وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الخميس، 27 أكتوبر 2016

فرمان " حريّات مقيّدة " في مديح صاحبة الجلالة


                                                                             مفتاح العمّاري




فرمان " حريات مقيّدة "
في مديح صاحبة الجلالة  


    قديما ، أي قبل أربعة آلاف عام دوّن البابليون والآشوريون قوانينهم ، ووقائع زمنهم ، وأخبار حروبهم ، وبطولات ملوكهم وفرسانهم باستخدام الحجارة والطين . تلك المدونات كانت بمثابة إرهاصات أولى مهدت لاكتشاف الصحافة . فيما بعد ، وخلال سنة 1750 ق م ، استخدم الفراعنة ورق البردي في تحرير صحيفتهم الرسمية والتي كانت تسمى : صحيفة البلاط . ثم توالت الفتوحات تباعا ، من الصين إلى روما ، حتى منتصف القرن السادس عشر الميلادي ، حين توصلت أوربا لصناعة الصحافة الورقية بشكلها الحديث .
    كان على العرب انتظار دخول المطبعة إلى أهم عواصمهم الثقافة ، لكي تصدر  " الوقائع المصرية " ، في القاهرة  سنة 1828 ، كأول جريدة مصرية . وقد وصلت منها بضع نسخ  في سنتها التالية إلى ولاية طرابلس الغرب ، مرسلة بشكل شخصي إلى أحد أعيانها . في ذلك الوقت كان الطرابلسيون يطلقون على صاحبة الجلالة اسم : كازيطه . فوقتذاك لم يكن مصطلح (الجريدة ) قيد التداول . واستئناسا برأي الباحث المدقق : عمار جحيدر ، فأن تثبيت مفردة  الجريدة ، كمصطلح لغوي جاء بفضل : أحمد فارس الشدياق ، الذي أطلقه على العدد الأول من صحيفة الجوانب ، التي ترأس تحريرها  باستانبول سنة 1861 .
   في ليبيا عرفت ولاية طرابلس الصحافة كصناعة محلية خلال العهد العثماني الثاني ، وفقا لقانون ( حريات مقيدة ) كأول فرمان للسلطنة العثمانية  ينظم الصحافة ، أصدره السلطان عبد العزيز سنة 1865. وهكذا  ولدت الصحافة الليبية بلسان  تركي عربي ، عبر أول صحيفة رسمية ، صدرت تحت اسم  ( طرابلس الغرب ) في العشرين من شهر سبتمبر 1866 . لتأتي ليبيا في الترتيب السادس عربيا ، بعد مصر والجزائر ولبنان وتونس وسوريا . ومن البديهي أن يرتبط تطور ونمو هذه الصناعة محلّياً بدخول المطبعة الحديثة عوضا عن الحجرية لتتوالى عناوين الصحف والمجلات ، بين رسمية تصدرها سلطاتُ الدولة ، وأخرى خاصة ، يصدرها أشخاص أحبوا هذه المهنة وأخلصوا لها ، ولاسيما في فترة أواخر العهد العثماني الثاني ، والتي شهدت زخما استثنائيا من حيث عدد الصحف في فترة قصيرة جدا لا تتجاوز ثلاث سنوات ، استئناسا بالدستور التركي الجديد (1908)، والذي فتح هامشا للحريات . حيث شرعت العاصمة طرابلس تؤثث مشهدها الثقافي كمدينة عريقة ، وعاصمة لها ما لها من عتاقة التاريخ ، ولعلها الآن تُعَد ثاني أقدم عاصمة تاريخية لا تزال مأهولة بالسكان بعد دمشق . ولا شك أن حراك الصحافة قد أسهم في أحداث متغيرات اجتماعية وثقافية ، كان لها تأثيرها في عملية إيقاظ الوعي وتحريك الحس الوطني . فمقاهي المدينة وأنديتها وصفوةُ مثقفيها ، فضلا عن تجمعات الأدباء والكتاب ،  بدت أكثر انتعاشا واستجابة لفعل الكلمة . لكن أنفاس صاحبة الجلالة ما تلبث أن تكتم تماما في عهد الاحتلال الايطالي ، جراء الممارسات القمعية .
    خلال فترة الإدارة البريطانية على إقليمي برقة وطرابلس ستستعيد الصحافة الليبية شيئا من هامشها وتعود للصدور ، وإن ظل الحيز المتاح لحرية الرأي بين مدّ وجزر ، مشروطا في الغالب بثوابت سنّتها قوانين الإدارة . هذا الهامش سيشهد حركة أكثر انتعاشا بعد الاستقلال ، وبالمثل سينعكس على انتظام صدور الصحف وتنوعها . لكن بعد انقلاب سبتمبر سيهيمن مرة أخرى فرمان (حريات مقيدة ) بطريقة أشد وطأة وأكثر دهاء وبشاعة ، عبر ممارسات تضييق الرقابة وإقفال الصحف الخاصة وتحجير الرأي .
    بعد ثورة السابع عشر من فبراير ، استبشرنا خيرا خلال السنوات الثلاث الأولى ، لكن يبدو أن لعنة فرمان ( حريات مقيدة ) ما تزال متربصة بالحياة الصحفية في ليبيا . ويكفي الإشارة هنا إلى حملة استهداف الصحفيين والنشطاء الوطنيين ، والتي وصلت إلى حدّ الاغتيال والخطف والاعتقال والتعذيب .  مما أدى إلى نزوح وهجرة أغلب النخب المثقفة من صحفيين وإعلاميين وأدباء وكتاب إلى خارج البلاد . وتلك حكاية أخرى .    
     لست هنا في مجال التأريخ لصحافة ليبيا ومسيرتها التي تربو على قرن ونصف القرن . لكنني فقط أردت من جهة الاحتفاء بهذه الذكرى ، ومن جهة أخرى التذكير بأن مهنة الصحافة ينبغي أن يردّ إليها اعتباراها ، ليس من مؤسسات الدولة وحسب ، بل من العاملين بهذا الحقل ، ولاسيما الكتّاب الذين أمسوا ينحرفون بعيدا عن ميثاق شرف الكلمة . فلكي تتوحد ليبيا ، وتحقق أمنها واستقرارها ، تقع مسؤولية جسيمة على عاتق أهل المهنة ، بأن ينأوا عن ألاعيب التضليل ، وأية شيطنة من شأنها ضخ الفتن ، ونعرات الاصطفاف القبلي والمناطقي والأيديولوجي . عليهم فقط أن يصطفوا مع وحدة ليبيا ، وأن يضعوها نصب أعينهم ، ثم ضميرهم . 

¨