وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الأربعاء، 16 ديسمبر 2015

نصف الجسد .. نصف الموسيقى

مفتاح العمّاري


-------------------------------------     نصف الجسد .. نصف الموسيقى
(1)
       لا بأس يا أمّي  ، أنا بخير  ، وما من شيء يزعجني ، غرفتي دافئة ، والطبيب حاذق والممرضة حنونة . ما من شيء ، فقط سهوت الليلة عن تنظيف  أسناني من نتف الحروف الكسولة ، كأنّي سأدع العبارة التائهة رهنا بمخالب لهفتها، وكلّما وخز الجوع مخيّلتي سألتهم الصور الضالة التي غفل عنها الصيّادون ، ،ثم سأفكّر في إيجاد مخرج من هذا القتام الذي يجثم على صدري/ لعلّي أنقذ ما تبقى من كلمات  ، بلا  أثر  لهروبي /سيبحثون عني تحت سجف الأشعار الغامضة وأقبية المجاز كأجمل أسير لتيه البلاغات وخيانة المعنى  /سيفتّشون في قوائم الموتى و المعاجم والموسوعات  وسجلات الشرطة والسجون والمستشفيات ،
وفي جميع محركات البحث التي في مواقع السماء / لكنهم لن يحصدوا سوى المزيد من  السراب ولن يعرفوا ما إذا كنت من الشهداء أو المفقودين أو في عداد الأسرى /
 سأنقرض تماما كأي دينا صور أو خرافة تفسخت أجساد قاطنيها ، وغدت محض غبار من رفات لا اسم له ، غبار  يتطاير حزنا كلما  خدشت مشاعره معاول الأثريين / سأحرّض فاتنات قصيدتي على غواية الجزر المجهولة ..  في كل جزيرة أرسم مملكة جديدة للخيال والمطر / وفي كل غيمة أعتق الأعشاب والأرانب  والقصائد لتصلي على طريقتها /
 سأترك  أصابعي حرّة  ترقن زغب الفكرة دونما رقيب /
أترك ظلالي كلما خفقت أجنحة الرغبة تحلّق لاهبة ،
 إلى أن يحطّ بها التعب  فتغفو على صدر شرفة  يحرسها قمر وفيّ  .
 لهذا أكتب الآن ما يتبادر لذاكرة أصابعي من حمّى الساعة /
 لم يبق لي غير القصيدة أغوي  بناتها  بعد أن  قفلت جميع  أبوابي التي طالما استقبلت الضيوف والعابرين وأبناء السبيل ،  أبناء الصدف / أخوة الرماد الذين  أطعمتهم ثريد طوافي /
 لم يبق  غير هذا الرعيل من الأسرى الفارين خارج جحيمهم ، وهم يقفون على عتبة خروجي /   لم يبق سوى أن أهديكم هذا النثر الذي كتبته كيفما يريد / حادسا بأنّي سأتماثل قريبا لهزيمة أورامي/  فلم يبق  شيء أربّيه سوى النسيان / أريد أن أمحو الكثير من الأنين ، وما فاض من عناوين الألم / لاشيء يخيفني الآن كما يخيفني نصفي .
    لم يبق لي إلا  الوقوف بكبرياء نافضا ما يغزو شراييني من حقن وشكّ وصراخ .و إن يكن ما تبقى : نصف ظلّ يترنح .
 يكفي نصف الجسد ، نصف الموسيقى  .

(2)
        لم يبق لي إلا ّ أن أعلّق سترتي على مسمار القصيدة ،
وأجلس متـأهبا ألف ليلة وليلة أخرى بلا نوم ،
 فقط أفكّر كيف أبرهن لسنة36 20  بأنني أكثر عنادا مما يتوقع الأطباء /
 ولن ألتفت  للخمسين صيفا الماضية /
سأبدأ من صفر الحكاية أو من حكاية الصفر /
من طق ، طق .. حيث لا أحد غير مفتاح العماّري داخل  هذا النصف النادر من الجندي المتروك على حافة منفى/
داخل ثيابي الوحيدة التي  تتّسع  لفخامة الضحك  /
سأحشد كل أسناني لرقن الحروف المنتظرة
 لرقن الليل مخلوطا حتى حافته بلغة الحليب ...
 لم يبق  إلا أن أرفع قصيدتي عاليا ، لتظلّ مغوية مثل  عاشقين في قارب ثمل ، وبسيطة وحنونة مثل أمّي
 بغض النظر عن هشاشة الضوء ،أو غشاوة البياض الذي يترصد  ظلمة الحكمة
سأتقدّم حاشدا  الجوع  في مقدمة جيشي /
 أطلق  النار على  العروض دونما اكتراث بثرثرة الحمقى .
وكلغم من الأظافر الذكية ، أمزّق جلد  المعرفة/

(3)
تستيقظ شهرزاد أو تنام ، هذا شأنها  ،
فسيان عندي أن تضأ نافذة في هذه الحكاية أو تلك/
 أن تبتلّ سرّتها أو تجفّ /
 أن تترهل مخدتها بالدموع  أو تتنفّج بالآهات  /
 أن تعطش أوردة ليلها أو تغرق في انهار من العسل
 والمنّ والسلوى ..
 أن تنصفني حمّالة صدرها أو تشطر غيابي  .
 أن تمتلئ قربة شهوتها أو تظمأ قريحة بريدها الالكتروني /
 أن تنشر غسيلها على شبكة الانترنت أو في  كراريس رسم الأطفال .
أن أجد امرأة تصلي لأجلي أو تمطرني باللعنات /
سيان عندي أن يطلق عليّ النقّاد : شاعر حداثة ، أو حذلقة
 أن تكتب القصيدة على طريقة الهايكو  أو صوب خليل /
أن تمدح الكلمات صمتها ، أو تنعي خيالها ،
فما من أحد سيلتفت لعبوري
سواء ثرثرت في المقهى أو  ابتهلت مع المصلين في صحن الجامع /
  أن ينادى على اسمي في محافل النجوم  أو في أقبية المرضى /
 أن أقف على أقدامي مجددا، أو أسجى في تابوت الخواتم /
أن أجد غيمة مقرورة في جيبي أو حمامة تنوح بين أوراقي
أن استقبل التعازي في موت الشعر أو موت الغابات /
 أن أكون مليونيرا أو شحاذا 
 أن تعلن حالة الطوارئ  ويحضر التجول في شوارع النت
 أو في  بريد المراهقات /
 أن يستغفل اللصوص حراس السماء ويسرقون الأمطار
 والمجرات وقوس قزح ،
أن يكمن العيارون لقافلتي  وينهبون الحلم والقطن والملح
 والأوكسجين وطائرات الورق /
 أن يعترض قراصنة  الأثير  شاحنات المعنى /
أن تنتشر الفضائيات أو تختفي  البحار من خارطة الشعر فجأة لتظل النوارس والعصافير والأحلام  عالقة في الفراغ
 أن أكون  أو لا أكون في معاجم الشعراء والعشاق
أو حتى في معاجم الصعاليك و سجلات المواليد ...
أن أقيم  في قاع بئر ،  أو على فوهة بركان  /
 لا بأس  ..
عندي ما يكفي من السديم  و خزائن الثريا .

(4)
       لم يبق  شيء يمكنه أن يكون  صفة أو شطيرة خيال
أو قبلة تحتفظ برحيق مودّتها /
 لا شيء في السرير يزعجني غير نصفي.
لن أحتفظ بعد الآن بتفاحة  في القصيدة أو وردة في كتاب مندّى /
ساترك أنامل حبيبتي لحبيبتي  /
 وفم عشقي للغبار  .
..................................
هذه القصيدة لك يا شقيقة نومي ،
 خذيها كي تطير  .

(5)
        لم يبق سوى أن أبقى نبيذا لا أحد  / 
لست أدري ،  تاه  يساري  ،
أو ضلّ يميني يا فقيدي لا  احد /
 لا ، لن أطرق الباب مرة أخرى ،
ودعني ، فلا أرى  في ما أرى ، شرق ظلي /
تاه التفاح عن تيهي 
وهذه الصحراء أضحت ضيقة على حلمي النحيل ،
 وقصيدتي ، لا  ......... 
لا تحتمل قصيدتي جراحة  أخرى .
________ 

مستشفى شارتيه . برلين شتاء 2009 



محمود البوسيفي . مفتاح

محمود البوسيفي
الكاتب الصحفي والأديب : محمود البوسيفي

مفتاح
  
    شاعر من سلالة الطين .. نجح في تهريب جسده للمدينة فيما ظلت روحه ترتدي ثوب الفراشة حيناً وغلالة الموج حيناً وبوح الرمل في أغلب الأحيان ..أدرك وهو يجوس شوارع طرابلس للمرة الأولى فتنة الغواية  التي تطرحها أشجار النخيل وسهاد الشبابيك وظلال الأرصفة .. كان وهو يرحل في تفاصيل المدينة  يتكئ على دفء الحكايات الممتدة في شرايين البوح .. لم يكن صياداً للبهجات بقدر انهمامه بحفر توكيد صوته الشعري وسط عاصفة من رماد .اسمه مفتاح العماري ومهنته الحزن .. يقرأ قصائده فتموت خلايا تصب زيتها في قناديل توقد من حنين .. يكتب قصائده فتنهض خلايا وتستيقظ مناديل تتنفس بلاداً من صغار يلهثون وراء الضنك .. اسمه مفتاح وكل ما في حوزته أقفال ومزاليج يتعثر بها  كلما رغب في كتابة حديقة أو رسم نهار من نهاوند وزغاريد .. شاعر يعرف سطوة الكلمة وهي تعربد في سماء من غُبار .. كلمة تضئ .. ترسم خيطاً من موسيقا تقود العابرين  إلى الغناء . هذا المفتاح الذي لا يخدعك تجهمه الذي سرعان ما تكتشف وأنت تجالسه أنه مجرد تجاعيد من ندى .. يبتسم فتؤمن بحقيقة الأقحوان وهو يسري في يد واثقة وقلم  جسور ولرأس بلا أسوار .. يعرف هذا الرجل متى يبتسم ليمنحك وأنت على شفا حفرة من كآبة حقولاً من قمح تمتد تحت غيمات بمذاق الأرانب  والخراف الصغيرة ترعى في سماء الله .. هذا الرجل الذي يعذبه قلبه العاشق .. قلبه المفتون .. قلبه المسكون بالفرح.. هذا الرجل الصارخ كفارس حقيقي في وجه البذاءة  والبشاعة  والقبح .. يعرف ويعي  يقيناً مدى  بلاغة الأمل  يمتشقه سيفاً من كبرياء في وجه المرض .. يقف كما يليق بالنبلاء في مواجهة أوجاع لا يردعها سوى الوقوف في وجهها.. والانتصار عليها .
¨      
____ 
* نقلا عن صحيفة الجماهيرية ربيع 2008.


تفكيك

___________________________________________________________________________________________________   مفتاح العمّاري

رسم صخري . كهوف أكاكوس : ليبيا

أُمّهات الجمال

          قبل أن يكتشف ملكة الكلام  كابد الإنسان الأول طويلاً مستعيناً بغريزته وحدسه ليتوصل أولاً إلى لغة الإشارة والإيماء .. مستعملاً بالفطرة وحدها أصابع اليدين وحركة الشفاه والجسد في عملية شاقة . تضافرت فيها جميع الحواس لتحديد علامة ما ،  تكفي بالكاد للتدليل على إحساسه بالجوع والعطش والخوف من المخاطر التي تتربص به ، وهكذا كان لزاماً عليه في أول الأمر اللجوء إلى المحاكاة وتقليد حركات وأصوات المحيط من ظواهر الطبيعة وكائناتها .. غير أنه ما لبث فيما بعد أن طوّع الرقص كثيمة ضرورية لإثراء معجم علاماته ليكون أكثر اتساعاً  لإيواء المربك من أسئلته متعذرة النطق والتي كانت تسبب له مزيداً من القلق والتوتر.. لكنه في مراحل لاحقة .. بدأ أقل انفعالاً وتوترا حين اكتشف مقدرته على الرسم .. حيث مكنته ملكته الجديدة من تشكيل صورته وصور حيواناته ومعاركه وهجراته ، هذا ما تشير إليه بوضوح رسوم الكهوف بمثابة قفزة ثقافية جعلته يتفوق تدريجياً على وحشيته الكامنة ورؤيته من ثم ، بإرادة أكثر صلابة لترسيخ كيانه والانتصار لصالح آدميته . ثم ما لبثت تلك الرسوم أن اختزلت إلى إشارات لمّاحة .. كانت هي المفردات الأولى التي دشنت مدوّنة الكتابة كأخطر اختراع للعقل البشري ،  تلك اللغة التي استمدت جوهرها من خلاصات الفنون الجميلة كالتمثيل والرقص والرسم والموسيقى .. وتوجت نفسها بسحر الكلمة وإنجازها مجسداً في علوّ الشعر وبلاغته ، قد حققت بذلك أعظم انتصاراتها الحضارية حين دحرت عصور الكساح والعي والانحباس .



الثلاثاء، 15 ديسمبر 2015

جدّي

___________________________________________________________ مفتاح العمّاري


جدّي

(1)
    في حي سيدي عبد الجليل ، كنت أقتفي حلما صغيرا . لعل شغف الإصغاء إلى  جدي  الأعمى ، إلى حكاياته التي لم تكتمل ، إلى تنفسه ومشيته ، إلى إحساسي وأنا الطفل حين أن أرعى حشدا هائلا من الأساطير ، وأقود جبلا طيعا من المعرفة ، وأرى العالم من خلال بصيرة الأعمى ، من شكّل تلك الإشارات المبكّرة في إحساسي بالعالم ، العالم بتجلياته وأسراره . أتذكر عندما كان جدي يشفق علي من المسير وأنا أقوده من يده ، فيتقرفص منحنيا ، وهو أكثر إصرارا بأن أتسلق ظهره وأجلس على كتفيه تاركا ساقيّ يتدليان على صدره ، فيقف مستأنفا سيره ، بينما أدله على الطريق من فوق كتفيه ، كانت تلك صورة شبيهة بالسحر ، كان العجوز حنونا ، ومباغتا ، وصوفيا ،وواثقا ، ونحن نمشي أو نأكل أو نرعى النعاج ،وكلما أصغي إليه وهو يصلي أبدو أكثر تشبثا به ، كانت لحيته الكثة البيضاء مهيبة ، كان ثمة ضوء يبرق من تقاسيم وجهه الوسيم . يبدو لي أحيانا أكثر شبها بوجه نبي ّ ، لهذا كلما شرع أحد معلمينا في المدرسة يتحدث عن الرسل والأنبياء ، كنت استعيد ملامح جدي .
(2)
    الآن ، لم أعد صغيرا  يا جدي  بحيث لا أحمل سوى نفسي وحقيبتي المدرسية . فقد مضت تلك الترهات الرثة ببراءتها التي كنتُ خلالها لا أملّ من اجترار محاورة داخلي ، فما أن  تمر سيارة باهرة حتى أسأل : لماذا لا يملك أبي سيارة مثلها أو أية سيارة  حتى لو كانت  خردة ، وحين تقع عيناي على واجهة منزل جميل أكرر السؤال نفسه مستدعيا المنزل عوضا عن السيارة . كنت طفلا أيها الشيخ الأعمى ، لي خيالاتي النزقة وأمكنتي التي ما تزال حية  : دكان الدبصكي ، فرن الفزاني ، مدرسة الحميضة ، مزرعة شتوان ، كوخ الحاجة شميسة  ، مستوصف عباس، جامع بوغولة . ما زلت أتذكر ذلك اليوم   في منزل عمتي  ،حين  وقعت عيناي على مكتبة كبيرة ، كانت تلك المرة الأولى التي أرى خلالها حشدا مغويا من الكتب ، ولكم تمنيت أن تكون لأبي مكتبة مثل مكتبة زوج عمتي . أذكر أنني سرقت كتابا مصورا ، ولكن جريمتي قد اكتشفت بعد دقائق ، فلم أهنأ بغنيمتي ، بل نلت على أثرها صفعة على خدي من كفّ زوج عمتي ، مازالت حتى الآن تؤلمني  يا جدي  .  فلماذا لا نملك نحن منزلا جميلا و مكتبة  حاشدة بالكتب . ستقول لي ، بتمتمة رحيمة :  العاطي حيّ  . جملة لم أفهم معناها في ذلك الوقت ، وحين كبرت وجدت نفسي من حيث لا أدري مهووسا باقتناء الكتب ، التي أنستني حلم المنزل الفخم والسيارة الفارهة ، وكم تمنيت لو أنك ما تزال هنا ،لأحدثك عن مكتبتي وأقرأ عليك ما كتبت من حكايات وأشعار.

(3)
     أجل ، لقد كبرتُ يا جدّي ، صرت جنديا ، ثم رائيا أقترف بجسارة مسالك الكتب ، والعواصم والنساء والخرافات دونما رأفة بمعرفتي ، حتى تفشت الأورامُ بكائناتي  ، وغدوت حفنة من أحاسيس ضارية . اعترف يا جدي ، ودونما غضاضة  بأنني قد فُتنت وهذا مكمن ضعفي ، فتنتُ إلى الحدّ الذي تركتُ فيه نجوم الغواية تقودني حيثما شاءت، مستسلما بنشوة لا تضاهى ، لملائكتها وشياطينها ، متمهلا أو عجولا ، نائما ومستيقظا ، دائما أهتف المجد للنساء . لكن مهما حدث ، فأنا لا أعدّ معاركي الخاسرة سوى وجه مشرق يعكس مرايا الظفر ، فلطالما رفرفت راياتي معلنة عن انتصارها . أقول لنفسي : لا بأس أن ختلتني الحياة أخيراً ، وغدرت أورامها بجسدي الضعيف  . فمهما حدث  يا جدّي لا يسعني أن أكون غير ما أنا ، طالما ظلت المتعة طريقي التي لا فكاك لي من سلطة أسرها ، اجل فتنت ، واني على الرغم من كل جحافل الألم التي تغزوني الآن ،لا أتنصل من أخطائي وحماقاتي  بكل ما تشي به من مثالب  حميدة  كانت من صنعي . لهذا عليّ أن أكون سعيدا وأنا أحمل وزرها أينما ذهبت . ولا يسعني إلا اقتراف المزيد من الأخطاء والضحك .
¨      


الشاعر العراقي: آدم حاتم

مفتاح العمّاري

الشاردة
    في خريف 1983 نشرت مجلة ( مواقف ) اللبنانية، قصيدة نثرية حملت عنوان: " الشاردة في ملكوت الجمر " بإمضاء شاعر مغمور يدعى ( آدم حاتم ) لم أقرأ له قبل، أو أسمع عنه أيما شيء.. أنا الذي كنت وقتها أكثر شراهة لاقتناء المدوّنات، واقتفاء أثر المغامرة، وتقصي سير شعراء الشتات،  غير أن " الشاردة في ملكوت الجمر" كانت أكثر من قصيدة يتيمة، وهي تعلن دون مواربة عن همّ عراقي يتسع لصهر الخراب بحساسية شعرية مغايرة، ناهيك عن حمولة حارة من أساطير بابل وأشور، وصروف من أزمنة الحروب والخيانات.. حتى بدت كأنّها تنزف ،  مما جعل تكرار قراءتها حالة مشتهاة.
   هكذا انطبعت في مخيلتي صور الشاردة ، مقرونة باسم صاحبها الذي ظلّ غامضا ومجهولا  حتى خريف سنة 1988  عندما سافرت إلى دمشق بفضل بضع كلمات تكفلت موهبة الموسيقار ( علي ماهر) بتنغيمها وتوزيعها موسيقيا لتتخلل نسيج مسرحية باب الفتوح  التي شاركت بها فرقة المسرح الوطني ضمن فعاليات مهرجان دمشق الحادي عشر للفنون المسرحية.  تلك المناسبة أتاحت لي اللقاء بالعديد من الفنانين والكتاب والشعراء. هناك : تعرفت على تفاصيل أخرى في شخصية ( الماغوط ) ولامست عن كثب لعبة البياض لدى ( بول شاوول )، ناهيك عن صخب الشعراء الشبان  :  أبوروزا وولف  المشغول بنثر أوجاعه المجعلكة خارج قميصه الأزرق ، يوسف بزي  وهو ينكمش خجولا إزاء نشوة رفيقه  يحي جابر  بجائزة يوسف الخال ، لقمان ديركي ، الذي يتلو بشفاه الصوفي أشعار سليم بركات . وسط هذا الحشد تفوه أحدهم بالاسم المجهول الذي أيقظ ذاكرة الشاردة.   حينها عرفت أن آدم حاتم  ، هو شاعر عراقيّ  ، يقيم بدمشق ، وأنه كئيب وعاطل، يكابد ضراوة الخبز بكبرياء جريحة . لذا حرصت قبل مغادرتي الشام ، على رؤيته ، فضمتنا ذات مساء دمشقي بارد طاولة حميمة بمطعم سومر .

    كان الشاعر يأنف  ضجة المثقفين  وأكاذيب الشعراء . قال : أن كل همّه وتفكيره ينحصر في تدبير  تذكرة سفر إلى الهند ، وتوفير مبلغ مائة دولار حتى يشتري بها فيلا هنديا ، يتّسع ظهره لبناء كوخ صغير ،  ليجوب على متنه  غابات العالم .
 في أول الأمر اعتقدت بأن صاحبي يتندر بمزحة  طريفة ، أو هو يفتعل صرعة شاذة من تلك الصرعات التي تليق  بنزق الشعراء ، لكن صرامة كلماته  لم تتح لي أي مجال للريبة  في أنني إزاء كائن من سلالة رامبو .
  بعد ذلك بعشر سنوات  جلست وحدي على طاولة وحيدة ، في ذات الركن بمطعم سومر ،  لأن الشاعر العراقي  آدم حاتم ، كان قد غادر الحياة بهدوء  ، قبل أن يتمكن من تحقيق حكاية التيه تلك  .  مات  آدم حاتم ، تاركا خلفه الشاردة في ملكوت الجمر ، وقد مزّقتها الحروب ، وتآمر ضدها ملوك الطوائف .


الاثنين، 14 ديسمبر 2015

خورخي لويس بورخيس

مفتاح العمّاري


الدنوّ من المعتصم

     لا ريب أن القرب من أدب ( بورخيس ) ليس براءً من شبهة الضلالة نفسها التي اقترفها هذا الناسك عبر تسكعه داخل أقاليم مكتبة عملاقة . لعلّ الإغواء ذاته ، هو سلطان نشوة القراءة – هنا وهناك -  فكما هو معلوم لدى قراء هذا الكاتب المؤسس ، أنه قد اتّبع نظاما فريدا من التناص ، لا يقف عند حدود إعادة إنتاج المقروء من خلال إعادة خلقه ، أو تأويله ، إنّما هو يكتشف فراغا داخل فراغ ، يحتاج دائما – كما يبدو – إلى إضافة أسماء وأفعال وكائنات مجهولة ، لكي يُوهب تلك الفضيلة التي تتعلق بالنمو . كما لو أن بورخيس ، قد أدرك بفطرته : أن النصوص التي كتبها الأوائل ، لا ينبغي تركها مركونة لعتاقتها ، مكتفية بالمديح وحده . بل أن كرامة الأدب تقتضي أن نجعل تلك المتون نابضة أبداً بالحياة ، لا محض إيقونات .
    قراءة مقترحات معلم السرد : بورخيس ، لا تستنفد . فمن جهة أن تناصاته بقدر ما تعيد إنتاج نفسها ، فهي من جهة أخرى خاضعة لتعدد التأويل ، فضلا عن انفتاحها على الفنتازيا ، والتهكّم المضمر .

    بورخيس الساحر الذي أسهم في تجديد أدب أميركا اللاتينية ، يحتفظ دائما بتلك المأثرة التي تعيد الكرامة للكتاب . ففي ( الدنو من المعتصم ) ، كما في ( الألف )  وغيرها من السرديات تأخذ الحكاية وجهة أخرى ، حُمّلت بحساسية أكثر شاعرية وتلطّفا . لهذا تظل آثار بورخيس دائما مشروع اكتشاف وتأمّل ، ورفقة لا تُملّ  . أنصح القراء الذين لم يتعرفوا بعد على بورخيس ، الدنوّ من هذا المعتصم . 

مرايا علي مصطفى المصراتي

مفتاح العمّاري

هدرازي
     بصدد الحديث حول الكاتب الكبير العلامة علي مصطفى المصراتي ،  أشير أولا إلى تلك المهابة الخاصة به ، والتي تقتضي دائما أن تكون حاضرة كلما مَثُلَ المصراتي ، مهابة إجلال لموقعه السامق والرصين الذي يحتل مكانة مرموقة ومؤثرة وفاعلة  في ذاكرة الوجدان الليبي ، كأديب كبير ، وفي ذاكرة الثقافة الوطنية كمؤرخ  رائد وباحث  وسياسي ومناضل  .
ينتمي الأستاذ العلامة علي مصطفى المصراتي ، إلى جيل المعلمين ، جيل الأوائل الذين أسسوا للكتابة  من الصفر ، جيل الدرجة الأولى في سلّم المعرفة ، ونحن كأجيال لاحقة نقدّر رحلتهم .
     أشير ثانيا إلى ضرورة إنصافه التي تأتي هذه الكلمة بمثابة تحية له ، واعتراف بدوره التأسيسي في تأثيث الهوية والوجدان . وهنا اسمحوا لي أن أحصر حديثي بصدد إسهامي المتواضع  في  معالجة بعض مقترحاته السردية في القصة القصيرة  وتنضيدها دراميا ، وأعني تحديدا : الجزء الأول من سلسلة هدرازي  التي عرضها التلفزيون الليبي ضمن أجندة برامجه الرمضانية منذ عدّة سنوات ، إذ تجسدت مشاركتي من خلال  كتابة السيناريو والحوار . وأذكّر هنا بأن المهمة لم تكن يسيرة إزاء نتاج أديب كبير يتسم بالغزارة والتنوع والثراء ، كما أن الخيار في انتقاء القصص ، كان شراكة بيني وبين أسرة العمل ، تبعا لمقتضيات فنية وإنتاجية . كذلك تجدر الإشارة إلى أن الرؤية الفنية قد اشتملت على توليفة  ضمت ثلاثة مستويات بين الشكل  القصصي والسيناريو الورقي ، ثم السيناريو التنفيذي .. أي أنها توزعت بين مؤلف القصص وكاتب السيناريو ،  ومخرج العمل ، بحيث تعددت  زاويا النظر وتنوّعت  . قد تطغى أحيانا رؤية القاص ، وفي أحيان أخرى تتقدّم رؤية المخرج أو كاتب السيناريو . 
  كذلك  ثمة مقتضيات أخرى كثيرة قد أملت شروطها ، أهمها وأكثرها قساوة يكمن في تواضع الإمكانيات الإنتاجية والتقنية ، ناهيك عن ضيق الوقت وصعوبة  تجهيزات التصوير .
     استأنست في الكتابة إلى معالجة النصوص القصصية المختارة دراميا ضمن نسق إعادة التأويل ، فانطلاقا من مرجعية النص الأصلي كخلفية نسيجية تتألف خيوطها من وقائع وإحداث ، إلى مفارقة التجاور بين الحفاظ على عنصر الحدث مع تأثيثه دلاليا ، ضمن نسق التأويل الدرامي الذي ارتأينا ضرورة جدواه كمتطلب بصري ، يرتكز على العلامات الدلالية التي توفرها القصة وفي نفس الوقت  يزكّي احترامه واعترافه بالنص الأصلي ، من خلال محاولة إنمائه وأيقاظ مناطقه الصامتة ، أو المسكوت عنها ، ليتناغم مع الأصل ويثريه ، وفي الوقت ذاته ، يتخذ منه قماشة قابلة لإعادة السرد بصريا والتفصيل حواريا .  استأنسنا للنسق ذاته في عديد القصص القصيرة  ، مثل : الوفد  / ولد حليمة /  الورقة البيضاء  .... وغيرها من النصوص المقترحة .
ويكفينا فخرا ، أن العمل وقتذاك  ، قد حاز  على أعجاب المشاهدين واندرج من بين الأعمال القليلة التي حاولت أن تحتفظ بقدر من الرصانة والمصداقية في احترام ذائقة المتلقي بشتى مستوياته . ولا يفوتني هنا ، الإشادة بطاقم العمل من ممثلين وفنيين، مع الاعتراف بفضل مخرج هذه السلسلة ،  الفنان :  عبد السلام حسين الذي أضاف إلى العمل الكثير من خبرته ورؤيته الإخراجية ، و يظل الفضل أولا وأخيرا للأستاذ الكبير على مصطفى المصراتي الذي أتاحت لنا أعماله أن نُطلّ من خلالها على أنفسنا ، ونرى وجوهنا عن كثب في مرايا عديدة . 

البردوني .قصائد زمان(6)

مفتاح العمّاري

عبد الله البردوني

خرجت القصائد من قمقمها
وتجوّلت من عام الفيل
إلى عام الألفين
قبضت مفاتيح كنوز سليمان
وعصا موسى
وعين الزرقاء .
____
صنعاء صيف 1987

صنعاء.قصائد زمان (5)

مفتاح العمّاري

صنعاء

للقات أحوال  تبدّل جلدها
ولصنعاء في الليل أحوال
تتهشّم تحت خطوتها عقارب الوقت
وتطلع تواريخ للماء تجدّد سيرها .
فتقوّت قبل الوقف
لتبصر الطمأنينة  في شكلها الأول .
___
17يوليو1987