وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الاثنين، 28 أكتوبر 2024

الى رضوان ابوشويشة (1)

 مفتاح العمّاري

       
 "فلتكن لوحاتي هي التي تتكلّم"


      عندما اقترح "رضوان بوشويشة" على نفسه الدنو من مشيئة الرسم حوّل الصمت الى حشد من الأصوات المحتجة، الى مظاهرة غاضبة باسم الخرس؛ وغدا خبير مناجم يفجر لغات من لهب؛ لكأن البراكين حرفته، تتطاير من لوحاته شظايا توقظ حرائق قديمة وتستعيد اسئلة لا إجابات لها تتعلقُ بشموس مهملة، وكهوف وحضارات بائدة. وظل رضوان في كل لطخة مهووسا الى حدّ التطرف بافتراض أحلام وعوالم لا وجود لها الا في حكاياته التي لا تأفل؛ فهو حكاء استثنائي من سلالة بورخيس، وربما ايتالو كالفينو، وغارثيا ماركيز. لم يكن الرسم سوى هداية حدس، جاءت كاستباق لفقدانه القدرة على الكلام، حيث تكفلت عيناه بترجمة هذه النبوءة الى حوار استثنائي خاماته من ألوان وقماش وورق بعد أن وجد في أدوات الرسم ضالته كتعويض لعاهة النطق ليتوغل عميقا في الرسم بكل حواسه ومخيلته وذاكرته وألمه وعزلته. بدا وهو يسرد سيرته اللونية كما لو كان يترجم مقولة فان كوخ: "فلتكن لوحاتي هي التي تتكلّم". ذلك لأنه كان متفانيا الى اقصى حد لكي يبث في الألوان شيئا من روحه بحيث لا تتمتع بألسنة وحسب؛ بل وهبها أجنحة واذانا وعيونا وتركها تفكر بمشيئتها. ونحن حين نحبّه انما نحب ليبيا بذاكرتها وموسيقاها واحلامها. ولأن رضوان غالبا ما كان لسبب وجيه يحاول أن يوقظنا من سباتنا، الى حد أننا بتنا ننتظر الصباح بفارغ الصبر. وحين أشرق لم يكن ذلك هو الربيع نفسه الذي لطالما تقنا اليه؛ فثمة هنا خديعة بصرية كبرى جعلت ربيعنا داميا وظلاميا. لهذا انتظرنا مرة أخرى.

_______ 

الجمعة، 25 أكتوبر 2024

مع الجراب للكاتب: أحمد يوسف عقيلة

 

 

مفتاح العمّاري

____ الجراب بين السيرة والرواية 

 

         

(1)

      تتحقق الكتابة الإبداعية ولاسيما في حقلها السردي عبر ترسيخ علاقتها بمحيطها من انسان وحيوان ونبات. وبظواهر الطبيعة وتجليات طقسها. وفي وقائع الجراب للسارد أحمد يوسف عقيلة، ستتنامى الدهشة باضطراد خلال ثلاثة وتسعين مقطعا قصيرا جاءت بهيئة شذرات كتبت بتقشف؛ لينفتح حكيها منذ الكلمات الأولى على الأرض. يقول: " في البراري البكر العارية ولدتُ" / "غِب المطر تزدان الأرض بالقميحاء الصفراء الفاقعة". ولسوف تستمر معنا هذه الثيمة بالتجاور مع الأم والبيت بلغة حميمة ذات حمولة جمالية تثريها استعاراتٌ متقنة؛ تجتاحها غالبا بلاغةُ الصورة بواقعيةٍ فائقة: " عندما كنت طفلا يحبو.. ولم يتجاوز نظري مدخل البيت بعد.. وجدت تجليات الطبيعة في بيت أمّي.. في زخارف الأروقة.. والهدمة.. والإكليم.. والحوايا.. والشواري.. والمخلاة".

     وهكذا ستحتفظ الأسماء والأشياء على الدوام بتلك القرابة السحرية؛ بحيث يتعذّر هنا تبرئة الواقع مما هو ممكن تخيلا. أي أن الحقيقيّ في هذه التجربة السردية الاستثناء هو من سيتورط في استدراج المتخيل الى حدّ الانصهار تمامًا. هذا ما يحدث في براري الجراب بأوديته وغاباته وجباله. بحيث لم يسلم النهار من طبائع الليل وأطيافه. فما من شيء في سيرة الراوي كنسيج يتداخل مع ذاكرة النجع يمكن عزوه الى الطبيعة وحدها دونما حضور أليف للميتافيزيقا. لأنه مهما حاولنا الزعم، بأن ما ترصده عينُ الطفل حسب كوادر الصور وزواياها يقع ضمنًا كعمل تسجيلي وثائقي يتعلّق تحديدًا بما تحتمله حياةُ البادية في الجبل الأخضر من حكايات؛ سيظلّ دونما ريب محض ادعاء، طالما ليس بوسع ذاكرة السارد في الجراب التنصل من غواية الشعرية واضفاء لمسات مطمئنة لترتيق كل ما يشي بالقبح ويهدّد بتفشي الوحشية، لحظة أن يتغوّل الانسان ويمسي عدوًا. ليس لأخيه وحسب؛ بل لنفسه، وللطبيعة ذاتها التي وهبته نعمها.

     يشير العنوان الفرعي للكتاب بوصفه سيرة للنجع. لكن خلافا لما يمكن توقعه في منطق السيرة كسياق تراكمي للحدث؛ لا يقدم تسلسلا زمنيا لحياة كاملة وانّما يتعمّد اختزالها في التقاط المؤثر في بناء وجدانها. أي لا يتورّط في تتبع مسار زمني يخضع لمنطق العلم، بقدر ما يستجيب لما هو حيّ وفاعل في الذاكرة. فتداعيات التنقّل من البحث عن الترفاس، واصطياد اليرابيع، الى الرعي، والحصاد، والعلاقة بالقطط والجراء والخراف، ورصد وقائع الأعراس والمآتم، ومشاهد سقوط المطر وفيضان الأودية. ولقطة وقوع الجعل( بو درنه) في قصعة الرز، وما ينذر به تربّص طائر العقاب للأرانب والجديان وصغار الخراف من مصائر دامية. لهو عالم بقدر ما يفيض بالبساطة؛ لكنه في الوقت نفسه يعج بحشد من المفارقات الدامية.

     لعلّ الانطباع الأكثر رسوخًا الذي غمرني في أثناء قراءتي لمحتويات " الجراب " بوصفه منجزًا أدبيًا له بصمته الخاصة به في تعزيز الهوية، أنني ومنذ البدء قد استسلمت تماما لسحر الحكي، لحظة أن وجدت نفسي إزاء صنف أصيل من حفريات الكتابة السردية، في أكثر براعتها الجمالية تكثيفا وايجازا وتفوقا. وأنني من جهة أخرى سوف العن الحظ العاثر عندما تظهر هكذا مغامرات سردية متفوقة في بيئة تكن خصومة تاريخية للقراءة، تزدري الأدب وتهمل شأن صانعيه.

    ولربما هذا القبح العام هو ما حاول الكاتب معالجته في نسيج الجراب. فثمة دائما مساع حثيثة للاستدراك. بحيث لا تفلت الصورة البشعة في نهاية المطاف من دون أن تخضع لشيء من الفلترة وتجميل تشوهاتها الإجتماعية وخزينها النفسي، عبر اخضاعها لعمل المخيلة. وبذا تفوق عقيلة كسارد دربة في تشذيب سلوك الغابة حتى تصبح الحياة محتملة. فمنذ مفتتح الشذرة الأولى سنلاحظ بكل يسر مدى استئناس آلة السرد هنا بتقنية الاغراب التي تتخذ من مشاهدات الطفولة وسيطا لنقل وقائع فضاء السيروي موضوع النص، التي كان لها التأثير الأوفر في أن تبقى الدهشة حاضرة على الدوام. ليظل كل ما هو مؤثر ومثير ومغو وصادم وغريب يفيض على الدوام بقوة من ذاكرة النجع، عبر حضور حميم للإنسان والطبيعة.

     وهنا لن أبالغ إذا ما صرحت بأن أحمد يوسف عقيلة يعد الكاتب العربي الأكثر قرابة واحاطة بأسرار الطبيعة؛ وقد أغنى قاموسها بمفردات جديدة، وجسّر أوديتها وجبالها وتلالها، وأنسن كائناتها من طير وحيوان ونبات، كمفاتيح للتعرف على تفاصيل طبائع الأمكنة؛ وتفكيكها من ثم، عبر ثيمات تتألف من ثنائيات واضداد: الحياة والموت، القبح والجمال، الخير والشر، من دون أن يغفل تطويع عديد المحفزات الخليقة بأن تكتسب العلاقة فيما بينها ومعها مفاهيم ومعارف إنسانية يحضر فيها الوجدان بقوة من خلال تلك الخلفيات التي تضفيها شعرية السرد على الواقع والمتخيل.. كجزئين حيين لحقيقة واحدة. ينتصر في معركتها الأنسان لصالح انسانيته؛ عندما يتآخى مع محيطه ليكون صديقا وفيا للبيئة التي يتفاعل معها بحب.

    أن مقترحات الحكي لدى أحمد يوسف عقيلة، سواء أكانت في الجراب أو غيره من عناوينه القصصية، تشي دائما باقتدار كبير، يؤهلها لأن تحتل موقعا بارزا، بوصفها علامة بين العلامات الأهم في مشروع السرد العربي. ذلك عندما تبادر القراءة لإنصاف نفسها عبر تكريم مقروئها. ولا سيما أن عقيلة قد وضع في جرابه كنوزا ثمينة يندر مثيلها في سوق المصنّفات الأدبية. فهو لم يكتف بمخزون ذاكرة الطفولة والصبا في تأثيث سيرة النجع، وحسب؛ بل كان لحقيبة ادواته في تقنيات الكتابة عملها غير المسبوق في إضفاء عديد المهارات الذكية على عمارة اللغة. والخصائص الجمالية لبنائها. يأتي من بينها اقتراح إقامة صرحها على نسق من المقاطع القصار بهيئة حكايات أو قصص تضافرت في تكوينها عدة خصائص فنية استأنست بنظام المشهد السينمائي.. يحكمها تنضيد معنوي تخدمه جملة من الاستعارات التي وهبت اللغة حيوات شتى.

     أكرر: على الرغم من هذه الأصالة في نسيج الجراب لكننا - وبكل أسف- لم نعطه ذلك الاهتمام المستحق والاحتفاء الذي يليق به. هذا التقصير مبعثه خلل القراءة نفسها. ونعني هنا القراءة كجزء من منظومة ثقافية لا تزال حتى يومنا هذا غير مؤهلة لاستقبال السرد الكتابي كمتطلب معرفي وغذاء روحاني لا غني عنه. ولن يكون الأمر مستغربا في مجتمع لا تولي مؤسساته الحد الأدنى من توفير المحفزات الكفيلة بتنمية الحياة الثقافية.

 

(2)

       استئناسا باستعارة "امبرتو ايكو" حول الرواية بوصفها غابة، أحاول هنا مقاربة سيرة النجع في "الجراب" للكاتب: أحمد يوسف عقيلة، باعتبارها رواية انبنت على خلفية سيروية. لاسيما وأن الفضاء المتخيل في الجراب يشكل كسرا متناميا للرتم التسجيلي لواقعية كل من السيرة واليوميات والمذكرات. ولعل ذلك يتطلب منا دونما مبالغة التوقف عند كل ما هو ممكن بسياق العالم الماثل الذي اقترحه علينا السارد في حياة الغابة التي كرس لسكّها أكثر أدوات حقيبته السردية براعة في تنضيد وتعشيق جملة من الحكايات على نحو سبق وان وصفناه بالمبتكر. هذه الحكايات تضافرت جميعا في خلق نسق فني سوف ينتسب للرواية بخلفية سيروية. وهنا لا نستند على أوجه التماثل بين غابة الجراب وتلك التي افترضها "امبرتو ايكو" لمجرد أن اغلب احداث الجراب تنحدر من سلالة غابات الجبل الأخضر؛ ليقيننا أن هذا التشابه في السطح لن يكون كافيا ما لم نظفر بالتأثير المتوخى للخيال وحرارة الوجدان كطاقة اسهمت في تحريك وضخ وقائع نجع الجراب. وهذه الخاصية يمكن التدليل عليها من خلال براعة آلة السارد في تصعيد المتخيل، والتي حسبا لتقديرنا برهنت على جودة عملها عبر تلك التقانة العالية التي عملت عليها حقيبة أدواته؛ بوصفه ساردا مقتدرا يملك من الخبرة ومهارة الصناعة ما يؤهله لمعالجة علاقات الأسماء والأشياء بحيث يكسب منجزه عديد الخصائص الفنية والجمالية التي تضعه في مصاف حقل الرواية لا السيرة.

    من جهة اخرى ولا سيما في طابعها الاعترافي تعد سيرة النجع حسب قراءتنا قد ذوبت داخل خلطتها المادة الخام الجديرة بعمارة عمل روائي شديد الخصوصية. ولتعزيز وجهة نظرنا والتدليل أكثر على مقصدنا نشير تحديدا الى روايات: "ادواردو غاليانو" كضرب من العمارة التي تعتمد في بنائها على خاصية التقطيع الشذري في تسلسل وقائع فضائها الخاص بها. بحيث تنتهج صنفًا من الحبكة الداخلية، ذات البعد الدرامي الخفي؛ أي غير الظاهر على مستوى الصراع وتطور الحدث.

     في الجراب أيضا وبقليل من التمهل يمكن العثور بيسر على عديد محفزات الصراع التي تغذي استمرارية الجدل بين الأضداد، ونمو الحدث على المستويين المادي والمعنوي. فضلا عن اتساق النص دراميا داخل كادر نسيجي (زمكان)؛ بداية من الإشارة لميلاد الرواي، حتى التحاقه بالمدرسة والرحيل من ثم عن النجع، مرورا بكل الأحوال التي شهدتها الغابة ضمن الحيز الزمني المقدر لوقائع شتى تتعلق بكائنات الغابة وسكانها وظواهر الطبيعة، وما يعبر عن حياتها عبر تراتب فصول السنة.

     كذلك، لم يدخر الكاتب جهدا في اضفاء لغة شعرية ذات حمولة عالية من محرضات المخيلة. مما يجعل منجزه أكثر قرابة من حقل الرواية لا السيرة، التي يمكن (حسب تقديرنا) ركنها (أي السيرة) كهامش ملحق، يندرج ضمن عنوان الكتاب، أوحت به عبارة الوسم: "سيرة النجع"؛ والتي حتى إن قصد الكاتب من خلالها تذكير القارئ بأنه ازاء عمل سيروي للبيئة وسكانها، فأنني كقارئ غير ملزم بالإذعان لهذا التنبيه الإرشادي، الذي قد يكون مضللا. لأني بالمقابل سأجد في سجلات مدونة الرواية الكثير من المصنفات التي حمل غلافها صفة الرواية، بينما هي محض تقرير اجتماعي او تكديس وثائقي لا تربطه أي صلات بعمل المخيلة. هكذا مفارقات ترجح وجهة نظرنا في انتساب الجراب لحقل الرواية لا السيرة. وفيما اعلم أن مهنة التصنيف تُلقى على عاتق الناقد الأدبي لا المؤلف.

    وهكذا يقترن جراب عقيلة كمنجز سردي بعالم الغابة، ليبرهن من خلال الخلق الإبداعي لا التسجيلي؛ بأن أبرز صفاته تكمن في مشاعر الصدق التي (كما اشرت) تستمدّ فرادتها وبامتياز، كون الكاتب أكثر ايغالا في تفاصيل الطبيعة، وتجسيد أبرز تجلياتها جمالا وتسامحا وسلاما. وأننا كقراء سنظل على تماس دائم مع هذا السخاء الآمن في كل كلمة، وكل حركة، وكل نبضة، وقطرة عرق ورفرفة حلم؛ ودونما ريب ستلامس قراءتنا نمطا من الكتابة يعبر عن اصالته بحرفية عاليه. وهذا ما كفل، ويكفل لتجربة الكتابة لدى أحمد يوسف عقيلة استثناءً فريدًا، ويضع معظم مؤلفاته ولا سيما الجراب، في منطقة جذب خاصة بها. وانني حين اعترف كقارئ بفضلها على جماليات مدونتنا السردية العربية؛ انما لكونها هي من فرضت هذا الاعتراف باستحقاق كبير. اذ يكفي في الحد الأدنى من الانفتاح على القراءة التصريح بأن الجراب تعد من أهم التجارب السردية العربية المحفزة على الشراكة. ففي لحظة القراءة ستشعر كما لو أنك قد اصبحت جزءا من هذا العالم البريّ؛ لتجد نفسك من ثم كقارئ منخرطا في تأثيثه. بوصفه عملا قابلا بشهية عالية لاستدراجك على ادارة التفاعل كضرب من القراءة المنتجة التي تسهم دونما ريب ليس في تأويل المقروء وحسب؛ بل في اعادة كتابته كما يحلو لها هي حين تهبك الفراغ تلو الفراغ، كطاقة محتملة لإيقاظ مخيلتك أنت الآخر.

    من هنا تكتسب القراءة وظيفتها كعامل خلق؛ لا صدى. فلم يعد القارئ تبعا لذلك مجرد ظل للمؤلف أو تابع يقتفي ما يُحتذى؛ بل جزءًا فاعلا في الخلق عبر تحويل النص المقروء الى مادة خام يمكن اعادة تدويرها دون المساس بخصائص الأصل؛ لتظل كتلته كما هي سليمة من العطب.

    مع كائنات عقيلة ستحظى القراءة هي الأخرى بحياتها الخاصة بها. وسيبقى كل ما هو جميل في الجراب ينمو دونما توقف قادرا في كل وقت بأن يهبنا بذرة الحياة، معبرا من جهته عن قدرة لا متناهية على خلق حياة موازية من دون أن يتخلى عن شكله الأول. لأن كل تلك الحمولة الثرية التي اتسع لها هذا البهاء كانت (كما أشرت) تفيض بروح صديقة، تنغمر بحب كبير في قيعان أوديتها وغاباتها، متآلفة بطمأنينة عالية مع كائنات الطبيعة واشيائها. كما لو كان الكاتب يستمد سلامه الداخلي وتلك الروح السمحة من العطاء والإيثار والحب من مخلوقات نجعه ذاتها التي شكلت معرفته بالعالم، ووسمت لغته، وطبعت سلوكه بهذا الوفاء غير المسبوق. وأيضا لأن شخصية الراوي في الجراب كانت في الواقع تكتب نفسها بقدر كبير من العفوية والاحاطة بأدق أسرار المكان؛ فضلا عن التعاطي السخيّ (ودونما حدود) مع اللغة والتوق والجمال؛ لتهبنا منجزا خليقا بالإشادة والإكبار. لأن ما احتواه جراب هذا المروض البارع للغابة يعد في رأيي المتواضع عملا جديرا بالفخر والاشادة. كتابة أصيلة منحتنا الثقة في السرد والمتخيل؛ الثقة كرد اعتبار للقراءة، وأيضا السعي لكتابة متفردة تشكل رافدا مهما ومثلا يُحتذى لترسيخ اتجاه أكثر تجذرا؛ يتسم بخصوصية ليبية في الواقعية الجديدة. لأن ما فعله الكاتب يُعبّر بقوة عن اخلاصه وحبه لبيئته، وتوطنه فيها الى حد التوغل في معرفة أدق خفاياها؛ ففي الوقت الذي لجأ فيه معظم كتاب الأرياف والواحات في ليبيا الى المدن. ظل (عقيلة) الكاتب الاستثناء، الأكثر تشبثا بملاذه؛ دائم القرب الى حد الدهشة من الطين والأعشاب والأشجار، تجمعه صلة رحم شديدة الرسوخ بالأرض التي خبر عن جدارة لغتها وطبائع قاطنيها وتقاليد فصولها ومشية ظلالها وايقاع رياحها وامطارها. في جزء منها تذكرنا سيرة النجع بغابة تشيلي؛ تلك التي قدمتها لنا على طبق شعريّ، قصائدُ بابلو نيرودا.

____________ 

باب بن غشير 19 فبراير 2022

19 فبراير 2022

ربّاية الذايح

                                                                                مفتاح العمّاري


__________" ربّاية الذايح "  


    بنغازي، مدينة تطل على البحر، لها منارة وقباب ملح، وشيوخ يرفدون سقف التاريخ بأعمدة الحكمة، وفتيان حالمون يعشقون بنات مدينتهم، ويدبجون رسائل العشق، ويفرغون احزانهم في مواويل المرزكاوي. بنغازي مدينة يتعذر نسيانها؛ هذا ما يساق خلال رحلة طويلة قطعتها الحكايات المشبعة بمجاز الشعراء، عبر ثلاثة آلاف عام، تبدأ من نبع الليثي. كذلك زهرة اللوتس التي أكد حكماء الماضي بأنها كانت هنا. فضلًا عن كنوز شتى تَكفّل المؤرخون بتذويبها كعصارة لمتون مخبوءة، لم تكتمل قراءتها بعد؛ فلا زال فن الترميم يضع حرفا إزاء حرف، سعيا لاكتشاف الكلمة الضائعة، التي أكثر من مجرد شجرة في متاهة رملية. يقال: من فرط فاكهة أسرارها انتشرت أخبار نعمها وظلالها في الآفاق البعيدة؛ فقصدها التائهون من كل حدب وصوب.


      ولكن ماذا بعد.؟ هل يمكن القول أن بنغازي بالرغم من مظاهر فقرها في ذلك الزمن الغابر؛ الا انها كانت تتمتع بطمأنينة باذخة. ليس لأن الحكم عادل، والطبيعة سخية و( الزرع صابة). بل لأنها _ أي المدينة _ كانت بعد مكابدة شرسة مع الحروب الطويلة التي خاضتها من أجل صد جحافل الغزاة، فضلا عن تلك المحطات الضاجة بالقحط والفوضى، تحاول انصاف نفسها بقليل من الهدوء، ولا ترغب في اثارة أيما شغب بما في ذلك ما يبدر عن ابنائها من شطط الحالمين. لهذا يمكننا القول أيضا؛ بأنها ستربيك فيما لو كنت لا تجيد شيئا غير الثرثرة، والتسكع، ومطاردة الكلمات؛ بغية استدراج حكاية فاتنة إلى غرفتك. وبذا ستذهب بك الظنون السيئة؛ بأن هذه المدينة الوحيدة في العالم التي تربى وجدانك في حضنها الدافيء.. قد بدأت تقف عائقا ضد طموحك وشغفك. هذا الشعور المؤلم الذي يوسوس لك، بأن خيالك أمسى مهددا؛ سينمو مع الأيام في داخلك الى أن يتحول الى فزاعة، ثم الى ورم عضال لا ينفك عن تصديعك وتكسير أفكارك الهشة؛ التي لا محالة سيجبرك حطامها على الفرار الى المجهول، لتغرب بعيدا عن أشباح بنغازي وليلها الضاج بالخوف والكلاب والقطط الضالة، عن نفاياتها وسجونها ومستنقعاتها، وترهات عجائزها وحكاياتها الخائبة، ومآتمها التي لا تكف عن الدوران. ومع ذلك سوف لن تمضي في غربتك طويلا  حتى تجد نفسك وقد عدت الى بنغازي في يوم ما؛ بعد أن هدك الحنين من كثر السكر والطواف والتعب. بيد أنه لكل شيء حد ومآل، لهذا لن يلبث مكثك بضعة شهور حتى يكتنفك السأم مرة أخرى. لأنه بمجرد أن تنطفئ داخل كهفك جذوة النوستالجيا، ستجد نفسك من جديد فريسة للترهات ذاتها التي كانت تقض مضجعك. وهكذا ستتألم هذه المرة أكثر من ذي قبل؛ لتعاود الكرة، وتهرب ثانية دونما أن تترك خلفك أثرا يدل على فرارك المفاجئ، ولأن كل من تعرفهم في بنغازي، بما في ذلك غرفتك نفسها التي تعودت هجرانك، يدركون جيدا بأنك مهما تألمت، ونأيت إلى أقصى حد يتخيله شخص معذب ومزدرى ومذل؛ قرر أن يهج مغتربا دونما رجعة؛ فحتما ستعود، وللمرة الأخيرة!. وكما هو متوقع، ستعود في صندوق مبجل، يحيطه الأسى والفراغ. لأن كلماتك هي الأخرى مهما ظلت بعيدة وصامتة ومحزونة، لديها ما تقوله لنا، نحن أبناء الملح الذين ثابرنا على انتظارك حيثما كان باعة كتب وصحف، وحيثما وجدت أحلام خصبة، ومكاتب بريد ومحطات سفر . وحيثما كنت؛ كنا على يقين بأن السر يكمن دائما في تلك الجاذبية والطاقة التي تملكها كلماتك، تلك التي تحتفظ بمآثر ثمينة، ذات مخزون وافر من الإستعارات التي لن يفهمها أحد من سكان الضفة الأخرى. فقط كنا دائما في انتظارك، ومهما حاولت أن تنأى، تضاعف عزمنا على الإحتفاظ بذاكرتك كما لو أنها كنز لا يفنى. هكذا لن تكون غائبا بيننا.

لعل هذه الحكاية وما يحذو حذوها من مجازات ثرية بالمعاني، تومئ، أو هي تشير دونما تحفظ الى فارس بعينه، أو أكثر من مريد؛ وقفاء أثر. جلهم كابد المصائر نفسها، حتى تحولوا هم أنفسهم إلى أسماء جهات وعناوين رحيل ، إلى جبال يمكن الإستدلال بها، إبان السفر من كتاب الى كتاب، واقتفاء آثارها عبر المدن والبلدان العظيمة التي كانت  في يوم ما، مسرحا لهذه الحكاية أو تلك.

لهذا كانت بنغازي منذ القدم؛ صانعة أحلام وحكايات ومصائر. أزعم أنا "مفتاح العمّاري" بأنني قبل نصف قرن، وتحديدًا في شارع سيدي عبد الجليل، كنت قد بدأت في تأثيث حكاية ما، تخصني وحدي. حكاية أخرى من حكايات الملح، لم تنته بعد.

_______________

 


الخميس، 24 أكتوبر 2024

حكايات تجعلنا نخجل

                                                                                                                                     مفتاح العماري 


_________  حكايات تجعلنا نخجل   




 

1                   

منذ أن بدأت الحرب 

ونحن نذهب إلى الفرن بكثير من الحذر؛

لأننا في الأثناء سنمر بشاطئ مهجور،

وبقايا حديقة ميتة.

وهذا ما كان يشغل بال أمّنا المريضة؛

طالما كل يوم ثمة وقائع مريعة عن قتلى، أو مخطوفين.

مذ ذاك غدونا نحرص كثيرًا؛

أن نعود للبيت بقليل من الخبز

دونما خسائر فادحة في الأرواح.
لكن ماذا لو أن المسلّحين خطفوا أختنا الجميلة؟ 
هل سنقول لجيراننا أن أختنا الجميلة،

حملتها موجة فماتت؟ 
وهل سنجتمع مرة أخرى كعائلة واحدة،

أمام التلفزيون لنشاهد الدبابات،

وأشلاء الأشجار والحرائق؟

هل ستنطلي روايتنا لو قلنا: 
أن أختنا كانت تحب البحر؟

 

2
جارتنا التي فقدت كل أحلامها في الحرب 
جعلتنا نخجل؛ نحن الذين لم نفقد شيئا

سوى أختنا وسقف المنزل.

أعني جارتنا الشابة التي ذبلت أزهار شرفتها،

لم تعد تعبأ بتحيتنا كالعادة كلما التقينا مصادفة

في الشارع، 
كأنها لا ترانا.
وأن روحها قد هاجرت هي الأخرى. 
فيما كنّا نجلب خبزًا
نراها تحمل كتبًا. 
لهذا نحن تغيرنا،

وأن كل حكاياتنا:

عن شحّ الدقيق،

وفقدان أختنا،

وأزمة الوقود،

وانقطاع الكهرباء؛

تجعلنا نخجل.

 

3

نحن تغيرنا؛

تغيرنا كثيرًا.

الخيالُ لم يعد صالحًا للمشي في الطرقات

التي بالت عليها الحرب.

كان الملعون (رامبو) محقًا،

حين انصرف لتجارة السلاح.

**
أجل تغيرنا كثيرًا.

صار للوقت حكايات أخرى،

ليس المرح من بينها.
المرح الذي في يوم ما كان سفرًا،

صار مضجرًا بعد أن فقدت الحقائبُ بهجتها،

وأمست الأيامُ تعاني من آلام الظهر

وتصلب الشرايين.

وحتى الليالي التي تسبق ركوب الطائرة،

فقدت ذلك الأرق المنعش،

طالما ليس ثمة ما يتسع للحبّ، 
الوقت الذي كان يصلح للقبلات،

تركته الحرب يذبل.

**

الخبز أيضًا فقد رائحته، 
منذ أن استغنت الأفرانُ عن خدمات الحطابين 
وتحوّلت إلى معامل لصناعة الكرواسون والبيتزا. 
بدا كل شيء يمضي مسرعًا

كما لو أن الأرض في عجلة من أمرها. 

 

4

لست خائبًا أو حزينًا؛

لمجرد أن بعض الأوغاد

في يوم ما كانوا من بين أصدقائي.

طالما ثمة في المقهى مقاعد شاغرة،

وموسيقى تجذب العابرين،

وخيال متبّل، يطهو الحكايات على مهل.

طالما ليس بوسعك أن تعرف ما إذا كان أحدهم لصًا؛

 قد يسطو على دفتر يومياتك،

أو يخطف حبيبتك.

وطالما هناك صدف، وأخطاء، ومحطات مزيفة.

وأبواب ونوافذ، لا يمكنها أن تظلّ مقفلة على الدوام،

وهواتف ذكية في وسعها أن تتعرف على

مزاجك ورزنامة يومك.

طالما ثمة كتب ورسائل ولغات،

يمكن إجادتها دون معلّم.

وأنك في معظم الأحوال لن تكون وحدك.

يحدث أن تتعثر عقاربُ ساعتك!

لحظة أن تلتقي ببعض هؤلاء

الذين يمكن أن يكونوا بمحض الصدفة شعراء

أو رجال شرطة، أو عاطلين عن العمل.

ومع ذلك لستُ خائبًا أو حزينًا؛

بل أنا ممتنّ لكلّ السفلة الذين

أمسوا أصدقاء فوق العادة.

____

طرابلس 16 يوليو 2019

الثلاثاء، 22 أكتوبر 2024

الأيام الأخيرة لديك الجن الطرابلسي

 

                                                                                      مفتاح العمّاري


_____ الأيام الأخيرة لديك الجن الطرابلسي  


                                   




      ما أن فتح الشيخ العليل صفحات التواصل حتى استوقفته إشارات مغوية؛ بينها فتيات وسيمات لطالما حلم في شبابه بأقل منهن حسنًا. وبيوت أنيقة ودافئة لم يسبق لها أن طافت بخلده ولاسيما عندما كان يلبث لأشهر عجاف في خنادق الرمل وما من توق سوى العودة الى كوخ العائلة بأقل الأضرار إعاقةً وبؤسًا. ومرّ في الأثناء ببساتين تتمتع أشجارها وأزاهيرها وطيورها ونوافيرها ببهجة مطمئنة، لا تنتسب للماضي. وبعد قليل قد ينسى نفسه على ضفة نهر يفوق جماله كل ذاكرة تربت في مفازات العدم، وأحياء الصفيح، وثكنات الجيش، وخطوط النار؛ ليأخذه حسن الظنّ بأن ما يراه ماثلا كحقيقة لا غبار عليها سيبدو له -رغم اختلافه- شديد القرابة بالروح نفسها التي عرفها في الصغر. هذه الرؤى ضخت في نفسه طاقة مفعمة بالنشوة، ومن فرط استسلامه كاد أن يتخلى عن كل ما اذخره لمستقبله من أسماء وعناوين أثيرة؛ بينها فتياتٌ جميلات، وبيوتٌ أنيقة، وبساتين بهاء، وجندي خجول يشبهه تماما، وقصيدة تختزل حدائق بابل وكنوز سليمان واهرامات الجيزة. وفكّر: ربما ضراوة الجمال (هي وحدها) من تجعلنا أسرى لتلك البطالة القديمة الناشئة عن ازدهار القبح؛ أو هي ترهات المسنين كما تبدّت في الظاهر كانت أكثر ترحيبا بالماضي؛ وأيضا لعلّ كل ما حدث قبل قليل تكمن أبسط أسبابه أعجازا: أن مخيلة الشاعر منذ عهد الملك الضليل وحتى آخر صولات ديك الجن الطرابلسي، لا تتوقف عن الدوران حول نفسها.

______ 

طرابلس- باب بن غشير. 11 مارس 2023



الاثنين، 21 أكتوبر 2024

علاقات


                                                                                                                                  مفتاح العمّاري

 


________  علاقات    



لا ضير من النباح،                                               

مع القليل من الانس؛

طالما ثمة حطام لشجرة ميتة لها ظلّ

يسعنا معًا، أنا وكلب ضال؛

هو الآخر، 

يرغب في قيلولة.

____

١٢ يناير ٢٠٢٢ 

الأحد، 20 أكتوبر 2024

تضامن

 

___________ تضامن                                                                                                                                                                                                                                                     مفتاح العمّاري






 

 


إذا شئت يا ابن أمي؛ 
سأهبك نصف الغابة.
يمكنك قتل أشجارها دونما رحمة.
وما أن تفرغ من صناعة قاربك.
حتى أتخلى لك عن حصتي من البحر
والخيال والرياح.
لعلّ ذلك يكفي؛

لكي تصل إلى الضفة الآمنة.

ومن جهتي يا أخي، اطمئن؛

فلا خوف عليّ.
هذه ذئابي، 
أعرفُ كيف أربّيها.

_____   

ابريل 2019   

اللوحة للتشكيلي العراقي: مؤيد محسن 


الأربعاء، 16 أكتوبر 2024

مدونةُ الطير ( من نصوص حياة الظل)

                                                                                       مفتاح العمّاري 


__________   مدونةُ الطير*

 "أوقفني وقال إن لم ترني لم تكن بي.

وقال لي أن رأيت غيري لم ترني"

  -النفري، من موقف قد جاء وقتي-

 

 (1)

في التيه،

ولدَ الشاعرُ والذئب.

سلخ الهدهد ثلاثة فصول،

ليصل إلى تخوم الصيف الخفيّة:

أيها الحكيم، رأيت السّالكَ يخرج من وحل الغافل،

له بلاغة السيف وحدّ المعنى.

رأيت الأشجار أجنحة تنتظر البرق.

والبحر خمس ضفاف للملح. 

رأيت الكوخ الصغير الذي رسمته يد طفلة ناعسة

يسبح في سماء صفراء.

في التيه.

قطعوا سرّة الشاعر بكر أمه وذراع أبيه،

وتركوا الذئب يعوي،

فتحوا بريدَ الغابات والأساطير،

وتركوا الذئبَ يعوي،

جابوا الأسواقَ والبساتين، لكي يظفروا برمّانٍ في غير موسمه،

وتركوا الذئبَ يعوي.

سلخوا معرفة الجبال، وحصدوا حكمة البراري،

ناموا في عراء الفاقة فخورين بالضحك

والذئبُ يعوي .........

 

(2)

في التيه،

برج ريح،

يستدرجُ المواقدَ لخبزه.

طابورٌ خامسٌ يعمل في سلك

الزوابع خاطفة العطرِ وبذورِ الموسيقى.

كل وتر تنقرهُ الخفةُ يتقطّع على ضفافِ الوجع.

 

(3)

في التيه،

ليس الشاعر حدثا يُحتفى به.

لكن يوم ختانه صادف ذكرى المولد النبويّ،

نحروا جملاً عند ضريح سيدي عبد الجليل،

جلبوا جرارَ الماء من العيونِ النائمة،

وتركوا الذئبَ يعوي.

طافتْ فرقُ الحضرةِ عبر الشوارع الكالحة،

تَقْرعُ الدفوفَ وترفعُ المدائحَ والأعلام.

 محفوفة بالصبيةِ والعيّارين والدراويش وحملةِ المباخر.

يُرشّ المنشدون بماء الزهرِ كلّما مروا بمحاذاةِ الدكاكين.

لم أذهب طويلاً يا مولاي وراء مواكب المديحِ والبخور،

لأن إخوةَ الطيرِ هبطوا راقصين وقد أغراهم السمر،

فالنوم يُعدّ مروقا، لأن القمرَ يُزهر على ذرى الأحلامِ الفقيرة.

وُلدت النجومُ توائم، وظلّ الحلمُ اخضر.

وزّعوا اللحمَ وفطائر الزيت،

وسكبوا شاي النعناع في طاسات صغيرة.

 

(4)

في التيه

كَبُر الشاعرُ والجنديُ يا مولاي، والذئبُ يعوي،

لم يهدأ، حتى أضرموا معاجمَ العشقِ، واحترقتْ أًصابعُ الخيال.

كل عذراء اشرأبتْ خلف الكتانِ حلمةُ نشيدِها.

فيما الثكناتُ ترسمُ خرائطَ النفير.

خفقت الراياتُ الفتيةُ وتدحرج صوتُ البوق.

 جنديّ زاحفٌ إلى الموتِ في جيبهِ كلمةٌ،

شاعرٌ عليلٌ في قلبه طفلٌ ينتزعُ لعبته من فوضى الألوان،

في حلقه امرأةٌ تغرز جثةَ الشعر بالدبابيس،

في نسيانه خديعةٌ تكحّل سوءتها بحبرٍ مغشوش،

في عينيه سكبت الشمسُ قارةً من اليقين،

تركت أرضاً محروقةً ونملاً يتعرّشُ بالأهداب.

شاعرٌ أعمى ...............

 

(5)

في التيه يا مولاي: حلّقت فوق منازل العنكبوت،

رأيت ابنة الرماد،

التي خالط دخانها لسان الشعر، وسقف العشير،

واسم الكتاب.

 

 (6)

في التيه

تستيقظ توتةُ فمها هذي الفاتنةُ،

حين تنده يا مولاي:

هي حديقةُ نزوات،

مطرٌ برتقالي،

شَعْرٌ من نارٍ تتلون،

شفقُ وردٍ، في صحنِ قمرٍ مغسول،

تفاحٌ ماكرٌ يحتلّ حديقةَ خديها،

غيبوبةُ حمّى،

موجةٌ وضفةٌ من خلطةِ عشقٍ مخمور.

تَنْدهُ:

خُذني من أعلى ذروةٍ ترتعشُ بين أصابع فخامتك،

خذني ولا تعبأ بعواء المعلولِ،

دعه لوجاره يتلوّى بين خرابين، وأغثني

أنا طريدتُك وكنزُ رحيلِكَ ....

أغثني أيها الباشقُ

ولا تختلط عليّ كثيراً فتضيع بعيدا عن صدري،

 أو تخمد فحولتك في غزو أوديتي،

لا أفهمك، سبحان هديرك يا رعد،

يا إبرةَ ثوبي وبرقَ جبيني

يا غايةَ وطري، ومنقذَ جرفي من لغوِ السيل

لا أفهم:

تصعدُ في أرجائي ضراوةُ نبيذ ك،

رحلةُ شفقٍ أحمر تغمرني.

أنت عنترة: أنا   غمدُ سيفك.

أنت المتنبي: أنا مدارُ قصيدك،

قوافيك بعيدا عني،

شتاتٌ من حجّاج يُطوفون بلا كعبة.

سبحانك يا هذا البارق،

سبحان قضّي وقضيضك، كمّلني أوكُلْني

اقبّل سماءَ نعليكَ خذني بأسنانكَ قوياً، ولا تعبأ بعواء الذئب.

أربعون زمهريراً في بئري،

أنا الشتاءُ، البردُ نشيجُ سُكّاني

فخذني قوياً أني أريدُك،

أريدُ أن ينصهرَ صقيعي في كانونِ جحيمك يا بيتَ النار

أن تتوهّجَ شهقةُ كهفي في عسلِ بركانك

يا جسرَ ماءٍ وجمرٍ بين قبّتين

أين بعثرت فضّتكَ يا سلطانَ الضوء

أنا سلّةُ ليلٍ،

وفاكهةُ سرّ،

أنا فمُكَ

يا كأسَ العابرِ 

فلا تنبذ صدري، فيذبل فستاني،

لا تثمل أيها المخرّبُ هندسةَ النهدِ

خارجَ حانتنا أو تعبث بغمّازة خيالكَ

سكران في شرفةِ ملهمةٍ أخرى

ثم تأتيني تعتعةً،

لا تفقه عطري من عرقي.

خذني، ولا تلتفت لعواء الخلّب.

  

(7)

بعد قليل يا مولاي

قال الذئبُ،

وهو يقودُ القطيعَ إلى مخيلةِ الفناء

: قفْ يا اسمَ التيه،

مزقتني المساربُ.

وهذا ما رأيت.

______  

برلين. خريف 2009

 * من نصوص كتابي: "حياة الظل"