وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الخميس، 27 أكتوبر 2016

فرمان " حريّات مقيّدة " في مديح صاحبة الجلالة


                                                                             مفتاح العمّاري




فرمان " حريات مقيّدة "
في مديح صاحبة الجلالة  


    قديما ، أي قبل أربعة آلاف عام دوّن البابليون والآشوريون قوانينهم ، ووقائع زمنهم ، وأخبار حروبهم ، وبطولات ملوكهم وفرسانهم باستخدام الحجارة والطين . تلك المدونات كانت بمثابة إرهاصات أولى مهدت لاكتشاف الصحافة . فيما بعد ، وخلال سنة 1750 ق م ، استخدم الفراعنة ورق البردي في تحرير صحيفتهم الرسمية والتي كانت تسمى : صحيفة البلاط . ثم توالت الفتوحات تباعا ، من الصين إلى روما ، حتى منتصف القرن السادس عشر الميلادي ، حين توصلت أوربا لصناعة الصحافة الورقية بشكلها الحديث .
    كان على العرب انتظار دخول المطبعة إلى أهم عواصمهم الثقافة ، لكي تصدر  " الوقائع المصرية " ، في القاهرة  سنة 1828 ، كأول جريدة مصرية . وقد وصلت منها بضع نسخ  في سنتها التالية إلى ولاية طرابلس الغرب ، مرسلة بشكل شخصي إلى أحد أعيانها . في ذلك الوقت كان الطرابلسيون يطلقون على صاحبة الجلالة اسم : كازيطه . فوقتذاك لم يكن مصطلح (الجريدة ) قيد التداول . واستئناسا برأي الباحث المدقق : عمار جحيدر ، فأن تثبيت مفردة  الجريدة ، كمصطلح لغوي جاء بفضل : أحمد فارس الشدياق ، الذي أطلقه على العدد الأول من صحيفة الجوانب ، التي ترأس تحريرها  باستانبول سنة 1861 .
   في ليبيا عرفت ولاية طرابلس الصحافة كصناعة محلية خلال العهد العثماني الثاني ، وفقا لقانون ( حريات مقيدة ) كأول فرمان للسلطنة العثمانية  ينظم الصحافة ، أصدره السلطان عبد العزيز سنة 1865. وهكذا  ولدت الصحافة الليبية بلسان  تركي عربي ، عبر أول صحيفة رسمية ، صدرت تحت اسم  ( طرابلس الغرب ) في العشرين من شهر سبتمبر 1866 . لتأتي ليبيا في الترتيب السادس عربيا ، بعد مصر والجزائر ولبنان وتونس وسوريا . ومن البديهي أن يرتبط تطور ونمو هذه الصناعة محلّياً بدخول المطبعة الحديثة عوضا عن الحجرية لتتوالى عناوين الصحف والمجلات ، بين رسمية تصدرها سلطاتُ الدولة ، وأخرى خاصة ، يصدرها أشخاص أحبوا هذه المهنة وأخلصوا لها ، ولاسيما في فترة أواخر العهد العثماني الثاني ، والتي شهدت زخما استثنائيا من حيث عدد الصحف في فترة قصيرة جدا لا تتجاوز ثلاث سنوات ، استئناسا بالدستور التركي الجديد (1908)، والذي فتح هامشا للحريات . حيث شرعت العاصمة طرابلس تؤثث مشهدها الثقافي كمدينة عريقة ، وعاصمة لها ما لها من عتاقة التاريخ ، ولعلها الآن تُعَد ثاني أقدم عاصمة تاريخية لا تزال مأهولة بالسكان بعد دمشق . ولا شك أن حراك الصحافة قد أسهم في أحداث متغيرات اجتماعية وثقافية ، كان لها تأثيرها في عملية إيقاظ الوعي وتحريك الحس الوطني . فمقاهي المدينة وأنديتها وصفوةُ مثقفيها ، فضلا عن تجمعات الأدباء والكتاب ،  بدت أكثر انتعاشا واستجابة لفعل الكلمة . لكن أنفاس صاحبة الجلالة ما تلبث أن تكتم تماما في عهد الاحتلال الايطالي ، جراء الممارسات القمعية .
    خلال فترة الإدارة البريطانية على إقليمي برقة وطرابلس ستستعيد الصحافة الليبية شيئا من هامشها وتعود للصدور ، وإن ظل الحيز المتاح لحرية الرأي بين مدّ وجزر ، مشروطا في الغالب بثوابت سنّتها قوانين الإدارة . هذا الهامش سيشهد حركة أكثر انتعاشا بعد الاستقلال ، وبالمثل سينعكس على انتظام صدور الصحف وتنوعها . لكن بعد انقلاب سبتمبر سيهيمن مرة أخرى فرمان (حريات مقيدة ) بطريقة أشد وطأة وأكثر دهاء وبشاعة ، عبر ممارسات تضييق الرقابة وإقفال الصحف الخاصة وتحجير الرأي .
    بعد ثورة السابع عشر من فبراير ، استبشرنا خيرا خلال السنوات الثلاث الأولى ، لكن يبدو أن لعنة فرمان ( حريات مقيدة ) ما تزال متربصة بالحياة الصحفية في ليبيا . ويكفي الإشارة هنا إلى حملة استهداف الصحفيين والنشطاء الوطنيين ، والتي وصلت إلى حدّ الاغتيال والخطف والاعتقال والتعذيب .  مما أدى إلى نزوح وهجرة أغلب النخب المثقفة من صحفيين وإعلاميين وأدباء وكتاب إلى خارج البلاد . وتلك حكاية أخرى .    
     لست هنا في مجال التأريخ لصحافة ليبيا ومسيرتها التي تربو على قرن ونصف القرن . لكنني فقط أردت من جهة الاحتفاء بهذه الذكرى ، ومن جهة أخرى التذكير بأن مهنة الصحافة ينبغي أن يردّ إليها اعتباراها ، ليس من مؤسسات الدولة وحسب ، بل من العاملين بهذا الحقل ، ولاسيما الكتّاب الذين أمسوا ينحرفون بعيدا عن ميثاق شرف الكلمة . فلكي تتوحد ليبيا ، وتحقق أمنها واستقرارها ، تقع مسؤولية جسيمة على عاتق أهل المهنة ، بأن ينأوا عن ألاعيب التضليل ، وأية شيطنة من شأنها ضخ الفتن ، ونعرات الاصطفاف القبلي والمناطقي والأيديولوجي . عليهم فقط أن يصطفوا مع وحدة ليبيا ، وأن يضعوها نصب أعينهم ، ثم ضميرهم . 

¨      

الثلاثاء، 4 أكتوبر 2016

الحطّا ب : حوار سالم أبوظهير


ليبيا المستقبل | 2016/09/29 على الساعة 01:08


الشاعر : مفتاح العمّاري



 مع "حطاب الأرض الوعرة" الشاعر الليبي مفتاح العمارري   
            حوار: سالم أبوظهير




المتابع للشأن الثقافي العربي والليبي يشكل خاص، لايمكنه ان يحك راسه ليتذكر أجابة سؤال: من هو مفتاح العماري؟ فالاسم وليبيته تكفي، ورغم انه كتب القصة والرواية والمقالة الصحفية، واهتم بالنقد واشتغل به، كما كتب للمسرح وللتلفزيون، لكنه معروف أكثر  كشاعر، لذا في هذه المساحة سنحاور العماري الشاعر فقط... ومباشرة اطرح السؤال التالي:
- لديك تاريخ مهم في الإبداع فمن علمك الشعر؟ ومتى اكتشفت انك شاعر حقيقي،؟ وما هي العوامل التي ساعدت وساهمت في تشكيل تجربتك الشعرية؟
"القراءة، لا الكتابة هي شغلي الشاغل"... "شغف القراءة وتجاربي في الحياة ساهما في تشكيل تجربتي الشعرية"
 فقط كنت أطمح لمحو أميتي، وأن أتعلّم على الأقل، وبشيء من البساطة: كيف يفكّر هؤلاء الذين في مكنتهم إيواء قدر كبير من الخبرات في كتاب صغير يمكن قراءته في بضع ساعات. من هنا بدأت أسفاري مع الكتب، والتي أدين لها بالكثير، كصاحبة فضل في هذه الرحلة التي بدأت منذ السنوات الأولى من عشرية سبعينيات القرن الماضي. لم أضع في حسباني بأن علاقتي مع الكتب، ستتحول إلى شغف مزمن. غالبا لا أفهم ما أقرأ. وهذه المعضلة بدأت مع مرور الوقت تخفّ تدريجيا، وان لم تنته تماما. حتى الآن أقرأ كتبا، أحيانا يصعب فهمها. لا يوجد في ارثي العائلي ما يشير إلى أي سلالة ذات صلة، حتى ولو عابرة بالقراءة. بعد أن غادر أبي البيت إلى مثواه الأخير، كان علي باعتباري الولد البكر والصبي العجوز، ترتيب الفوضى الناتجة عن فقدان أب لم يعمّر طويلا، مما يستوجب أن أكون أبا، وعائلا. فكان من المتعذر التمتع بمواصلة الدراسة. فقط تحصلت على الشهادة الابتدائية، ثم تخليت عن المدرسة، وبالمثل تخليت مبكرا عن طفولتي وأمنيات صغيرة لم يعد في وسعها أن تتربى وتنمو في كنف العوز. أحيانا يظل من الترف أن تحلم فوق طاقتك. لكن لا بأس طالما في الإمكان التحايل لاستضافة كتاب، سواء كان مُلكاً، أو معارا، أو مسروقا. المهم أن تقرأ. وعبر مكابدة الهضم التي كنت أعانيها لامتصاص أكبر قدر من المعرفة، بدأت مؤشرات المحاكاة، والحاجة لقول شيء. هكذا تخلقت ونشأت لعبة الكتابة في أول الأمر، اعترافيه وذاتية غالبا، وربما ساذجة بعض الشيء في طريقة بوحها وطرح أسئلتها القلقة، لكنها كانت بالنسبة لي  تعني الكثير. أما فيما يتعلق بالعوامل التي أسهمت في تشكيل تجربتي الشعرية، يمكن إحالتها بإيجاز إلى شغف القراءة، فضلا عن تجاربي في الحياة بكل مكابداتها الشرسة، كذلك إلى مؤثرات السيرة المشتركة التي رافقت البدايات الأولى، بيني وبين الصديقين الشاعرين: فرج العربي، وفرج العشة، في مدينة البيضاء.
- هل كان ثمة رابط خفي أو ظاهر بين  كونك جندي يقاتل بالبندقية، وشاعر يصنع الحياة بدفتر وقلم حبر؟
"تجربتي الطويلة في الجيش كانت مريرة وقاسية، لأنها سلبتني حيزا كبيرا من إرادتي"...
• كانت تجربتي في الجيش أكثر من مريرة وقاسية، لأنها في الحدّ الأدنى، سلبتني حيزا كبيرا من إرادتي، فالمؤسسة العسكرية الليبية  تبعا لتقاليد الثكنات، محض معقل لتجفيف الأحلام، وهدم للشخصية الآدمية عوضا عن بنائها. عانيت الكثير من المصاعب والتحديات من أجل الحفاظ على خصوصيتي وتميّزي، وأيضا حماية  قصيدتي من التلف. ولست أدري أي شرف يمكن ادعاءه لحظة أن تزج في حروب ظالمة كتلك التي وجدت فيها نفسي مرغما في صحراء تشاد. وأنها لمفارقة شديدة الغرابة تلك التي تضعك على تماس دائم لتزييف إنسانيتك، ومن ثم  لخيانة الشعر. لذا لن تكون حربك فادحة وحسب، حين تخوض قتالا مصيريا ضد نفسك، لكي تحسمها أخيرا، وبشق الأنفس، منحازا للشاعر، لا الجندي. أظن أن معظم ما كتبت هو بمثابة تدوير لميراث الثكنات، تماما كتدوير القمامة للخروج في المحصلة بمشتقات مفيدة وأكثر جدوى. فأن تقضي (رغما عنك) قرابة عشرين عاما  كجندي في الجيش، ثم تخرج وقد انتصرت للكائن الآدمي الذي في داخلك.. لهو حدث - بالنسبة لي - شبيه بالمعجزة.
"(رجل بأسره يمشي وحيدا) قصيدة جعلتني أكتشف قيمتي كشاعر"
هكذا كانت معركتي، وهذا ما حاولت تلخيصه عبر الكتابة شعرا ونثرا. وحتى أن خرجت مهدما وبائسا وخائبا، وأن جزءا من عمري ذهب هدرا، لكنني فقط احتفظت بالقصيدة، وهذا يكفي. صحيح - وقتذاك - لا بيت لي، لا أحلام، لا نقود، لا مؤهل علمي، لا أبّ، لا عشيرة. لكن أينما ذهبت، لا تخلو حقيبتي من كتب وقصائد. في مطلع التسعينيات اقتضت مخيلتي وتطلعاتي أن أبدأ من جديد. اقتربت أكثر من طرابلس، تعرفت على أصدقاء جدد، وسافرت كشاعر إلى عواصم وجزر وبلدان أكثر تهذيبا ونعومة. فبعد احتفاء استثنائي خصتني به تونس، بدعوة من اتحاد كتابها.أشهد بأنني قد انتشيت، ولأول مرة بقيمتي كشاعر، وأيضا  بقصيدتي "رجل بأسره يمشي وحيدا". وتلك كانت أشارة أخرى.
- الشاعر مقتاح العماري، يساعده الماضي القريب والبعيد ليكتب الشعر ويؤرخ للحاضر وربما يتنبا بالقادم فنقرأ شعره الذي يكتبه لنا... ولكن لمن يقرأ مفتاح العماري قبل ان يكتب لنا؟
"أحاول ما استطعت الإخلاص للتعامل مع قصيدتي كتجربة لتاريخ شخصي"
• بالطبع نحن في النهاية خلاصة  ذاكرة. وسواء كانت الذاكرة بعيدة أم قريبة، تظل في كل الأوقات وعاء تجارب وخبرات.  ولعلني في معرض إجابتي على سؤالك الأول أزجيت مديحا خاصا بتكريم القراءة، كإنصاف أحاول من خلاله ردّ الجميل  للكتب وحدها التي علمتني، دونما تحديد لأسماء وعناوين. كنت فقط، أريد الاعتراف بأنني في المحصلة مجرد قارئ لا يتوقّف عن التعلّم. وأن القراءة، لا الكتابة هي شغلي الشاغل. من حكايات ألف ليلة وليلة، وأشعار الشابي، والمتنبي، والشنفرى، ومولانا جلال الدين، وبورخيس الى كتابات: يوسف القويري، والنيهوم، والفاخري، ورضوان، والكوني،   فضلا عن المترجم من الأدب العالمي من روايات: ديستويفسكي، انطونيو سكارميتا، وزافون صاحب رواية (ظل الريح)، والأعمال الكاملة لرامبو، وتشارلز سيميك، الخ. أحاول دائما الإخلاص للقراءة، والبحث عن أدوات أكثر قرابة وألفة واستئناسا في التعامل مع منتخبات الكتب التي أبحث وباستمرار عن جديدها. أما فيما يتعلق بالكتابة فأنها حتى ولو كانت محض تأويل يعيد إنتاج المقروء، كعملية تفاعل للتناص ستنبني حتما على صهر لخلاصة  جملة من المرجعيات الثقافية - مدوّنة أو شفوية -. لكن ما يكفل للكتابة أصالتها، ومبرر تحققها يكمن تحديدا في إضافة  حياة جديدة. وهنا لا يتعلق الأمر فقط، أو يتوقف عند حدود المعنى وحسب، بل يرتبط بتكريم اللغة ذاتها. فعلى الكاتب لكي يكون كاتبا صالحا للتداول أن يمشي أبعد مسافة ممكنة في أقاليم اللغة، أن يسبر أسرارها، ويكسب تعاطفها وودّها من ثم، لكي تهبه مفاتيح كنوزها. هذا ما أحاول معرفته كقارئ، وكاتب في الآن نفسه.
- أي أنواع الشعر يحب أن يكتب العماري؟
"عانيت الكثير من المصاعب والتحديات من أجل الحفاظ على خصوصيتي وتميّزي"
• حتى لو افترضنا أن قصيدة النثر نوع شعري لوحده، وليس فرعا، أو نسلا ينتمي لسلالة عربية أصيلة. فأنني وبالاستئناس لآخر منجزات القصيدة الشابة، باعتبارها إطارا معرفيا، ليس لاختزال مفاهيم الشعر التي يصعب فهمها، بل في الحد الأدنى كشكل أدبي يتناغم مع إيقاع عصره، وثقافته، والأكثر انسجاما - في الوقت نفسه - وتلبية  للمخيلة الشعرية. لا أحبذ هنا الخوض في تفاصيل نظرية متشابكة، فقط وباعتباري أحد المقيمين داخل عمارة القصيدة الجديدة - هكذا أدعي - أحاول ما استطعت الإخلاص للتعامل مع قصيدتي كتجربة لتاريخ شخصي، وخبرة باللغة لا يعوزها الطموح في تحويل الكلمات إلى مناطق حارة، وغابات مكتظة بكائنات حية، وأشجار في وسعها أن تحلم باستضافة الموسيقى لا فرق القتلة والحطّابين. ربما أفعل هذا، كرد اعتبار لحلم الشاعر الذي حاولت المؤسسة تجفيفه، وتهميش دوره والحط من شأنه وتتفيه فاعليته، أعني المؤسسة بكل مسمياتها وتفرعاتها الرسمية والاجتماعية، بما فيها الميراث الديني، والفلسفي، من أفلاطون إلى وزراء الثقافة، مرورا بسقيفة الفقيه، وأروقة السلف الصالح. صحيح: في زمن لم يعد فيه للشاعر أي معنى، قد يعد التشبث بالقصيدة ضربا مستهجنا من الحمق، وربما الدروشة، لكن وعلى الرغم من ذلك لا أجد أيما غضاضة في مواصلة الكتابة الشعرية، ولاسيما ضمن هذا الشكل الذي يندرج اصطلاحا في مسمّى قصيدة النثر.
- ما حدث ويحدث في البلاد الليبية من ظروف صعبة منذ بداية 2011م الى الان، هل يحبطك كشاعر ويخنقك حروفك وكلماتك ويمنعك من الكتابة او يعيقها لتكون كما تحبها أن تكون؟ ام انك تستمر هذا الإحباط وتزينه بالشعر؟
"لنعترف بأن الثورة التي ضحينا من أجلها 
بأرواح شبابنا قد خُطفت  أو سُرقت"
• أن تتضافر الفوضى  والحرب والسرطان في صناعة هذا القدر المهول من التهدم والخراب، لا شك أنها مصيبة. ولا شك أيضا ستشعر وبمرارة بأنك الكائن الأكثر فاجعة وخسرانا وإحباطا، لاسيما عندما تتفسخ القيم التي كنا نعول عليها كمجتمع ليبي، أي حين كنّا نظن على نحو ما بأننا نتمتع بشيء من الطيبة والتكافل والتسامح والإحسان. لكأن اللعنة قد حلّت بهذا الوطن، لنمسي شتاتا لا أين لنا. علينا الآن أن نعترف بأنها قد خُطفت، أو سُرقت تلك الثورة التي ضحينا من أجلها بأرواح شبابنا، خطفت وسرقت منذ شبهة الترحيب بجولات الصهيوني: برنار هنري ليفي، وهو يتفقد صحبة القادة العسكريين والسياسيين جبهات القتال وغرف العمليات. منذ تسلل أكثر من اسم غامض وخفي إلى قائمة المجلس الانتقالي. منذ توغل أكثر من جماعة متطرفة، وحزب عميل، وتنظيم خائن. منذ تواطؤ أكثر من شيخ قبيلة، وزعيم مرتشي. منذ أن تغلغل أمراء الحرب في دهاليز السياسة وكواليس عصابات المافيا، منذ أن تفشت معاجم الكذب وأوبئة الزيف وفيروسات الدعارة السياسية.
منذ أن سقطت أقنعة بعض النخب من مثقفين ونشطاء ومناضلين مزيفين. وأيضا: منذ أن تدخلت أكثر من دولة خارجية في تصريف أمورنا، وتوجيه سياساتنا، قد تردّت أحوالنا، وفسدت ضمائرنا، وتفاقمت أزماتنا. هكذا ضاعت ليبيا يا سيدي. اقتُلعت مدن، وهُجرت أقاليم بقضها وقضيضها، وذهب شبابنا حطبا رخيصا في حروب وفتن ونزاعات تفنّن صانعوها في حبك دسائسها وتأجيج أحقادها. هكذا بين خرابين، سرطان بلادي، وسرطان جسد ي، حيث يتعذر الدواء، ويضيق المأوى، ولا تجد من يزورك أو يصغي إليك لحظة أن تحوّلت الأنباء إلى حرائق ومجازر وكوارث وجرائم وجنازات، ومدننا إلى حطام ونفايات وظلام دامس، وعيشنا صار ضربا من القهر اليومي، حيث لا شيء غير المهانة والذل. وفيما كان سماسرة الفوضى وتجار الحروب يستولون على ثرواتنا، اختزل ما تبقى من أحفاد المختار في طوابير تعيسة أمام المخابز والمصارف وموزعي الغاز ومحطات الوقود.
"أتمنى أن أرى حملة الكلاشنكوف، قد تخلوا عن بنادقهم ليتفرغوا إلى تنظيف شوارع مدنهم من نفايات الحرب ومكبّات الفوضى"
لكم تمنيت أن أرى مسؤولا واحدا، يقف في طوابير الخبز، ولو من باب جبر الخواطر على الأقل. نواب لا يجتمعون إلا بشكل موسمي فيما يتقاضون رواتب ومزايا - وفي أشد فترات الأزمة - تقدر بعشرات الآلاف؟ فماذا تنتظر من شاعر عليل مثلي - لا حول ولا قوة له - أن يفعل سوى أن يلجأ إلى قصيدته، ليس لتغيير واقع، أو تحريض جماهير للخروج في مسيرات يمكن لأي مسلح مراهق - وبدم بارد - أن يحصدها برشاش الميم، طاء، وهذا ما حدث يا سيدي في بنغازي وطرابلس. حيث لا ضير في ارتكاب المزيد من الذبح والهدم والحرق والتخريب. هكذا جماهير فقدت ثقتها بقادتها ونخبها ومثقفيها وبنفسها أيضا، لا أظن بأنه مازال  في وسعها الترحيب بقصيدة شعر طالما ثمة أكثر من وحش متربّص، قد ينقض في أي لحظة على ما تبقى من أحلام بائسة. لا شيء إذن. فقط أكتب، ربما لترميم عطبي الخاص، ربما لأنني قد تورطت في الكتابة، ولا أجيد أي عمل آخر.
- الشعر القصة الرواية المسرح التشكيل وكل اجناس الفنون والثقافة والابداع، التي تعبر عن  الحركة الثقافية في ليبيا كما البلاد الان ليست بخير، سؤالي هل يمكن لهذه الاجناس ان تنقذنا من مازق الفوضى والارباك؟ وهل يمكن للثقافة بالمجمل ان تكون حيوية ومؤثرة، وتنجح في تطبيب السياسة والاقتصاد والاجتماع وترسم لنا حاضراً رائعا وغدا اكثر روعة؟ وكيف يمكنها فعل ذلك من وجهة نظرك؟
• أي عاقل صقلته التجارب، سيقول لك: علينا أولا أن نكون مؤهلين لإدارة الأزمة. بالطبع لو توفّر لنا القليل من الحكمة، من الإيمان بالوطن، والثقة في من نوليه شؤوننا. لو نملك القليل من التسامح والتضامن، والحب، يمكننا حينها أن نفكّر على الأقل في إقحام الأدب هو الآخر، وبكرامة، في خوض معركة إنقاذ البلاد من محنتها. يقول نيتشه: من دون موسيقى تصير الحياة بلا معنى. لكن كيف يكون ذلك  في مجتمع لا يجيد الإصغاء، وبالمثل لا يعوّل كثيرا أو قليلا  على الأدب بكل مشتقاته.؟ كيف يمكن تربية الفن في بيئة دأبت على ازدراء الجمال، وتحقير المشتغلين في حقله؟ لهذا علينا الاعتراف أولا بالأدب كضرورة، أن نوليه حيزا مهما في مخططاتنا وتصوراتنا وسياساتنا وبرامج عملنا، أن نحترم الكِتاب ليكون حاضرا بيننا، ونعيد الاعتبار للفئات المنتجة للفن، أن تكون صناعات المخيلة جزءا فعالا في نسيجنا. لأن المشكل أولا وأخيرا انعكاس لخلل في ثقافتنا، وفي معاييرنا وأحكامنا ونمط سلوكنا. لهذا نحن نتفنن في صنع الطغاة، لا الشعراء. فعلى الأيادي التي رحبت ببرنار هنري ليفي، أن تكفر عن ذنبها الآن، لتبدأ على الأقل برد الاعتبار للشاعر المهاجر: عاشور الطويبي، الذي دُمّر بيته واحترقت مكتبته في أتون الحرب، من دون أن نسمع ولو نبرة احتجاج خجولة من مسؤول ليبي واحد، تشير ولو همسا، بأن ثمة جريمة ارتكبت في حق الشاعر. ناهيك عن غيره من شتات الأدباء والكتاب والمثقفين. لم يبق في ليبيا يا صديقي غير النزر القليل من الكتّاب المستضعفين الذين لا حول لهم، فقد هاجر جلّهم فارين بجلودهم، بعد أن تفشت وقائع الاغتيال والخطف والاعتقال ضد كل من تجرأ على التفوه بكلمة حقّ. المأساة أن بعض الذين هاجروا إلى الخارج قد رهنوا أنفسهم - تحت وطأة العيش المذل - لمؤسسات إعلامية وثقافية مشبوهة، وتهافتوا على منابر اللغو والثرثرة الإعلامية التي تؤجج المزيد من الفتن والفوضى. لكن وعلى الرغم من ذلك كله، فأنني أحيانا أقول لنفسي: علينا أن نتفاءل. كيف؟ لست أدري.
- حول التطور التقني وشبكة الانترنت، شاعرنا مفتاح له حضوره الواضح  بموقع الكتروني وصفحة تويتر برقم مهم من المتابعين والمتفاعلين، الى جانب صفحة محبي الشاعر مفتاح العماري... وسؤالي هل يخاف شاعرنا على قصائده وابداعه من ضجيج الشبكة العنكبوتية وعدم القدرة على ضبطها والتحكم فيها، أم انها بديلاً مناسب للقلم والورقة  في التواصل بينك وبين جمهورك؟
"مدونتي (وسادة الراعي) ضمن مقتضيات افترضتها ظروف العزلة"
• ثمة صفحات تحمل اسمي في الفايس بوك، لست أدري كيف ظهرت. ربما اقترحها محبون ومعجبون، وهذا شيء يدغدغ غروري، على الرغم من أنها لم تُحدث، وبدت لي في الآونة الأخيرة، لكأنها محض بيوت مهجورة. فقط لجأت مع بداية هذا العام 2016 لفتح حساب باسمي على التويتر، وقبلها بادرت أيضا بفتح مدونة متواضعة على البلوجر، تحت مسمّى "وسادة الراعي"، كمقتضيات افترضتها صروف العزلة. فلا منابر هنا يمكن الاستئناس بها، أو الرهان على صدقيتها. وبالمثل ينسحب الأمر على منابر إعلامية ليبية في الخارج، طالما هي الريبة نفسها، لا تنفك عن الإشارة إلى ممولين، ورعاة مشبوهين، من دول لا تسمّى، ورجال أعمال، ونكرات من سقط المتاع، ناهيك عن سماسرة حولوا الإعلام إلى دكاكين صرافة، وتكيّات، وخلوات نائمة، وربما إلى مواخير وحانات لا تنام. وعلى الرغم من أنني وحدي، وأن تسليتي الوحيدة، حين تتصدّق علينا الكهرباء ببضع سويعات شحيحة، تكمن في انشغالي  كطفل يلعب بمخيلته، حيث ينصبّ اهتمامي في الغالب على تذكير قصيدتي بأنني لا زلت أبا حنونا، ومع ذلك لم تسلم مدونتي من (التهكير) والتحجير والتشفير، بين فترة وأخرى. لا أدعي بأنني في ميزان الأدب أو النشر الالكتروني: أساوي  مثقال ذرة. فقط أريد أن أحتفظ لنفسي بشيء من الاستقلالية، كخصوصية أدافع عنها بقوة، وأن أتعفّن على الأقل بكرامة، داخل بيتي، قريبا من كتبي وعائلتي وكلماتي الأثيرة، لهو أكثر شرفا من الانضمام إلى جوقة المزيفين ومروجي الفتن. فقط، لا شيء آخر.
- تم تكريمك بجوائز والقاب اكثر من مرة وفي أكثر من محفل، فما التكريم الذي تتمناه، وستعتز به أكثر لو حدث؟
• قبل ثلاثة شهور تخطيت الستين. ولا أظن بأن ثمة محفزات تجعلني  أطمح، أو سأطمح إلى هكذا تكريم. فقط أتمنى في يوم ما، وأرجو أن يكون قريبا، أن أخرج إلى الشارع، وارى السابلة، وقد انتبهوا كمخلوقات آدمية بأنهم قادرين على الابتسام مثلهم مثل غيرهم من بني جلدتهم.. عوض هذا التجهم، والكراهة ومشاعر العداء. أن أرى حملة الكلاشنكوف، قد تخلوا عن بنادقهم ليتفرغوا إلى غسل قلوبهم وتشذيب حدائقهم وتنظيف شوارع مدنهم من نفايات الحرب ومكبّات الفوضى. وأن أطفالنا آمنون في وطنهم، لا خوف عليهم من  الخطف، والرصاص الطائش. قد تعبنا. 

الأحد، 2 أكتوبر 2016

مفتاح العمّاري..ليس وحيدا

  بقلم  الكاتب : فرج عبد السلام 


الكاتب والمترجم : فرج عبد السلام 

___________   مفتاح العمّاري..ليس وحيدا

"باطل كل حكم لا يفضي إلي
وكلُّ احتفال بموتي هراء
الحبر مملكتي.."
الكتابة عن الشعراء عمل مشوب دائما بصعوبات متعددة المستويات، ما لم تكن من زاوية الاختصاص، أي عرض إنتاجهم للتحليل والنقد. ومثل كثيرين غيري نظرتُ دائما إلى الشعراء بأنهم أرواحٌ شفيفة، يوظفون موهبتهم ومعارفهم الحياتية في صياغة لغة بأسلوب بديع تجد هوىً في نفوسنا، حتى وإن تمادي بعضهم في استغلال مقولة "يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره"
بالطبع أستثني من هذا التقدير والإعجاب كل من تعاملوا مع هذه الملَكة بطريقة "فاوستية" فباعوا موهبتهم وأرواحهم في سوق (مديح السلطة والسلطان) وبالتأكيد يأتي على رأس هؤلاء "المتنبي" مهما قيل عن عظمة شعره.
الشعراء هم خلاصة ذاكرة الشعوب، لأنهم يدوّنون مشاهداتهم ورؤاهم عن فترات معينة في تاريخهم وتجاه قضية ما بأسلوب شائق يصل إلى المتلقي، وقد أخبرني الصديق الشاعر "إدريس الطيّب" ذات مرة بدهشته لما لقيه من تكريم خلال حضوره مهرجانا للشعر في إحدى دول أميركا اللاتينية، وكيف لاحظ أن شعب تلك البلاد يعامِلون، بعفوية شديدة، الشعراء وكأنهم أنبياء يمشون على الأرض! أما في ثقافتنا المثقوبة فيقوم "مخبر السلطة" وهو في العادة محسوب على زمرة المثقفين، بغربلة القصيدة واكتشاف إن كانت تحمل رمزية ما وإشارات سياسية خفية. وفي تاريخنا السياسي الاجتماعي حادثة مشهورة تتعلق بالشاعر الشعبي الشهيد، محمود محمد اشعيب الملقب بالبولندي، صاحب غنّاوة العلم الشهيرة (تلاقن اطناشن ذيب...على غلم في مراح رايضة) حين فسّر شاعر معروف من فئة المخبرين، معنى الغناوة تفسيرا سياسيا، وهو ما أدى في النهاية إلى قتل البولندي تحت التعذيب. وهذه الحادثة إنما تدل على مكانة وخطورة الشعر بأنواعه في ذاكرة الشعوب.  
تواردت علي هذه الخاطرات الشعرية بعدما علمت بوجود الشاعر الليبي الفحل "مفتاح العماري"  في عمّان مع أمل بالقاء به.ورغم أن آخر لقاءاتي الشخصية به جرت خلال "سنوات الجمر" في بداية التسعينيات في بنغازي، إلا أنه اسمه يثبُ إلى الذهن مباشرة كلما جرى الحديث عن الشعر، لاحتلاله مكانا مرموقا في انطولوجيا شعر التفعيلة الليبي بشهادة الكثيرين من الشعراء والنقاد.
من يعرف التاريخ الاجتماعي لمفتاح العماري تملؤه الدهشة لبدايات هذا الرجل المتواضعة، وسيرته الذاتية المليئة بالأشواك، وكيف شق طريقة ليصل إلى هذه المكانة الأدبية الرفيعة. فشظفُ العيش في زمنه أجبره على ترك مقاعد الدراسة والانخراط في سلك الجندية حيث تجد في أشعاره الكثير من ملامح هذه التجربة الفذة. لكنه وسيرا على درب مبدعي ذلك الزمان الجميل، عمل على تثقيف نفسه ذاتيا، فنهل من معين الآداب الإنسانية. والمفارقة العجيبة أن المؤسسة العسكرية كانت تمنع منتسبيها من الانخراط في التعليم العام (إلا ضمن حدود ضيقة) خوفا في ما يبدو من توسيع مداركها، وطرح الأسئلة!
ربما عاكست الظروف المختلفة مفتاح العماري ، سواء قبل حقبة فبراير أو بعدها، فلم يلق الاهتمام والتكريم الذي يليق به، ولكننا قد نجد وإياه بعض الأسى في أن الظلم لم يقع عليه بمفرده، وإنما هي ظاهرة عامة لأمّة فقدت من بين أشياء كثيرة، بوصلة الثقافة، وتخلت عنها لمصلحة شبه ثقافة سمعية وبصرية، يثبتُ لنا في كل يوم أن لها النصيب الأوفر في ما آل إليه حال الأمّة. لكن تظلُّ أشعار العمّاري الصادحة بالمعاناة والقيم الإنسانية، جزءا مهما من تاريخ وطننا، وتظل لسان حال كثيرين انبهروا بتجربته الرائدة في الشعر والحياة. ولعلي أشرك القارئ ببعض أبيات من قصيدته "رجل بأسره يمشي وحيدا"
وحيداً مكتفياً بالذي أنا
بالذي جسدي في الثياب البسيطةِ
أركضُ كما لو أن البروق أحذيتي
وحيداً أعوي
أيتها الذئبةُ
خذيني من فمي
بعيداً عن صدركِ
يغدو كلُّ شيء في غاية الفساد والأُبّهة
العصافيرُ ترتدي خوفَها الغامض
والشرفاتُ تهذي بشموس منقرضة
وحيداً
كلَّ ليلة
بأذنين خائفتين
أترقّب سقوطَ بيتي
خذيني من فمي
أيتها الذئبةُ.. بدأت أتعبْ
من زوجتي
حين ترتّبني يداها بخيال واثق
قُمْ يا عِزّيَ طلع الصباحُ..
بدأتُ أتعب
من أطفالي وهم يكبرون 
دون ألعاب وحلوى
من مؤامرة المياه
في أحيائنا الرثة 
مالحة وتهرب
كل شيء في غاية الفساد والأبهة
لا الطمأنينة سقف 
ولا النساء هن النساء.....
____ 
عن موقع  الأحد 2 أكتوبر 2016

الخميس، 29 سبتمبر 2016

شمس صغيرة في ثكنة


مفتاح العماري








                "نوره أسطع من نور الشمس  /
                        التكليف تابعه / الذم والحمد قريناه ..
                        والثواب والعقاب ميراثه . "
                     -أبوحيان التوحيدي-


________________________ شمس صغيرة في ثكنة



تقول الحكاية :

          عندما كانت قراءة الكتب في مكان ما تعدّ ضربا من الضلالة والتطرف، لم يكن في وسع ذلك الجندي الصغير مقاومة هوس الإطلاع والمعرفة. ربما لأنه لا محالة قد جُبل على القساوة وحدها ،   حيث الحياة  حجرٌ أعمى ، قذف  بصلابة عمياء في مفازة شحيحة. لعلّها الصلابة ذاتها التي رغم انتسابها نحويا إلى قاعدة التأنيث  تظلّ في معجم الغابة  رهنا " بالمكان الذي لا يعوّل عليه " إلاّ إذا افترضنا مجازا ،  بأن صنعة النحاتين قد تضخ في شرايينه نسغ الأنوثة ..  وهي معجزة تحكمها نزوةٌ متخيلة ، لن يُكتب لها أن تُضاف إلى شقيقاتها السبع ، في بيئة تنظر إلى النحت كتركة وثنية  مقيتة  . لذا وبغض النظر عمّا يكوره النحاتون من مفاتن في تضاريس الحجر الغشيم ،   لن تعدو  بالنسبة لجندي  مهدّم سوى شطحة نافلة لا جدوى من ورائها غير مراكمة المزيد من الغبن والوحشة، لأن مجاز النحات  - حتما  - لن يصل إلى بث روح النعومة التي عليها أن تكون  بمثابة أنثى تشي كذبتها بحقيقة صادمة .. حتى يمكنها على نحو ما أن تقفز أبعد من دهشتنا الغبية وفطنتنا الساذجة ، لاسيما بالنسبة  لكائن معزول في ثكنة عسكرية تسيجّها القوانين الأشدّ جلافة وعنفا  ، حيث لن يكون في مكنة الخيال  البائس العثور على كنز بهيئة امرأة جميلة في سرير ، وهي لاشك معضلة قد ألقتها الصدفة ، فثمة هنا وهناك  وجاهة تتخلّق بمشيئات الصدف وبداهتها المتعالية ، حين يولد الملوك ملوكا في أرحام أمهاتهم ، ويولد الأثرياء ، كما يقال  : وفي أفواههم ملاعق من ذهب ، بينما يولد الفقراء وقد وُسِمُوا بأقدار فقرهم : نفاية مدن / روث جهل / وقود حرب / طلاّب غيب يسعون إلى الجنة بمؤخرات عارية .  
     بيد أن صاحبنا الذي بات يدرك جيدا  سوء طالعه قد  استعاض عن خشونة الفقد بتلك الأنوثة التي  تلقيها الصدفة سهوا  في طريق التائه ، لحظة أن عثر على ذلك الكتاب المجهول الذي لا اسم له .. مجرد مزق من ورق مهمل لم تسلم حوافه من جريرة العثّ ، فاستسلم لهنيهة متواطئا مع فضول مريب يفكّك الكلمات ويخمش المظان المطمورة خلف السطور.. مقتفيا سيرة العطب تلك .. التي ظلّت بلا خواتم .. لأن الصفحات الأخيرة  للكتاب ، قد تمزقت منذ زمن بعيد . لحظتها فقط شعر الجندي بتلك الضراوة الغريبة للألم الذي تقاسيه الكلمات المعذّبة .. وقرر أن يبحث بين معاقل الورق عن تتمة كتابه المجهول.


تضيف الحكاية :
      منذ اللحظة تلك ، استمرأ الجندي الصغير  لعبة استدراج الكتب إلى سريره  ، وهي مسألة  يمكن حدسها ، وتصديقها أيضا  كواقعة لا تحتمل الشك في ضرورة مقصدها ونزاهة ألوانها التي بدأت فيما بعد  تتشكّل كإشارات لمّاحة جعلت من ذلك الكائن الوضيع يدرك دون عناء : أن الحياة الحقّة أكبر من أن تخضع لأحزمة معدنية من أسلاك شائكة  يتربّصها الصدأ ، فانحاز بكل جوارحه لسلالة الورق ، حتى أضحى  يعتقد دون ريب : أن القراءة صنو الرئة ، فظلّ يلتهم في شهية جامحة  كلّ ما تقع عليه عيناه من عناوين  في الشعر و التاريخ والحكمة  وفقه اللغة  ، وأصبح يتصفّح متون أبي حيّان التوحيدي ومآثر إخوان الصفا  ،وفتوحات الشيخ محي الدين بن عربي ، ويتلو طواسين الحلاج مثلما يتلو العاشق رسائل حبيبته ، ولم تعزه الحيلة لاكتشاف الخلوات الآمنة التي تجعله مطمئنا وقانعا  بلذاذة صيده ، بعيدا عن أعين الرقباء والبصّا صين . ولأن أنوار عنابر النوم عادة ما كانت تطفأ في تمام الساعة العاشرة ليلا..  كان لا بد له من التحايل على سلطان الظلمة وتمزيق سواد قماشتها القاتمة ، متيحا لتلك الحياة المخبوءة ما تيسر من السوانح المجيدة .. لكي تتخلق بسمو خفي  يتعذر لجمه.. وهي مسألة محيّرة  أرّقته ليال طوال قبل أن تنجده قريحته  باختراع ذلك الكوكب الذي افترض له مدارا  سريا حول الكلمات .. ضاربا عرض الظلمة ببؤرة متكتمة من نهار استثنائي  يخصه وحده ،  بواسطة ( بِيْلَه ) ، أي مصباح يدوي ، قدّر له أن ينبعث بمرح تحت الغطاء الخشن ليوقظ الكلمات النائمة ويهيّج بصمت واجف كوامن الخيال الكسول . 

      غير أن بقعة شمسه الصغيرة، المتفردة بحذر شديد لم تكن في تلك الليلة الشتوية المشئومة سوى أداة اتّهام بالغة الطرافة ، حين تسرّب شعاعها النشيط من بين طيّات البطّانية العسكرية  ،  حيث فوجئ الجندي بغطائه وهو يسحب بقوة .. وبعريف الخفر واقفا حدّ رأسه , ينتشله عنوة من صحبة الدكتور زيفاكو.


 تقول الحكاية :
     في تلك الليلة صودر الدكتور زيفاكو الذي لم يفهمه عريف الخفر ، وقضى الجندي الصغير ما تبقى من ميراث الظلام البغيض  خاضعا بقوة للعقاب الميدانيّ ..  مهرولا وزاحفا عبر ساحة الثكنة  حتى انسلخ جلد ركبتيه وكوعيه. تاركا مسارب من الدم فوق أرضية الأسمنت الباردة ..  وبالكاد استطاع في صبيحة اليوم التالي  الوقوف إزاء آمر الكتيبة الموسوس ، ليواجه رغما عنه تهمة اختراق الضبط والربط ، بعد أن صودرت  شمسه الصغيرة  ( المصباح اليدوي )، واعتقلت عائلته الأثيرة التي تتألف من: شهر زاد ، و الأخوة كرامازوف ،والصخب والعنف ، والكلمات التي تقاتل .. واعتبرت بمثابة دليل قاطع  على انحراف صاحبنا - الجندي الصغير -  الذي امتثل دونما رأفة  لتقبّل العقاب الرادع وقد آثر بطواعية أملتها اللحظة أن يلتزم الصمت الساذج ، وانبرى يتظاهر بالإصغاء  إلى كلمات الآمر المتصالبة والتي تتقاذف صارمة كأنها قدّت بعناية بليدة على هيئة توبيخات عنيفة الوقع ، مؤكدة أن قراءة الكتب بالنسبة لجندي صغير تعدّ ضربا من الضلالة ،  والعبث الذي لا ينسجم مع صلابة وانضباط آلة الحياة العسكرية .
   لكن الجندي الذي تعهد للآمر  شفاهة بعدم تكرار هذه المثلبة  ، كان قد       أضمر في نفسه ارتكاب معصيته الجميلة .

تضمر الحكاية أيضا :
     أن الجندي الصغير قد اهتدى فيما بعد إلى إشارة المعصية التي بدورها قادته  إلى صناعة شمس أخرى لا تقال ، لأنها رغم صغرها كانت أشد بلاغة من أن ترضخ لمجاز الكلمات أو تنصاع لحواس البشر . شمس عظيمة لا تُمس ، ولا تعترف بنواميس الوقت أو  تخشى  ما تخبئه الظلمة البغيضة بين أعطافها من دسائس للإطاحة بوريث عرش المعرفة الذي ما فتئ  يتقدم بجسارة ،  وحيدا بأسره  يقرأ في الظلام بلاغةَ الضوء ، وما خطته يدُ السدنة الأوفياء ، عشاقُ الحكمةِ ورسلُ الروح وأربابُ  الخيال المقدس ،  فقرأ، وقرأ، وقرأ ، مدفوعا بشهوة لا تُضاهى عديد المدوّنات والمصنّفات النادرة ، من دون حاجة لاستخدام الشموع والمصابيح اليدوية .. إلى أن  أصبح في مكنته بعد حين من الدهر  أن ينسج الحكايات العجيبة والأشعار المتوحدة ، لأنه كلّما تقّدم ، فتح بلادا جديدة  وصار أكثر ألفة وقرابة من شموسِ الحكمة التي لن يراها أحدٌ إلاّ هُو.
<> 
_____
 *مفتاح العماري ، من حكايات ( مفاتيح الكنز ) . منشورات وزارة الثقافة 2005 . سبق للكاتب أن اقترح هذه الحكايات لبرنامج اذاعي يومي باذاعة طرابلس المحلية ، سنة 2001 بالوسم نفسه :مفاتيخ الكنز .  وقدمه بصوته . 
اعادة نشر . 



الجمعة، 23 سبتمبر 2016

عمّان 1


في عمان :
من جبل الحسين
إلى أبراج الحجاز
سائق التاكسي لا يكفّ عن الدوران .
ربطتُ حزام المقعد ،

وفتحتُ نساء أويا لطه المتوكل .