وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الاثنين، 18 أغسطس 2025

تعليق على هامش :مأدبة لبكاء مرّ للشاعر جمعة الموفق*

 مفتاح العمّاري

 ____________________________________________

      هل يمكن أن يخرج من النثر قصيدة؟  هكذا تساءل، أنسي الحاج، في المقدمة البيان، لمجموعته الشعرية الأولى (لن). سؤال ما انفك يتكرَّر بصيغ شتى. سؤال تقليدي وبديهي في آنٍ، ومع ذلك ما زال يحثنا على إعادته، وإن بصيغ مختلفة لإيجاد توصيف أكثر دقة لهوية قصيدة النثر، ومحاولة الاقتراب من القبض على تعريف منصف يؤويها ويحيط بها، كذلك الكشف عن خصائصها؛ والتنقيب عن مرجعياتها؛ فيما إذا كانت تُولد من اللغة، من الألم، من الصورة، من الموسيقى، من الغربة، من الغضب والتمرد، من الذاكرة، أو من تأثير القراءة والتناص. وهل القصيدة نتاج البيت، أم الشارع؟؛ وعن مدى صلة قرابتها بالشعر.


   قصيدة جمعة عبد الله الموفق، (بصورةخاصة) تختزل كل هذه الأسئلة. مع ملاحظة أننا حين نقتفي المرجعيات المؤثرة في المادة الخام لهذا الصنف المتجدَّد من الكتابة؛ فإننا نسبر القصيدة ذاتها من داخلها، لا من الخارج؛ باعتبارها؛ (أي القصيدة) وحدة مستقلة بذاتها وكل ما يدخل في خامها سيشي بعملية هضم، وتدوير لها خصوصيتها.

    ضمن هذه التلميحات الممهدة اندرجت قراءتي هنا لديوان، الشاعر جمعة الموفق "مأدبة لبكاء مرّ" كتجربة جريئة في انحيازها لقصيدة النثر. ولفض الاشتباك الدائر حول هذا المصطلح وانتسابه لسلالة الشعر العربي، نجد أنفسنا أكثر ميلا إلى اعتبارها (أي قصيدة النثر) نوعا شعريًا مستقلًا، لا فرعا من شجرة. ولأنها تشكل في عمومها تحديًا يضرب في أكثر من اتجاه، تحديًا في رهانها المستميت على صنف من الكتابة أضحى نسيجه واهيًا في قماشة الثقافي والمجتمعي، وقد ضاق حيزها وتفسخت قيم زمنها وندر شغف محبيها، تحديًا للمحرم وانتهاكا للتابو بكل قوانينه ومقدساته، تحديًا للواقع عبر تعريته وفضحه ونكش مطاميره وكشف أسراره. أجل، قصيدة جمعة الموفق؛ تضرب في أكثر من اتجاه داخل مستوى تعبيري واحد، وبعبارة مقتصدة، تقشفت مفرداتها في استعمال أية مواد تجميل بلاغية، واكتفت بانزياحها الخشن، والتقاط المطروح في الطريق، تبعا لحاجة العابر.

 

      أشير بأنني لا أتكلّم هنا، بوصفي منظرًا؛ بل أتبع ذائقتي عبر سجيتي وحدها؛ محاولاً توصيف تلك الهزة العميقة التي أحدثتها قصيدة (الموفق) في وجداني. وكل ما أقوله لا يطمح أن يكون أكثر من ترجمة لما يمكن تسميته بتفعيل القراءة بوصفها حياة أخرى تجاور المقروء، وتنطلق تحديدًا من فضائه؛ لا لتأطيره؛ بل لإعادة خلقه، تبعا لما تسهم به عملية القراءة من احتمالات التلقي والتأويل.

     أشير أيضا: إلى أنني قرأتُ مقترحات هذه المجموعة الشعرية (قبل بضع سنوات)؛ وهي لما تزل مخطوطة معدّة للنشر، خصّني بها الشاعر (مشكورًا).

     في أثناء قراءتي، كنتُ بدوري اتساءل، من جهة؛ عن مرجعية اللغة، كذلك مرجعية فضاء القصيدة كخلفية ثقافية اجتماعية؛ وقد أدركتُ بأنني إزاء كتابة مضادة للسائد، كتبها شاعرٌ حقيقيّ، لتعبّر عن تجربة أصيلة، حيث الكتابة مشروع حياة، تنطلق من انهمام وجوديّ، وقلق يراكم أسئلته، ويعيد تشكيل المتخيل، بواسطة اللغة وحدها، باعتبارها سلاحه الوحيد في معركة الوجود. اللغة وقد تفطّنت للخديعة اللفظية التي ما تزال تُعلن عن نفسها لدى التجارب الممتثلة لرومانسية موهومة؛ سوّقها أنصار التافه والسخيف من الشعر الغنائي، (قديما وحديثا)، الذين حوّلوا لغة القصيدة إلى جُمل سائبة، وفضفاضة، تذهب غالبا إلى ما وراء الواقع. وهكذا سبّب التخلي عن المحسوس، وازدراء المستعمل، في إفقار لغة الشعر كمنظومة متكاملة تجمع بين الإيماء واللفظ والصورة، والشفوي والمكتوب. لأن اهمال هذه السيمياء تبعًا لخبراتها وتطورها، نتج عنه من ثم إغفال دورات تراكمها الشعبي، في مستوى لغته الشابة: لغة الشارع. هذا المأزق يُعدّ من أخطر المعوقات التي تعترض صيرورة التجاوز. وهو أيضًا مكمن الخلل في تخلف عملية الكتابة الإبداعية بشتى أجناسها، ولاسيما الشعر.  

      تستجيب اللغة هنا لمخيلة الشاعر، ولن يكون في وسع أكثر مفرداتها خشونة إلا أن تلبي مشيئة القصيدة، ولاسيما حين يتربص معجمها بمفردات الشارع، حيث تتحقق المعادلة الصعبة: ترويض القصيدة على ضرورة التسكع، كصنف من المعرفة لا يتحقق إلا بكسر صرامة اللغة نفسها، فضلا عن كسر إيقاع ارستقراطية ذاكرة الشعر، والتخلص من شبهة الغنائية، وأشياء عديدة عليها أن تتحول الى حطام؛ حتى لو كانت من سلالة المقدسات. 

    تبدأ القصيدة من خلال اكتشافها للغتها، أي المقاربة بين الكتابة والكلام؛ وهذا عمل بقدر بساطته النظرية، إلا أنه يحقق معادلة صعبة المنال، عندما يقفز على كلاسيكية اللغة وصلابتها؛ ليكتب بالطريقة نفسها التي يفكر بها.


     لعل الطيف الجديد من شعراء قصيدة النثر بمختلف أجيالهم انشغلوا بمقاربة الحي والمستعمل من اللغة، وانتخبوا لغة اليومي، على حساب البلاغي. لذا ستظهر آلية الانحياز للغة الشارع، كأول ملمح في قصائد هذه المجموعة الشعرية. فمن علي صدقي عبد القادر، إلى هناء قاباج؛ مرورا بفوزية شلابي، وسميرة البوزيدي وسراج الدين الورفلي، ومفتاح العلواني، ومحمد عبد الله – هنا ألمّح ( من زاوية نظر شخصية) إلى الإشارات الأكثر مراكمة وتشكلا ورسوخا ومثابرة وإضافة وتأثيرا- في قدرتها على إزاحة القصيدة، ليس في التنصل من العروض والأشكال العمودية للشعر التقليدي، أو موقفها المضاد من التشوهات التي طالت قصيدة النثر وحسب،  بل عبر دورها المعرفي في المقاربة بين الشعر والحياة، كواقع معاصر، وتحرَّرها من سلطة الأبوة وهيمنة السلف.

      أما فيما يتعلق بالفضاء؛ فذلك يتطلب وقفة أكثر تمعنًا وتدقيقًا وتمهلا، وبصورة خاصة إذا ما أدرجنا هذه التجربة ضمن تيار شعري ينحاز للهامش؛ فحينها سوف نفتقد لتلك العلاقة الحية اجتماعيا باعتبار الحانة ومعاقرة الخمر هامشًا له حيزه الثقافي الذي يشكل إطارًا اجتماعيا، وبالمثل ينسحب الكلام على النساء وتكريس ثيمة «الأيروتيك كلازمة» مهيمنة، من خلال توطين مفرداتها الخلاعية، بشكل يشي أحيانا بالإفراط المتعمّد.

      وهنا أومئ إلى أجواء المكان كبيئة اجتماعية، وعمارة وواقع يومي ضاج، وكيف تغامر لغة الشعر باختزالها وتحولها من ثم الى (قصيدة نثر). باعتبارها صور واقعية، ومخزون اجتماعي، يحتمل من ثم، هذا الجموح المضاد، مثلما هو شأن (سانتياغو) في قصائد: (نيكانور بارا ( ولوس انجليس، في قصائد (بوكوفسكي). مما يحفزنا هنا للبحث عن مدينة تخصنا، أي عن طرابلس أو بنغازي، وربما درنة وطبرق، أو الخمس والبيضاء ومصراته وسبها؛ لكأننا نحاول ايجاد مسوّغ لصدقية التجربة، بوصفها حياة معاشة تنطلق من واقع اجتماعي حيّ كمرجعية، لا تبرئتها من شبهة القراءة أو المشاهدة. كمحفزات للتناص مع تجارب الآخر. لكن، وبغض النظر عن خلو الحواضر الليبية من هذا الرصيف الذي يحتمل حانات ومراقص ومواخير وأماكن تضج بالعاطلين والمشردين فإننا سنتعاطف مع مخيلة الابداع الكتابي شعرا ونثرا كواقع افتراضي يهبها الحرية – ربما المطلقة – في استحضار ما يحتمل استحضاره من مفتقدات. بيد أن السؤال المخيب هو: أن (هكذا قصائد) سيكون غير مرحب بها في بيئة تقف دائما ضد المغامرة والتجريب. وفي الوقت ذاته، سيتعذر على أدواتها القرائية، الفصل بين الواقعين، المعاش والمتخيل.

     وبالرغم من ذلك فأن هذا الانحراف كفيل بأن يجعل القصيدة تتطابق قولا ومعنى، لحظة أن يتصالح الخيال مع نفسه، أي حين يكتشف لغته الضائعة، ويكتب لحظته كما هي، دونما ادعاء. 

     هذا هو الشعر: صادم، وعنيف، لا يسعه أن يمرّ بحياد طالما كل كلمة كفيلة بأن تلدغك؛ لتترك أثرًا لا يمحى، شعر اعترافي، سيروي، يومي يوثق البديهي والعابر؛ أحيانًا ينهمر كمنولوج، تتعدد في أنساقه الضمائر والصيغ والأصوات؛ فيما تظل كل قصيدة منكبّة على تدوير لحظتها بأكثر من طريقة. جمعة عبد الله الموفق، وهو يشارك في التأسيس والتأصيل لقصيدة  الشارع؛ يكسب بجدارة قدر اللعنة؛ لعنة الشعر، ويحكم على نفسه سلفا، أن يظل مطرودا خارج الجنة. ليبدو كمن يسعى لتكريس جحيمه، في زمن يتعذر التصالح مع قبحه. لكن وعلى الرغم من افتتانه بالصورة كلقطة عابرة، إلا أن الفضيلة هنا تكمن في عفوية أصالة جملته الشعرية بوصفها هبة تسكع، وغزوًا يتغلغل بعيدًا في معجم العامة، تاركًا عبارته الطازجة، تنهال بضربات حارة، وجريئة إلى أقصى حدّ. قصيدة النثر هنا تأتي كاستحقاق يستمد صدقه وطزاجته من أصالة التجربة، كوريث شرعي لثقافة الهامش. كما لو أن الشاعر قد عثر أخيرًا على ضالته عبر هذه العلاقة، التي تصل إلى اكتشاف أطرها معرفيا، كتمهيد لعودة الشعر إلى الشارع.


     من زاوية أخرى يمكننا ملاحظة كيف تتكرس الكوميديا السوداء في تجربة جمعة الموفق بصهر عديد الأرواح داخل مرجلها، أرواح ضالة لعلها أقرب الى تلك الفصيلة التي تنحدر في نسبها العربي من سلالة الماغوط، وعلى الضفاف الأخرى ستذكرنا ببكوفسكي، وفي الآن نفسه ستحيلنا الى الشعر المضاد في امريكا اللاتينية وتحديدًا تجربة شاعر الشيلي “نيكانور بارا “. ولعلها من خلال تداعياتها السيروية ستوميء في شكلها الاعترافي الى بوكوكسفكي، ودوريان لوكس، وآخرين، فتظهر كما لو أنها تدربت وبتمرس في نفس المشغل الشعري لجيل غاضب، غير أن توقها لتحقيق ملمحها الخاص بها، فضلا عن وعيها بما تفعله، يجعلها تنطلق واثقة من تأسيسها لنفسها، وتأثيث مشروعها، بوصفه مقدمة لتوطين قصيدة نثر تنحاز للهامش، ليس في بعده الاجتماعي بل بما تمثله اللغة التي صاغت قصائد الديوان كمسوغ أكثر خصوصية. هنا تتجلى تحديدا أصالة صوت الشاعر، ومدى قدرة جملته الشعرية على إيواء عالمها بانسيابية داخل مفردات غاية في البساطة. لعله الشاعر الأبرز في هذا الطيف الذي ظهر خلال العقد الثاني من الألفية الثالثة. ففي الوقت الذي يتنصل فيه العالم من الشعر، بحيث وسم التردد والارتباك والخجل معظم تجارب هذا الجيل، ليقتحم جمعه عبد الله الموفق، المشهد الخامل بقوة وليخلخل هذه الظاهرة، منصفا الشعر والشاعر.

     قد لا يفي هذا التعليق السريع للإحاطة بأشكال ومضامين نصوص المجموعة الشعرية (مأدبة لبكاء مرّ)، التي يتعذر إنصافها كما ينبغي وبالمثل يظل من العبث الانشغال البتة باستحقاق تموقعها داخل مشهد شعري شبه معدوم، يتصف بالعشوائية وغياب الحراك، طالما يفتقر محليا إلى تجمّع أطيافه، وهشاشة فعاليلة المنابر والمحافل وحركة النشر والطباعة، ومظاهر الاحتفاء… الخ. لكن يكفي أن قصائد (مأدبة لبكاء مرّ)، قد صعدت بجرأة عالية لتعزَّز المزيد من الثقة. ليس في الرهان على قصيدة النثر وحسب؛ بل على فرادة الصوت الشعري في ليبيا، ومدى ما يملكه من مقومات حقيقية لإنجاز كتابة شعرية على قدر كبير من الأصالة والتميز والاقتدار.

*نشرت هذه القراءة قبل أربع سنوات في صحيفة فبراير الليبية، منقوصة مع تقديم فقرات على أخرى، علاوة على بعض الأخطاء الطباعية، لذا رأيت إعادة نشرها مع اجراء بعض التعديلات الطفيفة. مفتاح

رابط ص فبراير    https://febp.ly/%D8%AA%D8%B9%D9%84%D9%8A%D9%82-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D9%87%D8%A7%D9%85%D8%B4-%D9%85%D8%A3%D8%AF%D8%A8%D8%A9-%D9%84%D8%A8%D9%83%D8%A7%D8%A1-%D9%85%D8%B1%D9%91-%D9%84%D9%84%D8%B4%D8%A7%D8%B9%D8%B1-%D8%AC/

السبت، 16 أغسطس 2025

في مديح الغائب . الى: عبد السلام العجيلي

 


 في مديح الغائب 

     لكم تبدو مؤلمة وحزينة اللحظة التي يفقد فيها الشعر أحد مريديه. مؤلمة وحزينة، وفي غاية العجز والضعف والتهدّم؛ حين تلفي نفسها إزاء هكذا حقيقة مخيبة، وغامضة لفناء القيمة؛ طالما لا يملك الشعر في آخر مطافه شيئًا، سوى بضع كلمات للنعي والتأبين. الكلمات المبتذلة نفسها، الغبية والبلهاء. حتمًا ستعوزه الحيلة لتسكين هكذا صنف من الوجع الميتافيزيقي الذي يتركه غياب الرائي. لأن موت شاعر من رهط "عبد السلام العجيلي" تحديدًا؛ ليس محض خسارة جسيمة وفادحة للجزء الأنقى والأكثر براءة من وجداننا وحسب. بل إشارة تحذير تنذر بموت الانسان. الذي تواطأ مع حمقه وبلاهته ووحشيته، لحظة تخليه عن آدميته، ليتحول من ثم الى بهيمة طائشة. فأي شعر أو شاعر سنبكي؟ ونحن من اعدمناه سلفًا، أعدمناه كمعنى، لمّا كان المعنى جميلا ومتاحًا، ثم جسدا، لمّا كان الجسد في أمسّ الحاجة للرحمة والتضامن.

     كان علينا الاعتراف والاحتفاء أولًا بحياة الشاعر عبد السلام العجيلي؛ لا موته.

    هل تساءل أحدكم يوما عن سيرة الغبن، ومعيشة القهر التي يكابدها عشاق الجمال ومريدو الشعر في بلد اسمه ليبيا؟ 

المفارقة الصعبة هنا، أعني في هكذا بيئة قاتلة للجمال، وطاردة لسدنة الوجدان، أن فاجعتنا أشدّ فداحة وتعقيدًا، لأننا كشعراء نعاني من عقاب النفي المتعدد، حسبا لقانون التفاهة، والجهل الجمعي المقدس. وذلك بدءًا من اللحظة الملعونة التي تخلت فيها العائلة الكبيرة عن أكثر مكتسباتها الروحية قيمة وقداسة؛ وقد آثرت طوعًا، الركض الى حدّ اللهاث (خلف الجسد لا الروح). فخسرت الظاهر والباطن، ولم تجن سوى تفاهة الرياء والزيف وعبادة المال وتقديس الطغاة.

      أجل، هذا ما يحدث عندما تتنكّر حياة الجماعة لأبلغ معانيها سموًا وعلوًا وطهارةً.   

      نسأل الله الرحمة لروح البهيّ، صديقنا الشاعر العفيف: عبد السلام العجيلي. "أنتم السابقون ونحن اللاحقون".

 

الخميس، 14 أغسطس 2025

-------- في فايا لارجو*

 

مفتاح العمّاري

جندي بذراع مقطوعة. تشالز بيل (1815)

-------- في فايا لارجو

 

عندما تخلّت كتيبتي عني؛

لم ينتبه أحد أني بلا أطراف أختنق في خندق رملي،

وأنّي بعد قليل جعلتُ نيران بندقيتي دبابير محتجّة؛

وقد أعطيت لأجنحتها نفس القوة التي تخشاها العاصفة،

ونفس الصرخات الصلبة لحشد من العبيد اليائسين؛

لتحرق جبلا رابضا بين ظلامين.

 

ثم تربصّتُ نباهةَ الصدفِ الرحيمة،

لعلّ ذئبا يغادر وجاره ليقتفي رائحة دمي؛ فيهبني كرامة جوعه

حيث لا شيء يعوي في روحي غير الألم.

 هكذا يأتيني رزقي كعدوّ يسعى.


حدث ذلك قبل ثلاثة وثلاثين عاما.
لكن ما زال نومي يتكسّر،

وأحلامي ترتجف.

________

باب بن غشير  20 يوليو 2020  

من قصائد ديواني: (حكايات تجعلنا نخجل)

 

الجمعة، 8 أغسطس 2025

أرشيف الراعي: " by أونيفار نيوز 22 مارس 2019 14:49 *

 


        

                      


الشاعر الليبي مفتاح العمّاري

يتهم إدارة أيام قرطاج الشعرية بالإهانة!


    اتٌهم الشاعر الليبي البارز مفتاح العماري إدارة أيٌام قرطاج الشعرية ب”الإهانة ” بسبب دعوته لحضور الدورة الثانية التي ستنطلق يوم الجمعة 22 مارس في أيامها الأخيرة و عدم احترام مكانته الشعرية و عدم إحاطته بتفاصيل البرنامج.

وهذا المقال الذي كتبه ويكشف فيه تفاصيل ما حدث مع إدارة الأيام ويذكر أن الشاعر المصري الكبير أحمد عبد المعطي حجازي اعتذر عن الحضور.

      مساء الثلاثاء 19 فبراير الماضي، تلقيت عبر خدمة sms Info رسالة من الشاعر عادل الجريدي (مشكورا) بوصفه عضوا بلجنة تنظيم أيام قرطاج الشعرية، تتضمن دعوتي للمشاركة. دعوة كريمة (في لحظتها) أسعدتني جدا.

استجابة مني لتلبية هذه الاستضافة التي تفضل بها الأشقاء في تونس، أرسلت في غضون ساعات معدودة على البريد الالكتروني ما يفيد بقبول الدعوة و من ثم استعدادي للمشاركة عبر رسالة تالية (ملحق)؛ لإرفاق الوثائق اللازمة (مستنسخ من الصفحة الرئيسة لجواز سفري و ملخص سيرة ذاتية).

انتهى الأمر عند هذا الحد حتى مساء يوم أمس، الأحد 17 مارس 2019 لتصلني تذكرة سفر الكترونية (ذهابا وإيابا) حُدد فيها موعد رحلتي من طرابلس الى تونس يوم 26 مارس أي بعد خمسة أيام من افتتاح أيام قرطاج الشعرية.

كنت قد قبلت الدعوة بامتنان، أولا: إكراما لقداسة الشعر الذي كرست له وفاء استثنائيا، كذلك للخروج من عزلتي التي دامت قرابة عشر سنوات بسبب علل الجسد من جهة، والأزمات التي يمر بها الوطن من جهة أخرى.

كذلك كان المحرض الأكثر تحفيزا لقبول هذه الدعوة يتعلق بالقيمة الجمالية التي تتمتع بها تونس كوطن ثان أودعته جزءا من ذاكراتي خلال عشريتي الثمانينيات و التسعينيات من القرن الماضي، عبرت عنه مشاركاتي في عديد المناسبات الثقافية تلبية لدعوات شرفت بها من اتحاد الكتاب و وزارة الثقافة و أخرى من مناطق الظل مما ضاعف من ذخيرة الوجدان و كسب أصدقاء أعتز بهم و أحن اليهم و أتابع نشاطهم.

أشير إلى أن الفترة ما بين موافقتي على تلبية الاستضافة ووصول تذكرة السفر التي استغرقت قرابة ستة وعشرين يوما لم أتلق (دعوة رسمية) أسوة ببقية الشعراء المدعوين من خارج تونس.

كذلك لم أخطر بأية إحاطة تتعلق بالاستقبال أو بعنوان الإقامة أو بأجندة المهرجان كإجراء تقليدي متبع في هكذا مناسبات، إجراء يُعفي الضيف من حرج السؤال.

لهذا استعنت بوسائط الانترنت للاطلاع على بعض تفاصيل هذا الحدث الثقافي الدولي، قصد التعرف على البرنامج العام.

خلال دقائق معدودة كنت على إلمام بأهم عناوين هذا الحدث الشعري بداية من حفل الافتتاح وأسماء الشعراء الذين اقترحوا لتدشين اليوم الأول إلي يوم الشعر العربي وأمسيتي الشعر الشعبي مرورا بالمسابقات الشعرية وتلك الحصص التي خصصت لشعراء الضفة الأخرى.

في الأثناء تساءلت عن الحكمة الغامضة التي اقترحت تأجيل حضوري إلى اليوم الخامس من نشاط هذا المحفل و عن المعايير التي سنتها اللجنة المنظمة في إضفاء قيمة احتفالية على من خصتهم بتلك الحظوة دون غيرهم ممن يفوقون بعضهم خبرة و تجربة و قيمة (سواء الذين انتخبوا ليوم الافتتاح أو لليوم الخاص بالشعر العربي) و عن المغزى من إيثار أسماء و تهميش أخرى.

هل المسألة تتعلق بالقيمة الشعرية بوصفها تجربة ذات معنى جمالي و حمولة تاريخية لها ما لها من أرث أصيل يختزن تنوعا و خصوصية فنية و إضافة حقيقية للمتن الشعري تستحق أن يحتفى بها دون غيرها ؛ أم لدى القيمين في اللجنة المنظمة معاييرهم و حساباتهم و أسرارهم الخاصة بهم.بكل أسف و خيبة) لم أجد مسوغا لهكذا بروتوكولات مسيئة للشعر. الشعر الذي ينكل به تحت شعار “نحتفي بالشعر.. نحتفي بالحياة”.

فهنا عوض تكريم الجمال تستبدّ الأهواء وحدها؛ حيث لا براء من شبهة تشويه الجمال في محفله. وهذا ما يحدث حين تفسد النية و تنحرف شعاراتُ الحفل لتتواطأ مع غواية (المصلحة) في حيزها المشخصن و أن لا شيء يبدو نظيفا، أجل لا شيء، بما في ذلك وجه القصيدة التي عوض إنقاذها، تُمرغ في الوحل و تتحول بفعل ثقافة الكسب إلى مسخ كريه.

لهذا و في غياب أي تفسير مقنع كان لا مفر من التراجع عن الوعد و الاعتذار عن المشاركة، أولا : إنصافا للخيال الذي يفترض أن يُعد هذا المحفل بمثابة تكريم له و ثانيا : احتراما لكبر سني و تجربتي الشخصية التي أفتخر بها و أذوّد عنها و ثالثا و أخيرا : إكبارا لمدونة الشعر في ليبيا فلا يليق بنا الإيفاء بوعد قبول الاستضافة طالما لم نلمس حدا أدى من الإنصاف تبعا لأجندة هذا المهرجان التي تضعنا في الخانة المهملة لنكون فقط مجرد هامش مُزدرى.

   كنا نظن أن استضافتنا ستحاط بالمكرمة التي نستحقها أي بما يليق بتجربتنا بوصفها قيمة؛ بعيدا عن أية حسابات من خارج الشعر . لهذا أنا حزين. 

شكرًا أيها الأشقاء.

و ليحيا الشعر .

___________________________   

* نفلا عن أونيفار نيوز      https://ar.universnews.tn/%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%A7%D8%B9%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%8A%D8%A8%D9%8A-%D9%85%D9%81%D8%AA%D8%A7%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D8%A7%D8%B1%D9%8A-%D9%8A%D9%8F%D8%AA%D9%87%D9%85-%D8%A5%D8%AF%D8%A7/

 

 

 

 


الخميس، 7 أغسطس 2025

كتب : محمد الهادي الجزيري – مكتب أثير في تونس ( أرشيف)*

 

_________________________ 

قامات مضيئة عبر “أثير”

 مفتاح العماري رجلٌ بأسره يمشي وحيدا

 

 

       ذكّرته رغم أنّه كامن في خلايا الذاكرة، مرّ بي طيفا من ضوء بمناسبة حفل تكريمه في ليالي المدينة في طرابلس، وإلقاء الضوء والحبّ والاعتراف عليه، قبل أيّام قليلة، فهو شاعر فذّ وصحفيّ متميّز، عانى كثيرا من الظلم والإقصاء والمرض وكلّ أنواع العلل في نفسه، وكان أوّل لقاء به في العراق أيام المربد في موفى القرن الفارط، وهو الليبي وأخي بالجيرة والجغرافيا والتاريخ، وما لا يخفى من علاقات قوية تجمع الشعبين، وافترقنا طيلة هذه المدّة، وظللت أسمع عنه وأتابع مرضه وخاصة الوعكة الأخيرة والحمد لله أنّه نجا منها بحسب صوره المعروضة على مواقع التواصل الاجتماعي، بمناسبة تكريمه في طرابلس، إنّه الشاعر الكبير مفتاح العماري والصحفي المميّز الذي نحتفي اليوم به.

أهمّ قصائده المعروفة بعنوان: ” رجل بأسره يمشي وحيدا “، صارت كنية هذا الشاعر من فرط قراءتها وإعادة المطالبة بها في أمسيات شعرية كثيرة، وفيها من الرقّة والحسم الشديد مع الكتابة الشعرية المعهودة، خاصة فيها ارتقاء بقصيدة النثر والارتفاع بها علوّا شاهقا:

 

 

كل شيء في غاية الفساد والأُبهَّة

 

 

لاَ الطمأنينة سقفٌ

 

 

ولاَ النّساء، هُنّ النّساء

وحيداً وكفى

باطلٌ كُل حلم لا يفضي إليّ

وكل ّاحتفالٍ بموتي هراء.

 

 

الحبرُ مملكتي

دائماً لي خبرٌ أسِّمية

ألونُ مدينةٍ أطفالها لا يعطشون

وأرسم امرأة أخرى

ورُبّما العب بالنّار التي ليست معي

 

 

ثم وحيداً أعوي: أيّتُها الذئبة

خُذيني مِن فَمِي

 

      عرف الحياة في مدينة بنغازي في 16 يوليو 1956، وقد انقطع مبكّرا عن الدراسة وغادرها لينضمّ إلى الشباب المجنّدين في الجيش الليبي، حيث شارك في تلك السنوات المؤلمة في حرب تشاد، ثمّ عَرف عليه حبّه وولعه بالمطالعة والثقافة والمعرفة فاستقرّ في طرابلس العاصمة ولم يسكن غيرها إلى حدّ الآن، وقد أشرف على عديد المواقع والأبواب الثقافية وزوايا ثابتة في الصحافة الليبية وتولى عدّة وظائف الاستشارية الثقافية. وأصدر الكثير من المجاميع الشعرية والكتب السردية والمسرحيات إلخ، كما تحصّل على جائزة الدولة التشجيعية في الشعر سنة 2010م، ومن إصداراته نذكر: كتاب المقامات وكتاب رجل بأسره يمشي وحيدا وكان ذلك سنة 1993 ثمّ تتالت منشوراته إلى نثر الغائب ونثر المستيقظ إلى تقطير العزلة، ولعلّ بل الأكيد أنّ صراعه لمرض السرطان منذ 2007 وتكبّده لمضاعفاته قد أثّر في مسيرته الإبداعية، لذلك قلّل حضوره ومساهماته في الفعاليات الأدبية.

 كتبت الصحفية الناقدة سالمة المدني إثر حضورها لجلسة تكريمه :

 "مفتاح العماري نقطة أوّل السطر.

     الاستماع إلى رجل هزم الاحباط والتنّمر والإقصاء والتآمر والمرض، رجل راهن على ما بداخله. المارد الساكن المسكون فيه، وترجمه لنا في لون يعتبره الكثيرين له السبق في القصيدة الحرة او النثرية..، وصنع له مكانة خاصة شعرا ورواية وقراءات نقدية..”

 

     لنستمع إليه وهو يخطّط مسيرته ويحدّد خطّه الشعري بعيدا عن الحلم ..قريبا جدّا من الواعية ..، هذا مقطع من قصيدة بعنوان ( لإيقاظ شجرة)  :

 

  ” الأمنيات وحدها لا تصنع كرسيا أو قصيدة

الأحلام البريئة كذلك، ليست حطبا جيدا لإشعال ثورات عظيمة،

لانتشال حديقة من الغرق،

 

 

لاستعادة قبلة نازحة،

 

 

لاقتلاع غيمة من قعر جبّ،

 

 

 لاصطياد ضحكة صافية من حفلة تأبين .

 

 

وللمشي أيضا، أبعد مسافة ممكنة في السرد

 


     وفي حوار مطوّل يجيب على سؤال حول “قصيدة النثر” التي يعدّ العماري من أهم كتّابها عربيّا، يجيب بأقلّ ما يمكن من الكلمات:

ثمة من عدّ “قصيدة النثر العربية” بوصفها نوعا مستقلا، مع الاعتراف في الآن نفسه بكونها جنسا وافدا، شأنه شأن أجناس أدبية وفنية أخرى، كالمسرحية والقصة والرواية والسيناريو. أنا -شخصيا- أكثر ميلا للتوصيف الأخير باعتبار قصيدة النثر في تجربة الإبداع الكتابي بلغة الضاد تمثل نوعا مستقلا، لا فرعا من سلالة كلاسيكيات الشعر العربي

 

 تُرجمت مختارات من قصائده إلى اللغات: البلغارية، والفرنسية، والانجليزية؛ كان آخرها في مجلة “الحياة والأساطير” الأمريكية، اقترحت بعض دواوينه كمادة للدراسات العليا في نيل الماجستير والدكتوراه، منذ عقد من الزمن يعكف على كتابة سيرته الذاتية، فضلا عن مقترحات في السرد الروائي ..

  لدي أسباب كثيرة للحزن

لكن بمجرد أن أفتح الباب لأحفادي،

سأغدو بشوشا

مثل كلب في نزهة

 

     يقول الناقد العراقي عذاب الركابي في تقديمه لمجموعة ” نثر المستيقظ ” عن إنسان  الشاعر مفتاح العمّاري :  لا يفيضُ شعرا ً يُدمي القلبَ ، وصورا ً تثقفُ العين َ ، وإيقاعات ٍ ترتّبُ خطانا المرهونة َ بنبض الصباح ، وتعبيرات ٍ تجدّد ُ نسيج الذاكرة وهوَ يتجلى لُغة ً للوصول ِ إلى لُغة ِ اللغة ِ ، دفء الدفء ِ ، وسحر السحر ِفي فوضى شعرية ٍ ضرورية ٍ، عبرَ مفردة ٍ موحية ٍ ، لا تخلو من مشاغبةٍ بلاغيةٍ مُمغنطة بحسّ شاعر ٍ يحيا على نيران ِ الكلماتِ أبدا ً ، زادهُ ، وشمسهُ ، ودليلهُ  ..، وعلى ذكريات ِ عشقهِ  القديم ِ – الجديدِ  الممتد حتّى آخر ضفة ِ من ضفاف ِ بحر ِ الهيام . يقولُ ميخائيل نعيمة: (الشعرُ لغة ُ النفس ِ، والشاعرُ ترجمانُ النفس ِ، وكما أنّ الله َ لا يحفلُ بالمعابد ِ وزخرفتِها، بلْ بالصلاة ِ الخارجةِ من أعماق ِ القلب ِ)، وشعرُ العمّاري لغةُ نفسه ِ العاشقة ِ الحائرة ِ، وصلاة ُقلبه ِ التي لا تكون ُ قضاءً: 

 

"صحيح قد بلغت الستين

لكنني حين أكتب،

 
 

أصغي لما يُمليه طفل

طفل مخطوف،

 
 

لا يتوقّف عن صفعي 

 

     وآخر ما أنهي هذا العناق لقامة مضيئة من بلاد العرب، كافح الظلم والحيف وقاوم بكلّ ما يملك من حبّ الشعر والحياة، وصارع المرض اللعين وهو يتعافى والحمد لله، أشدّ على يدك يا مفتاح العماري. فقد وضّبت بيت الشعر لقصيدة آمنت بها ..فكان لك ما تريد:

 هُنَا علّمني الشِّعر

السّفرَ داخل الغرفة

فصار وطني في لُغتي

كلّ يوم أرتِّبُ خيالَهُ

 

وأعالجُ مساميرَه الصّدئة

  

  _____ 
 رابط المصدر

https://www.atheer.om/archive/627052/