وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الأحد، 2 أكتوبر 2016

مفتاح العمّاري..ليس وحيدا

  بقلم  الكاتب : فرج عبد السلام 


الكاتب والمترجم : فرج عبد السلام 

___________   مفتاح العمّاري..ليس وحيدا

"باطل كل حكم لا يفضي إلي
وكلُّ احتفال بموتي هراء
الحبر مملكتي.."
الكتابة عن الشعراء عمل مشوب دائما بصعوبات متعددة المستويات، ما لم تكن من زاوية الاختصاص، أي عرض إنتاجهم للتحليل والنقد. ومثل كثيرين غيري نظرتُ دائما إلى الشعراء بأنهم أرواحٌ شفيفة، يوظفون موهبتهم ومعارفهم الحياتية في صياغة لغة بأسلوب بديع تجد هوىً في نفوسنا، حتى وإن تمادي بعضهم في استغلال مقولة "يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره"
بالطبع أستثني من هذا التقدير والإعجاب كل من تعاملوا مع هذه الملَكة بطريقة "فاوستية" فباعوا موهبتهم وأرواحهم في سوق (مديح السلطة والسلطان) وبالتأكيد يأتي على رأس هؤلاء "المتنبي" مهما قيل عن عظمة شعره.
الشعراء هم خلاصة ذاكرة الشعوب، لأنهم يدوّنون مشاهداتهم ورؤاهم عن فترات معينة في تاريخهم وتجاه قضية ما بأسلوب شائق يصل إلى المتلقي، وقد أخبرني الصديق الشاعر "إدريس الطيّب" ذات مرة بدهشته لما لقيه من تكريم خلال حضوره مهرجانا للشعر في إحدى دول أميركا اللاتينية، وكيف لاحظ أن شعب تلك البلاد يعامِلون، بعفوية شديدة، الشعراء وكأنهم أنبياء يمشون على الأرض! أما في ثقافتنا المثقوبة فيقوم "مخبر السلطة" وهو في العادة محسوب على زمرة المثقفين، بغربلة القصيدة واكتشاف إن كانت تحمل رمزية ما وإشارات سياسية خفية. وفي تاريخنا السياسي الاجتماعي حادثة مشهورة تتعلق بالشاعر الشعبي الشهيد، محمود محمد اشعيب الملقب بالبولندي، صاحب غنّاوة العلم الشهيرة (تلاقن اطناشن ذيب...على غلم في مراح رايضة) حين فسّر شاعر معروف من فئة المخبرين، معنى الغناوة تفسيرا سياسيا، وهو ما أدى في النهاية إلى قتل البولندي تحت التعذيب. وهذه الحادثة إنما تدل على مكانة وخطورة الشعر بأنواعه في ذاكرة الشعوب.  
تواردت علي هذه الخاطرات الشعرية بعدما علمت بوجود الشاعر الليبي الفحل "مفتاح العماري"  في عمّان مع أمل بالقاء به.ورغم أن آخر لقاءاتي الشخصية به جرت خلال "سنوات الجمر" في بداية التسعينيات في بنغازي، إلا أنه اسمه يثبُ إلى الذهن مباشرة كلما جرى الحديث عن الشعر، لاحتلاله مكانا مرموقا في انطولوجيا شعر التفعيلة الليبي بشهادة الكثيرين من الشعراء والنقاد.
من يعرف التاريخ الاجتماعي لمفتاح العماري تملؤه الدهشة لبدايات هذا الرجل المتواضعة، وسيرته الذاتية المليئة بالأشواك، وكيف شق طريقة ليصل إلى هذه المكانة الأدبية الرفيعة. فشظفُ العيش في زمنه أجبره على ترك مقاعد الدراسة والانخراط في سلك الجندية حيث تجد في أشعاره الكثير من ملامح هذه التجربة الفذة. لكنه وسيرا على درب مبدعي ذلك الزمان الجميل، عمل على تثقيف نفسه ذاتيا، فنهل من معين الآداب الإنسانية. والمفارقة العجيبة أن المؤسسة العسكرية كانت تمنع منتسبيها من الانخراط في التعليم العام (إلا ضمن حدود ضيقة) خوفا في ما يبدو من توسيع مداركها، وطرح الأسئلة!
ربما عاكست الظروف المختلفة مفتاح العماري ، سواء قبل حقبة فبراير أو بعدها، فلم يلق الاهتمام والتكريم الذي يليق به، ولكننا قد نجد وإياه بعض الأسى في أن الظلم لم يقع عليه بمفرده، وإنما هي ظاهرة عامة لأمّة فقدت من بين أشياء كثيرة، بوصلة الثقافة، وتخلت عنها لمصلحة شبه ثقافة سمعية وبصرية، يثبتُ لنا في كل يوم أن لها النصيب الأوفر في ما آل إليه حال الأمّة. لكن تظلُّ أشعار العمّاري الصادحة بالمعاناة والقيم الإنسانية، جزءا مهما من تاريخ وطننا، وتظل لسان حال كثيرين انبهروا بتجربته الرائدة في الشعر والحياة. ولعلي أشرك القارئ ببعض أبيات من قصيدته "رجل بأسره يمشي وحيدا"
وحيداً مكتفياً بالذي أنا
بالذي جسدي في الثياب البسيطةِ
أركضُ كما لو أن البروق أحذيتي
وحيداً أعوي
أيتها الذئبةُ
خذيني من فمي
بعيداً عن صدركِ
يغدو كلُّ شيء في غاية الفساد والأُبّهة
العصافيرُ ترتدي خوفَها الغامض
والشرفاتُ تهذي بشموس منقرضة
وحيداً
كلَّ ليلة
بأذنين خائفتين
أترقّب سقوطَ بيتي
خذيني من فمي
أيتها الذئبةُ.. بدأت أتعبْ
من زوجتي
حين ترتّبني يداها بخيال واثق
قُمْ يا عِزّيَ طلع الصباحُ..
بدأتُ أتعب
من أطفالي وهم يكبرون 
دون ألعاب وحلوى
من مؤامرة المياه
في أحيائنا الرثة 
مالحة وتهرب
كل شيء في غاية الفساد والأبهة
لا الطمأنينة سقف 
ولا النساء هن النساء.....
____ 
عن موقع  الأحد 2 أكتوبر 2016