزاء ما يمكن أن تقدمه بدورك إلى من يحفظ لك في أرشيف عواطفه قدرا من الود .
    لعلك ستتساءل عن وجهك الآخر الذي لا تراه .. عن صورتك المخفية في قلوب الآخرين .. عن عناوينك التي تظن بأن صروف الدهر قد محت رسم تضاريسها من خارطة الألفة .. عن ضحكتك ونبرة الهدوء النظيف
في صوتك الذي ذهبت الرياح بعذوبة إيقاعه الحالم .. عن شغف مشيتك عندما كنت تقود الشوارع إلى مآربها البهية ..  وقد تتساءل أيضا ، بينك وبين نفسك : هل يحق لك أن تعترف .  ربما يعد هذا المنولوج ضربا من الحوار مع الروح ، لأن ثمة أشياء تبدو رغم سذاجتها الطافحة على السطح  في غاية التعقيد . هنا تحديدا تشير عبارتك إلى حماقات دامية .. ومفارقات من سلالة  دون كيخوت..  فيما تلمّح قصيدتك إلى  ذاتك الممزقة ولحظاتك المركّبة على نحو بالغ القساوة والغموض .  تتفاقم تراجيديا قصيدتك ، لتشي بكائن لا تمر أوقاته هكذا .. كأنّك خلقت لمشيئة الغبن والخيبات المتراكمة لكي تتواطأ مع الألم .. مع لعبته التي دائما تعيد صياغة نفسها بهيئات وأشكال يتعذّر القبض على أوصافها . كذلك تَحتّم عليك أن تتصالح  مع غربتك في أعنف تجلياتها قهرا ، فليس أشدّ وطأة من تلك العزلة التي يعانيها الكائن داخل وطنه.. عزلة اللغة / المخيال / التأمل / التسكع عبر مرايا باهتة .. وهي لحالة من الجنون المستعصي حين يتكرّس الحنين للمجهول .. حيث ينبري كل شيء في ذمة الغيب . كل ماهو منتظر ومُتوخى ومحلوم به ، يستوطن لحظات مؤجلة ، تظل دائما مرتقبة . هذا التوق لمخلوقات من وهم .. يتمثل في  كل ما هو أثير ومهيّج للشغف . لكنّه يبقى مجرد حلم معاق ، ينتجه هوسٌ جامح ، يكتب رسائل لحبيبات الغيب ، ويجفِّفُ ورودا في كتب لم تُقرأ بعد.. ويبعث بمكاتيب حارة إلى عناوين مجهولة .
     لعلك ستعتذر في يوم ما حيال هذا الكلام الذي قد يصل أو لا يصل .. وهذا البوح المرتبك والإفشاء الخجول ، لكأنك  في بعض ما تسميه نثرا  قد وزعت نتفا من تمزّقات لامعة ، تبعثرت أشلاؤها هنا أو هناك في قصيدة أو حكاية أو مشهد .
  لكنك تبدو غير مكترث ، وأنت تقضي ثلاثة أرباع يومك في غرفتك .. أحيانا تمر أسابيع ولا تخرج إلى الشارع .  لم يعد  ثمة أصدقاء تنتظر أوبتهم ..  تُعدُّ لهم القهوة والحكايات الساخنة ..  وتشاطرهم رحلة الخيال .. كما كنت تفعل ، بعد أن اختفوا فجأة .. غادروا  أو تلاشوا أو تاهوا.. أو لعلهم استسلموا لغوايات بعيدة . وأن  ما تبقى من حبات في مسبحة العناوين التي كانت قبل قليل أثيرة ، بدت الآن باردة وخاملة بعد أن فقدت تلك البراءة  التي كنّت  تُربِّي مفرداتها.. وتزوّدها بما تحتاجه من دفء وحواس إضافية لكي تقتفي من خلالها حدس الألم / دليلك الذي بهديه  تعرف أنّ تكمن فخاخ الفتنة ، وسطوة المتع .. في ما تقترفه من قصائد وأحلام ومحطات رحيل لا يكف .
   يا ترى كيف يمكن أن تلتبس الحقيقة بالتيه .. وما كنّت تضمره من مباهج أضحى محض غائط كريه . سقطت النجوم ، وكشفت السجفُ عن سماء لا أين لها .. وغدت أغاني فيروز ، وموسيقى تيودوراكيس مجرد أصداء باهتة في متاهة العمر. هل كنّت  محض ظل باهت لزمن عابر .. وبذا قد  ضاقت أوطانك وانحسرت حدودها في ذلك الحيز الصغير الذي تتيحه  كلماتك البائسة . كم مضى من الهزائم والخسائر والخيبات لكي تتذكر إيقاع آخر ضحكة في رواق هذا العمر الذي تشظّت أيامُه ولم يعد بينك وبين ما كنت تكتنزه من محطات سفر .. غير ما تتيحه الذاكرة من مصائد سهو . أين أنت .. وكيف هي أحوال الطقس .. وكم سنة أخرى يمكن أن تضاف إلى ذخائر النوم . يا لها من  غرائب وفصول شحيحة هذي المفازة التي غمرتك  بغبارها.. فلم تعد تبصر ما ترتكبه الضراوة من ألم .   كانت قصيدتك في يوم ما أكبر من حدود العبارة . والحالة هنا تقتضي بالضرورة إلحاح إيواء .. ومجاز رحم  .... وتلك الرغبة التي لا يردعها كابح في الأبوة : الأطفال ،  سحر لا يقاوم .. فمازلت لا تصدق بأنك تحوز على هذه النعم ( زينة الحياة الدنيا )  . فلو لم يكن الأطفال معك  كيف يمكنك مقارعة الهلاك الذي يضرب أوتاده في جهات الروح . صغارك هم الطاقة الحقيقية التي تشحن قدرتك على الوقوف .. فكلما ترنّحت قليلا أو هزتك رياح الغدر تتوكأ على براءتهم . إنهم يسندونك الآن رغم كل شيء . فها أنت مرة أخرى  تتربّى بهدوء على احتمال المزيد من التّعب .. وها هي الأيام تواقة  من جديد ، ترسم وجوها حالمة .. وتعزف كل مساء ألحانا من وحي الغائب .. وتعيد قراءة سمرقند التي طردت عمر الخيام خارج بساتينها .. وتقترحُ أمّك الصغيرةُ وعداً  من الخفة يتكفّل بحمل ثقلك إلى مطارح أخرى أكثر أمنا . فلا تلتفت وراءك ، قد مضت الأيام تلك .. ولم يعد ثمة أحد جديرا بالتساند   .
     كانت قصيدتك الأولى صنيعة حدث شخصي . حين اكتشفت طرابلس وفتحت أبوابها العتيقة بمفاتيح صُكَّت من خامات تأنيث .. كان لنون النسوة الفضل ا في سنفرة نحاسها ..  لم تكن وقتها سوى جندي  بسيط فرّ من قساوة الثكنات ، وصرامة قوانينها الجائرة ، ليجد نفسه فجأة في ما يمكن أن يُعدّ نعيما ، خارج حياة الأسر.  لهذا كانت القصيدة هبة الله  ، منقذتك من التهدّم والضياع .. حيث   لا عائلة ، لا بيت ،  ولا وطن غير ما تهيئه الثكنات من جحيم الغبن . كانت بالنسبة لك منجم سلام وكنز طمأنينة .. فماذا عساه أن يحلم ذلك المخلوق الوضيع الذي لا يُرى . عالم من الغوامض والعيّ والارتباك والخجل التاريخي .  كانت بمشيئة  حدث شخصي مهيأة لأن تكون شريكة سر ..  وأنت لم تكن محض شاعر وكفى ،  بقدر ما كنت طفلا إضافيا يقع على عاتقها  عبء مداواة جراحه الكثيرة التي تمزّقت تلافيف ذاكرتها النازفة .  مرّ وقت لم تكن فيه راغبا بانشغالات المنزل .. انتقمت على نحو ما من ضراوة الأيام .. فتسكعت وسكرت وسافرت بفضل القصيدة إلى عواصم وبلدات لم تكن متاحة قبل قليل .. كأنك تصفي حسابا قاسيا مع الحياة .. و تثأر من الضنك وقلة الحيلة . منحت نفسك براحا من التمرد والعربدة والمغامرة والمجون  .. ربما ساعدك حدسك على معرفة تلك الإشارات التي تومئ لك ، لكي تقتفي ما تخبئه أقواس الحبر بين أظلافها من روائح ، وعوالق ريح حمّالة لقاح ونفايات مدن . فتربّصت بعصامية متوحشة للانقضاض على كل ما هو جريرة سفر وخطيئة تأمل . قرأت متون التوحيدي واقترفت بعض ما جناه الحلاج على رهطه . وكنت وحيدا.. أجل الوحيد بين أترابك الذي  يجمع بين الكتابة والوجود بعفوية جارحة لا دليل لها سوى الحدس . كانت القصيدة بقدر بساطتها ..  مجاز واحة صغيرة كلما ضاقت بك الحياة  اتسع رحمها .
<>                                                                                                                
_______ 


خريف 2002