وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الأربعاء، 19 يوليو 2017

"عشب نافر في مقبرة " قراءة في ديوان " ماذا صنعنا بالشمس " للشاعرة هناء قاباج

مفتاح العمّاري

اللوحة للرسام الليبي : معتوق أبو راوي

" عشبٌ نافر في مقبرة "

قراءة في ديوان " ماذا صنعنا بالشمس "
للشاعرة هناء قاباج

      في ليبيا المشغولة بدفن أبنائها : ثمة  " عشب نافر في مقبرة ". لا ريب في  أن البرهة  جد مربكة، وبداهة الصورة أكثر تعقيدا وضراوة : نفتح ديوان " ماذا صنعنا بالشمس" للشاعرة هنا قاباج ( هكذا أرادت اسمها الأول متحررا من سطوة الهمزة على آخره ). أي في اللحظة الأشدّ خسارة للحياة، وخيبة للحلم،  وكل ما ينتمي لسلالة الجمال - كما يبدو - محض فائض عن الحاجة، ولن يظفر بموطئ قدم داخل هكذا بيئة، لم تعد تحتفظ بأي معنى  لفنون المخيلة ، سوى الخبل وحده يجترّ مثالب ترهاته. قد يظل من العبث لو حاولنا  تبجيل قطعة موسيقى أو الاحتفاء بلوحة في هذا التيه الذي تفنن قاطنوه وببراعة  في حفر أقبيته وأنفاقه. أشير بأنه لم تكن لي سابق دراية، أو أية معرفة بشخصية الشاعرة وموقعها داخل خارطة مشهد شعري بائس على مستوى الحراك الأدبي، وإنتاج القصيدة، والاحتفاء بمبدعيها.  بل حتى أنني لم  أسمع عنها . ربما (لأسباب خاصة وعامة  - لا أود الخوض فيها - جعلت علاقتي بالمشهد الأدبي في الداخل مضطربة وقاصرة عن المواكبة والرصد ، خلال السنوات التسع المنصرمة ) ، لذا اكتفيت بقصائد الديوان كمجموعة منتخبة للطبع ، تمثل باكورة إنتاج الشاعرة. وهي قصائد ، سيتضح عبر القراءة ، بأنها طامحة وبمثابرة لا تعوزها إمكانات وحيل التفوق على ذاتها ومحيطها ، كما لا تعوزها الجرأة ، والثقة في الإعلان ، وبقوة عن نفسها  ، لتشي دونما ريب بتميزها في فضاء من عدم " عشب نافر في مقبرة " .
      داخل هذا الإقليم الذي يقطنه الأموات ، ترتهن فضيلة العشب ونموه لعلاقة غامضة ومحيرة تتعلق بجدلية الضوء. لعل هذا ما يستدعي ويسوّغ مشروعية السؤال عن الشمس  كمفتتح للمتن ، وتيمة  تتكرر في عديد المقاطع :  " من أين ينبع الضوء / والقصيدة موحلة .. / والشعراء قد ماتوا .. / وشيّعهم الغبار إلى المقبرة " . قصائد الديوان ، في الغالب تحمل أرقاما لا أسماء، ربما كترجمة وجودية تعكس فعل المحو، أو هي(فنيًا) عبارة عن مقاطع متسلسلة، تتضافر لتجسيد وتنويع وتلوين قصيدة واحدة. طفقت أقلّبُ صفحات المتن ، وأقرأ مأخوذا بتلك العبارات التي تنقضّ وبضراوة على ما حولها من مرئيات، هي جامدة في معظمها ، لتؤنسنها على طريقتها. وفي الأثناء كنت أيضًا ، أعوّلُ فقط على مدى إحساسي الشخصي ، والصدى الذي تتركه في نفسي صورٌ وإيماءات مبتكرة،  مثل " أنا القصير الذي تراكمت على جلده الأحذيةُ وخدشت ملامحه الخطوات " / " ترعبني الحرفية العالية في احتفاء الجدران بصور الموتى " / " أما التحايل فهو مهنة الأبواب ". جملة شعرية ذات حمولة حارة  في ضخ المعنى ، ليس بالضرورة أن نفهمها ، بقدر ما نكتظ بانهمارها؛ وبقوة لا تعوزها نشوة الاكتشاف ، عندما نلامس مفارقة الحقيقة الصادمة، إزاء تردد صدى العبارة ذاتها، والتي ستلاحقنا أينما ذهبنا " عشب نافر في مقبرة ". لعلنا سنحتفي بمعجزة العشب إكراما للحياة ، وللموت أيضًا، وسنقتفي ألوانه وظلاله ونترصد رائحته. على الأقلّ لكي نلبّي حدًا أدنى من طموح القراءة وشغفها وادعائها، من دون أن نتخلى عن توجسنا فيما يتعلق بتحايل النص، عندما يتفوق في اللعب، إلى الحدّ الذي تتلاشى فيه المسافة بين الثنائيات كأضداد ، طالما النقيضان ينتميان للمكان نفسه، للتربة نفسها ، وللغة والسماء إذا شئت ، لكن ضمن  حيز قاحل وشحيح، ربما بدا كريهًا وبغيضًا عند تجليات المشهد داخل جغرافيا اعتادت توطين الموت، وهو لأمر غريب ومدهش في آن، حين يصبح في مكنة العبارة  إيواء معنى مفارق " عشب نافر في مقبرة ".
      هذا التفاعل سوف ينسحب على كل الموجودات المُنْتَظَرة فيما بعد ، كل  معدن ، كل قطعة حجر  وزهرة برية، وباب مشبوه  ، ونافذة تُطلّ على الداخل ، وجحيم من فصيلة كوميديا دانتي ، وانتحار سيلفيا بلاث ، وميراث الأجداد ، ومشاهد الحرب بين الأخوة الأعداء  في ليبيا، حيث " الرؤوس تتدحرج من كراسات الرسم مثل حبات البرتقال! " وتلك اللقطات التي تجسّد مشهد الغياب . لن تُستدعي  النقائض إلا لكي تتفاعل وتتجادل ، لا أن تتناحر . لتبدو المسألة برمتها أكثر تعقيدا من تلك الدراما التقليدية التي اعتدناها في صراع الأضداد ، وأيضا سوف لن يشي جدل الثنائيات بالتصالح ، بقدر ما يخلص إلى ما يشبه فلسفة الطاو ، أو : كأي شيء قريب من سلالة أي متاه ، مثل طفولة هرمة وقاسية تلعب بمخلفات الحرب. باختصار ، ثمة اختراق للحياة وطموح شكس للتوغل إلى أقصى مدى في تفانين الجملة الشعرية. والتي ستحيلنا دائما إلى تجربة شعر اعترافي، يبدأ من الذات وينتهي فيها؛ ذات قلقة وثائرة وساخرة بوعي، كل العالم يحال إليها ، ليُختزل بصرامة في عبارات بالغة الكثافة والعمق. لهذا تكاد قصائد الديوان في معظمها قد كرّست فضائها - بتهكم - لسؤال البحث عن معنى، وحياة الأسماء والأشياء . كل ما هو ماثل ومحيط  هنا ، ومفكر فيه، يخضع للأسئلة؛ بدءا من الوسم ( ماذا صنعنا بالشمس )  كعتبة أولى للمتن، ستفضي قصائد الديوان إلى إعادة تحويل مجازات هذا الكوكب، أو إلى تدويرها ، باعتبار أن المجاز القار والراسخ سيفقد مع الزمن وظيفته حين يُبتذل، ويستهلك بفعل التكرار. 
     الجملة الشعرية في قصائد ( هناء قاباج ) غالبا ما  تنزاح ، أو هي تنحرف داخل نسيج متشابك من تفاصيل البيوت: غرف ، جدران،  نوافذ، أسرة، وسائد، أبواب، مفاتيح، أدوات  معيشة، مرورا بفضاء المدينة، إلى  قضايا الذات، (الكيان) عبر ملامسة ونكش لسيمياء وجودها الخاص،  وتلك الإيماءات والإشارات البديهية، والمصيرية، الكبيرة والصغيرة، والتافهة، والمحلوم بها . سؤال ينكش  السيرة كعتبة ثانية ، تبدأ من استنطاق الاسم :  اسم الشاعرة " ليس لديّ سيرة ذاتية / كل ما أعرفه أنني /  عشب نافر في مقبرة " . حيث سيتكفل هذا الاستهلال المفارق بتجسير أكثر من معنى ، لندرك من خلاله ، مدى قوة الصدمة لهكذا سؤال ، وتلك الضراوة الحية التي تنبثق مفعمة وحارة بموازاة عالم خامد .أظن هذه الإشارة وحدها لديها ما يكفي من الثقة لخلق التشاكل ، عبر تضاد مناكف ومستفز، ليس لنفي الذات، بل لتأكيدها  كمركز، طالما كل إضافة لتأثيث القصيدة، ما هي في حقيقة الحال سوى فعل مراكمة لإنماء معنوي. وليس عنف الصورة وحسب ، من يرسم تفاصيل  المشهد بتقنية ماكرة ، بل تضافر الصوت ، كنقلة إيقاعية  تربط بين الظاهر والباطن. وأيضا كفاصل يفضي إلى إحالة أخرى تتعلق بالاسم وحمولته ، والتي ينبغي التخفيف من مكابدة أوزارها ، ربما لأن ثمة خلل ما في الإيقاع والمعنى  ، " ولأن الهمزة آخر اسمي / تقف في حلق الألف / اللامنتهي كالصدى / وتشعرني بضرورة التوقف / وبمحدودية الكون / وانسكابه في فنجان مكسور / قررت أن أصلح هذا الخطأ / الخطأ الوحيد الذي لم أقترفه / الخارج عن إرادتي تماما / هنا قاباج " . هكذا وبمجرد قراءتي لبضع قصائد احتلت مطلع الديوان  أدركت بأنني إزاء قصيدة جسورة ومباغتة ، تشي بتجربة حقيقية وأصيلة . وبصورة خاصة حيال براعة الشاعرة في اقتناص ، وتتبع فن اللقطة  البصرية وإيجاز مشهدها بدرجة عالية من الكثافة واللمح والإيحاء ، تقول " البرد يأتي من كل مكان / من عقب الباب / من النافذة الموصدة جيدا / وشقوق الجدار والستائر / من الوسائد المحشوة بالليل الطويل / ... ومن غيابك " .
      ديوان : ماذا صنعنا بالشمس ، ليس محض عنوان عابر لكتابة عابرة. ليس مجرد عتبة مدخل لمتن شعري تائق، أو سؤال مواز لسيرة القصيدة وفضائها .. بل هو إشارة لكتابة منتظرة أكثر رسوخا وتشكلا، سندركها دونما ريب ، طالما لن نسهو أو نغفل عن انهمار حزمة صاعقة من الصيغ الماكرة التي تنطوي عليها القصائد مجتمعة .  ففضلا عن المظهر الاعترافي ، أو السيروي  ، ثمة هنا جماليات تتضافر عبر تنويع متعدد للدخول والخروج، من مجاز إلى آخر ، وركام متنام لاستعارت شتى تتضامن لتشكيل ظلال وأصوات، معظمها يتألف من فراغات ومقتنيات منزل، إضافة إلى استدعاء أعلام وأمكنة ورموز، واللجوء أحيانا للعبة التناص ، سواء بقصد أو من دونه.  وهكذا سوف تفي كل قصيدة في نهاية المطاف بما هو أكثر إخلاصا للشعر ، وارتهانا للغته ورؤاه. لندرك كقراء مستسلمين لمشيئة القصيدة وبهائها ، وبإيمان راسخ أننا محض أسرى ، لن يسعنا بعدُ،النأي مرة أخرى ، طالما منذ البدء قد تركنا أمرنا لسلطة هذا الإغواء الذي لا نظير له. لأن القراءة هي الأخرى سوف " تستسلم مثل مسحوق غسيل / مثل طاولة الكي .. / مثل مفتاح الكهرباء / للضغط الدائم / والتوقعات الكبرى " . لهذا لا يمكنك الإحاطة بنص مهيمن ما لم تتهيأ لمجابهة ضراوته وجموحه. قصيدة قاباج، قد بلغت تلك الدرجة التي تنصهر فيها الألوان لتأخذ شكلا يصعب تحديده، لتبقى أخيرًا- وهذا من فضائل قصيدة النثر - محض شكل لا يستقرّ، لا يُعّرف أو يُسمى . كأنه علينا اختراع أسماء وابتكار أفعال لم تُرتكب بعدُ ، لكي نصف كحدّ أدنى ملامح ما، لشكل ما ، يشير إلى هكذا كتابة ؛ مما يدفعنا للانحياز  لتلك التصنيفات التي تؤكد على هوية قصيدة النثر كنوع أدبي مستقل ، وليس تفريعا شعريا ، أو امتدادا للشعر في تاريخيته .
     بقدر بساطتها الظاهرة  ستحتفظ قصيدة : هنا قاباج بإخفاء إعجازها . قصيدة متشيطنة ، ماكرة ، لمّاحة ، وفوق ذلك كله، ذكية، تستدرج كل الموجودات كخامات طيعة ، تتضافر جميعا في تأثيث درامية مشهدها الخاص بها. وعلى الرغم من سماتها الاعترافية بكل انثيالها ووضوحها ومكاشفتها وسخريتها السوداء فأن القراءة مهما تعددت، واجتهدت في صياغة سؤالها سعيا لاستنطاق مقروئها ، مرة أخرى سوف تلجأ القصيدة وحدها دونما ريب  لتدوير الخفاء. وإذا كان ثمة أثر ما  لتحقق القراءة  ، فذلك لأنها تستمدّ طاقتها  عبر الحضور الطاغي للقصيدة، حين تقفز إلى داخلك وتتوغل فيك إلى ابعد مدى. لتبدو كأنك مطالب بامتلاكها ، وأنها تخصك وحدك ؛من دون أن يفتر سعيك لمحاولة تكرار التعرف عليها مجددا . كإرجاء للحظة ، أو انتظارها ، أو استدراجها عبر رشوتها بأمكنة وأوقات أكثر إغواء للكشف والإفشاء.  قصيدة ، قد لا يكفي القول أنها موقظة ، تنتزع الحواس من سباتها وتعيد إليها وظائفها المعطلة ، لتضعها على تماس حاد مع الحياة ، واستنطاق عالمها .
      أعترف في الأثناء بأنه أحيانًا ما من كلمات يمكنها أن تسعفني  كقارئ ، لتشخيص هكذا مقروء . وبالمقابل لشد ما كنت أتهيب ، خشية إفساد القصيدة بالكتابة عنها ، بالثرثرة المتذاكية ، وتشويه ملامحها كلما تواطأت أمعانًا في تقطيعها وتجزئتها. لأن ثمة قصائد يتطلب التعامل معها توفّر حساسية خاصة، شأنها شأن الموسيقى والرسم. وهذا لا يعني أنها متعذرة  القراءة والحوار والتفاعل. بل هي لا تحتمل مزيدا من شطط التأويل حين يشطح بعيدا. فإكراما للموسيقى كمحض شكل خالص، لا يسعنا إلا أن نستسلم لسحرها .. لأن إضافة أي كلام سيعدّ ضربا من اللغو والإساءة ؛ مما يقتضي بالضرورة التريث بين الحين والآخر لترقّب ما يمكن أن يكون بمثابة توصيف ، قد يصلح كحد أدنى لمقاربة أعراض القراءة حيال قصائد  هذا المتن : قصائد هي دائما مستنفرة ، ومستفزة ، إلى حد أنها تسبب أرقًا. ومقلقة لدرجة التوجس في كونها : لا تزال تخفي المزيد من الأسرار. متفردة حينًا، وبطريقة تجعلها لا تشبه شيئا إلا نفسها. سوداوية تحيل كل شيء خرابا. لكنها ذات طبيعة حية، خفاقة تحلق عاليا ، لتحط على أعلى ذروة في اللغة، وتطلق من علوها ، نظرة هازئة، ولسانُ حالها يقول  " كأنني طائر .. / أرى العالم من فوق ../ يطفو بالعبث ../  والسخرية " . كما لو أنها تحرك رمادا راكمته سنونُ التيه ، وتخض دهرا ، وتجعل من العدم وجودا،  لحظة أن تحتل هي كلّ مساحة ممكنة لخلخلة جغرافية الموتى  . أجل قصيدة مستفزة ، تحرك سباتا ، وتهزّ يقينا . وعلى الرغم من خيباتها الطافحة ، هي منجذبة للحياة بقوة ، تنتج مذاقا جديدا ، وحدسا يفكك عنف عالمها . مع أنها كتبت بلغة متقشفة ، اشارية ،  سردية في الغالب ، غنائية أحيانا ، وعاطفية لدرجة الهشاشة، يمكن ببساطة ملاحظة أصابتها بالكثير من الرضوض التي خلفها اصطدامها بأبواب الحياة وجدرانها. وعلى الرغم من كل مفاتيح القراءة التي تتيحها الكتابة الشعرية في هذه التجربة، إلا أنني وكما أشرت قد أرتاب أحيانا - كقارئ - ليس في أصالة النص ، وانفتاحه وتأثره بأكثر من أسلوب وخصيصة ، بل في إمكانية التعاطي معه، لكأنه علينا تأكيد الاعتراف بعوزنا وعجزنا ، وأنه مازالت تنقصنا الكثير من الحيل لقراءة قصيدة النثر. طالما كل كتابة، هي أخرى تتجدد وتتغير ، تنمو وتشير بأكثر من يدٍ وطريقة ، لتعبِّر باقتدار عن كونها ، وباستمرار غير قابلة للتنميط ، والتأطير ضمن شكل قار ومحدد. لهذا قد تتشوش المفاهيم، وتخذلنا أدوات التشخيص والتحليل، كلما حاولنا مجددا الاقتراب من المقروء. مما يدفعنا للاستئناس  بما تتيحه القصيدة نفسها من أريحية وترحيب. وأن المسألة برمتها ستظل أخيرا رهنا بالذائقة ، بخزيننا ومعرفتنا وحساسيتنا.
      قلت فيما قلت أن القصيدة هنا  تتضامن مع نفسها ، مما يجعل من ثقتنا  تتصاعد وتنمو كحياة تتجدد، وحتى إن ظل ثمة ريب يراودنا ، فأن كل كلمة هنا يقين لتجربة تنتمي لصنف الندرة. وبقدر ما هي مدهشة، بفضل تلك الوفرة من جمال لا متناه، هي محيّرة ، إلى حد أنها تقتضي  لحظة أكثر خصوصية واستئناسا وتفهما. ففي كل مرة - كما أشرت - تتفوق الكتابة على حيل القراءة. لأننا إزاء قصيدة نثر تبرهن دونما توقف على مشروعية وجودها، وتدافع عن نفسها بجسارة كرد اعتبار للجمال المُزْدرى. عندما تتكفل الومضة، والحدوثة، ولقطة العدسة، والمشهد القصير، والمونولوج، فضلا عن الإيجاز، والتذويب بالغ الدقة لمقولات، وحكم وشذرات وكوبليهات وموسيقى  وروائح  وألوان، واستدعاء أعلام ، من دانتي، الى بورخيس ، مرورا بسيلفيا بلاث؛ استخدام عناوين ،  واقتباسات من أشعار وميثولوجيا، ضمن عملية تناص خاطف.
      عبر قراءة أولى نخلص إلى أكثر من خاصية في هذا المتن . فإضافة إلى تضامن القصيدة مع نفسها كإبداع تائق ، دائما لديه القدرة على اكتشاف وابتكار مساحات جديدة لجماليات اللغة .. نجد فن تدوير التناص، كمحاولة لتدوير المعنى وإكسابه أكثر من دلالة وصوت. لكن الخاصية الأهم تكمن في طابع الملهاة السوداء. مسحة ثرية من التهكم الواعي تفيض من خلال السخرية المرة التي تتخلل معظم نصوص المتن .
    وأخيرا لنا أن نتساءل : ما هو السر في قصائد هناء قاباج ، السر الذي  يجعل منها شاعرة استثناء ، من صنف الندرة ، ليس بالنسبة لبنات وأبناء جيلها ، بل كتجربة شعرية لذلتها. هل يتعلق الأمر بخصائص فنية محددة، يمكن ملاحظتها على سبيل المثال عبر ثنائيات بعينها كالبناء والهدم، الكثافة والإيجاز، الصورة والصوت، الامتثال والتمرد، الموت والحياة، أم في الكلمات، والتي تتداعى كما لو أنها صلاة، أو صدى أسطورة  وتحليق طائر، وسقوط تماثيل في معبد ، وتفكيك مفاصل غرف وخرق لذاكرة أبواب، وتفكيك ساخر لدلالات النوافذ والأسقف، وخلخلة لمفاهيم الجدران.
   أفكّر أحيانا أنها أبعد من ذلك بكثير. لذا علينا أن ننتظر قليلا، لعلنا نظفر برؤية ما لهكذا " عشب نافر في مقبرة ".
¨      


                                                                                               مفتاح العمّاري

طرابلس 30 أغسطس 2016

السبت، 3 يونيو 2017

محمد الفقيه صالح ..الشاعرُ النبيل

مفتاح العمّاري





محمد الفقيه صالح

الشاعرُ النبيل *


        في حياة القصيدة الليبية ثمة تجارب فذة ، وقامات سامقة تقتضي الحقيقة إنصافها،والاعتراف بدورها المؤثر في نسيجنا الوجداني؛لأنه يتعذّر عليك أن تدّعي توصيف  حراك الشعر المعاصر في ليبيا من دون أن تتوقف كثيرا إزاء المدونة الشعرية للشاعر : محمد الفقيه صالح،الذي برز كشاعر يُربِّي مخيلًة تائقًة منذ النصف الثاني من عشرية السبعينيات، عبر الملاحق الثقافية المعروفة آنذاك؛ وبصورة خاصة صحيفة الأسبوع الثقافي التي استطاعت خلال فترة زمنية قصيرة،أن تفرض حضورها كمنبر إعلاميّ  شديد التميز ، إذ كان لها  الفضل في تقديم العديد من الشعراء الشباب؛ من أبرزهم طموحا وعمقا ورصانة وتطلعا الشاعر الفذ :محمد الفقيه صالح .
    فقصيدة الفقيه،وعبر مسيرة شعرية سلخت قرابة ثلاثين سنة ، تستدرجك دائمًا إلى مناطقَ بالغة الجمال، وتضعك من ثم إزاء تجربة لا تملك إلا أن تستسلم لأسرها،وتحترم مسيرتها الحافلة بالمكابدة والحلم والعطاء.
   ذلك لأنه شاعر كبير ومؤثّر في حركة المشهد الشعري الليبي ، وأينما يذهب، يُحظى باحترام ومهابة،فضلا عن حضوره الأكثر تميزًا في المحافل الشعرية الخارجية التي تقام عربيًا وعالميًا، لاسيما وأن مكانته الشعرية السامقة لا يختلف عليها اثنان؛ فله شغفٌ خاص بالحياة الثقافية،التي يُسهم في تأثيثها إبداعيًا ونظريًا ،وأيضًا له محدّدات ومفاهيم جمالية في التعامل مع الكلمات؛إذْ يقف دائما على أرض صلبة معبّرًا عن قيم رصينة ومواقف مشرفة؛ وينشغل بالكتابة كهمّ حقيقيّ يعبّر عن التحقّق والإضافة.
     فهو شاعر خالص- متنًا وسلوكًا- لهذا ليس من المستغرب أن يكون مُقِلّا في نتاجه، كذلك ليس من المستغرب في أن يكرس انشغالا معرفيًا بإنماء مشروعه الشعريّ، بهدوء رصين  ودربة مقتدرة،من دون أن يغفل -في الوقت نفسه- عن قراءة  ورصد و متابعة مجريات الحراك الثقافي، وتقفّي ما يُستجد من مطبوعات ومنشورات، مع اهتمام بالغ  بقراءة  صحافتنا المحلية، ولاسيما لحظة أن تستوقفه قراءة مقال أو نصّ أبداعي،اذ لا يتوانى عن الاتصال هاتفيًا بكاتبه لإبداء وجهة نظره ،معجبًا ومناقشًا باحتفاء الشاعر المنشغل دائمًا بهموم الثقافة والإبداع.
    فما أحوجنا في هذه الأيام  لمثل هذا السلوك الخليق بالمحبة والإكبار، لكي نكون دائما أكثر قربًا من أنفسنا وإخلاصًا لوجداننا .
<> 


* كتبت هذه المقالة قبل عقد ونيف ، ونشرتها ضمن زاويتي الموسومة "عتبات " التي كنت احررها اسبوعيا باحدى الصحف المحلية.أعيد نشرها اليوم بعد أن فجعت برحيل صديقي الشاعر : محمد الفقيه صالح. 

الأربعاء، 19 أبريل 2017

رغم جمالها المحطّم .. هذه البلاد تروقني


مفتاح العمّاري



___  هذه البلاد التي تروقني رغم جمالها المحطّم 


أعرف أن الله خلقنا لكي نكون معاً
في هذه الغابة التي تتوغل بعيدا في جسدينا بوحوشها وأشجارها المفترسة ،
في هذه الصحراء العارية كشاة تسلخ ،
وثقلها الهائج ، كحشد محتجّ ،
بأصواتها الراكضة ، التي تنهش الموسيقى 
بأفواهها ، وبراثنها ،  وتاريخها الجائع
باندفاعها البهيم ، وقد استعار مشتقات محاربين قدامى .
في هذه البلاد التي تروقني رغم جمالها المحطّم ،
وهذا البيت الذي لم يعد آمنا .  
في هذه القصيدة التي هجرها الغاوون .
كان خيالي يسبقني إليك
أنت  المرأة الملولة ،
التي تكره النوم  وحيدة في الظلام  مع صراصير المنزل ،
النضرة كبرتقالة مطعونة باللهفة ،
دحرجها شتاءٌ عاصف في قصيدة نثر .

**
أعرف أن الحلم كان دليلنا  
وأن لا حيلة لنا ، لكي نتوه مرة أخرى .
طالما الحلم أجمل خارج النوم .

**
أعرف أن حبنا شاسع .
لا تسعه لغة أو خطيئة.
لا يحتاج برهاناً لكي يُسمّى .

لكن لماذا تخشين موتي حيا
فيما أخاف حياتي ميتا ؟

¨                          

ربيع 2017

الأحد، 9 أبريل 2017

مشرق الغانم " كيف لي أن أغفو ثلاثين عاما "


                                                                                                                                        مفتاح العماري


الشاعر : مشرق الغانم 
من رسومات مشرق الغانم 











" كيف لي أن أغفو ثلاثين عاما "




     الليلة البارحة تذكرت صديقي الشاعر العراقي مشرق الغانم . انقضى قرابة ربع قرن على هجرته إلى الدنمارك ، والتي خطط لها بتكتم شديد ،  ومثابرة شرسة  .
  وصلتني منه بعد هجرته بوقت قصير بطاقات بريدية ، ضمنها وبسخرية  مرحة  شيئا من تفاصيل حياته الجديدة في غربته .
 ثم تقطعت السبل .
    التقينا مصادفة خلال أيامه الأولى بطرابلس ، عندما كان يبحث عن مأوى آمن له ولأسرته الصغيرة . وطيلة السنوات الثلاث التي جمعتنا بدا شهما ومكابدا في صمت ، كما لو أنه يخطط لحياة أخرى .
  كان في اللحظات التي يشي فيها ببعض مخاوفه قلقا على مستقبل طفله الوحيد " وجد " .
   وحتى إن باح ببعض أسراره ، لكنه لا يفضي بها إلا كإشارات لمّاحة ، وماكرة بذكاء حاذق ، عليك أن تعمل حدسك لكي تفكك شفراتها .
     في طرابلس عمل مخرجا صحفيا في أكثر من مطبوعة ليبية .
 كان رساما ، وشاعرا عنيدا يعامل نصوصه بكثير من القسوة والتقشف . متهيبا يمرر قصائده دونما اهتمام  ، كما لو أن وطأة الخيبة جعلته لا يعوّل كثيرا على القصيدة  . ليبدو كمن يتنصل من جريرة خياله .
   مرات يروق له أن يقرأ  بعض شذراته في جلسات خاصة ، بتواضع كبير دونما ادّعاء .   
   قلت الليلة البارحة تذكرته .
لست أدري كيف طافت صورته في ذهني . وضعت أسمه على محرك بحث الغوغل . ولكم كانت الفاجعة كالصعقة عندما علمت بأنه ، ومنذ عامين  قد رحل ، رحل مرة أخرى ، لائذا بهجرته الأخيرة إلى عالم الأبدية  .


___    قصائد قصيرة للشاعر : مشرق الغانم

"  كيف لي أن أغفو ثلاثين عاما *
وأصحو على وقع قامتك
وأراك مثلي
جالسا في حانة نائية وتسألني عنّي ... "

**

" أيها الجمال
اتكئ قليلاًً إلى الخلف
كي أسدّد إليك ضربتي "

**

" ماذا أصنع بهذه الخيبة
تأكلني ...
وينهشني الظلام لصق المقبرة "

__
عمّان 12 نوفمبر 2016
من قصائد للشاعر مشرق الغانم  . عن موقع " جهة الشعر "
http://www.jehat.com/ar/Antolojya/AlshearAljadeed/iraq/Pages/alganem.aspx



روايات البوكر (مصائر : ربعي المدهون )



مفتاح العمّاري




روايات البوكر
مصائر ربعي المدهون

      تنفتح راوية مصائر، على بداية رصينة تقترح قدرا من الهدوء لافتتاح سردها . وان كانت أول جملة في الافتتاحية فضفاضة بعض الشيء  " ما أن لا مست قدم جولي الدرجة الأولى لسلم الحديد الصدئ الصاعد حتى باب البيت الأزرق الشاحب مثل سماء حائرة بين الشتاء والصيف ، " . وهي تتداعى على خلفية إيقاع أجراس كنائس تُدقّ . لنعرف أن جولي نصف الفلسطينية ، قد قدمت من لندن إلى عكا تلبية لوصية أمها الأرمينية الفلسطينية والتي تزوجت من طبيب برتبة ضابط بالجيش البريطاني وهربت معه لوطنه ، وظلت هناك إلى أن توفيت قبل أيام  . وكانت قبل منيتها بأسبوع قد أوصت أن يذر نصف رماد جثتها فوق نهر التايمز ، فيما يدفن النصف الآخر ببيت العائلة القديم ، والذي منذ اقترانها بزوجها الانجليزي ، حيث اقتضت الأحداث بعد ذلك أن تهجر عكا نهائيا ، بعيد إنجابها لأبنتها الوحيدة داخل قاعدة عسكرية  في 1948 – هي نفسها جولي –  التي التزمت بتنفيذ وصية الأم ، جاءت تحمل رماد الأم في قارورة بهيئة تمثال وهي تصعد درج المبني باتجاه البيت القديم الذي هجرته عائلة جدّها لأمها منذ ستين سنة .
 
    وهكذا حققت الحركة الأولى في الرواية التي اقترح لها المؤلف هذا الكونشرتو السلّمي ، لتقبض على واقعية عالمها بطريقة تحقق إلى حد كبير تناغما شديد البراعة من حيث التنقل بين الأمكنة والشخصيات وربطها بالوقائع وما يتخللها من مشاهد ولقطات برعت في تجسيد شخصياتها وتكثيف عديد الدلالات ، فضلا عن استدعاء التاريخي  من أحداث وشخصيات ، معظمها ذو صلة بتأثيث الهوية ولملمة شظاياها . ضمن انمامها بتوصيف المجتمعي بكل مكوناته الثقافية ، والتوغل في تشخيص الشتات والغربة ، سواء في الخارج أو الداخل . الحركة الأولى حافظت على سياقها ، وهي تلعب على مجموعة من التيمات كوحدات مؤسسة لمقتضيات السرد ، واستطاعت باقتدار أن تسطر أكثر من مقولة ، ورسالة من دون أن تخل بما هو ممتع وشيق  ومؤثر فنياً ، معبّرة عن خبرة رصينة في استدعاء أطراف واقعها عبر تجميع مواده وتنضيد صوره وشحنها بتلك الطاقة ذات الحمولة الحارة شعريا .

    لكن حالما تدخل الرواية في حركتها الثانية حتى يختل ميزان العمل ، وتفقد العملية السردية تلك الوتيرة التصاعدية في إنماء عالمها . عبر إقحام شخصية  ( جنين ) كرواية داخل رواية ، لها أسئلتها الموزعة بين عالميها الافتراضي ، والواقعي كمحاولة  تفشل في ترتيق ذلك الاتصال الذي يتوق لخلق قدر من الارتباط على نحو ما بشخوص الحركة الأولى ، لكنه في الآن يسحب الرواية إلى حافة الهشاشة ، والتي ما تلبث أن تنحدر إلى علاقات مفككة ، سواء على مستوى السرد أو تطور الشخصيات والوقائع ، وتنجر في بعض مقاطعها إلى الثرثرة وتكرار المعلومة ، كأن ثمة مقاطع تم إقحامها عنوة مما سبب في هلهلة النسيج ، إلى حد غاب معه التماسك الفني والموضوعي في الآن نفسه . لأننا لو قمنا بعملية جرد لعديد الوقائع والشخصيات بدءا من الحركة الثانية سنجد بأن بعضها لا يخدم السياق ، ولو تم حذفه لحافظت الرواية على تماسكها وترابط أحداثها . وبدأت تضعف ، أو تتلاشى تلك الرصانة التي وسمت القسم الأول عبر الانجذاب للتجريب ، والذي جاء كشكل من اللعب لا تحتمل الرواية إيواءه . أو هو بالأحرى لم يكن متناغما مع السياق الفني الذي اقترحته الرواية على نفسها  . ناهيك عن التورط أحيانا في حوارات هي أشبه بالثرثرة العابرة ، كما هو الحال في تداعيات الحديث  غير المجدي في معظمه  مع راكب في طائرة . وإقحام الكاتب لنفسه في تفاصيل داخل النص جانبتها حظوظ إثراء  عناصرها الدرامية . وبالمثل اندرج توظيف رواية أخرى داخل الرواية . ولعل هذا الإغواء للتدليل على العالم الافتراضي داخل المتخيل نفسه إربك مسألة التحكم في مسارات النص وإنماء مقولاته نتيجة للخوض في سير عديد الشخصيات العابرة . هذا التكديس للأمكنة والوقائع والأسماء كان له تأثيره السيئ على معمارية رواية مصائر .

    كان حريا بالكاتب أن يتشبث بجولي لتكون محورا عوضا عن زوجها وليد ، باعتبار أن جولي هي الخطوة الأولى في درج البناية الأصيلة ، كمجاز لبناء مصائر كرواية . وأن دورها لا يقتصر على دفن رماد جثة أمها بل هي تكتشف من جديد مسقط رأسها .  فجولي التي تقع تحت تأثير أصول مختلطة ، باعتبارها نصف فلسطينية ، ارتهنت في لحظة ما لتنفيذ وصية أم ميتة لكي تدفن رمادها في عكا . كم كانت شخصية ( معلومات ، فاطمة ) قابلة لمزيد من الامتلاء والتأثيث لكي تحتل دورا أكثر محورية ، كم لو أن الأمكنة ، تلك التي تستعاد كان يمكن أن تحيا مرة أخرى عبر هذه الشخصية التي خضعت لإهمال مبكر من طرف السارد . ولم يوليها الإنصاف السردي ، كاستحقاق تقتضيه ضرورات فنية . لتشكل أكبر فجوة في عمارة هذا المتن ، أدت بالتالي إلى ارتكاب عديد الفجوات والفراغات الشبيهة ، والتي مر بها الكاتب مرور الكرام مستسلما لتلبية تقطيع تلك الرواية الموازية داخل الرواية نفسها ، ليقحم شخصية ( باقي هناك ) وغيرها من الشخصيات الافتراضية لترصّ دونما أي مسوغ نسيجي يجعلها تتشابك ولو ذهنيا في الحد الأدنى . بينما في رأيي تعد محض مادة خام ، كان في الإمكان تأجيلها لمشروع مختلف عبر كتابة سردية أخرى ، لعله سيكون مختلفا لو أعتني به ، ليحافظ على استقلاليته كرواية إضافية يمكن للكاتب أن يهبها ما يليق بها من الاعتناء لكي تكتمل بمعزل عن خارطة مصائر .

    خاتمة الرواية والتي هي الأخرى تندرج بمثابة  - عود على بدء -  لأن جولي التي كما جاء في الحركة الأولى قد أفلحت في إيداع تمثال القارورة الذي يحتوي على رماد جثة الأم الميتة في بيت العائلة القديم . هذا ما قالته لزوجها وليد ، بل ذهبت إلى أن العائلة التي تسكن بيت جدها ، تعتزم تحويل البيت إلى فندق يحمل اسم الأم . الأمر الذي يعزى إليه من ثم تحوّل جولي نفسها ، لحظة أن أحاطت زوجها برغبتها في الانتقال من لندن والاستقرار بعكا .  لكن سنكتشف أخيرا ، بأن جولي تحتفظ بحكاية أخرى . لحظة أن تفشي بأن العائلة التي تحتل بيت الجد كانت يهودية ، حيث فوجئت بزوجين عجوزين  كريهين ، أسفرت مهمتها أخيرا عن تعذر الوصول معهما إلى أي تفاهم بشأن دفن رماد الميتة ، كفكرة قوبلت باستهجان بالغ العداوة ، ولاسيما من طرف الزوج العجوز الذي دفع جولي بعنف ، مما ترتب عنه سقوط القارورة وكسرها وانتشار الرماد الذي تكفلت الريح بمهمة حمله في جو عكا .  

      وهنا تماما ، يسمو الكاتب باللحظة الخاتمة ، واختزال دلالاتها بتوقيعة شعرية في غاية الكثافة والجمال ، لجأ إليها - ربما تحايلا - لوضع حد لتلك المشاهد واللقطات التي لن تتوقف . لأن ربعي المدهون إذا ما ذهب أكثر في هذا  التواطؤ مع تلك الوتيرة التي تفاقم هياجها بعد الحركة الأولى ، كان يمكنه تدوين عشرات المجلدات من دون أن يصل إلى خاتمة مقنعة ، يمكنها أن تضع حدا لهكذا مجانية ، كادت أن تُفقد السرد نصف مهابته وجماله.

 ___ 
10 مارس 2016.
جاءت هذه الملاحظات على هامش قراءتي لرواية ( مصائر ) عندما رشحت للقائمة القصيرة ( البوكر العربية 2016 ) ، أي قبل فوزها بالجائزة .

الاثنين، 20 مارس 2017

يأخذ المرأة كما هي


مفتاح العمّاري




__________   يأخذ المرأة كما هي


باختصار ،
أنا الفتى نفسه ،
الجندي المهزوم الذي آزرني لكي أضيع ،
فأر الثكنات ،  قارض العزلة.
برهان النوم  في عهدة الريح ،
الخاسر دائما ،
حيث الأحلام  شيخوخة تزهر  .
**
الجندي نفسه ،
السعيد ، يهب يده للجرحى ،
الساهر  ، يترك الخيار لعينيه تعصران الكتب
حتى آخر قطرة ظلّ .
لكي لا تصبح الموسيقى بلا عائلة ،
والجسد تاريخا للفراغ .
**
هو نفسه :
الروح الطائشة بألم .
الألم الشجاع ، دائما يبتسم .
الصبور على ضراوة الخيال ،
كمعنى أن تجد خبزاً في القصيدة .
**
يقود الكلمات من حلمتها
إلى أن يدمى صوتها من فرط النشوة .
ومن باب الإنصاف في توزيع الألم ،
ظلّ دهراً ، ينتقل من نهد إلى آخر .  
**
الفتى نفسه  
العائد من الحرب بأكثر من ذاكرة تنزف
عرف الكثير من النساء  
بعضهن قصيرات  ،  وحزينات بلا حائط
يسقط في شباكهن عن طيب خاطر
حيث الخضوع مفتاح البهجة ..

يأخذ المرأة كما هي
بذاكرتها المجروحة وقلبها الأعمى .
كما لو أن الحب صلاة استسقاء
أو كصنف شهي لمقارعة الخوف ،

واللعب بالمستقبل .

الثلاثاء، 14 مارس 2017

قصيدتان في " الحياة والأساطير " الأمريكية .ترجمة : نزار سرطاوي



"I love the handful of earth you are." ~ Pablo Neruda


Muftah Al-Ammari



BIO
Muftah Al-Ammari is a Libyan poet, novelist, short story writer, playwright, literary critic, and scriptwriter for television. He was born in Benghazi in 1956. After completing his elementary education, he left school, and was enlisted in the Libyan army. As a soldier, he participated in the Chadian war.
A member of Libyan Writers Association, Al-Ammari has served as a consultant for several cultural institutions in Tripoli. He has participated in numerous literary and cultural events and festivals in Libya and other countries, including Iraq (1987, 1998), Syria (1988), and France (2001, 2003). His works have been published in Libyan and Arab print and electronic newspapers and magazines. In 2010 he received the State Appreciation Literary Award, Al-Fateh, and in 2012 he received Arcano Poetry Journal Award.




“An Old Dog barking to Give a Piece of Advice”

Like any neglected day
“an old dog is barking to give a piece of advice”
I point precisely at the direction stained with mucus and layers of nicotine,
the broken window in my heart,
at the balconies of Tripoli, throttled with the clouds of smoke rising
from the oil reservoirs that bombs have destroyed.
Like this: an old dog in a refugee room
patiently writes “Three Ants Passing Through A Book”
where the soldier’s biography will not be tolerant at all
I always think of words
as a battle between ferocious tribes
and, paradoxically:
as a lifeguard ring to defeat cancer
That’s why I’m a bad lover
and a poet who doesn’t abide by the teachings of show generals
and who is not very optimistic
not about the burden of backwardness being removed off the imagination
just because the poet, not the soldier,
is the one by who will take the death lying in ambush for languages unawares
to finally come back from the “Martyrs Square”
with a bouquet of roses and a tale glorifying the pottery maker
crafting safe homes for the nationals of emptiness.
Since water without a well-made jar is but a blind monster,
it gives clay the body of a woman with a glittering waist,
a traveling neck, and compassionate hands.
I mean the pottery maker forgotten in the clamor of war.
Since water is also fire’s twin,
it becomes a ferocious, malicious animal
if we let the canopies of grapes dry by themselves.
Thus,
Whenever we add a gallows, we lose a tree.
Whenever we build a prison, a park disappears.
Like any neglected day:
“an old dog is barking to give a piece of advice.”


.
Pomegranate Tree
He was a pomegranate tree
He gave me a branch, and said: Learn
I remained awake like sap until he grew up,
and in the twilight phase he became the breast for the prettiest female.
**
When kinship was a worship
I did not recognize him though he is my kinsman.
He gave me a name
and said: run
and I walked.
**
When he gave me an armor
my leg was amputated in the war,
and now my cane is taken from his garden
my shadow belongs to him
and I never settle down
**
Whenever I realized his worship
He became more distant
**
As if Eve has inserted embers in his nest
he went in delirium for a whole age
I listened to the voice of his hands
until his image turned into ash
and I could not see any trace of the words
while they were between water and clay
save the destinies of my face
My language was cleft into two halves
or more.
I usually walk alone
two souls in one body,
The wind gestures
and the reader gets tired.

*****
ترجمة الشاعر : نزار سرطاوي