وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الأربعاء، 16 أكتوبر 2024

مدونةُ الطير ( من نصوص حياة الظل)

                                                                                       مفتاح العمّاري 


__________   مدونةُ الطير*

 "أوقفني وقال إن لم ترني لم تكن بي.

وقال لي أن رأيت غيري لم ترني"

  -النفري، من موقف قد جاء وقتي-

 

 (1)

في التيه،

ولدَ الشاعرُ والذئب.

سلخ الهدهد ثلاثة فصول،

ليصل إلى تخوم الصيف الخفيّة:

أيها الحكيم، رأيت السّالكَ يخرج من وحل الغافل،

له بلاغة السيف وحدّ المعنى.

رأيت الأشجار أجنحة تنتظر البرق.

والبحر خمس ضفاف للملح. 

رأيت الكوخ الصغير الذي رسمته يد طفلة ناعسة

يسبح في سماء صفراء.

في التيه.

قطعوا سرّة الشاعر بكر أمه وذراع أبيه،

وتركوا الذئب يعوي،

فتحوا بريدَ الغابات والأساطير،

وتركوا الذئبَ يعوي،

جابوا الأسواقَ والبساتين، لكي يظفروا برمّانٍ في غير موسمه،

وتركوا الذئبَ يعوي.

سلخوا معرفة الجبال، وحصدوا حكمة البراري،

ناموا في عراء الفاقة فخورين بالضحك

والذئبُ يعوي .........

 

(2)

في التيه،

برج ريح،

يستدرجُ المواقدَ لخبزه.

طابورٌ خامسٌ يعمل في سلك

الزوابع خاطفة العطرِ وبذورِ الموسيقى.

كل وتر تنقرهُ الخفةُ يتقطّع على ضفافِ الوجع.

 

(3)

في التيه،

ليس الشاعر حدثا يُحتفى به.

لكن يوم ختانه صادف ذكرى المولد النبويّ،

نحروا جملاً عند ضريح سيدي عبد الجليل،

جلبوا جرارَ الماء من العيونِ النائمة،

وتركوا الذئبَ يعوي.

طافتْ فرقُ الحضرةِ عبر الشوارع الكالحة،

تَقْرعُ الدفوفَ وترفعُ المدائحَ والأعلام.

 محفوفة بالصبيةِ والعيّارين والدراويش وحملةِ المباخر.

يُرشّ المنشدون بماء الزهرِ كلّما مروا بمحاذاةِ الدكاكين.

لم أذهب طويلاً يا مولاي وراء مواكب المديحِ والبخور،

لأن إخوةَ الطيرِ هبطوا راقصين وقد أغراهم السمر،

فالنوم يُعدّ مروقا، لأن القمرَ يُزهر على ذرى الأحلامِ الفقيرة.

وُلدت النجومُ توائم، وظلّ الحلمُ اخضر.

وزّعوا اللحمَ وفطائر الزيت،

وسكبوا شاي النعناع في طاسات صغيرة.

 

(4)

في التيه

كَبُر الشاعرُ والجنديُ يا مولاي، والذئبُ يعوي،

لم يهدأ، حتى أضرموا معاجمَ العشقِ، واحترقتْ أًصابعُ الخيال.

كل عذراء اشرأبتْ خلف الكتانِ حلمةُ نشيدِها.

فيما الثكناتُ ترسمُ خرائطَ النفير.

خفقت الراياتُ الفتيةُ وتدحرج صوتُ البوق.

 جنديّ زاحفٌ إلى الموتِ في جيبهِ كلمةٌ،

شاعرٌ عليلٌ في قلبه طفلٌ ينتزعُ لعبته من فوضى الألوان،

في حلقه امرأةٌ تغرز جثةَ الشعر بالدبابيس،

في نسيانه خديعةٌ تكحّل سوءتها بحبرٍ مغشوش،

في عينيه سكبت الشمسُ قارةً من اليقين،

تركت أرضاً محروقةً ونملاً يتعرّشُ بالأهداب.

شاعرٌ أعمى ...............

 

(5)

في التيه يا مولاي: حلّقت فوق منازل العنكبوت،

رأيت ابنة الرماد،

التي خالط دخانها لسان الشعر، وسقف العشير،

واسم الكتاب.

 

 (6)

في التيه

تستيقظ توتةُ فمها هذي الفاتنةُ،

حين تنده يا مولاي:

هي حديقةُ نزوات،

مطرٌ برتقالي،

شَعْرٌ من نارٍ تتلون،

شفقُ وردٍ، في صحنِ قمرٍ مغسول،

تفاحٌ ماكرٌ يحتلّ حديقةَ خديها،

غيبوبةُ حمّى،

موجةٌ وضفةٌ من خلطةِ عشقٍ مخمور.

تَنْدهُ:

خُذني من أعلى ذروةٍ ترتعشُ بين أصابع فخامتك،

خذني ولا تعبأ بعواء المعلولِ،

دعه لوجاره يتلوّى بين خرابين، وأغثني

أنا طريدتُك وكنزُ رحيلِكَ ....

أغثني أيها الباشقُ

ولا تختلط عليّ كثيراً فتضيع بعيدا عن صدري،

 أو تخمد فحولتك في غزو أوديتي،

لا أفهمك، سبحان هديرك يا رعد،

يا إبرةَ ثوبي وبرقَ جبيني

يا غايةَ وطري، ومنقذَ جرفي من لغوِ السيل

لا أفهم:

تصعدُ في أرجائي ضراوةُ نبيذ ك،

رحلةُ شفقٍ أحمر تغمرني.

أنت عنترة: أنا   غمدُ سيفك.

أنت المتنبي: أنا مدارُ قصيدك،

قوافيك بعيدا عني،

شتاتٌ من حجّاج يُطوفون بلا كعبة.

سبحانك يا هذا البارق،

سبحان قضّي وقضيضك، كمّلني أوكُلْني

اقبّل سماءَ نعليكَ خذني بأسنانكَ قوياً، ولا تعبأ بعواء الذئب.

أربعون زمهريراً في بئري،

أنا الشتاءُ، البردُ نشيجُ سُكّاني

فخذني قوياً أني أريدُك،

أريدُ أن ينصهرَ صقيعي في كانونِ جحيمك يا بيتَ النار

أن تتوهّجَ شهقةُ كهفي في عسلِ بركانك

يا جسرَ ماءٍ وجمرٍ بين قبّتين

أين بعثرت فضّتكَ يا سلطانَ الضوء

أنا سلّةُ ليلٍ،

وفاكهةُ سرّ،

أنا فمُكَ

يا كأسَ العابرِ 

فلا تنبذ صدري، فيذبل فستاني،

لا تثمل أيها المخرّبُ هندسةَ النهدِ

خارجَ حانتنا أو تعبث بغمّازة خيالكَ

سكران في شرفةِ ملهمةٍ أخرى

ثم تأتيني تعتعةً،

لا تفقه عطري من عرقي.

خذني، ولا تلتفت لعواء الخلّب.

  

(7)

بعد قليل يا مولاي

قال الذئبُ،

وهو يقودُ القطيعَ إلى مخيلةِ الفناء

: قفْ يا اسمَ التيه،

مزقتني المساربُ.

وهذا ما رأيت.

______  

برلين. خريف 2009

 * من نصوص كتابي: "حياة الظل"

 

تشبث بالموسيقى*









حيث لا شيء يصمد طويلا

في الحرب

تشبّثْ بالموسيقى

تلك الرفيعة، شبيهة السر؛

فمهما كانت عظمة النار؛

وحدها الموسيقى

لا تحترق.

__________ 

* من قصائد المجموعة الشعرية: " تحطيب سكّان الريح"

اللوحة: للفنان التشكيلي العراقي: مؤيد محسن. 




قصيدة: رجل بأسره يمشي وحيدًا، ألحان وأداء أحمد بن وفا




______ مقطع من قصيدة رجل بأسر يمشي وحيدًا 
 
                         ألحان وأداء المبدع: أحمد بن وفا



الى: سميرة البوزيدي

                                                                                                                                       مفتاح العمّاري  


________ الى: سميرة البوزيدي

 



يوم مولدك خلق الله الهواء والطير؛

واوصى بضرورة الموسيقى

كوصيفة نور. 

 **

منذ أن عرفتك وأنا
أحب أن أكون الجزء الحي فيك.
الحي والمؤلم
يقول الشعر كاستعارة حميدة لمشية الخيال.
والنافذة التي تشرق.
والهجرة الشاقة لزهرة التوليب،

وهي تصعد من جبل الى آخر.
لكي تكون الكتابة قريبة رئة.

**
: اذن هذه انت
الشاعرة سميرة البوزيدي
وقد زهدت في اهواء التاريخ 
وكل شيء يلمع.
لتحمل البذور الرحيمة

بوصفها أجنحة وألوان

وأمهات ينتظرن
**

احيانا يكفي ترويض حرف ساكن
لتحريك ست جهات للحواس.
حدث ذلك في منتصف الخريف تماما
بزنقة الخروبة؛
عندما تطوع جزء ضئيل  من اليابسة

كاستعارة آمنة للأنهار والغابات والأحلام.
وللفتنة نفسها التي يتبعها الغاوون
فما الأشجار التي تضيء
وتلك التي تأكلها الحرب
سوى كلمات.
**
حين فقد ابن آدم الأسماء كلها
كان اسمك المنقذ من التيه
والإعجاز الأخير
ليقظة الذاهب في نومه.
والصعود الغامض للظل.
هكذا، ظلت النار تزهر.
ودخل الشرق في دورة جديدة لصناعة المعجزات.
والجمع بين النصفين التائهين.
حيث كل صلاة كانت تنبض خلف الأبواب 

ستتضافر لتكون كتابا

تأخذه اليد بقوة ناعمة

تليق بأصالة قصيدة نثر لا شبيه لها... 
من "جدوى المواربة"
الى "سيرة الأيام الضائعة".
لا شبيه لها.

________

 إسطنبول.  14 أكتوبر 2022

<*>

 

 

الثلاثاء، 15 أكتوبر 2024

الشاعر مفتاح العماري في أمسية شعرية من تنظيم الجمعية الليبية للآداب والفنون



الشاعر مفتاح العمّاري 



أمسية شعرية  بدار الفقيه حسن- المدينة القديمة/ طرابلس
5 ديسمبر 2017



 

أنا في الشارع

 


مفتاح العمّاري


أنا في الشارع

_________________      

 


     في ميدان الشهداء: أي الساحة الخضراء، قبل خمس سنوات، وسوق الخبزة أيام الباشاوات والآغات والكيخيات؛ هو نفسه ميدان ايطاليا أيام الغزاة الفاشست عندما كان الجنرال بالبو ينصب المشانق بجانب نافورة السباع، ويضاجع الحسناوات في فندق فيكتوريا. هنا حيثما تلتفت سيسبقك الماضي، لأن البناية الغربية للميدان، أعني مصرف الجمهورية، أي مصرف الأمة قبل عام واحد، وبنك روما قبل مائة عام، ستظل هي نفسها الأبهة الأبرز في طرابلس لطابع العمارة الكلاسيكية التي خلفها الطليان.

   جلست مكدودا بوهن خائب على مقربة من حواف النافورة، محدقا في بلاهة إلى حشود الحمام والمسلحين والنفايات. أخيرا أنا وحدي بعد أن أدركت أختي مريم أن لها أما، تحتاج للماء والضوء، فمريم الوحيدة في العائلة التي تملك مولد كهرباء يعمل بالبنزين، أخيرا راودها الحياء وقدمت هي وزوجها المدجج بالثرثرة، وحملوا العجوز في سيارة مكيّفة. ولأنني وحدي تذكرت سيبتموس سيفروس قبل نفيه إلى لبدة. ففي يوم ما كان الرجل يقف بأبهة موليا ظهره لسوق الترك وهو يتطلع بكبرياء ناحية الميدان، منتصبا بفخامة قامة حجرية لإمبراطور روماني نصف ليبي. التقطنا صورا أنا ورفيقي في الكتيبة الرابعة والذي سيقتل في معركة وادي الدوم. من هنا أيضا مرّ موسليني، وقبله بأربعة قرون تبول جندي سكير من فرق ايزابيلا. هنا هتفت الجماهير للطغاة، ودفنت أكوام من جثث ضحايا الطاعون، وشيعت جنازات، وأقيمت صلوات استسقاء، ووزعت أوسمة، ووضعت أجساد على منصات الإعدام. كما حصد الرصاص أرواح عشرات المتظاهرين في ليلة العشرين من فبراير 2011. هنا التقيت الشاعر علي صدقي عبد القادر ذات مساء خريفي، كان يرشق وردة في جيب سترته ويتغزل في الشمس والخواء، كما لو أن طرابلس لا تضم سجونا ومعتقلات وشعراء تتعفن أحلامهم وقصائدهم داخل الأقبية والزنازين.

      رنّ هاتفي المحمول. سمعت وبصعوبة من يسأل:

-  أنت في البيت؟

-  لا، أنا في الشارع.    

__________

*من محتويات كتابي " تقطير العزلة، محاولة لتدوير خانة الصفر" طبعة أولى 2020 طرابلس ليبيا.

 

 

 

 

 

 


الحداثة والشعر في ليبيا

 


                                                                                       مفتاح العمّاري 



تجليات تجربة الشعر المعاصر في ليبيا*



   
".......أسماء كثيرة برزت خلال عشرية السبعينات. القلة فقط هي التي صمدت نصوصها متحررة من أوبئة التقليد الأعمى. وهذه القلة لم تشكّل تيارا شعريا، بل اتسم مسارها بتجارب شعرية منفردة، تتميز باختيار الجملة الشعرية ذات الإيقاع الموسيقي المحمّلة بشفافية وجدانية حارة ذات الرصانة والسبك لدى، محمد الفقيه صالح، سلسة وحميمة وسريّة لدى الجيلاني طريبشان، وغنائية حالمة في شعر السنوسي حبيب.

    لكن ثمة أسئلة كثيرة تثيرها التجربة الشعرية في السبعينات: ماذا قدّمت في سياق لحظتها ضمن التجربة الشعرية العربية بوجه عام. وأين موقعها؟ وهل شكّلت علامة لها مميزاتها، وخصائصها، وسماتها الذاتية.

    واستطرادا؛ لماذا وقفت هذه التجربة في الغالب عند حدود القبول والتلقي؟  لتخضع لفعل الامتثال والتأثر. بحيث توقفت شهرتها إقليميا، ولم يبلغ صداها المركز، وباقي أطراف المحيط؟ أسئلة كثيرة تثيرها تجربة هذا الشعر البائس، الذي تقاطر شعراؤه إلى المدينة، بسحنات بدوية وريفية، معفرة بغبار القرى، والواحات الصحراوية. ثم لا شيء في جعبة الذاكرة، سوى بعض الفتافيت لسيرة محزنة، مشمولة بمكابدات التشرد والعزلة.

_______

* مقتطف من: (تجليات تجربة الشعر المعاصر في ليبيا)

ضمن محتويات كتابي: فعل القراءة والتأويل 

الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والاعلان

الطبعة الأولى: ( 1996)

الاثنين، 14 أكتوبر 2024

عائلة


 مفتاح العمّاري

_____________  عائلة

 

وحده لا يساوي شيئا.

 يحتاج الألف الى حرف ثانٍ،

لكيلا يكون وحيدًا،  

وحرف ثالث لتأسيس عائلة،

 وربما الى حرفين آخرين أو أكثر،

 لمزاولة الصيد،

وزراعة الأحلام،

 وخوض معركة،

 وكتابة قصيدة.

___ 

15مارس 2022

 

 

 


السبت، 18 مايو 2024

مفتالح العمّاري: في خيانة الشعر. مقاربة شخصية لتوصيف الخزي

 

مفتاح العماري

 

في خيانة الشعر

مقاربة شخصية لتوصيف الخزي

"المرأة هي المكان الوحيد الذي يجعل من الجهات الأربع جهة واحدة لا يمكن تحديدها"

-محمد الماغوط-  





 

(1)           

      أشير هنا الى اللحظة الأكثر ايمانا وقلقا في مسيرتي الشعرية، عندما كنت (ولأمر ما) أعتقد جازما بوجود العالم على هيئة امرأة. وأن كل شيء في الكون الشاسع للغة قد سُخِّر من حيث القيمة والمعنى والتوق والسفر لسكّ الجوهر نفسه، كضرب من الاستعارة لأنسنة الفضاء وتأنيثه. هذا السمو الشعري المعلن قدّته مخيلة العاشق، قصيدة متوحّدة يكتبها جندي معذّب، تضافر في تأثيثها الفقدُ والألمُ والجمالُ والحلمُ والترحال وقراءةُ الأثر، والسعي المتواصل بين اليقظة والنوم. كان الأمر (غالبًا) يتبدّى لي محمولا بتلك المتع المصانة، التي تعطيها المرأة للرجل؛ لهذا كلما فاضت أحلامي بنعم الأنثى امتلأت قصائدي بحشد من بهاء هكذا مآثر، تشي على الدوام بأسمى مدارجها عفة ونبلًا. كان الزهو يأخذني من كلمة الى شقيقتها؛ حتى حقّ لقصيدتي أن تتباهى فخورة؛ الى حدّ أن تغترّ أحيانا بما قدّته في توصيف النساء من آيات قدسية تنصهر في معجمها لغة الروح والجسد والعزلة والطبيعة ومآثر المجهول. هكذا كبرت؛ وقد تربّى معي هذا الهوس، الى حدّ أصبح فيه ما من شيء في الكون، يمكنه أن يسلبني كتابا سوى امرأة.

 

(2)

     أجل، كنت مسلوبا بإرادتي، اتخلّى عن مفاتيحي دونما اكراه، واستسلم لطغيان البهاء الذي يحدثه مرور الأنثى داخل كلماتي. اشير هنا الى نون النسوة كمحاولة لهروب جندي من حرب غير نظيفة، من صحراء مخادعة وعشائر تكيل المديح لسلالة الرماد؛ الى امرأة تنتظر. لكن بعد حين (ولأمر ما) أملته قراءتي المرتابة لما يحدث في كواليس الخفاء، كان لزاما عليّ كشف الخديعة، وإعادة تسمية الأشياء، وافتراض مسافة بين المرأة والقصيدة. لعلّ الدافع لارتكاب هذا الفصل التعسفي والمباغت بين شيئين ظلا ردحا من الزمن متلازمين بتناغم في نسيج واحد؛ أي منذ الوهلة الأولى التي تصاعدت شهقتها إزاء اكتشاف النار واللغة، مرورا بحصار طروادة، ومتاهة أوليس وانتظار بينلوب، والجنون المستعصي لابن الملوح، الى ثورات الربيع الغامضة: أن ألمي لا يطاق؛ وقد سبب لي ذلك بلبالا فيما بعد، حيث لا مكث لغير وطأة الفقد المسمّى مجازا: صعقة الحنين. أجل انها صعقة الحنين؛ لأنني فيما كنتُ احثّ رفرفة التائه بحثًا عن كياني، لم تعد الأجنحة التي لطالما حملتني من قصيدة الى أخرى تحتفظ بالطاقة نفسها، وقوة الصوت لرفع الآذان كاستجابة لفروض العشق. كما لم تعد نفائس اللغة بتلك المرونة الرحيمة التي تهب كنوزها لأيّة استعارة حاذقة من شأنها إعادة الجمال الى نصابه. اذّاك استبدّ بي وسواس التخلّي، ووقعتُ في الشرك.

 

(3)

     أذكر أنني في عبارة سابقة، قلتُ ما من شيء كان في مكنته أن يحول بيني وبين كتاب في اليد سوى المرأة وحدها. لكنني الآن؛ وأنا أطلق النظر الى الخلف مقتفيًا أثر ولايتي التي دامت قرابة نصف قرن على قيادة رجل بأسره يمشي وحيدًا. سأبدو مفعمًا بكثير من الرضا لأنني طوال المدة التي قضيتها كرحالة في أقاليم المخيلة، ولا سيما خلال فترة مكثي تحت كل سقف عابر، أو شجرة زيتون، أو قصيدة وارفة، كنتُ اتعلم الكثير من المآثر الحميدة؛ ليس بفنون الألفة وحسب؛ بل أدركتُ عن كثب ضرورة الايمان القاضي بحكمة العمى؛ فمن شأن الظلام وحده محو الفوارق بين نقيضين. كأن يتعذر على الناظر التمييز بين الخيطين، الأبيض والأسود؛ ففي ردهات ذلك الزمن الخائن، اختلط الحابل بالنابل، فلا القصائد تخرج من لدن خيال مبارك؛ ولا النساء نساء. حيث تجمع المحظية بين الطاغية والشاعر؛ ليتناوبا على جسد القصيدة نفسها. وبين هنا وهناك، حدث في الأثناء الكثير ممّا يُقال في مثالب رحلة الجمال، والتطرف الثوري للانتلجنسيا. وسوف تتعذر الاحاطة بخفايا المراهقة العجيبة لتلك الطفرة الثورية المغتصبة بهوس ضابط مخنث، والفصل بين الطيب والخبيث، والغث والسمين؛ ما لم نكن حاضرين عن كثب، وبريبة صبورة، كثيرة الحذر من نوايا سدنة المعرفة وحملة النار، وقد ارتفعت بذلك مؤشرات الخوف من مغبة الرفقة الخائنة، لحظة اذابة السمّ في العسل. وهذا ما حدث.

      وهنا في وسعك أيها القارئ الذي أجهل مقاصده، أن تعزو هذا الضرب من الخيانات التي اعتورت البيت الآمن للجمال، ولوثت قيمته ومقامه؛ لأسباب تتعلق بوجود عطب ما لحق بالنسغ نفسه؛ أي بالشعر، لحظة أن غدا نهبًا لمن هبّ ودبّ. بعد أن حقّره السواد الجاهل الذي يعادي دونما حرج المعرفةَ ووسائطها؛ ليضع الخيال بازدراء شديد خارج دأبه ومثابرته. وجراء هذا البغض الوحشيّ، لم يعد للشعر شأوه القديم في ايقاظ الأرواح وهدي الرؤى. ومن ثم ليس من المستغرب في هكذا أحوال متخلفة وغير آمنة، أن تسفر أولى انتهاكات المخيلة عن وجود طاغية وشاعر في جسد واحد. باعتبار أن النقيضين أصيلان في سيرة الشعر لارتباطهما التاريخي بأسوأ وأبغض مظاهر الخديعة مكرًا وزيفًا. لهذا كان لزامًا عليّ كشاعر التزام ناصية الشك. فضلا عن الكثير من التريث قبل أن أصدر احكامي جزافا. فليس كل ما يكتب من ترهات، يمكن عزوه لطبيعة الوجدان ونسله الطيب. طالما في وسع أي لغوي محتال إعادة تدوير المتنبي. كما لا يعد شرطا لازما أن تكون شاعرًا أصيلًا لكي تكتب قصيدة. ففي هكذا حقبة فاسدة ستحتاج فقط الى قدر يسير من المكر، وقدر يسير آخر من عدم الحياء، وما يعادل القدرين من الثقة الوقحة التي لا نظير لها في ميزان القيمة الزائفة. مع استعداد فطري؛ لأن تتحول في أي وقت تشاء، من شاعر الى جلاد، أو من ضحية الى قواد من فصيلة نادرة، بحيث لا تتردد في أن تكون في الوقت ذاته مناضلا من فصيلة الكومبارس، ثم مناضلا من ذوي الاستحقاق السياسي بامتياز لا يقارن داخل البلاد وخارج البلاد، وفي السر والعلن. رجل المهام الصعبة، وخادم الوجهين الكريمين للعملة الشقراء. فما عليك سوى أن تقتحم الركح (كفارس بلا معركة)، وشاعر لا يشق له غبار، ثم تختم سلسلة بطولاتك بحلقة مثيرة تليق بسيرة مناضل صنعته الصدفة، سيرة حافلة دون مواربة، بشتى أصناف المفارقات العجيبة.

 

(4)

     الم اقل لك بأن المسألة برمتها ليست بتلك الصعوبة التي كنّا نظنّ. اذ يكفي في البدء أن تعمل بمفردك، فهكذا تقلبات فجائية تتطلب ضرورة التخلي عن وهم الشراكة. مع التفطن لفضح الاعيب ومكائد سيدة العشيقات في حبك هكذا دراما لخيانات شعرية ووطنية بالغة الخزي. لأن العار لا يكمن في الساعة التي انت فيها وحسب، والتي مهما حاولت تجميل قبحها، فمآلها في خاتمة المطاف ان تنتسب الى مشتقات العار، ولا شيء آخر؛ طالما لا تأثير لهذه الواقعة التافهة، على أسعار الدقيق والمحروقات والدواء؛ اذ يمكن لآلية تداعياتها أن تتوقف عند هذا الحد، بعد أن نقلت لنا تصريحا وتلميحا بأن تاريخ الخزي في الوجدان الجمعي؛ قد بدأ منذ تلك الغزوة المشؤومة لحقول المعرفة، التي خالط فيها الغشُّ لغة الشعر وخياله. هذا ما تؤكده الآن استحالة وجود سيرة مناضل خالية من مثالب اللغو، أو الظفر بامرأة نظيفة، في قصيدة بريئة من شبهات الغنيمة. بحيث سيتعذر وجود شاعر لم يلعب بذيله داخل الخيمة وخارجها. وعلى الرغم من هذه الآفة وتلك؛ ثمة هنا من يثابر على كتابة شيء.

 

(5)

     قبل عقد ونيف كتبت قطعة سردية، أو ربما هي قصة قصيرة بعنوان "كتاب". اندرجت ضمن مقترحات كتابي الموسوم: "تقطير العزلة، محاولة لتدوير خانة الصفر". ص(83)   تشي تفاصيلها الغريبة؛ كما لو أن كتابا أصيب بمسّ، وقد تقمصت روحَه امرأةٌ قريبةُ سرّ. كتاب يصعب فهمه أو صونه من الضياع، أو تحاشي خديعته. ومن ثم سيتعذر تأويله ليظل دائمًا متأهبًا ومفتوحًا، في حالة استنفار وترقّب دائمين. لعلّ العقدة برمّتها تتعلق (على نحو ما) بشبهة امرأة لا خواتم أو سماء تحدّها. يقول، محمد الماغوط: "المرأة هي المكان الوحيد الذي يجعل من الجهات الأربع جهة واحدة لا يمكن تحديدها". هنا يكمن سر المتاه الذي من دونه يفقد الشعر جزءًا كبيرًا من سحره وبراءته. ألم اقل لكم في حيز آخر: ثمة هنا من يثابر على كتابة شيء. لأنه مهما تعذرت سبل الطمأنينة والحياة الآمنة، فلن يحول شيء بينك وبين إضافة قصيدة، بوصفها عملا فرديا لا يقتضي سوى القدرة على التنفس وتشغيل المخيلة؛ مع السعي الحثيث لجعل الكلمات أكثر سخاء وألفة.

__________

باب بن غشير

18 مارس 2022

الثلاثاء، 26 مارس 2024

الفئة الباغية

 

 مفتاح العمّاري

________  الفئة الباغية 


في أواخر ذلك العام الهجري،

بدا الربيع مكفهرا حسب التقويم

الذي جلبه الباشا من الباب العالي؛

الى حدّ أن الرعايا في طرابلس الغرب قد تاهوا عن بيوتهم،

لا يدرون من أي باب سيأتي رزقهم أو حتفهم.

فثمة ستة ابواب مفتوحة لمدينةلم يعد يدخلها أحد 

غير اللصوص ووباء الطاعون.

وها نحن نقف عند الفئة الباغية؛

حيث سيسلبك الجندُ كل ما تملك.

وهو الباب الذي سماه العارف:

طريق المقهورين.

والذي لن تدخله الرحمة؛

طالما آمر الجند هو نفسه القاضي والمعلّم وكبير التجار.

مذّاك أمسينا نرى الصحراء والبحر

كعدوين لدودين؛

وهذا من سوء الطالع.

______

13يوليو 2014

الثلاثاء، 5 مارس 2024

مفتاح العماري الشاعر الآسر

 


____________ مفتاح العماري الشاعر الآسر
عبدالله زاقوب







عندما يُكرم الشاعر مفتاح العماري تتداعى الصور والمشاهد والذكريات ،
القصائد والدواوين ، الكلمات والاشياء
الأطفال الرجال والنساء، المرتفعات والهضاب، الأنهار والبحار ، الموانيء والمنارات ، الأعشاب والأكمات، المراعي والسفوح الخصيبة، الأزقة والحارات، تماثل أمامي سمت الجندي
الآسر الاولاد المشاكسين، الذين مافتأو يحلمون بالآتي، الذي لم يأتِ كما كانوا يتمنون ، حتى انحت الظهور
وتراخت القبضات، وغارت المآقي في
الجفون .
مفتاح العماري، الجندي الآسر، هكذا نادى اسمه، اويجب ان يُسمى، الذي شيًد عمارته الشعرية، واثث بيته النثري، من شمس وطين واحلام مشروعة مترعة، الجندي الذي شاكس
وناكف آمريه، متفوق على ذاته المشحونة بالقهر والتسلط، متعالي بما
اختزله في دخائل نفسه، وثنايا ذاته
من شجاعة وروحٍ عصامية وثابة، تنفر من الخنوع والانضواء ضمن القطيع، مسكوناً بطموح ووهج لم يخبو، معمد بنار الشعر معجون بالالق
والحلم والشوق الشفيف، لم يتراجع
يوماً عن توقه وغايته وأمله بالرغم من كل العذابات والآلام والتشظيات
الوقتية والراهنة، فقد كانت القصيدة
لديه تعني دائماً التوق والانجذاب والاندغام والمزج بين المحسوس والمتخيل في آن... حيث يقول : كان
اللجوء للقصيدة سلاحي الوحيد الذي
وهبني قوة اضافية لجر أربعة انهر ثرية، لكي اروي. صحراء تلك الروح
الجهمة، والتفوق على ذلك الشيطان الذي كنته في مرحلة تعيسة من عمري
يتعذرعليً توصيف مكابدتها ،، في تلك الاثناء ، فعندما يُكّرم العماري يكرم الشعر والشعراء الكتاب والادباء
مجايلي ورفاق واحباب واصدقاء العماري الشاعر والانسان، فتلك لحظة
موحية، رائعة وسامقة، موغلة ومتجذرة، لحظة وجد، عرفان وتوحد
لحظة شعور بالانتماء والحضور الإنساني، لحظة صعود الكلمات رقيها
وتطاولها، شموخها نحو الذرى، حد الزهو والامتلاء، والشعور بالطمأنينة
بأن الشعر والنثر، والأدب إجمالاً لازال
في مكنته ان يصل إلى متلقيه إن توفرت الفرصة والآلية والتوقيت المناسب.
العماري ومنذ صدور ديوانه الأول، قيامة الرمل، وحتى اخر ديوان له،
يمزج بين الشعر والنثر، كتاب المقامات
رجل بآسره يمشي وحيداً، مشية الآسر، عتبة لنثر العالم، ورثة النار، جنازة باذخة، دين الجن الطرابلسي،...
مسلات ومنارات، محطات وواحات،
تهدي الظامئ، وتنشر ظِلال يتفيأها الشارد والتائه والغريب والضال، العاشق والمهاجر، فهو الحرفي المبدع
الخزاف الماهر، الفنان الموهوب والنشط، المجنون والمهووس بالماء والنار، والطين اللازب، المعجون من تراكم وخبرات، المتشكل من لغة وصبوات ،، اعتقد اننا الآن نحتاج اكثر
من اي وقت مضى، إلى التأكيد علي
نثر العالم لان الأشياء من حولنا تشي بضرورة النثر لا النظم، بالليونة والسيولةوالجريان لا الصلابة، والتماسك والجمود ،، عتبة لنثرالعالم.
بكلماته الموحية تلك، تلميحاته واشاراته، كان العماري يقاتل، من خلال
نثره وشعره، وينبذ كل ماهو وحشي
فوضي بدئي، مخالف للنواميس، طغيان الاستبداد، وضد طبيعةالاشياء
،، كل شيء في غاية الفساد والابهة لا الطمأنينةسقف ولا النساء هن النساء،،
من طرف خفي ومعلن كان العماري
يناؤي باسلحته المتعددة وكلماته المقاتلة ظل يجاهر باناشيده ومطولاته الشعرية الباذخة،، اربعين سنة والحرية ضالة ومجنونة،، لكن ماهو ضال، يعود اخيراً لمستقره وحضن العائلة، والكلمة مهما جُمدت
ستحتفظ ببذرة النور... فشاعر بقيمة
وعلو كعب العماري، حفي وجدير به
التكريم والحفاوة ، والإشادة بما قدمه
للقصيدة والكلمة والوطن .
Abdullah zagoop_______
نقلا عن صفحة الشاعر بالفيس بوك
10 فبراير 2022